الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطّعة من فواتح السور
دراسة في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن الكريم
تأليف: إياس محمد حرب آل خطاب
الطبعة الأولى 2011
دعاء
أللهمَّ إنْ كنتَ تعلم أن ما ذهبتُ إليه في هذا الكتاب من تأويلٍ لآياتِ كتابك فيه الخير للمسلمين ولطالبي هذا العلم الشريف فيسّره للظهور واكتب له القبول وإنْ كنتَ تعلم أنني انتصرتُ فيه لقولٍ أو لرأيٍ يخالف شرعك وصحيح فهم كتابك أو يوافق بدعةً في دينك فاصرفه عن الظهور واجعله نسياً منسياً.
بين يدي الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، الذي اشترط النصح لكل المسلمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:
فما من قارئ لكتاب الله - مسلم أو غير مسلم - إلا وتستوقفه تلك الحروف المقطّعة في بداية بعض السور، وما من باحث في تأويلها بين أقوال المفسرين وغيرهم من أصحاب الآراء والأقوال والادعاءات إلا ويستوقفه مطلق الظن بعلمها ومعرفة مقاصد الله جلَّ في علاه منها، فقد اختلف المفسرون قديمهم وحديثهم في تأويل هذه الحروف على مرِّ العصور، بل لقد كانت أقوالهم وآراؤهم متباينة أشدّ البَوْن بين أصل الحروف اللغوي كالقول بأنها حروف دلت على ذاتها، وبين منتهى العجز في فهمها كالقول بأنها من الأسرار وأنّ الله وحده هو العالم بمراده فيها.
وهذا الكتاب سيغني الباحث - إن شاء الله - عن عناء البحث والاستقصاء لجمع تلك الآراء لمجرد الاطلاع عليها ومعرفة الصحيح من السقيم منها، أو لمعرفة تفسير الحروف وتأويلها على الوجه الصحيح، وبيان أوجه الإعجاز فيها، فقد ذكرت فيه - بحمد الله - ما يقنع الباحث عن هذا العلم، وشرحت فيه من حال التأويل المستحب للحروف، وما يَحسن فيه وما يقبح، وبيّنت فيه مسالك المتحدثين فيها على اختلاف أفهامهم وغاياتهم، وبيّنت الكثير من أوجه الإعجاز وما جاءت به الحروف من دلالات وإشارات ومضامين يعجز البشر عن مجرد التفكير بمثلها، وقد اعتمدت في تلخيصها وإيضاحها على الأقوال المعتبرة وما قارب الصواب منها بحسب الأصول والقواعد المتبعة في علوم القرآن وعلوم الحديث وإقرارات أهل العربية، وما يَحدّها من البلاغة وبيان الإفصاح في كتاب الله، بالإضافة لما تحصل عندي من معرفة بعلم التاريخ والآثار وما
يخص منها اللغات ومقارنتها، واتخذته مقروناً في بيان الوجوه الصحيحة من كل الآراء، مع إغفال الوجوه السقيمة منها بما تحصل عندي من استقراء وتأمل في غايات الذكر الحكيم، غير مُرجّح لرأي دون آخر ولا مُتّبع لمسلك دون سواه، إلّا ما دلّت عليه إشارة أو دلالة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو ما وافق فهماً صحيحاً لأثرٍ عن السلف من دون أي التباس.
ولست أدعي فيما أكتب علماً لم يبلغه أحد، إنما هو بيان لوقفات مضيئة على ما ورد ذكره في القرآن من حروف، وما فيها من دلالات وإشارات تُبهر العقول وتُغذّي الروح، رغم أنها كانت على مر العصور موطن تأويل وبحث واختلاف، وكان مَبلغ علم المتبحر في غاياتها ودلالاتها أن يقول: هي من علم الله، أو هي من المتشابه في القرآن. وقد كانت بحق وما زالت كما قيل بأنها تلك الفواتح العظيمة التي تقرع آذان السامعين لتنقلهم من مراتب السمع الخالص إلى أفق التأمل بما تعجز القلوب عن إدراكه من أسرارٍ للبيان الإلهي.
وقد بيّنت في هذا الكتاب أنها أتت للرد على مسالك المتكلمين فيها وفي القرآن بغير علم، وأنها ردت عن نفسها بأعجب ما يكون في الرد من إيجاز، وأدقه معرفة لكمائن النفوس، وأنها جمعت أقوال المفسرين بتكامل عجيب بما جاء فيها من أسرارٍ للنظم الإلهي الأوحد. ولم أغفل بحمد الله عن البيان والتفصيل والتأصيل لأسباب الخلاف الظاهر بين أقوال العلماء والمفسرين، قبل الحديث عن بيانها وتفصيل الأقوال فيها، وقبل بيان بعض دلالاتها وإشارات الإعجاز فيها. على أنني لم أرجع فيما بسطته من أسباب للخلاف والاتفاق في التأويل إلى كتابٍ مُؤلَّف أو قولٍ يروى، ولا وجدت ما ذكرته مجموعاً في مكان، وإنما عرفته بالاستقراء وتأمل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما نبّه أهل العلم على إثباته وما حذّروا من إتباعه. وهذا البيان وهذا التفصيل رأيته ضرورة حتمية، تلزمنا نحن المسلمين لتصفية ما علق في أذهاننا من الفهم السقيم لبعض الحقائق الناصعة، وما شابها من تغيير وتبديل؛ لننير بذلك طريق الفهم السليم لمكنونات الذكر الحكيم.
وقد اتبعت طريقاً في سرد الحقائق والشبه، اعتمدت فيه على تفصيلها أولاً، ثم بالرد على المبتدعين والحاقدين من غير احتجاج بما جاء في فواتح السور من دلالات ثانياً، وذلك ليأتي الرد من بابين: أولاهما الرد بكلام البشر على البشر، كما هو ردي عليهم، وثانيهما بفهم الدلالات وردّها عن نفسها بما نعجز نحن البشر عن مثله، ليُفرّق القارئ بين إعجاز البيان وما يقوله البشر من كلام، فلا يستعجلن أحد في الحكم على شيء قبل المقارنة بما يوافقه من دلالات وإشارات في كلام الله.
هذا وأسأل من يقرأ في كتابي هذا العذر والصفح؛ إن رآني أقل منه منزلة في علم له علاقة أو منهج مُتَّبع هو فيه إمام، أو رأى ما لعله يثيره عليّ، لأنني سلكت في تأليف هذا الكتاب درباً لم أجد لي فيه مرشداً إلا ما زكّته النفس عن إيمان ويقين بعد البحث والاستقراء، ولست أدعي فيه السلامة من الخطأ، ولا العصمة من الزلل وأعترف بالتقصير. فقد كان أساس البحث فيه ما انقدح في نفسي من فهمٍ للحروف، فبحثت عنه بما آتاني الله من قوة في كتب السابقين وما سطّر المعاصرون، فلم أجد لما ذهبت إليه فيها قرين، ولم أجد كذلك أن ما ذهبت إليه قد خالف أصلاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو أصلاً من أصول أهل العلم في فهم النصوص، فعلمت أنه لا يحق لي كتمانه، كما لا يحق لي إطفاء شعلة من نور في طريق العلم، وأنني إن فعلت كنت مستحقّاً للجام لا أقوى على احتماله.
ولما كان هذا المسلك من التأليف فيه ما فيه من سعة المطالب، ولا يكون إلا بشحذ الفكر وإعياء النظر، فيجب على المنصف إن كان من أهل العلم الصادقين، أن يعرض عما يجدني أشير إليه باختصار، أو أسهب فيما يدعوه للملل والانتظار، ولْيسارع في التجاوز عنه وعني، وليتذكر بأن الدين النصيحة، ولينتهي إن شاء بالذي ابتدأت به النصيحة فكانت لله أولاً ولْيكتب ما هو خير منه، أو ليأخذ منه ولْيَزد عليه ما شاء، لأكون ابتداءً سبباً في دفع العلماء
الصادقين لطلب المزيد، وأكون انتهاءً بحال تمنى الشافعي أن يكون فيه عندما قال:"بودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب - يعني كتبه - على ألا ينسب إليّ منه شيء"(1). ولْيُعلَم أنني ما كتبت هذا الكتاب إلا لوجه الله تعالى أولاً، ثم ليعلم الناس قارؤهم وكاتبهم أن تأويل القرآن للتوسع في بيان مقاصده بالتدبر والاستقراء ليس تاريخاً يحذو فيه المسلمون حذو أسلافهم الأولين، مرجحين لقول ولغيره منكرين، أو فنّاً يتساوى فيه المبتدعة مع أهل الحق وأهل السنة، ثم ليعلم الناس أن العلم ما هو إلّا "نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الإتباع، والفرار من الهوى والابتداع، وفّقنا الله وإياكم لطاعته."(2)
(1) رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار (203/ 1) وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (76/ 10) وابن عساكر في تاريخ دمشق (432/ 51) ورواه الأصبهاني في حلية الأولياء (118/ 9) ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم (137/ 10).
(2)
من كلام الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/ 323) - ترجمة الإمام عثمان بن سعيد الدارمي