الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: وجه الدلالة في الحروف للحفاظ على اللفظ العربي لكلمات القرآن
هب أنك ما سمعت كلام الله مشافهة، ولم يخبرك أحد بلفظه، وأردت قراءته مبتدئاً بـ (الم) أو (حم. عسق) أو (كهيعص) كيف ستقرؤها؟ وما هو الأصل في القراءة في كل لغات الدنيا؟ أهو لفظ الحرف؟ أم مسميات الحروف ووصلها لتعطي الكلمة؟ وهي أصل مبدأ الكلام، ولا يختلف اثنان بأن الناس إذا أرادوا إرسال معلومة بأي طريقة كانت فالأهم هو إيضاح الكلام، وبيان المعنى. ولا يتأتى ذلك إلا بلفظ الكلمات، بحيث ينتهي مقصد الرسالة بفهم المتلقي، فكيف برب العالمين وله المثل الأعلى، أيقاس كلامه على الإبهام؟ حاشا لله، فالسؤال هنا عن أساسيات الكلمة، وهي اللغة بلفظها وكتابتها وموقعها في النظم، وفي المحصلة معناها، وقد علمنا بأن القرآن نزل بلسان عربي متضمناً هذه الكلمات - أي الحروف المقطّعة (1) - باللغة العربية، وأن هذا الكلام المكتوب في القرآن بهذه الحروف وعلى هذا الشكل ليس فيه نقص ولا زيادة، وقد "كان إتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد الله بن درستويه في كتابه (المترجم بكتاب الكتاب المتمم): في الخط والهجاء خطان لا يقاسان: خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض؛ لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه" (2). إذن عرفنا بمجرد النظر لهذه الكلمات ما هي لغتها وكتابتها وموقعها من النظم على حد اليقين فماذا بقي؟ يبقى لفظها ومعناها فقط. فكيف نعرف لفظها؟ والكل متفق على أن اللفظ يؤخذ بالتواتر، بل "إن تلاوة القرآن لا تؤخذ أبداً من الرسم، بل من التلقي، لأن هناك أحكاماً لتجويد القرآن وإخراج الحروف من مخارجها الحقيقية لا يمكن للشكل الإملائي أن يدل عليها، ولذلك أرسل عثمان مع المصاحف قُرّاءً، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، والمغيرة بن شهاب أن يقرئ بالشام، وعامر بن عبد قيس أن يقرئ بالبصرة، وأبا عبد الرحمن السلميّ أن يقرئ بالكوفة." (3) فاللفظ والكتابة مترابطان في القرآن، بل "روعي في تسميته (قرآناً) كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسميته (كتاباً) كونه مدوناً بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضوعين لا في موضع واحد، أعني أنّه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر." (4) وهذا كله بالاتفاق، مع أن هذا الاتفاق لم يأت من نص صريح يدل على وجوب تناقل القرآن باللفظ والكتابة، بل جاءت النصوص قاطعة بالدعوة لقراءة القرآن بتلاوته وترتيله، كما في قوله تعالى {ورتل القرآن ترتيلا} "والترتيلُ في القراءة: التَّرَسُّلُ فيها والتبيين من غير بَغْيٍ (5)، وفي قوله تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 21] "تَلا يَتْلو تِلاوَة يعني قرأَ قراءة"(6)، ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}:"أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ولا يحرفه عن مواضعه."(7) فأين نجد الأمر والقطع بوجوب نقل القرآن باللفظ مع الكتابة، وإن قال قائل: هذا ما اتفق عليه السلف والخلف. أقول
(1) قال القرطبي (67/ 1): "وأما الكلمة فهي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات - أي الحروف".
(2)
الزمخشري (27/ 1) تفسير سورة البقرة
(3)
عطية صقر، فتاوى الأزهر ج7 ص476، رسم المصحف.
(4)
عبد الله دراز - النبأ العظيم ص42
(5)
لسان العرب - مادة رتل
(6)
لسان العرب - مادة تلا
(7)
رواه عبد الرزاق (288/ 1) ومن طريقه ابن جرير (567/ 2) عن قتادة وابن المعتمر بسند صحيح مرسلاً.
نعم، ولكن كيف تحصل عندهم هذا الإجماع؟ ونحن نجدهم يجمعون المصاحف على مصحف واحد - هو المصحف الإمام - لا لجعله قرآنا وقد كان من قبل مكتوباً، بل ليجمع القراءات على خط واحد مشتمل لوجوه ألفاظ العرب، فالغاية منه إذن ليست الجمع - إذ لم يكن مقسماً - بل توحيد القراءات على رسم واحد، وهو ما اصطلح عليه "بالرسم العثماني"، وإن كانت هذه هي الغاية، ولم تكن الغاية قطعاً توحيد اللفظ للآيات بمنطوق أهل قريش - وفيهم نزل القرآن - دون سواهم، ونجد هذا واضحاً أيضاً في بعض الآثار بترجيح بعض الصحابة لرسم كلمة معينة دون رسمها المعتمد في المصحف الإمام لأنها توافق لفظ قريش، ولكنها من باب آخر لا تجمع ألفاظ العرب، وترجيحه مرجوح وقوله مردود بعلمه لا بعلمنا نحن، لذلك لا نجد خلافاً على توحيد المصاحف بالرسم العثماني، لعلمهم واتفاقهم أن الرسم العثماني جمع ألسنة العرب على رسم وخط وكتابة واحدة. إذن لماذا اشترطوا نقل اللفظ مع الكتابة وهم جمعوه بسبب تنوع اللفظ؟ فإن قال قائل: إن عثمان بعث مع نسخ المصحف من يبلغ القرآن على ألسنة العرب، ليتم حفظ لهجات العرب، فأقول إن هذا مما وقع للناس لاعتقادهم بأن القراءات المشهورة للقرآن هي ذاتها ألسنة العرب في زمن التنزيل، وهذا من وهم العوام. ولبلوغ المقصد الصحيح، علينا الرجوع لأصل الرسم العثماني قبل التشكيل والتنقيط في زمن الصحابة ومن أدركوه من أهل الفصاحة وأهل الألسنة التي نزل بها القرآن، هل سيقرأون القرآن بوجه غير صحيح وقد نزل القرآن على لسانهم!؟ والجواب قطعا لا، إلّا في موضع واحد، وهو فواتح السور! فما أدراه ما هي (ب) أهي ب أم ت أم ث أم ن أم ي و (ص) أهي ص أم ض و (ق) أهي ف أم ق؟ لن يعرف إلا بمعرفة لفظها، ومن لفظها تتم الرسالة فقط، وعلاوة على ذلك فقد جاءت الحروف مكتوبة على هيئة مسمياتها، وتلفظ بأسمائها كما في الهجاء، فلا سبيل لقراءتها إلا على أساس اللفظ فيها كما كتبت، كما "قال سيبويه: قال الخليل يوماً وسأل
أصحابه: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول: باء، كاف؛ فقال: إنما جئتم بالإسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: كه، به." (1) فأفادت هذه الحروف بوجوب وإلزام نقل القرآن باللفظ والكتابة معاَ، لأن كتابة الحروف تقضي بقراءتها على أسمائها إن جاءت مفصولة فقط، وعلى لفظ الكلمة إن جاءت موصولة فقط، وهذه الحروف جمعت بين الاثنين، فلا مخرج منها إلا بتبليغها باللفظ. وإن قال قائل: إن كتابة القرآن اعتمدت الرسم العثماني، وهم قد اختاروا هذا الفعل - أي أن يكتبوها على هيئة الكلمة - وكان بإمكانهم فعل العكس، قلت كيف لهم أن يكتبوا مثلاً (نون) هكذا، وهي تعني الحوت؟ وكيف لهم أن يضمنوا عدم لفظها بغيرها كما تقرأ أيضاً توت؟ وصاد تأتي كفعل، وياسين هو اسم، وقاف كذلك وزيادة، لكنهم كتبوها كما ألزمتهم من غير لبس، ولفظوها كما سمعوها، وبلغوها كما نطقها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ورغم ما في هذا الاستنتاج من فائدة عظيمة وإبهار للعقول، وإعجاز للبشر بمجرد النظر لبعض أسرار النظم الإلهي، إلا أنه يرفعنا لمقام أعلى لفهم المقاصد واستنتاج للمعاني، ولبيان الطرح أقول: لنعد لقول الله تعالى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة} لنتأمل في هذا الوحي الإلهي قبل الكتابة، وحين التلقّي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجوعا لبيان الحال كما جاء في أقوال ابن عباس " كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه"،" وكان يعالج من التنزيل شدة، فكان يحرك شفتيه" وقال: " أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه"، وكل هذا لبيان الحال، فهذه الأفعال منه صلى الله عليه وسلم من أفعال البشر لحرصه على حفظ القرآن، وهي مما يفعل الناس عند الاهتمام
(1) الزمخشري (20/ 1) تفسير سورة البقرة
بحفظ نص ما، ولكن جاء الوحي الإلهي لبيان واقع الحال على اليقين، وإعلاماَ بأن أفعال البشر تلك لن تكون السبب في حفظ القرآن {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} سواء بحفظه أو تأليفه، فلا تتكل على تلك الأفعال، بل توكل علينا وتيقن بأن الله سيحفظه ويرعاه حق الرعاية {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} فهو الدور الإلهي لا دور البشر ولا دور أفعالهم، وكما يسَّر الله للبشر نَبِيًّا صَادِقًا كريما لتصل الرسالة لهم على لسانه، يتعهد الله بأن يحفظه في صدرك كاملاً غير منقوص، ويتعهد بتيسير حفظه في صدور المتلقين بعد تلقيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتعهد بجمعه في صدور المؤمنين غير منقوص، وتيسير التأليف له ليكون قرآنا يتلى من كتاب واحد، وعهد الله كان بالحفظ والتأليف طبعاً، وما من شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان همه الحفاظ على القرآن بكل الأشكال، وليس التأليف مما طلب منه، وهذا لعلمنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميّاً لا يكتب، ولذلك {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} أي اتبع ما يتلى عليك من القرآن وما يلزمه من دعوة للناس إلى التوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتتم الرسالة بالتبليغ والعمل بها {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وهنا تنبيه للسامع بثمّ، أي انتبه فبعد كل ما ذكر، وبعد هذا التعهد العظيم، فإن بيان القرآن للناس بكل الوجوه على الله أيضاً، فلن يضيع منه شيء حتى يُجمع في الصدور والسطور كامِلَا من غير زيادة أو نقصان.
وعليه فإن من بيان الله لقرآنه بيان هذه الحروف، وما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ بها كما جاءت، فإن قال قائل: هل ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حروف الفواتح شيء غير قوله «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وقوله «إن بيّتكم العدو فليكن شعاركم: حم لا ينصرون» قلت: لا، والسبب لا لأنه لم يصلنا شيء من بيانه لها كما زعم البعض، بل لأنه صلى الله عليه وسلم بيّن ما نحن بحاجة إليه في معانيها بقوله الأول، وإحدى إشارات الإعجاز فيها بقوله الثاني، أما دلالات الحروف فلا، لأنه لا يكتب ولا يعرف علم الحروف والكتابة، لا العربية ولا غيرها، وكان عدم ذكره لهذه الدلالات سبباً من أسباب حفظ القرآن، فبيان هذه المقاصد لا يكون إلا بنقلها كما هي لمن يعرف الكتابة، وبيانها بعد ذلك يكون عليهم بكتابتها كما تلفظ أولا، وبيانها بعد الكتابة بقراءتها كما نزلت ثانياً.
ومن هنا نعلم بأن هذه الحروف قد أثقلت على الصحابة رضوان الله عليهم، فقد ألزمتهم بنقل القرآن كتابة وَنُطْقًا، مع وجود طريقة معروفة وموثوق بها تخفف عنهم هذا العبء، وهي كتابة الحواشي، وهي طريقة بسيطة، ولم تخف عليهم ولن تخفى على من يعرف الكتابة، ولكنهم لو وضعوا الحواشي على كل فاتحة من السور لبيان اللفظ لألزمهم الشرح، ولو أردنا بيان اللفظ بكتابته لن يستقيم، مثلاً لفظ (كاف ها يا عين صاد) لا يكتب إلا بالإشارة لكلمات أخرى مثل (كاف من كاف، ها من هاد، يا من كريم، عين من عليم، صاد من صمد) وعليه ستكون الحاشية متضمنة شرحاً - طال أو قصر- وستكون مفتاحا لكتابة الحواشي على القرآن، وبما أنهم - رضوان الله عليهم - هم القدوة والأمنة على كتاب الله لم يفعلوها، وإن كانوا قد بيّنوها بما يوافق هذا البيان، كما روي عن ابن عباس بقوله: اسم مقطع، وقوله كاف من كاف وغير ذلك، فقد علموا أنها ستكون موطن سؤال واستفهام، ولم يضعوا حاشية واحدة تبين اللفظ. وعليه من سيقوم بكتابة الحواشي على القرآن بعد هذا؟ لهذا السبب نرى الإجماع على كراهة كتابة الحواشي على القرآن ولو كان بقصد التعليم، "فلا تجوز وإن احتيج إليها لما فيه من تغيير الكتاب عن أصله ولا نظر لزيادة القيمة بفعله"(1)، فقد كانت هذه الحروف أحد الأدلة الظاهرة البينة على هذا الإجماع، وإن لم يأت الأمر صراحة في القرآن والسنة، وقد سبق الحديث
(1) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي ج5 ص424
عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" وفصلت في الخلاف على بيانه والجمع بينه وبين سماحه صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بالكتابة، وأن كلامه صلى الله عليه وسلم ما هو إلا وحي يوحي، إذ استمر الصحابة على منع أتباعهم من الكتابة عنهم، فهذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم وجّه عناية الصحابة رضوان الله عليهم لكتابة القرآن وحده، وأعني بالقرآن: كلام الله من غير رواية أو تطرّق لخبر السماع منه صلى الله عليه وسلم، وأعني بوحده: القرآن من غير زيادة بتعليق أو شرح أو حاشية أو سند مهما كان، وتجد أثر هذا الأمر عند مقارنة القرآن بكتب اليهود والنصارى (العهد القديم والعهد الجديد - الكتاب المقدس) فنجد أن العهد القديم (التوراة وتوابعها) مكون من ستة وأربعين سِفراً منها خمسة فقط (التكوين، الخروج، الأحبار، العدد، التثنية) هي التوراة بزعمهم أو كتاب الشريعة المنزل على موسى، والباقي ملحقاتٍ لأنبياء وملوك ومجهولين لا يعرفون عنهم شيئاً، ويزعمون أنها جميعاً كتبت بإلهام من الله، وكذلك العهد الجديد يحتوي على سبعة وعشرين سِفراً (الإنجيل وتوابعه) منها أربع روايات للبشارة والباقي رسائل وأسفار كلها مكتوبة بإلهام من الله على زعمهم. فهي مليئة بالتوابع والملحقات حتى صار أهل العلم عندهم لا يفرقون بين الإضافة والحاشية والتعليق وبين الكلام المنسوب إلى الله، وسآتي على بيان ما في كتابة الحواشي من عظيم الأسباب لتحريف الكتب المقدسة السابقة للقرآن في الفصل القادم إن شاء الله.