الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه ما شاء من أسباب العيش الكريم، فكان التأكيد هنا على أن الصبر لا يكون إلا في الشدائد، ولا يكون في النعيم كما كان من حال المشركين، فقولهم اصبروا على آلهتكم لا معنى له، ولا يستقيم عقلاً، ولا يقوله إلا سفيه جاهل، وكأنك سألت رجلاً أنعم الله عليه بشتى النعم عن حاله فرد عليك بأنه صابر، وسيصبر على هذا الحال.
الباب الثالث: إشارة الإعجاز في الحروف وموافقتها لمجمل الإشارات
وبعد استقراء الحجج والإشارات نسأل أنفسنا: هل هذه هي الشبهات كلها؟ أم بقيت شبهة لم نتطرق إليها، ولم يأت الرد عليها في سياق السورة؟ وأقول: بل بقيت شبهة عند المشركين ذكرت في قوله تعالى {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] وهي الشك في ذكر الله. فكيف شكوا بذكر الله؟ والشك بالكلام أو الرسالة بشكل عام لا يكون إلا في ثلاثة: شك في أصله أو في محتواه أو في غايته. فهل شكوا بهذا الكلام لكونه لا يليق بأن يكون من عند الله؟ وبالتالي شكّوا بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهذا مستحيل لقوله تعالى {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} فقد قرر الله بأنهم موقنون به، بل وعجبوا أيضاً، والعجب يأتي بعد اليقين لا بعد الشك، ولا حتى بعد الظن - وهو الأقرب لليقين - إذن فهل شكهم كان في ذات الكلام بما يحتوي من قصص وغيب وتشريع؟ ولو فرضنا ذلك لكان الرد عليه قد تحصل، لأن الردود دارت حول هذه المفاهيم، ولم تبين الآيات موطن الشك، وهذا بعيد لعدم ترابطه مع البيان، يبقى أنهم شكّوا بأن كلام الله لن يصل لما وعدهم به قائله؟ ولذلك كفروا به، وهذا أقرب للسياق لأنه يتناسب ويتناسق مع الرد في نهاية السورة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)} ويتناسب أيضاً مع ما يشبه هذا الرد في أواخر السور الأخرى وهو الأقرب للعقل، ولكن ما هو سبب شكهم؟ وما علاقته بكون الرسول صلى الله عليه وسلم منهم (وهم الأميون كما في واقع حالهم)؟ وإن أقررنا بهذا، فلا بد من وجود الرد
على هذه الشبهة في ذات السورة، حتى وإن لم نثبت موطن الشك في ذات السورة، إذ لا بد من وجود قرينة أو دليل عليه في القرآن، أما الرد على الشبهة فلا بد أن يكون في ذات السورة، لأنه كان رداً على شبهة واقعة، ولا يعقل ذكرها من غير الرد عليها، فأين وقع ذكر الشك في كلام الله أو الشك في كتابه في القرآن؟ نجده في قوله تعالى {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت: 45] وجاء في سياق الرد على المشركين لتشابه حالهم مع حال بني إسرائيل في شكهم من الذكر، وقد جاء هذا التشبيه بسبب قول المشركين "لو كان هذا الكتاب أعجمياً لا عربياً! " إذن موطن الشك له علاقة واضحة بكونهم عرباً وأمّيين، وأن الرسول منهم كما سبق، وهذه الآية من سورة فصلت، وهي من سور الفواتح وهي مكية أيضاً، وابتدأت بقوله تعالى {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} وقد نزلت على الأغلب بعد سورة (ص) مباشرة لتفصل القول المبين، وأشارت لكون القرآن عربي بمجمله - لغته وكتابته - وسُمّيت فصلت لا لرد طلب سخيف من المشركين لكي ينزل القرآن بلغة أخرى لا يفهمونها!! بل جاءت لتفصّل القول في شبهة هي من أعظم الشبه على الإطلاق، فقد تجلى في هذه الشبهة مكر المشركين من العرب في ذلك الزمان، ليس هذا وحسب، فقد جاء فيها ذكر دلالة عجيبة لم يذكرها أحد لا في السير ولا في التاريخ، وأتت بقوله تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ الآية 44 فصلت} ولم يتنبه لما وراءها أحد (1)، فهذه الآية لم تأت لرد الطلب بجعل القرآن أَعْجَمِيًّا للتعجيز أو للمماثلة بما سبق من الكتب السماوية، ولم يكن تعنتاً كما قيل فيها، فرب العزة رد عليهم تعنتهم بالكثير من الآيات كقوله تعالى {بل
(1) وجُلّ ما فعل المفسرون هو تفسير معنى أأعجمي وعربي مع خلاف بينهم.
الذين كفروا في عزة وشقاق} وغيرها من آيات الوعيد، وطلبهم هذا بجعل الكتاب أعجميّا لا يُعقل أن يكون من فراغ، لأنهم طلبوا تغيير لغة الخطاب، وإذا قلنا بأن السبب هو الشك بالذكر، وهو موطن الشبهة، فلا بد أن يكون في الغاية من الذكر أو تأويله (أي ما يؤول إليه) - لا في محتواه وأصله كما فصلت سابقاً - وهذا الشك له سبب من اثنين لا ثالث لهما: إما أن يكونوا محتقرين للغتهم ولا يفهمونها حق الفهم كما هو الحال في الأمم الضعيفة ذوات اللغات المنحطة في هذا الزمان، ويسعون لتغيير لغتهم، وبالتالي لا يريدونه بهذه اللغة الوضيعة ليفهموه حق الفهم، أو أنهم كانوا يحترمون لغتهم ويجلونها، ولكنهم لا يؤمنون بمقدرتها على احتواء كتاب من الله. وهنا نقف، لاستحالة الأول لكونهم كانوا يفتخرون بلسانهم الفصيح الوحيد ويسمون أي صوت غريب أعجمي، ولا نستطيع التعميم في الثاني، بل ويلزمنا فيه التفصيل والتدقيق بأمرين:
الأول: إن كان هذا الكتاب للعرب خاصة فلن يستقيم لنا أحد السببين لاستحالة هذا الطلب.
الثاني: إن اللغة يُقصد بها اللفظ والكتابة، وبما أننا نتحدث عن كتاب فالكتابة موطن الشك.
وعليه نأخذ من كل أمر ما صح من احتمالاته، فيبقى أنهم شكوا في لغة الكتاب إما لكونه للناس كافة ولجميع الأمم، وجاء عربياً بلغتهم، وهم من الأمم الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة، أو أنهم شكوا بقدرتهم على كتابة هذا الكتاب العظيم، أو الاثنين معا، فطلبوا ذلك لعلمهم بأنهم ليسوا من أهل الكتابة والعلم - وقد امتازت الأمم غيرهم بالكتابة - ولم يعتادوا على وجود الكتب بلغتهم، فلن يكون لهذا الكتاب شأن بين الأمم بفهمهم، وبالتالي هم يشكون في قدرة كتابتهم على احتواء هذا الكلام العظيم لنشره بين الأمم، ولكن لو صحّ استنتاجنا للزمنا القول بأنهم قد علموا أن شأن هذا الكلام عظيم، وأيقنوا بأنه لا يستقيم نزوله بهذه البلاغة ليُكتب
بحروف لم تجمع يوماً كتاباً ذا شأن فضلاً عن أي كتاب عادي، وبالمحصلة يبقى أنهم كانوا في شك من كتابتهم لما كان فيها من ضعف، ولا تكاد تقارن بلغات الأمم حولهم، ولشكهم في كتابتهم وعجزها عن احتواء كتاب جامع تكون فيه الرسالة للأمم كلها، ولكن هل هذا يستقيم وهم قد كفروا به أصلاً وهو عربي اللغة وقد فهموه؟ فكيف يستقيم طلبهم لتغيير ما قد كفروا به، والسبب في شكهم يشترط تعظيمهم لهذا الكتاب! وعلى هذا الطلب لو غير الله الكتاب للغة أخرى لقالوا: كتاب أعجمي ورسول عربي! كأبسط كلمة ممكنة عند الكافر به، أو سيقولون هذا كلام أعجمي ونحن عرب لا نفهمه، وهذا ما جاءت الآية بتقريره (1)، ولو أُنزل ما هو جديد بلغة أخرى، وبقي القديم على حاله بالعربية سيكون ردهم: أيعقل أن يكون كتاب منه ما نزل عربي ومنه ما ينزل أعجمي فيكون مختلطاً وفيه اختلاف، بالتالي سؤالهم ليس للإيمان بالقرآن على كل الوجوه، بل هو شبهة، وهذا ديدنهم، قال الزمخشري:"كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم {لَوْلَا أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} "(2) وأقول نعم، ولكن هذه ليست من التعنت، لأن التعنت لا يكون مع الشبهة بل يكون بعد الحجة، كقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] وهذه الشبهة فيها المكيدة، وسؤالهم جاء من ذات الباب الذي علموا أنه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو لا يعرفه بكونه أمّي لا يقرأ ولا يكتب، وأغلب الظن أنهم قالوا بما معناه (يا محمد إن كان كتابك أُنزل للأمم جميعاً، فلماذا لا
(1) وعلى قراءة من قرأ أعجمي وعربي قال الشوكاني: قرأ أبو بكر، وحمزة، والكسائي:{ءأعجميّ} بهمزتين محققتين. وقرأ الحسن، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، وهشام بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ الباقون بتسهيل الثانية بين بين. وقيل: المراد: هلا فصلت آياته، فجعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم، وبعضها عربياً لإفهام العرب. فتح القدير (519/ 4)
(2)
الكشاف (382/ 2) تفسير سورة هود
يكون بلغة مشهورة أُشبعت كتابة، فيكون بذلك ذكر للعالمين بحق، ونحن أعلم بالكتابة منك، وحروفنا ليست بشيء بين حروف الأمم الأخرى، ولن تحتمل هذا الكلام البليغ العجيب، لأنها لم تحتمل كتاباً عادياً من قبل لتحتمل كتابك البليغ، وإن كنا نحن العرب لا نعرف الكثير عن حروفنا وتُعجم علينا فكيف بالأمم غيرنا، ونحن أيضاً أعلم منك بأحوال الأمم، لأننا نجول الأرض للتجارة والسياحة، ونشك في قدرة كتابتنا وحروفنا أن تصل لحد التعليم عند تلك الأمم، فكلهم قد برعوا بحروفهم وامتلأت مكتباتهم بالكتب) وبيّن الله هذه الشبهة بكلمة "ولو جعلناه" من الآية، أي إشارة على ما تضمرون، ولم يكن الرد فيها، بل بينت الغاية من كلامهم، والدليل أنه أمر الرسول بعد بيان الشبهة بقوله تعالى في تمام الآية {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ولم يأمره في بداية الآية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمّي ولا يعرف اللغات ولا الحروف، وأمره بالصبر مجازا كما قال ابن جرير:"يقول له: فاصبر على ما نالك من أذى منهم، كما صبر أولو العزم من الرسل، {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} "(1)، وهذه الإشارة التي فهمها الطبري هي ذات الإشارة في آخر سورة القلم وسورة ق وسورة ص، ولعلمنا بأن اللغة تحتوي الألفاظ والكتابة، ولكون هذه الشبهة تحتوي ما لا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من علم الكتابة، كما لا يعرف الفرق بين العربية والأعجمية فيها، فكيف تم الرد عليها من جميع وجوهها من غير أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم علم الكتابة والحروف؟ وقد علمنا أنها غايتهم، لينزل في هذا القرآن ما هو إرشاد لعلم الكتابة العربية دون سواها، وبذلك سيكون الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بها، وستنتفي بنزولها معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
(1) الطبري (481/ 21) تفسير سورة فصلت
أقول لقد نزل الرد بقوله تعالى (ص) وأتبعها بالبيان بـ (حم) وكل حرف من الحروف المقطّعة كما دلت ألفاظها على أصلها، وهي الحروف الكتابية المعجمة، أي (أنا الله أعلم بلغات البشر وألسنتهم، أنا الله المبدئ للغاتهم والمفصّل لاختلافها، أنا الله الخبير بما يصلح من لغاتهم لتحمل كلامي ومقاصدي، أنا الله أرى ما في نفوسكم من كيد وتدبير أقول هذه الحروف، لتنزل بحكم الأسماء معرَّفة في كتابي المحكم، وجزءاً من كلامي المفصّل، لأرفع شأنها، ولأجعلها آيات للناس، أنا الله قد اخترتها لعلمي بها لا لجهلكم بها، وسأتمم على عبدي ورسولي نعمة الرسالة من غير نقص لما أعجزتكم به، ولتعلمنّ نبأ هذا الكتاب الذي فصّلت وأحكمت مكتوباً بهذه الحروف بعد حين)، إذن فهي موطن الشك عندهم لا في لغتهم ولسانهم على العموم، وشبهة شكهم في ذكر الله هي من باب الشك في قدرة لغتهم بحروفها لا بألفاظها على حمل كتاب الله، وهي شبهة قديمة باطنة في نفوس المشركين منذ بداية التنزيل، وزاد شكهم عند تنزيلها في أوائل السور كسورة القلم، ويظهر شكهم فيها هنا لأنهم أظهروه في كلامهم، ودلت عليه شبهتهم، فكشفها الله وأبطلها برده أنّه الأعلم بما هو الأصلح والأبقى، وهذه الحروف التي قالها الله وإن كانت أسماء لحروف بسيطة معجمة الكتابة في الأصل، ونكرات قبل قوله (1)، فقد رفع الإعجام والإبهام عنها بمجرد قوله جلّ في علاه، ومعلوم أن الحروف القديمة إذا كُتبت أُعجمت، وإذا قُرأت كانت هجاء، فهي حروف هجاء في كتاب الله لا حروف معجم (2)، لأن العبرة في كتاب الله باللفظ ابتداءً لا بالكتابة، فصارت هذه الحروف المعجمة حروفاً من نور، أنارت درب العلم للمسلمين، وكانت مما اختاره الله لحمل كلامه في الكتاب الموعود، وهو الحكيم العالم بإحكام الكلام، والخبير بما يكون من تفصيله، كما في قوله تعالى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] فهو الخبير بألسنة الناس وعلوم كتابتهم. ولكن المشركين بعد هذا البيان وفضح أسرار نفوسهم لم يؤمنوا، وقال الله بعدها {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الاعراف: 179]. وسيظهر لنا إن شاء الله تعنتهم في هذه الحروف، كما هو حالهم دائماً، وذلك عند الحديث عن بيان دلالات الإعجاز فيها على أمية الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبحسب واقعهم فقد كان فيهم ثلاثة رجال هم أعتى المشركين في المكر والخديعة، ومن تتبع القرآن وأقوال المفسرين يجد ذكرهم متكرراً عند أغلب الشبه، وخاصة ما تعلق بالقرآن، وهم: النضر بن الحارث، (3) والوليد بن المغيرة، (4) وعتبة بن ربيعة، (5) وهم أعلم العرب في الكلام وما سواه من علوم، وكانوا من المكثرين للتنقل في بلاد العجم للتجارة والسياحة والتنعم، وما أظن هذه الشبهة إلا من صنيعهم، ويصدّق هذا الظن ما جاء في السير أنّه لما قرأ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على
(1) ومن هنا علمنا إعراب الحروف في بداية السور، ولماذا أتت على السكون، وهي قراءة الجمهور، قال المبرد في المقتضب (ج4 ص43):"أما في التهجي فقولك: با وتا وقف لا يدخله إعراب؛ لأن التهجي على الوقف." وقال النيسابوري (ت 406) في تفسيره غرائب القرآن ورغائب الفرقان (171/ 1): "والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين." ونقل هذا الكلام الزمخشري في الكشاف (21/ 1) والرازي في التفسير (3/ 2) من غير عزو للمصدر.
(2)
ومن هنا نعلم بأن قول بعض المفسرين فيها: هي حروف هجاء موضوع فيه وجه حسن، ولكنها ليست الغاية والمعنى قطعاً. وقد روي هذا القول عن مجاهد بسند ضعيف كما عند ابن جرير (208/ 1). وعزاه في الدر المنثور (57/ 1) لابن المنذر والله أعلم.
(3)
كان النضر بن الحارث بن كلدة قد أخذ الطب والفلسفة مع أبيه في الحيرة. (شاكر - في حاشيتهم على تفسير الطبري ج18 ص566)
(4)
كان من أفصح العرب في رجز الشعر وقصيده، كما قال عن نفسه وأقرت به قريش. (كما في صحيح السيرة النبوية للألباني ص158)
(5)
كان من أعلم العرب بالسحر والكهانة والشعر، كما قالت عنه قريش. (كما في صحيح السيرة النبوية للألباني ص159)
عتبة بن ربيعة {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) فصلت} ورجع لقومه فسألوه: "ما وراءك - قال: ورائي أنّي سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني، واجعلوها بي، خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد النّاس به، قالوا: سحرك والله بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم."(1) وفي رواية "فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته"(2)، وفي رواية "وما دريت ما أردّ عليه."(3) وفي رواية "ما فهمت شيئاً مما قال"(4)، وأنكر عليه قومه عدم فهمه وقد سمع كلاماً عربياً، ولكنها حجة الكاذب المصدوم، وقالها لأنه لا يستطيع الحديث وأراد أن يختلي بنفسه كما جاء في نفس الرواية "لم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم"، وصدق الله إذ يقول بعدها (هو عليهم عمى)، إذن هذه هي الإشارة على السبب الذي منع المشركين من الرد، وتكمن في عجز هذا الخبيث وأصحابه عن الرد.
ومما يتناسق مع هذا المقصد ومع هذه الإشارة في الحروف قوله تعالى في سورة أخرى {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا
(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة (205/ 2) وقد اختلفت الروايات في ذكر هذه القصة بين الاختصار والتطويل، وقد ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام (158 - 160/ 1) وابن كثير في السيرة النبوية (502 - 505/ 1) وفي البداية والنهاية (80 - 82/ 3) من عدة طرق وبوجوه كثيرة، وصحح الألباني روايتين في صحيح السيرة (ص160 - 162) مما يثبت القصة ولو اختلفت الأقوال فيها، والسيرة تعضد بعضها لأنها سرد.
(2)
رواه ابن أبي شيبة (440/ 8) وعنه عبد بن حميد (ص337) وأبو نعيم في الدلائل (ص230) ورواه الحاكم (278/ 2) وصححه ووافقه الذهبي وأوره ابن كثير في البداية والنهاية وفي السيرة النبوية، وانظر صحيح السيرة للألباني.
(3)
رواه البيهقي في الدلائل (206/ 2) والحاكم (278/ 2) وصححه ووافقه الذهبي وأوره في تاريخ الإسلام.
(4)
في الأثر قبل السابق
إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) غافر} "قال قتادة: أسفارهم فيها ومجيئهم وذهابهم."(1) وهي ظاهرة بيّنة، لتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم ولتحذيره، بألّا يخدعونك بأقوالهم ويحتجوا عليك بأنهم أكثر سفراً في البلاد، وأنهم أعرف بأحوال الناس، (2) وقد تتابع هذا البيان بذوات حم، ومن تتبع السور السبعة ذوات (حم) وتسمى (آل حاميم) علم أنها نزلت كالحمم على رؤوس المشركين وقلوبهم، وكان بها نصراً معنوياً للرسول صلى الله عليه وسلم وتأييداً له بفضح أسرارهم، وبالذات سورة فصلت، والتي حوت بيان هذه الشبهة، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم من تعظيمه لهن جعل من (حم) شعارا للنصر المعنوي في أحلك المواقف، بقوله صلى الله عليه وسلم (إن بيّتكم العدو فليكن شعاركم: حم لا ينصرون) (3)، وفيه إشارة لبعض الآيات التي ورد فيها (لا ينصرون) وأولها {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) حم فصلت} وآية {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) الم آل عمران} وآية {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) طسم القصص} وكل هذه الآيات من سور الفواتح.
(1) الطبري (253/ 21) تفسير سورة غافر، بسند صحيح.
(2)
هنا تكمن شبهة قياس السياق وقول من ادعى بأن السياق القرآني لا يفهم إلا بقياسه على سياق آخر، فقاسوا تقلبهم في البلاد على آية أخرى وهي {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) آل عمران} فقالوا التقلب هنا دلالة على المتاع وليس على ظاهرها وهذا غير صحيح، فإن كانت الحروف تحمل المعاني كما هو الحال في أدوات اللغة، فمن باب أولى أن تحمله الكلمات لا السياق.
(3)
رواه الإمام أحمد (65/ 4) وأبو داود (38/ 2) والترمذي (197/ 4) والنسائي في الكبرى (270/ 5) وابن أبي شيبة (717/ 7،498/ 8) من طريقين وعبد الرزاق (233/ 5) وابو عبيد في فضائل القرآن (ص254) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (3171/ 6) والبيهقي في السنن (362/ 6) والحاكم (117 - 118/ 2) من طريقين وصححه ووافقه الذهبي وقال ابن كثير في التفسير (127/ 7) وهذا إسناد صحيح، وصححه الألباني في صحاح السنن وصحيح الجامع (رقم 1414).
وكون الحروف المقطّعة شعار هو فهم بعض التابعين، ومن قال من العلماء هي افتتاح كلام، كأبي عبيدة معمر بن المثنى عندما قال عنها:"افتتاح، مبتدأ كلام، شعار للسورة"(1)، وهو الوجه الصحيح للقول بأنها أسماء للسور، فالأسماء والشعار حكمها واحد في اللغة. وكذلك الوجه الصحيح للقول بأنها أسماء اختص القرآن بها، وكذلك أسماء اختص بذكرها رب العزة والجلالة، وليست أسماء للقرآن أو لله تحت أي اعتبار، قال الزمخشري:"ولبني فلان شعار: نداءً يعرفون به"(2)، وهذه الحروف اختص بها القرآن واختص بها المسلمون، ومن هذا الفهم قول شريح بن أوفى العبسي بعدما قتل محمد بن طلحة في وقعة الجمل، وكان ابن طلحة يقاتل حزب علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعا -
يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ
…
فَهَلا تَلا حم قَبْلَ التَّقَدُّمِ (3)
(1) مجاز القرآن ج1ص28، وقد سبق أنه قول مجاهد والحسن البصري وأبي روق وقطرب والأخفش والمبرد وهو اختيار النحاس.
(2)
أساس البلاغة مادة ش ع ر.
(3)
البيت ذكره البخاري في الصحيح تعليقا (126/ 6) عند تفسير سورة المؤمن (غافر)، ونسبه لشريح كما فعل أبو عبيدة في مجاز القرآن (193/ 2)، وهناك خلاف على نسبته ذكره ابن حجر في الفتح (554/ 8) وابن عبد البر في الاستيعاب (1373/ 3) وابن الأثير في أسد الغابة (102/ 5)، وذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ (137/ 3) سبب الخلاف وأنه اجتمع عليه أكثر من واحد وكل ادعى قتله، وقال محمود شاكر في تحقيق الطبري (348/ 21) أنه من قول شريح كما قال البخاري. وقال ابن حجر في الفتح (555/ 8):"ذكر الحسن بن المظفر النيسابوري في (كتاب مأدبة الأدباء) قال: كان شعار أصحاب علي يوم الجمل حم، وكان شريح بن أبي أوفى مع علي، فلما طعن شريح محمداً قال حم، فأنشد شريح الشعر. قال: وقيل بل قال محمد لما طعنه شريح (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) فهذا معنى قوله "يذكرني حم" أي بتلاوة الآية المذكورة لأنها من حم." وأظنه - أي النيسابوري- وهم في الفهم كما وهم في الرواية، فالشعار كان كلاماً من ابن طلحة وجاء الرد من شريح، والشعر يروي عن نفسه.
أي يذكرني بأن حم هي شعار النصر، وأنه من أهلها، وعدوهم لا ينصرون بقوله "حم لا ينصرون"، وهي شعار النصر على المشركين، وما نحن بمشركين ولا سلاحنا بسلاح سوء، وهذا الرمح شاجر أي مختلف عليه، ولا خلاص له منه، من قول لبيد
فأَصْبَحْتَ أَنَّى تأْتِها تَبْتَئِسْ بها كِلا مَرْكَبَيها، تحتَ رِجْلِكَ، شاجِرُ
قال في اللسان: "والشاجر المختلف"(1)، وقال الخليل بن أحمد:"وقد شَجَرَ بينهم أمرٌ وخصُومةٌ أي اختلط واختلف، واشتَجَرَ بينهم. وتَشاجَرَ القومُ: تنازعوا واختلفوا. ويقال: سُمِّيَ الشَّجَر لاختلاف أغصانِه ودخولِ بعضها في بعضٍ، واشتقَّ من (تشاجر القوم) "(2)، قال ابن قتيبة في شرح البيت:"يقول من حيث أتيتها (أي الناقة) لزمك بأسها وشاجر ناب بك"(3)، والمراد من الوصف كما قال البطليوسي:"إنك ركبت أمراً، لا خلاص لك منه"(4)، ويقول شريح بعدها: فهلا تلا وتدبر ذوات حم قبل التقدم والاستبسال في قتال إخوته، ليعلم ما هي وفيمن نزلت،
(1) لسان العرب - مادة فجر، والبيت من الشواهد العربية المعروفة، انظر خزانه الأدب للبغدادي الشاهد 513 (91/ 7)، ومن شواهد سيبويه خصوصاً انظر الكتاب له ج3 ص58، ولو كانت شاجر بمعنى طاعن لكانت شاجر منصوبة على تقدير كان شاجرا ولكنها بتقدير هذا الرمح شاجر، وقد يستشهد من ذهب أنها بمعنى طاعن بقول أبي الطيب المتنبي:
فواهب والرماح تشجره
…
وطاعن والهبات متصلة
وهي بمعنى والرماح تختلف عليه والغاية من الرماح الطعن، فمنها ما يصيبه بسوء ومنها ما لا يصيبه، وليس منها رمح طاعن مميت، ولو كانت بمعنى تطعنه لمَاَ كان في البيت مجازاً ولكان وصفاً ولمَاَ قاله المتنبي أصلاً، فأي مدح إن كانت تطعنه الرماح، قال الواحدي في شرح المتنبي "يقول لا يمنعه الحرب عن الجود ولا الجود عن الشجاعة والمطاعنة"، ولو كانت بمعنى تطعنه لقال والرماح تطعنه لأنها من فصيح التكرار.
(2)
العين، باب الجيم والشين والراء معهما.
(3)
المعاني الكبير لابن قتيبة الدينوري، ج 5ص871
(4)
الحلل في شرح أبيات الجمل للبطليوسي ص146.
ويعلم أنها ليست شعاراً للنصر على أولياء الله وأهل الحق، وعلى منوالها قال أبو المغيرة ابن عم ابن حزم في رده عليه بعد أن ذمه:
وغاصب حقٍّ أوبقته المقادر
…
يذكّرني حاميم والرمح شاجر
غدا يستعير الفخر من خيم خصمه
…
ويجهل أنّ الحقّ أبلج ظاهر
ألم تتعلّم يا أخا الظّلم أنّني
…
برغمك ناهٍ منذ عشرٍ وآمر (1)
ولذلك أعربوا حاميم إعراب ما لا ينصرف لأنها شعار، والشعار أو العنوان كاسم السورة لا ينصرف، لذلك "قال أبو عبيد: هكذا يقول المحدثون لا ينصرون بالنون، وإعرابها لا ينصروا" (2)، وهذا لأنها شعار ولو كانت جملة لكان إعرابها كما قال، والرسول صلى الله عليه وسلم أفصح من نطق بالعربية، ومن استدل بهذا البيت على أنه جعل حم اسماً للسورة فقد وهم، فأي سورة من ذوات حم قصد وهي سبع سور، ومن قال إن محمداً بن طلحة كان يناشد من يحمل عليه بحاميم، فقد وهم أيضاً فهذا صنيع الجبان، وليس لقاتله أن يفخر بقتله إن كان كذلك، أما قائل هذا البيت فقد تفاخر بقتله صنديداً شجاعاً يتغنى بشعار النصر على أعدائه، وقد ذكر ابن الأثير أن التقدم كان بإمساك خطام الجمل الذي عليه عائشة رضي الله عنها وقُتل كثير ممن تقدم وأمسك به، وكان ممن أخذ بخطام الجمل محمد بن طلحة، "فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل عليه، وقال: حاميم لا ينصرون، واجتمع عليه نفر، كلهم ادعى قتله" (3)، وهو من سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم محمداً على اسمه، (4) وأبوه طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن المشهورين في الشجاعة والاستبسال، وقد شلت يده يوم أحد من دفاعه عن الرسول صلى الله عليه وسلم (5)، وابنه إبراهيم بن محمد بن طلحة كان يلقب بأسد الحجاز (6)، ومن كان مثل محمد بن طلحة، لا يكون بحال كما صوره بزعمهم.
ويروى عن ابن مسعود أنّه قال: "إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات، أتأنق فيهن"(7)، أي" أُعْجَب بهنَّ وأَسْتَلِذ قراءتهن وأتتبَّع محاسنهنَّ"(8)، وقال أيضاً:"آل حم ديباج القرآن"(9)، وقد أتى فيها إشارة وبيان لسبب عجز وإعجاز المشركين العرب عن الرد، وهم أهل هذه الحروف وأهل الفصاحة بنطقها وفنون نظمها، مع العلم بأنهم حاولوا جاهدين إيجاد
(1) نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للتلمساني، ج2 ص80
(2)
فضائل القرآن لأبي عبيد للقاسم بن سلام (ص254)، وفي غريب الحديث له أيضاً (110/ 5)، ونقل هذا القول كثير من المفسرين وظنوا أنه من أخطاء المحدثين! وقال بعض اللغويين إنها خبر، إتباعاً لما نقل الأزهري والخطابي عن ثعلب أحمد بن يحي قوله أنه لو كان دعاء لكان مجزوماً أي لا ينصروا، وإنما هو إخبار، كأنه قال والله لا ينصرون، كما في تهذيب الأسماء للنووي (مادة حمم) - وكذا قال ابن الأثير في تفصيل الأقوال فيها ولم يرجحه في النهاية في غريب الأثر (الحاء مع الميم)، ونقل عنه ابن منظور في لسان العرب أيضاً وكله من قول ثعلب، وهو خطأ فتنبه.
(3)
الكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 ص336، وانظر نهاية الإرب في فنون الأدب للنويري ج20 ص45 فقد ذكر القصة بالتفصيل.
(4)
معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني من عدة روايات، ج1 ص166 (معرفة محمد بن طلحة)
(5)
رواه البخاري في الصحيح (22/ 5).
(6)
أخبار مكة للفاكهي ج3 ص301، وتاريخ دمشق لابن عساكر ج7 ص147
(7)
رواه ابن أبي شيبة (203/ 7) والقاسم بن سلام في فضائل القرآن (ص255) وابن قتيبة الدينوري في عيون الأخبار (148/ 2)، بسند صحيح.
(8)
ابن الأثير - النهاية في غريب الأثر، مادة الهمزة مع النون (أنق)
(9)
رواه ابن أبي شيبة (203/ 7) والقاسم بن سلام (ص255) وابن الضريس كلاهما في فضائل القرآن (127/ 1) عن مجاهد: "قال بن مسعود: آل حم ديباج القرآن" بسند صحيح. ورواه عبد الرزاق (381/ 3) بنفس السند عن مجاهد موقوف عليه. ورواه الحاكم في المستدرك (474/ 2) وعنه البيهقي في شعب الأيمان (483/ 2) بلفظ "الحواميم ديباج القرآن" واللفظ الأول هو الصحيح لأن كلمة الحواميم لفظ حادث، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث (109/ 5) نقلاً عن الفرّاء:"وأما قول العامة: الحواميم، فليس من كلام العرب." ويقول الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص (ص22): "ويقولون: قرأتُ الحواميم والطواسين. ووجه الكلام فيهما أن يقال: قرأت آل حم وآل طس."
عيب أو نقص في النصوص التي خاطبتهم، وهم أقدر الناس على الإطلاق لفهم وتمحيص هذه النصوص، وقد وصلنا الكثير من الآثار الدالة على محاولتهم فهم المقاصد والتأمل بالكلام، كما وصلتنا ردودهم الفصيحة وألفاظهم المسيئة، من أولها:(رد أبي لهب حيث رد الله عليه بـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]، إلى آخرها: وهو قولهم (أخ كريم وابن أخ كريم)(1)، ولم يَرِد ولو بنص ضعيف تعليق واحد منهم على هذه الحروف المقطّعة، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل وبكل وضوح على علمهم بمغزاها، وهو أن هذه الحروف نزلت كشعار لبعض السور، لتعظيم السطر بها ولتنظيم الكتابة في القرآن، وبها ستخلّد لغة العرب، وسيكون لها ما كان لغيرها من لغات الأمم الأخرى من الشهرة والعظمة، بل أكبر وأجل، بأن سيكون لهم كتاب كما للأمم قبلهم كتب، مكتوب بلغتهم الفصيحة التي يتغنون بها في أشعارهم، وهم أعرف الناس بما سيكون عليه هذا الكتاب إن تمّت العناية به، وعلى يقين بأن لغتهم هي الأجدر بين اللغات لتسطر بها الكتب، مع وضاعة علم الكتابة عندهم. فهي تمثل دعوة لهم ترغيباً في كتابة كلام الله، كما جاء ترغيبهم بالإيمان بكلام الله لنزوله بلغتهم في ذات السورة (بلسان عربي مبين) أي لسان بليغ يبيّن للأمم جميعاً ما أراد الله. هذا كله مع علمهم بأن الغاية من القرآن لم تكن لإبداع كتاب أو الحفاظ على لغة من بين اللغات، فلو طرح أحدهم في ذلك الزمان تأليف كتاب لتخليد لغة العرب وأشعارهم، لأجلوه أعظم إجلال، ورفعوا منزلته بينهم، وهذا ما يحصل في الأمم عموماً من تخليد أهل الكتب وأهل العلم، لكن الغاية من القرآن أعظم وأجل، وهي عبادة الله وحده وإنفاذ تشريعه بين الناس، والحفاظ على ما أنزل من أحكام، وبناءً على هذا الحفظ ألزم القرآن حفظ لغة الخطاب، بما فيها من لفظ وكتابة ومعنى، وقد علم المشركون أنهم إن آمنوا بالغاية تحصلت لهم الوسيلة، وهذا كله مع معرفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبأمّيّته، وبما أنه قال هذه الحروف بأسمائها دون ألفاظها و"التعبير عن الحروف بأسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة "(2)، فهي دلالة على أنها ليست من نفسه، بل هي ليست مجالاً للنقاش معه، إذ هي بالمحصلة ليست لهم أو ليس لهم خيرها، إلا إن اتبعوا ناطقها، لكونها خاصة بمن سيكتب القرآن، وبها سيكون المتبعون لها أهل كتابة، وهم ليسو كذلك في الأصل بل هم أميون، فكانت إعجازاً لهم عن الكلام فيها. وإن قال قائل بعد هذا البيان (لا بل لم يفهموها) نقول له ما ذكره الرازي على الاحتجاج بالمعقول في هذه الحروف "من وجوه: أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة اليونانية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها: إن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً، وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها: إن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به" (3)، وفي كلام العرب: "وكلُّ مَنْ لم يُفْصح بشيء فقد أَعْجَمه. اسْتَعْجم عليه الكلامُ: اسْتَبْهَم" (4)، وقد جاء بعضها قبل الرد في سورة فصلت على طلبهم بإعجام القرآن
(1) رواه الأزرقي في أخبار مكة (121/ 2) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين (ثقة من صغار التابعين) عن ثلاثة من التابعين الثقات هم عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وطاووس مرسلاً بسند رجاله ثقات غير مسلم بن خالد اختلف عليه علماء الجرح والتعديل بين توثيقه وتضعيفه لكثرة غلطه في الحديث وهو فقيه عابد، وروايته هنا صحيحة، فله متابع وهو إسماعيل بن عياش عند القاسم بن سلام في الأموال (ص143) وعنه حميد بن زنجوية في الأموال (293/ 1) ورواه البلاذري في فتوح البلدان (ص57) من حديث عبد الله بن عبد الرحمن أيضاً، وقد ذكره الشافعي في كتاب الأم (382/ 7) من كلام القاضي أبو يوسف (ت182هـ) وذكره ابن كثير في السيرة (570/ 3) من كلام محمد بن إسحاق إمام المغازي (ت150هـ)، أما ما رواه الواقدي في المغازي (835/ 2) فلا حجة فيه لأنه متروك الحديث ومثله ما رواه ابن جرير الطبري في التاريخ (161/ 2) من حديث بن حميد الرازي فهو متروك أيضاً.
(2)
إشارات الإعجاز للنورسي، الم البقرة وآل عمران، ص43
(3)
الرازي (5/ 2) تفسير سورة البقرة، مع التصرف بتغيير اسم اللغة البديلة إلى اليونانية، لأنه لم يختر لغة معروفة في التاريخ وإنما وصفا للهجة.
(4)
لسان العرب - مادة عجم.
كما في سورة القلم، فكيف تأتي بالإعجام ابتداءً، ويردّ الله بعدها في سورة بقوله تعالى {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وبيّن شبهتهم بقوله تعالى {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} فهي إذن ذات دلالات لا مجال لنفيها، ومن إدّعى بأن فيها خبيئة فقد رمى القرآن بالإعجام.
وتماشياً مع من إدّعى بأنهم لم يفهموها، أو قال فهموها على غير هذا الوجه أقول: عرفنا بأنهم أميون بنص الكتاب والسنة وعلوم التاريخ والآثار، والسؤال هنا: ماذا سيفهم الأمي لأول وهلة عند سماعه هذه الحروف بأسمائها (نون، قاف، صاد، حا ميم)؟ أو ما هو المغزى من ذكرها؟ هل أنها من أسماء سور ذلك الكتاب الموعود، والذي لا زيغ فيه ولا باطل؟ أم يلزمهم عدها وقسمتها على سبعة ليعرفوا ما بها من دلالات حسابية، وهم لا يعرفون الحساب أصلاً؟ وكما أسلفت فإن لهذا الأمّيّ حالات، وكلهم فصيح بلسان القوم، أمّي لا يعرف الكتابة، وأمّي بالنسب لأهل الأمّية.
أما الأول منهم فلن ينطق ببنت شفة، لكونه جاهلاً بها وبأصول الكتابة فليس له أن يتكلم أصلاً، وكأن هذه الحروف قد أخرسته وأعجزته عن مجرد الحديث العابر فيها، وزيادة عليه إن سماعها يعد تقريعاً له ولقومه على جهلهم بالكتابة وعلوم الكتب (1)، إلّا إن اتبعوا قائلها، فإما أن يقول آمنت أو يقول كفرت، هذا إن كان جاهلاً لا يقرأ ولا يكتب، وهم الغالبية من أهل الجاهلية، فكيف بمن كان عارفاً بالقراءة والكتابة وبارعاً في نظم الكلام، وعارفاً بقوانين الكلام
(1) والدليل التاريخي على أن الكتابة كانت عزيزة بل شحيحة في العرب ما تجده في نقوش العرب القليلة قبل الإسلام وبعد ظهور الإسلام وكيف كان الكاتب يذكر اسمه ولو كتب سطراً واحداً بقوله (وكتب وكتبها وكتب هذا)، بل تجد في النقوش ما اقتصر على (كتب فلان سنة كذا) فقط، وهو كما جاء في نقش ينبع، وجاء فيه (كتب سلمة سنة ثلاث وعشرين) - انظر الملحق - فأي تعظيم للكتابة وقد كانت الأمم تملك مكتبات عظيمة كما كان في الإسكندرية.
الفصيح؟ وهو الحال الثاني، وهو من قرأ وكتب وقومه موسومين بالأمّية، هل كان سيفهم أنها علامات على بدء السور؟ أو أنها "إيقاظاً لمن تحدى بالقرآن وتنبيهاً على أن أصل المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما عجزوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه"(1)، وليس الإتيان هنا بما يدانيه بالكتابة، بل بمجرد النظم، وهل مثل هذا التحدي يأتي بهجاء الحروف؟ أم أن مثل هذا التحدي جاء صريحاً في الكثير من آيات التحدي كقوله تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) البقرة} " {شُهَدَاءَكُمْ} أعوانكم أي: قومًا آخرين يساعدونكم على ذلك، وقال مجاهد: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} قال: ناس يشهدون به يعني: حكام الفصحاء"(2)، فالحاصل إذن أنهم فهموا مغزاها، وإن لم يعلموا ما ستؤول إليه هذه الحروف، والعلم بالشيء فرع عن تصوره، وعلمها وتأويلها (أي الحروف) آت بعد إتباع قائلها وتسطير ما يقول، ليتم بذلك الكتاب الموعود. فعلموا جميعاً أن فيها خيراً إن انتشر دين الإسلام، فهي من حروف لغتهم، وسيكون هذا الكتاب الموعود أول كتاب بحروف عربية على لسانهم، فهل يستقيم أن ينكروها وينكروا لفظها، وهي تدعوا للخط بحرف العرب ولسانهم. لذلك قال عتبة لأهل قريش:"خلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننّ لقوله نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد النّاس به"، هذا وإن جاء القرآن بمدح اللغة العربية ورفع
(1) البيضاوي (86/ 1) تفسير سورة البقرة
(2)
ابن كثير (199/ 1) تفسير سورة البقرة
شأن اللسان العربي في مواضع كثيرة، ولكنها (أي الحروف) صريحة بأن ذلك الكتاب الموعود، والمرسل للناس كافة ولجميع الأمم سيكون بحروف عربية على لسانهم، قال ابن الرومية (1):
كذا قضى الله للأقلام مذْ بُرِيَتْ
…
أن السيوف لها مذ أُرْهِفَت خَدَمُ
وقد قيل "الخط لليد لسان، وللخَلَدِ تَرجمان، فرداءَته زَمَانة الأدب، وجودته تبلغ بصاحبه شرائف الرتب، وفيه المرافق العظام التي مَنّ الله بها على عباده فقال جلّ ثناؤه: {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بالْقَلَم} "(2)
ولكن قد علمنا بأن المشركين كانوا يجحدون بآيات الله البينة بعد إقامة الحجة عليهم، فأين تعنّتهم؟ وما هو سبب سكوت الصحابة عنها؟ حتى إن علموا أن تأويلها لا يكون إلا بكتابتها على ما فيها من دلائل للكتابة، وقد علمنا أن الأمر بالقراءة كان في أول آي التنزيل بقوله تعالى (إقرأ) ولم يأت الأمر بالكتابة ظاهراً، وأتى بذكر هذه الحروف وما بعدها مباشرة من ذكرٍ للكتاب وسطر للكتب. (3) ونعلم أنّه نزل من هذه الحروف في الزهراوين (البقرة وآل عمران) وهما مدنيتان، لتكتمل الرسالة وتمنع الاعتقاد بأنها كانت للرد على المشركين فقط، بل فيها علم الكتابة المقرون بالقرآن، ونعلم أن في هذا دليلاً على إعجاز الله للخلق ببقاء معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم
(1) نهاية الإرب في فنون العرب للنويري (7/ 24) والمزهر للسيوطي ج2 ص352
(2)
المزهر للسيوطي ج2 ص351، وعزا الكلام لصاحب كناب زاد المسافر.
(3)
للتأصيل أقول: لقد كتبت هذه الكلمات بعد تفصيلي في الصحيح والضعيف من روايات أهل التفسير عن ابن عباس، وقد كنت تيقنت أنها جميعاً ليست منه رضي الله عنه، وأنها جميعاً من تشتيت الروايات الضعيفة وحواشي الكاتبين، وبعد كتابتي لما في الحروف من تأويل بحسب الاستقراء في واقع المشركين والتدبر في كلام الله، وقعت في حيرة لا يعلمها إلا الله، فقد رجعت للروايات فوجدت بعضاً مما أقول موزعاً فيها بحسب الروايات، فعلمت أن الروايات قد أفسدت المضمون وأخرجته عن حجيته، فكل كلمة خرجت بسند، وقطّعت الكلام بحسب فهم الكتبة والرواة، وذلك من حبهم لتلقي المعلومة السريعة، أو أنهم كتبوا بعض الكلام ليتذكروه، فوصلنا المكتوب وضاع المضمون.
وهي الأمية، فلم يتكلم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بظاهرها ومعناها، ولم يتأولها، لأن عدم تأويلها كان إحدى دلائل الإعجاز على صدقه، أما تعنت المشركين وعدم حديث الصحابة عنها فسيظهر في بيان حقيقة الإعجاز لكون النبي صلى الله عليه وسلم أمي ويقرأ هذه الحروف، وسيظهر في بيان الآية التي حملت تلك المعاني في فواتح السور كما سأبين في نهاية الكتاب إن شاء الله لتبقى محفورة في أذهاننا، لأن الصورة لا تكتمل إلا بعد اكتمال أركانها، ومن هذه الأركان بيان الإعجاز في نظم هذه الحروف وما حملته من علم.
فهذه الآيات إذن ظاهرة بينة، إلا ما تعذر فهمه من كلمات، وبفهم الآيات نفهم السور وأسباب نزولها، ولو قرأنا أسباب النزول كما أوردها من جعلها المفتاح لفهم الآيات لما أفادت بشيء في التفسير- هذا مع الإقرار بفائدتها كآثار تدل على علم عظيم كما تدل عليه كل الأحاديث- وقد قالوا في أسباب تنزيل سورة القلم (ن): "عن عائشة قالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك أنزل الله عز وجل {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ} (1). قوله عز وجل {وَإِن يَكادُ الَّذينَ كَفَروا} الآية: نزلت حين أراد الكفار أن يعينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصبوه بالعين، فنظر إليه قوم من قريش، فقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حججه، وكانت العين في بني أسد، حتى إن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمر بأحدهم فيعينها ثم يقول: يا جارية خذي المكتل والدرهم فأتينا
(1) النص من أسباب النزول للواحدي (ص443)، وذكره السيوطي في لباب النزول (ص201) وقال:"وأخرج أبو نعيم في الدلائل والواحدي." وهو بهذا اللفظ عند الواحدي وعند أبي الشيخ الأصبهاني في أخلاق النبي (رقم 2) وعنه ابو نعيم الأصبهاني في الدلائل (ص181) بسند هالك فيه حسين بن علوان الكوفي وهو كذاب، وعند السخاوي في المقاصد الحسنة (ص99) أنه "كان يضع الحديث"، وللألباني تحقيق في أمره كما في السلسلة الضعيفة في سند جاء فيه، حديث (رقم 766)، وما جاء عند أهل الحديث في روايتهم كالإمام أحمد ومسلم كما في أصل الحديث الصحيح التالي أحق بأن يتبع، وعليه فكلمة (لذلك أنزل الله) ليست بحجة، وهي شاذة بل موضوعة.
بلحم من لحم هذه، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر. وقال الكلبي: كان رجل يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به النعم فيقول: ما رعى اليوم إبل ولا غنم أحسن من هذه، فما تذهب إلا قريباً حتى يسقط منها طائفة وعدة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعين ويفعل به مثل ذلك، فعصم الله تعالى نبيه وأنزل هذه الآية." (1) أقول: إن قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في الأولى، لم يأت لبيان سبب تنزيل هذه الآية، بل جاء كأنها تقول (لذلك قال الله وإنك لعلى خلق عظيم) وهو ما بيّنته روايات الحديث الصحيحة "عن سعد بن هشام قال: أتيت عائشة فقلت: يا أمّ المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن:{وإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} " (2)، وهو حديث عظيم له دلالات عظيمة، وليس فيه ذكر سبب التنزيل على اليقين، وقد ذكره العلماء في أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم خير البشر وخير الأنبياء والرسل؛ لنعلم ما كان عليه نبينا وأنه أحسن الناس خُلقاً، (3) وأما الثانية فلم تكن سبباً في التنزيل، فقد جاءت لتفسير كلمة "ليزلقونك"، وقد تكلم فيها علماء التفسير بما لا مجال لذكره هنا، ومعناها اللغوي أفاد بما أفادته الرواية، وبيان سبب ذكر هذه الكلمة في هذا السياق لا يعمم على الآية، وقد جاء بعدها (ويقولون إنه لمجنون) وهو السبب الرئيسي، مع العلم أن هذه الرواية أفادت بالكثير من العلم، بأن العين حق، وأن الحذر منها واجب، وأن المشركين لم يتركوا طريقاً لمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من إتمام رسالته إلا وسلكوه، وغير هذا من الفوائد العظيمة، ولكنها لا تكون سببا لفهم هذه الآية، وأنها نزلت لتعصم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو - المعصوم أصلاً-، فسياق الآية والسورة لا يشير إليه على أي حال من الأحوال، وجل ما يستفاد منها في فهم التفسير أنها نزلت لوصف حالهم من شدة حقدهم عليه صلى الله عليه وسلم. وغير هذه الآيات والسور كثير، والأدلة على أن الكتب التي عنيت بأسباب التنزيل احتوت علماً شريفاً بمضمونها، ولكن أسلوب السرد فيها كان محدثاً، والواجب رده لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (4)، فلا نقول سبب تنزيل هذه الآية أو السورة كذا بالرجوع لهذه الكتب وكأنها معجم ما استعجم من واقع نزول القرآن، بل نأخذ ما جاء في تأويل الآيات والسور مما ورد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وما جاء في كلام العرب، مراعين لواقع المخاطبين من خلال ما ذكر فيها جميعاً لفهم واقع التنزيل وحال المتلقين، وهذا هو الحق في التأويل. وإن كان الإمام أحمد قد قال: "ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير" فنحن نقول: إن كتب أسباب التنزيل ما زالت من غير أصول، يسّر الله لها من يعطيها حقها.
والأعجب من حصر الأفهام بأسباب ضعيفة السند والمتن ما تجده في قول أحدهم إن قوله تعالى من {اصبر على مَا يَقُولُونَ} - إلى قوله - {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} منسوخ بالأمر بالقتال، (5) ونسي
(1) أسباب النزول للواحدي (ص443)، والروايات جاءت لتفسير كلمة (ليزلقونك) كما عند الطبري (564/ 23) وغيره لا في سبب النزول، والكلبي متروك لا يحتج بكلامه.
(2)
رواه الإمام أحمد (163/ 6) والبخاري في خلق أفعال العباد (ص87): قالت (كان خلقه القرآن) وعبد الرزاق في التفسير (330/ 3)، ورواه مسلم من حديث مطول لابن عباس (512/ 1) كما في رواية عند الإمام أحمد (53/ 6) وأبي داود (426/ 1) والنسائي (199/ 3) وابن خزيمة (171/ 2) وابن حبان (292/ 6) وعبد الرزاق (39/ 3) والدارمي (410/ 1) وابن راهويه (713/ 3) وأبي عوانة (55/ 2) ومحمد بن نصر المروزي في مختصر قيام الليل (ص123). ورواه الطحاوي في مشكل الآثار (265/ 11) والقاسم بن سلام في فضائل القرآن (ص111): قالت: «قال الله جلّ ثناؤه: وإنك لعلى خلق عظيم، كان خلقه القرآن» ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (541/ 2)(ولم يتنبه للحديث في مسلم كون المتن قطعة من الحديث المطول لابن عباس) والبيهقي في الشعب (22/ 3) ورواه ابن جرير (529/ 23) وأبو يعلى الموصلي (275/ 8) والبرجلاني في الكرم والجود (ص36) والآجري في الشريعة (1515/ 3) وكلهم من غير قولها " لذلك أنزل الله".
(3)
كما جاء ذكر الحديث في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم لأبي الشيخ الأصبهاني.
(4)
رواه الإمام أحمد (270/ 6) والبخاري (184/ 3) ومسلم (1343/ 3) وأبو داود (610/ 2) وابن ماجه (10/ 1) وابن حبان (207/ 1) وغيرهم.
(5)
الهداية إلى بلوغ النهاية (6212/ 10) ولم يكتف بهذا بل فسر الآية على ذات القصة من الإسرائيليات.
أن كلام الحي القيوم لا ينسخه كلام البشر، ونسي أن الكفر والشرك والإلحاد ألوان، وما أحوجنا في هذه الأيام لفهم هذه الآيات، إذ صار مذهب الإلحاد علمياً وعقلياً بزعمهم، فإن قال الله لنبيه اصبر قبل قتالهم، فقد صبر بعد قتالهم ولم يقل ما قالوه.
هذا وقد أسهبت في بيان الحجج وردها بما ينبغي من القول، ولم أقتصر على ذكر الدلالات والحجج لسبب واحد، وهو أنك إن أردت إقناع أمة من الأمم بوجود كنز في بحرهم، فعليك إخراج بعضه أمام أعينهم وتحت ناظرهم، ولا تقتصر على الإشارة إليه.