المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تمهيد: في تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص ألفاظ اللغة العربية - المطلق والمقيد

[حمد بن حمدي الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما

- ‌الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح

- ‌المبحث الثالث تعريف المقيد اصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة

- ‌المبحث الثالث المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد

- ‌المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية

- ‌المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد

- ‌الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد

- ‌الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل

- ‌المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها

- ‌المطلب الأول: في محل الإتفاق

- ‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف

- ‌المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد

- ‌الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه

- ‌المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها

- ‌المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد

- ‌المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة

- ‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص

- ‌الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف

- ‌المبحث الثاني في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات:

- ‌المبحث الثالث: في مسائل متفرقة

- ‌الباب الثالث: في مقيدات المطلق

- ‌الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها

- ‌الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة

- ‌المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها

- ‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌ ‌تمهيد: في تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص ألفاظ اللغة العربية

‌تمهيد:

في تقسيم اللفظ المفيد إلى عام وخاص

ألفاظ اللغة العربية ذات دلالات متنوعة1.

1 يقصد بالدلالة هنا: دلالة اللفظ الوضعية: وهي كون اللفظ إذا أطلق فهم منه المعنى، وقيل هي: فهم المعنى من اللفظ متى أطلق بالنسبة للعالم بالوضع، وهذا التعريف الأخير أخص من الأول؛ لأن العلماء بالوضع (اللغة) يدركون من دلالات الألفاظ على معانيها التي وضعت لها قدراً لا يحيط به غيرهم فيكون ذلك القدر خفياً بالنسبة لغير العلماء بالوضع.

يرجع إلى التنقيح مع التلويح لصدر الشريعة الحنفي 1/131 ط محمد علي صبيح بمصر.

ورسالة التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية للدكتور عبد اللطيف عبد الله عزيز البرزنجي 1/33 ط الأولى، مطبعة العاني سنة 1397هـ 1977م بغداد.

وقد اتفق اللغويون والأصوليون على أن دلالة اللفظ الوضعية تنقسم إلى ثلاثة أنواع: مطابقة، وتضمن، والتزام.

فدلالة المطابقة هي: دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وضع له، كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، وتسمى عبارة النص أيضاً.

ودلالة التضمن: هي دلالة اللفظ على جزء من المعنى الذي وضع له اللفظ، كدلالة الإنسان على الحيوان، أو الناطق في ضمن دلالته عليهما معاً.

ودلالة الالتزام: هي دلالة اللفظ على معنى خارج عن المعنى الموضوع له اللفظ، لكنه لازم للمعنى الموضوع كـ (دلالة الضرب الموضوع للحدث - وهو الدق - على الضارب والمضروب) : المرجع الأخير 1/33.

ص: 31

فمنها: ما يدل على فرد واحد، أو أفراد كثيرة محصورة بعدد معين فيسمى خاصاً.

ومنها: ما يدل على أفراد كثيرة لا حصر لها من ذات اللفظ، بل كلها تنضوي تحت هذا اللفظ الواحد إذا أطلق فيسمى عاماً.

والقرآن الكريم الذي هو مصدر الأحكام الشرعية نزل باللغة العربية واستعمل ألفاظها بمختلف أنواعها، قال الله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} 1، وقال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} 2، وكذلك كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول فهو: عربي مبين؛ لأنه أفصح من نطق بالضاد3.

لهذا كله كان بدهياً أن يعني علماء الأصول - وهم المختصون بوضع المناهج والخطط لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واستنباط الأحكام منها -.

أقول: لقد كان بدهياً أن يعنوا بدراسة الألفاظ العربية من هذه الناحية، أي:(ناحية الخصوص والعموم) ويضعوا القواعد والضوابط التي

1 سورة يوسف، الآية الثانية.

2 سورة الشعراء الآيات من: 193-195.

3 اقتباس من حديث أنا أفصح من نطق بالضاد.

ص: 32

تحدد المسار الذي يسلكه كل من أراد معرفة الأحكام الشرعية، من الكتاب والسنة، وقد فعلوا ذلك بكل أمانة، وإخلاص، وبمعايير بلغت الغاية في الدقة، وكان من البداهة أن يقع بينهم بعض الاختلاف، في تلك القواعد والضوابط الكلية، ولا سيما ما يتعلق منها بمباحث العموم المتشعبة التي دارت حولها أقوال علماء الأصول، واختلفت نظرتهم فيها من حيث ماهية العموم1، وقوة دلالة العام، ومدى قابليته للتخصيص2 الذي يحد من استغراقه للأفراد الداخلة تحت عمومه من حيث الظاهر حيث أخذت هذه المباحث قسطاً كبيراً من اهتمامات الأصوليين، والسبب في تشعب

1 الماهية: نسبة إلى السؤال في قولنا ما هو الشيء في حقيقته أو ذاته؟ أي: أنها المكونات الذاتية لحقيقة ما، ومعنى المكونات الذاتية لحقيقة من الحقائق ما لا توجد الحقيقة بدونه: كقولنا في حقيقة الرجل أو ماهيته (الإنسان الذكر) فالإنسانية والذكورية: هما الذاتيات المكونة لماهية الرجل فلو تخلف واحد منهما لم توجد ماهية الرجل

. (ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال ص: 35 عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ط الأولى 95 دار العلم) .

2 التخصيص عند الجمهور قصر العام على بعض أفراده بدليل، أو هو بيان أن بعض الأفراد التي تناولها العام بظاهره غير مرادة منه: تنقيح الفصول للقرافي ص:51 ط أولى سنة 1393هـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، توزيع دار الفكر. وأصول الفقه للخضري بك 216 ط سادسة 1389هـ توزيع المكتبة التجارية الكبرى بمصر، بيان النصوص التشريعية وطرقه وأنواعه للدكتور بدران أبو العين بدران ص: 148 ط م، ك الاسكندرية محمد محمود محمد مسعد، الناشر منشأة المعارف.

ص: 33

مباحث العموم يعود إلى عدة أسباب نجملها فيها يلي:

السبب الأول: اختلاف نظرة العلماء في ماهية العموم.

1 -

فمن العلماء من لا يشترط لتحقق هذه الماهية إلا انتظام اللفظ العام جمعاً من المسميات سواء كان الانتظام لهذه المسميات من طريق اللفظ أو المعنى1.

2 -

ومنهم من يشترط لتحقق تلك الماهية استغراق اللفظ الموضوع وضعاً واحداً جميع ما يصلح له دفعة واحدة2، بحيث لا يخرج شيء مما يصدق عليه معنى اللفظ، ولهذا السبب اختلفت تعاريف العام عند الأصوليين.

السبب الثاني: منهج القرآن الكريم في تشريعه للأحكام، حيث أتى على نحو كلِّي وعام في الغالب، مما يستدعي البيان والتفصيل.

السبب الثالث: مدى قابلية اللَّفظ العام للتخصيص الذي يحد من تناوله للأفراد ويقصره على بعضها، وإذا كان اللفظ العام يحتمل التخصيص فهل كل دليل أو قرينة صالح؛ لأن يصرف العام عن ظاهره؟

1 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 1/33-34 ط جديدة بالأوفست، سنة 1394-1974م على نفقة دار الكتاب- بيروت.

2 المنهاج للبيضاوي مع شرحيه للأسنوي والبدخشي 2/56-57، ط علي صبيح وأولاده بمصر- بدون تاريخ.

ص: 34

بقطع النظر عن قوة الدليل أو القرينة، أو لا بد من أن يكون الدليل المخصص للعام في قوة العام ثبوتاً ودلالة؟ ولا عبرة للاحتمال الذي لم ينشأ عن دليل مساو للعام في ثبوته ودلالته1.

السبب الرابع: هل قبول العام للتخصيص كقبول الخاص للتأويل2 أو هو أكثر منه؟ ولا ريب أن كثرة قابلية اللفظ للحد من تناوله للأفراد والقاصر له على بعضها تورث شبهة في معناه؛ فلا يقوى على معارضة3، ما هو أقل قابلية لها منه.

تلك هي أهم الأسباب التي حملت الأصوليين على الإفاضة في مباحث العموم، ولا يخفى ما لذلك كله من أثر بالغ في تبين مراد الشارع من العموميات والتنسيق بينها وبين ما يعارضها من أدلة خاصة، وما قد

1 المراد بثبوت العام الطريق الذي وصلنا بواسطته من حيث التواتر أو الأحاد، ودلالته سيأتي الكلام عليها.

2 المؤول: لغة المصروف عن ظاهره مأخوذ من الأوْل وهو الرجوع، واصطلاحاً صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله بدليل أقوى من الظاهر، وقيل: بيان المراد من اللفظ بالدليل الظني.

المستصفي ص/128، والمناهج الأصولية ص:188.

3 المعارضة: لغة المقابلة والممانعة، وتعارض الدليلين تقابلهما على وجه يمتنع معه العمل بكل منهما على ظاهره.

شرح الأسنوي مع شرح البدخشي 2/207 ومع الابهاج 2/177.

ص: 35

ينعكس على الفروع الفقهية "المستنبطة" من تلك القواعد التي كان منشأ الاختلاف فيها هو الاختلاف في تلك القواعد والضوابط الكلية العامة.

وهذا لا يعني أن علماء الأصول لم يعنوا بدلالات الألفاظ من ناحية الخصوص، ووضع القواعد والأسس التي تنير الطريق لكل من أراد معرفة الأحكام واستنباطها من الألفاظ الخاصة، فإن الخاص له ميدان واسع في تفسير النصوص الشرعية وأهمية واضحة يرى أثرها في عناية علماء الأصول وجهودهم في مباحث الخاص، ذلك أن الخاص في ماهيته ودلالته وأنواعه له علاقة بمسالك الأئمة في الاستنباط وما نشأ عن ذلك من الاختلاف في الفروع والأحكام، فهو يقابل العام كما أنه قطعي في دلالته، ولكنه مع ذلك يحتمل التأويل إذا وجد الدليل، ولكن هل احتماله للتأويل كاحتمال العام للتخصيص أو أقل. ذلك ما اختلفت فيه أنظار العلماء، ولأهمية تلك النقاط السابقة سنتناولها في المباحث التالية.

ص: 36

المبحث الأول: في العام

لقد بات من المعروف بداهة لدى كل باحث في الشريعة الإسلامية التي نزلت أحكامها باللغة العربية - سواء أكان يريد تحديد مفهوم حقيقة ما من الحقائق التي لها صلة بأحكام الشرع، أم كان يريد تبيين مفهوم نص من نصوصه - المشتملة على تلك الأحكام، أقول: لقد بات من الأمور المسلمة لدى كل باحث في الدراسات الإسلامية أن عليه معرفة مفردات اللغة العربية وتراكيبها، وما ذاك إلا لأن معرفته هي الأصل والأساس الذي يبنى عليه معرفة أحكام الشريعة، ولا يمكن معرفة مفردات اللغة وتراكيبها في الوقت الحاضر إلا بمراجعة المعاجم اللغوية التي حفظت لنا الاستعمالات العربية.

ومن خلال البحث والتنقيب في خلايا تلك المعاجم يوقف على الأوضاع اللغوية، والاستعمالات المختلفة للفظ، وعلى ضوء ذلك يحدد المفهوم اللغوي للحقيقة المراد تعريفها، وغالباً ما يكون المفهوم اللغوي أعم من المفهوم الاصطلاحي1.

1 يراجع في هذا المعنى الموافقات للشاطبي 2/231، ط دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، تعليق عبد الله دراز، والفتاوى لابن تيمية 3/237، ط دار الكتب الحديثة، توفيق عفيف، والمناهج الأصولية للدكتور فتحي الدريني ص/27، تحت عنوان المناهج الأصولية مشتقة من خصائص اللغة ومقاصد الشرع، ط أولى 1396هـ دار الرشيد- دمشق.

ص: 37

ولهذا يزاد بعض القيود والأوصاف التي تحد من المفهوم اللغوي إذا أريد تعريف حقيقة ما من الحقائق التي للشرع فيها عُرْفٌ أخص من العرف اللغوي العام، وعلى هذا يكون لكل حقيقة من الحقائق التي يبحثها علماء الشريعة تعريفان:

الأول: تحديد المفهوم اللغوي العام.

والثاني: تحديد المفهوم في اصطلاح أهل الفن المراد بحث الحقيقة فيه:

أ - فالعام في اللغة اسم فاعل من (عم) بمعنى: شمل، مأخوذ من العموم وهو الشمول، يقال: مَطَرٌ عام أي: شامل للأمكنة كلها، وخصْب عام، إذا وسع البلاد وشملها، وعَمَّ القوم بالعطية، إذا شملهم بها، والقرابة إذا زادت بحيث جاوزت الأبوة انتهت إلى صفة العمومة.

من خلال هذه الاستعمالات للفظ العام يمكن أن نعرف العموم في اللغة بعبارة وجيزة، ومن تعريف يتضح معنى العام، فنقول:(العموم في اللغة تناول أمر لمتعدد سواء كان لفظاً أو معنى)1.

1 القاموس المحيط لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي 4/156 ط دار الجيل، المؤسسة العربية للطباعة والنشر- بيروت، الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري 5/1992-1993، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، طبع على نفقة (حسين شربتلي) بمطابع دار الكتاب العربي بمصر سنة 1376هـ، المعجم الوسيط - مجمع اللغة 2/629 ط الثانية مطابع دار المعارث بمصر، 1393، أقرب الموارد في فصح العربية والشوارد للعلامة السعيد سعيد الخوري الشرتوني اللبناني 2/832 بدون.

ص: 38

ب - العام في الاصطلاح:

أشرنا فيما سبق إلى اختلاف العلماء فيما تتحقق به ماهية العام، ورأيناهم يتَّجهون في القدر الذي يتحقق به مفهوم العموم إلى اتجاهين:

الأول: من يرى اشتراط الاستغراق في العام، ومعنى ذلك أن يتناول اللفظ كل ما يصدق عليه معناه دفعة واحدة، بدون حصر بالنسبة للفظ العام من حيث هو.

ولأصحاب هذا الاتجاه عدة أقوال في تعريف العام، لم تسلم من الاعتراض ولكنها ليست بمتساوية؛ لأن بعض الاعتراضات الواردة عليها يمكن دفعها بسهولة، وبعضها من الصعب أن يوجد له دافع، ولذا سنختار التعريف الآتي:

وهو أن العام: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر)1.

1 جمع الجوامع للسبكي 1/455-456، مع حاشية العطار ط أولى العلمية بمصر سنة 1316?، وحاشية البناني والشربيني على جمع الجوامع 1/233-234 ط أولى المطبعة العلمية سنة 1316?، ومنهاج العقول للبيضاوي مع شرحيه الأسنوي والبدخشي 2/56، التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة الحنفي 1/32، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي على روضة الناظر ص: 203 طبع مطابع الأصفهاني بجدة بنفقة الجامعة، بدون.

ص: 39

الاتجاه الثاني: من يكتفي في تحقق ماهية العموم بانتظام اللفظ جمعاً من المسميات سواء كان انتظامه لها بطريق اللفظ أو المعنى، ويقصد بانتظام اللفظ للمسميات أن يكون دالاً عليها من جهة (الصيغة) مثل: رجال وزيدون، ويراد بانتظام المعنى لها: أن يكون عمومه باعتبار معناه، لا صيغته كـ (القوم والرهط والجن) ؛ فإن هذه الألفاظ عامة من جهة المعنى حيث تناولت جمعاً من المسميات وليست صيغتها صيغة الجمع.

وأصحاب هذه الاتجاه لا يشترطون في العام الاستغراق، ويعرفونه بأنه:(لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى)1.

أ - شرح التعرف الأول:

وهو أن العام: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) :

1 -

كلمة: جنس أو كالجنس في التعريف يشمل العام وغيره، والجنس في الأصل: مفهوم كلي مقول على كثيرين مختلفين في الحقائق في جواب ما هو؟ كقولنا في السؤال عن حقيقة الحيوان في ذاته؟ الذي ينطبق على زيد والفرس باعتباره جسماً نامياً حساساً2، ثم اصطلح على إطلاقه على أول ما يذكر في التعاريف، ويرجع قولنا: جنس أو كالجنس بالترديد

1 أصول البزذوي مع كشف الأسرار للبخاري 1/33-34.

2 ضوابط المعرفة وأصول الاستدلال للأستاذ حبنكه الميداني ص 32-40، ومباحث التخصيص د، عمر عبد العزيز ص: 18-23.

ص: 40

إلى اختلاف العلماء في العلوم الاصطلاحية هل لها حقائق خارجية أو لا؟ فمن ذهب إلى الأول عبر بالجنس، ومن ذهب إلى الثاني عبر بكـ (الجنس)1.

والتعبير بالكلمة في تعريف العام أولى من التعبير بـ (لفظ) ؛ لأن اللفظ يطلق على المهمل والمستعمل والكلمة خاصة بالمستعمل.

2 -

تستغرق: أي شأنها ذلك، ومعنى استغراق الكلمة أن تتناول كل ما يصدق عليه معناها دفعة دون حصر من ذات اللفظ والمراد بالاستغراق - هنا - معناه اللغوي؛ فلا يكون مرادفاً للعام2، وبهذا القيد أي: الاستغراق تخرج النكرة في الإثبات إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم؛ لأنها تتناول فرداً مبهماً كقولك: (أكرم رجلاً) الصادق بإكرام أي رجل كان.

3 -

الصالح لها: معنى كون الشيء صالحاً للكلمة أن يكون مقصوداً منها في اللغة3 مثل: (مَنْ) الصالح لمن يعقل و (ما) الصالحة لغير العاقل، وهذا القيد وهو (الصالح لها) لبيان الواقع؛ لأن الكلمة لا تستغرق ما لا

1 رسالة التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية د. مصطفى البزرنجي 1/31، وأصول الأحكام للدكتور حمد عبيد الكبيسي ص: 8 ط أولى دار الحرية للطباعة- بغداد سنة 1395هـ.

2 حاشية العطار على جمع الجوامع 1/456.

3 الأسنوي على منهاج العقول للبيضاوي 2/69.

ص: 41

يصلح لها، وفيه فائدة التنبيه على أن العموم شمول اللفظ لما يصدق عليه من معنى.

4 -

بلا حصر: أي: من ذات اللفظ ودلالة العبارة، لا في الواقع؛ لأن أفراد العام مهما كثرت فهي محصورة في الخارج، ولكن اللفظ العام لا يدل على ذلك الانحصار، ويدخل في هذا التعريف للعام اللفظ المشترك1 إذا استعمل في أفراد معنى واحد من معانيه، كقولك:(العين يصح منها الوضوء) ؛ لأن المشترك مع القرينة الدالة على استعماله في أفراد المعنى الواحد من معانيه لا يصلح لغيرها.

ب - شرح التعريف الثاني، وبيان محترزاته:

وهو أن العام: (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى) .

1 -

لفظ: جنس، أو كالجنس في التعريف والتعبير بالكلمة أولى منه كما سبق، وفيه إشارة إلى أن العموم من عوارض الألفاظ دون المعاني2.

1 المشترك في اللغة اسم مفعول، مأخوذ من الشركة وهي اشتراك المتعدد في أمر واحد، وعند الأصوليين: المشترك لفظ وضع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة.

أصول السرخسي 1/126، وشرح الأسنوي 1/281، وأصول الفقه للزحيلي1/283.

2 سبق أن العموم في اللغة شمول أمر لمتعدد سواء كان لفظاً أو معنى، ولكن وقع الخلاف فيما يطلق عليه لفظ العام حقيقة أهو اللفظ، أم المعنى؟ وللعلماء في ذلك مذاهب أولها: أن العموم يطلق على اللفظ حقيقة وفي المعنى مجاز، والثاني يطلق على المعنى حقيقة وفي اللفظ مجاز، والثالث يطلق عليهما معاً حقيقة ورجحه ابن الحاجب: ولكن الجمهور على المذهب الأول.

فتح الغفار 1/84، فواتح الرحموت 1/258، الموافقات 3/166، مختصر ابن الحاجب 2/101، والأحكام للآمدي 1/198، جمع الجوامع 2/403، شرح الكوكب المنير 3/106-107، نزهة الخاطر 2/118.

ص: 42

2 -

ينتظم: أي: يشتمل ومفهوم الاشتمال يتحقق بتناول أمر واحد لمتعدد فيكون أعم من الاستغراق في اصطلاح الأصوليين؛ لأن الاستغراق في اصطلاحهم، تناول اللفظ ما يصلح له دفعة واحدة بدون حصر، وبهذا القيد يحترز عن المشترك؛ لأنه لا يشمل معنيين فأكثر، بل يحتمل المعاني الموضوعة لها على السواء، وكذلك تخرج النكرة في سياق الإثبات إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم؛ لأنها لا تنتظم جمعاً من المسميات، بل فرداً مبهماً غير معيَّن في الخارج.

3 -

جمعاً من المسميات: الجمع في اللغة ضم الشيء إلى غيره ولكن العُرْفَ قصره على الثلاثة فما فوق، فيكون من شرط اللفظ العام عند أصحاب هذا التعريف أن ينتظم من المسميات ما يصح تسميتها بالجمع، وهذا القيد ينتظم الاستغراق وغيره1.

وإنما احترز به عن المعاني؛ لأن اللفظ الواحد لا ينتظم جمعاً من المعاني.

1 كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي لعلاء الدين البخاري 1/33-36.

ص: 43

4 -

لفظاً: أي عمومه مستفاد من جهة صيغته كـ (رجال وزيدون) .

5 -

أو معنى: أي عمومه باعتبار معناه دون صيغته مثل: القوم والرَّهط والجن، فإنها ألفاظٌ عامة من جهة المعنى حيث تناولت جمعاً من المسميات وليس صيغتها صيغة الجمع1.

1 المرجع السابق نفس الجزء والصفحة.

وقد عرف القاضي أبو زيد الدبوسي من الحنفية العام بالتعريف السابق، ولكنه خالف أكثر أصولي الحنفية في معى انتظام اللفظ جمعاً من الأسماء، حيث فسرها بالتسميات وفسر الانتظام لها لفظاً أن يشمل اللفظ أسماء مختلفة -كالشيء فإنه لفظ يشمل الأرض والسماء والجن والإنس وغيرها، وفسر الانتظام معنى: أن يحل المعنى محالاً كثيرة؛ فتدخل المحال المختلفة تحت العموم بواسطة المعنى، كمعنى المطر، لما حل محالاً كثيرة دخلت المحال تحت لفظ المطر دخول الموجودات تحت لفظ الشيء، لكن بوساطة معناه وهو حلوله بها لا بلفظه؛ لأنه لا دلالة له على المحال بخلاف الشيء؛ فإن لفظه يدل على ما انتظمه.

ولما رأى الشيخ البزدوي رحمه الله أن انتظام اللفظ لمدلولات الأسماء، لا للأسماء وأن دخول المحال تحت لفظ المطر بطريق الالتزام، ولا مدخل له في التعريفات فسر الأسماء بالمسميات؛ والانتظام اللفظي والمعنوي بما ذكرنا في التعريف السابق احترازاً عما اختاره القاضي أبو زيد الدبوسي، ووافق شيخ الإئمة السرخسي الإمام البزدوي، وقال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار: إن ما اختاره البزدوي في تفسير الانتظام اللفظي والمعنوي هو الأصوب.. كشف الأسرار 1/35، والفرق بين تعريف الإمام الدبوسي والبزدوي أن الشيء والإنس والجن، ونحوها عام لفظي على اختيار الدبوسي: وعام معنوي على اختيار البزدوي والسرخسي.

ص: 44

وقد أورد على هذا التعريف اعتراض وهو أنه غير جامع، لأن النكرة المنفية عامة، ولم يتناولها، حيث إنها لا تنتظم جمعاً من المسميات.

ودفع هذا الاعتراض: بأوجه منها:

أولاً: أن التعريف المذكور لبيان العام الحقيقي، والنكرة المنفية عمومها من جهة القرينة فتكون مجازاً في العموم.

ثانياً: سلمنا أن عمومَ النكرة المنفية حقيقيَّ ولكن التعريف المذكور لبيان العام (الصيغي) وليس المراد منه حصر العام الحقيقي وعليه فإيراد الاعتراض غير وارد.

ثالثاً: الوضع ليس شرطاً في العام؛ فيجري لفظ العام على إطلاقه وحينئذ يشمل التعريف المذكور عموم النكرة المنفية؛ لأنها تنتظم جمعاً من المسميات معنى1.

وقبل أن نودع هذا المبحث نتساءل هل هناك فرق بين تعريف الجمهور والحنفية، وما هي ثمرة الخلاف إذا وجدت؟

وللجواب على هذا التساؤل نقول: نعم، هناك فرق بين التعريفين ولهذا الفرق ثمرة تظهر فيما يلي:

1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 1/33-34.

ص: 45

أولاً:

أن الجمعَ المعهود والمنكر من قبيل العام عند من عرَّفه بالتعريف الثاني وهم الحنفية لانتظام كل منهما جمعاً من المسميات، وليس الأمر كذلك عند من عرفه بالتعريف الأول الذي أخذ به معظم الأصوليين؛ لأن شرط الاستغراق منتف فيهما.

ثانياً:

العام الذي خص منه بعض أفراده هل يبقى حقيقة1 في الباقي، أو هو مجاز2 بعد التخصيص؟

1 الحقيقة: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً كـ (قولك: هذا أسد إذا رأيت الحيوان المفترس؛ فإن لفظ أسد أول ما وضع للحيوان المفترس، فاستعماله فيه يسمى حقيقة وفي غيره مجاز.

بيان المختصر 1/183، ومفتاح العلوم ص:3358، وشرح الكوكب الساطع (ص289) .

2 والمجاز: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولاً، لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، كـ (قولك) : رأيت اليوم أسداً في يده بندقية، فالأسد حقيقة يطلق على الحيوان المفترس، ولكنه في هذا المثال أريد به الرجل الشجاع لعلاقة المشابهة بين الرجل والأسد الحقيقي في الشجاعة والقوة والقرينة المانعة من إرادة المعنى الأصلي قولك:(في يده بندقية) ؛ لأن الحيوان المفترس لا يحمل بندقية في يده عادة، وإنما الذي يحمل البندقية هو الرجل الشجاع.

وقد قيل: إن المثال لا يعترض عليه؛ لأن المقصود منه التوضيح.

بيان المختصر وحاشية البناني 1/301، ومفتاح العلوم 359، وشرح الكوكب الساطع ص294.

ص: 46

يقول علاء الدين البخاري1 شارح أصول البزودي مشيراً إلى ذلك: وفائدة الخلاف بين التعريفين تظهر في العام الذي خص منه، فعلى رأي الجمهور لا يجوز التمسك بعمومه حقيقة؛ لأنه لم يبق عاماً، وعندنا - يعني الحنفية - يجوز التمسك بعمومه حقيقة لبقاء العموم باعتبار الجمعية2.

وفي قوله: لا يجوز التَّمسك بعمومه حقيقة إشارة إلى (محط الخلاف) وأنه راجع إلى أن استعمال العام في بعض الأفراد، يجوز عند الحنفية على سبيل الحقيقة، وعلى رأي الجمهور لا يصح استعمال اللفظ العام في بعض أفراده حقيقة، ويصح مجازاً ذلك أن اللفظ موضوع للاستغراق على رأي الجمهور، وبعد تخصيصه ببعض الأفراد خرج الوضع الذي يصح التمسك به من أيدينا فلم يبق إلا المجاز.

ويرى بعض الأصوليين أن العام إذا خص بما لا يستقل - كالاستثناء والشرط - أو خص بالعقل يبقى حقيقة في الباقي؛ لأن ما لا يستقل بتمام

1 انظر ترجمته ص 177.

2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/33، وفصول البدائع في أصول الشرائع للفناري ص 82 ط الشبخ محي أفندي سنة 1289هـ.

ص: 47

الفائدة هو ولفظ العام بمنزلة الكلام الواحد، وإذا خص بمنفصل يصير مجازاً في الباقي، وهناك آراء أخرى في هذه المسألة تراجع في المطولات.

ولعل الراجحَ منها هو مذهب الجمهور الذي ذكرناه فيما سبق، وخاصة إذا علمنا أن الجمهور مع غيرهم يجوزون الاحتجاج به على تناول الأفراد الباقية بعد التخصيص باعتباره دليلاً محتملاً أي: أن دلالته على الباقي ظنية.

ثالثاً:

الاختلاف في صيغ العموم فهي عند الجمهور لابد أن تكون مستغرقة بوضعها اللغوي، وعند بعض الحنفية يكفي أن تكون منتظمة جمعاً من المسميات1.

1 يراجع في ذلك العدة لأبي يعلى الحنبلي 2/539-540 تحقيق الأستاذ سير المباركي ط أولى مؤسسة الرسالة سنة 1400هـ، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/5، والأحكام للآمدي 2/209 تعليق عبد الرزاق عفيفي، والمنخول للغزالي ص 153 ط أولى تحقيق محمد حسن هيتو -دار الفكر والنشر، ومسلم مثبوت 1/308- مطبوع مع المستصفى للغزالي دار إحياء التراث العربي، والمسودة لآل تيمية ص 116 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، والمعتمد في الأصول لأبي الحسين البصري 1/282-294 ط أولى المعهد الفرنسي للدراسات العربية دمشق 11384هـ تحقيق محمد حميد الله وتعاون معه محمد بكر وحسن حنفي، نهاية السول شرح منهاج الوصول للأسنوي 2/394-395 ط التوفيق الأدبية لصاحبها محمد توفيق الكتبي الحلوجي بمصر.

ص: 48

2 -

ألفاظ العام:

العموم من المعاني التي تدعو إليها حاجة التخاطب وفهم مرادات الخطاب، ولهذا كان من المستبعد أن يغفل الواضع عن وضع الألفاظ الدالة على العموم مع توفر ما يدعو إلى ذلك1.

من أجل ذلك كان من المتفق عليه لدى الأصوليين أن للعموم صيغاً في اللغة، لكن تعيين تلك الصيغ وحصرها محل خلاف بين الأصوليين، نظراً لاختلافهم في ماهية العموم كما سبق.

فمن يشترط في ماهية العموم الاستغراق ينبغي أن تكون الألفاظ الدالة على العموم عنده مستغرقة بوضعها اللغوي.

ومن يكتفي بالاجتماع لا يرى ذلك شرطاً، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الوضع ليس شرطاً عند بعض الأصوليين، وأن مطلق العموم كاف، ولو كان بقرينة خارجة عن دلالة اللفظ لغة، اتضح لنا السبب في تفاوت أنظار الأصوليين في صيغ العموم، ولكن مع ذلك كله فليس هناك ما يمنع من أن تتقارب وجهات النظر بين الأصوليين ويتفقوا على طائفة من الصيغ الدالة على العموم فتشترك في ذكرها جميع الكتب الأصولية؛ لأنها

1 المستصفى ص: 328 ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر سنة 1391هـ تحقيق محمد مصطفى أبو العلا، وإرشاد الفحول للشوكاني ص 115، دار الفكر العربي بدون تاريخ.

ص: 49

بمثابة المتفق عليه، لشهرتها وهذا ما سنقتصر على ذكره في هذا المبحث، ومن تلك الصيغ:

1 -

الجمع المحلى بأل المفيدة للاستغراق:

كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} 1، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} 2،فلفظ (المؤمنون) في الآية الأولى، والذنوب في الآية الثانية، كل منهما معرف (بأل) الاستغراقية، فيكون شاملاً لكل مؤمن ولكل ذنب، ومثل ذلك في إفادة الاستغراق: الجمع المضاف إلى معرفة كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} 3، فلفظ (أولادكم) في هذه الآية الكريمة جمع مضاف إلى ما ذكر فيكون شاملاً لجميع الأولاد، إلا ما خص الدليل.

وتقييدنا (أل) بكونها استغراقية احترازاً من (أل) العهدية4، فإن

1 سورة المؤمنون الآية الأولى والثانية.

2 سورة الزمر: آية: 53 وتمامها: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} .

3 سورة النساء آية: 11.

4 مثال: أل العهدية: قولك لزميلك في المدرسة (جاء المدرسون) فإن أل الداخلة على المدرسين ليست استغراقية، لاستحالة مجيء جميع المدرسين، وإنما هي عهدية لمدرسي مدرستكم أو كليتكم.

ص: 50

الجمع المحلى (بأل) العهدية لا يكون عاماً، وكذلك يشترط في إضافة الجمع أن تكون لغير معهود1وإلا كان الجمع حينئذ غير عام.

2-

المفرد المعرف بأل الاستغراقية أو الإضافة:

ويمثل للأول بقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2، ويمثل للثاني بقوله تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 3.

فلفظ الإنسان في الآية الأولى مفرد معرف (بأل) المفيدة للاستغراق، فيدل على استغراقه لكل فرد من أفراد الإنسان، إلا ما استثني، وكذلك لفظ (نعمة الله) في الآية الثانية: مفرد معرف بالإضافة، فيفيد عموم نعم الله سبحانه وتعالى، وإذا قام دليل على أن (أل) الداخلة على المفرد ليست للاستغراق كقولهم: الرجل خير من المرأة؛ فلا يكون المفرد المعرف بالألف واللام حينئذ عاماً؛ لأن التفضيل وقع في المثال السابق بحسب

1 ومثال الجمع المضاف إلى معهود قولك: في المثال السابق، مدرسوكم حضروا.

2 سورة العصر آية: 1، 2.

3 سورة النحل، آية:18.

ص: 51

الجنس لا باعتبار الأفراد، وكذلك إذا كانت الإضافة عهدية؛ فإن المفرد المعرف بها لا يعم كقوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً} 1.

فإن الرسول الثاني المحلى بـ (أل) هو الرسول المعهود في أول الآية: فلا يعم.

3 -

الأسماء الموصولة:

كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 3.

فإن لفظ {الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} : في الآية الأولى اسم موصول يشمل كل آكل لمال اليتيم بدون حق، وكذلك لفظ {الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ}

ص: 52

في الآية الثانية اسم موصول يشمل كل متوفى سواء كان قبل الدخول أو بعده، فإن العدة تلزم زوجته في الحالين، لهذا العموم، إلا أن يرد عليه مخصص، ولكن يشترط في عموم الاسم الموصول أن لا تكون صلته عهدية، فإن كانت صلة الموصول عهدية فلا يعم.

4 -

أسماء الشرط:

مثل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 1، فإن لفظ (مَنْ) في الآية الكريمة شرطية تفيد أن مَنْ شَهِدَ شَهْر رَمَضَانَ من المسلمين وَجَب عليه الصيام، وكذلك قَول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من قتل قتيلاً فله سَلَبه"2 يفيد أن كُلَّ من قتل قتيلاً استحق سلبه3.

1 سورة البقرة آية: 185.

2 رواه البخاري ومسلم.

أما البخاري فقد رواه في باب من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلاً فله سلبه من غير أن يخمس وحكم الأمام في ذلك، فتح الباري بشرح صحيح البخاري 6/246 ط المكتبة السلفية.

ومسلم أخرجه في باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3/137 ط دار إحياء التراث العربي بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وبنظر النووي على مسلم 12/59 المطبعة المصرية ومكتبتها.

3 السلب: بالفتح ما علي القتيل من السلاح والأمتعة. المصباح المنير للفيومي ص: 284 مادة (سلب) .

ص: 53

5 -

أسماء الاستفهام وأدواته:

كقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا} 1، وقوله تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2، فإن لفظ (مَنْ) في الآية الأولى اسم استفهام يفيد أن كل منن يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له، ويفيد الاستفهام في الآية الثانية، عدم وجود خالق بحق غير الله سبحانه وتعالى.

6 -

النكرة في سياق النفي أو النهي:

مثال النفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا وصيةَ لوارث"3؛ فإن (الوصية)

1 سورة الحديد، آية: 10، وتمامها:{مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} .

2 سورة فاطر آية: 3، وتمامها:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ} . و ((هل)) من أدوات الاستفهام وليست اسماً.

3 رواه أبو داود 3/114 رقم الحديث (2870) ط دار إحياء السنة النبوية وتعليق محمد محي الدين عبد الحميد، ورواه أحمد 3/114 ط ثانية المكتب الإسلامي 1398هـ.

وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وهذا التخريج للألباني ط أولى المكتب الإسلامي بيروت 1399هـ ذكر هذا الحديث في الجزء 6/87 رقم الحديث (1655) وقال بعد أن جمع طرقه: وخلاصة القول أن الحديث صحيح لا شَك فيه، بل هو متواتر كما جزم بذلك السيوطي من المتأخرين.

أما الصحة فمن الطريق الثاني للحديث، وقد تفرد بذكرها هذا الكتاب -يعني إرواء الغليل- مع التنبيه على صحته دون سائر كتب التخريجات التي وقفت عليها.

وأما التواتر: فانضمام الطرق إليها وهي وإن كان في بعضها ضعف فبعضه ضعف محتمل يقبل التحسين لغيره، وبعضه حسن لذاته، ولا سيما أنه لا يشترط في الحديث المتواتر سلامة طرقه من الضعف؛ لأن ثبوته بمجموعها لا بالفرد منها كما هو مشروح في كتب المصطلح. انتهى كلام الألباني في إرواء الغليل 6/95.

وهنا ننبه إلى أن للعلماء آراء في صحة الاحتجاج بالحديث على ثبوت الأوضاع اللغوية، ولكن الراجح منها صحة الاحتجاج بالحديث النبوي على ثبوت اللغة إذا سلمت طرقه من الضعف، وكان صحيح الإسناد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 54

في هذا الحديث نكرة واقعة في سياق النفي، فتدل على العموم، وأن كُلَّ وصيةٍ لوارث منهيٌ عنها بهذا الحديث إلا ما خصه الدليل.

ومثال النَّهي: قوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ} 1، فإن قوله تعالى:{لَا يَسْخَرْ} واقع في موقع نكرة في سياق النهي فيشمل جميع أنواع السخرية.

1 سورة الحجرات، آية:11.

ص: 55

7 -

لفظ كل وجميع:

فإنهما يدلان على العموم فيما يضافان إليه مثل قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 1، وقوله تعالى:{خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2.

ومثال: جميع قولك: (جميعُ طلبة الجامعة مسلمون) ، غير أن الفرق بينهما أن العموم في كل يوجب شمول الأفراد على الإحاطة، وفي جميع يوجبه على جهة الاجتماع3.

1 سورة الطور آية: 21.

2 سورة الأعراف آية: 31.

3 أصول البزدوي 2/9، والتوضيح على التنقيح لصدر الشريعة 1/60.

ص: 56

المبحث الثاني: في الخاص

1 -

تعريفه:

أ - الخاص في اللغة: المنفرد، مأخوذ من قولهم: اختص فلان بكذا؛ إذا انفرد به دون غيره، وخصني بكذا أفرده لي، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد يقال له: خاص، والحاصل أن الخصوص في اللغة الانفراد وانقطاع المشاركة1.

ب - وأما الخاص في الاصطلاح:

فلا يبدو أن هناك ابتعاداً في تعريفه اصطلاحاً عن معناه اللغوي؛ إذ المناسبة بين المعنيين موجودة؛ ولهذا اتفق الأصوليون على أن المراد من الخاص اصطلاحاً: ما يوجب الانفراد ويقطع الاشتراك، وإن اختلفوا في التعبير الموصل إلى تلك الحقيقة، فقد عرفه فخر الإسلام البزدوي2 بأنه:

1 لسان العرب للعلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي 7/24، ط دار صادر للطباعة والنشر - بيروت 1375هـ، مختار الصحاح لأبي بكر الرازي ص: 177 ترتيب محمود خاطر بك ط خاصة دار الفكر 1392هـ، وترتيب القاموس للأستاذ الطاهر أحمد الزاوي 2/64 - 65 ط 3 دار الفكر بدون، مفردات الراغب أبي القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني ص149 تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني م مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1381هـ.

2 البزدوي هو: علي بن محمد بن الحسين فخر الإسلام البزدوي نسبة إلى بزدة وهي: قلعة حصينة قريبة من المدينة المعروفة نسف، ولد البزدوي سنة 400هـ وتلقى العلم بسمرقند حتى اشتهر بتبحره في الفقه والأصول، فعد من حفاظ المذهب الحنفي، وله في الأصول كتاب (كنز الوصول إلى معرفة الأصول) والمطلع على هذا الكتاب يدرك مقدار إحاطته بفن الأصول، ولأهمية هذا الكتاب اعتنى بشرحه عدة علماء وأهم شروحه شرح عبد العزيز البخاري المسمى (كشف الأسرار) توفي البزدوي سنة 482 راجع: طبقات الأصوليين للشيخ عبد الله مصطفى المراغي 1/263 ط ثانية 1394هـ - الناشر محمد أمين، والإعلام لخير الدين الزركلي 5/148 ط 3 دمج وشركاه - بيروت 1389هـ.

ص: 57

(كل لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد وانقطاع المشاركة، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد) 1، وبنحو هذا التعريف عرفه شمس الأئمة السرخسي2 حيث يقول: (الخاص كل لفظ موضوع لمعنى معلوم مع

1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/30 - 31.

2 السرخسي هو: محمد بن أحمد بن أبي سهل المعروف بشمس الأئمة السرخسي الفقيه الحنفي الأصولي، وكنيته أبو بكر، والسرخسي نسبة إلى سرخس - بفتح السين والراء المهملتين وسكون الخاء، بلدة قديمة من بلاد خراسان، سميت باسم رجل سكنها وعمرها، وكان السرخسي من أئمة الأحناف المشهورين بلا نزاع، ومن مؤلفاته الجليلة في الفقه الحنفي المبسوط في ثلاثين جزءاً، وله في الأصول كتابه المشهور أصول السرخسي، توفي السرخسي سنة 483 على الأشهر، ولم أقف على سنة ولادته، طبقات الأصوليين للمراغي 1/264 - 265، ومعجم المؤلفين للأستاذ رضا كحالة 8/267 ط دار إحياء الكتاب العربي - بيروت 205.

ص: 58

الانفراد، وكل اسم لمسمى معلوم على الانفراد) 1، وبالجملة: الخاص ما ليس بعام كما حققه بعض الأصوليين2.

ويبدو أن العلماء يعنون بالمعنى الواحد ما يتناول الحقيقي والاعتباري؛ لأن الخاص قد يكون واحداً بالشخص كزيد وعمر، وسائر أسماء الأعلام.

وقد يكون واحداً بالنوع3، مثل: رجل، امرأة، منزل، سيارة.

أو واحداً بالجنس4 مثل: إنسان، حيوان، وكما يوضع الخاص

1 أصول السرخسي 1/125.

2 تيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/190 ط محمد علي صبيح بمصر بدون، المعتمد لأبي الحسين البصري 1/251، وإرشاد الفحول للشوكاني ص:132.

3 النوع: مفهوم كلي مقول على كثيرين متفقين في الحقائق في جواب ما هو؟

كقولنا: ما هو الرجل في ذاته، الذي ينطبق على زيد وعمرو، وغيرهما باعتبار الحقيقة وهي الذكورية والإنسانية.

4 والجنس: مفهوم كلي مقول على كثيرين مختلفين في الحقائق في جواب ما هو؟

كقولنا: في السؤال عن حقيقة الحيوان: ما هو الحيوان في ذاته، الذي ينطبق على زيد والفرس باعتباره جسماً نامياً حساساً.

فالمفهوم يقصد به المعنى الذهني الذي يثيره اللفظ في الذهن، ويكون للفظ دلالة كلامية عليه.

والكلي: ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه.

والاستفهام: بما هو يستفهم به عن الماهيات الذاتية، ومعنى الماهيات الذاتية: ما يكون داخلاً في حقيقة الشيء، كالحيوانية والناطقية بالنسبة إلى الإنسان، ضوابط المعروفة وأصول الاستدلال للأستاذ عبد الرحمن حبنكة الميداني ص32 - 40 ومباحث التخصيص د. عمر ص 18 - 23.

ص: 59

للأعيان كما في الأمثلة السابقة؛ فإنه يكون موضوعاً للمعاني، كالذكاء والعِلْم والعقد، والحوالة، وسائر المشتقات المجردة من (أل) الاستغراقية كاسم الفاعل، واسم المفعول، وصيغتي الأمر والنهي1، وحروف المعاني2 مثل: واو العطف، وهمزة الاستفهام.

وإنما كان اللفظ الموضوع للنوع أو الجنس من قبيل الخاص - مع أن للنوع أفراداً كثيرة في الخارج وللجنس أنواعاً عدة - نظراً إلى الحقيقة التي وضع لها اللفظ؛ إذ هي واحدة لا تعدد فيها، فرجل موضوع لإنسان ذكر، وحيوان موضوع لجسم نام حساس.

وما دام أن المعتبر في الخاص الوحدة عند الواضع - سواء كانت حقيقية كما في خاص العين، أو اعتبارية كما في خاص النوع والجنس فمن الممكن إدخال أسماء العدد والمثنيات في الخاص3 أيضاًَ؛ لأنهما أي: اسم العدد والمثنيات، وإن دل كل منهما على متعدد، فهما موضوعات في

1 أصول التشريع الإسلامي للأستاذ علي حسب الله ص: 160 ط أولى 1371هـ م المعارف بمصر.

2 المرآة وشرحها للأزميري ص:23 ط الحاج محرم أفندي سنة 1302هـ الاستانة.

3 التوضيح مع التلويح 1/33.

ص: 60

اللغة لوحدة اعتبارية -؛ إذ لم يلاحظ عند الوضع كل فرد من أفراد المثنى واسم العدد على حده.

وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نعرف الخاص أخذاً من كلام الأكثرين بأنه: (لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد أو لكثير محصور) 1، وبقولنا: أو لكثير محصور نكون قد كشفنا عن المعنى الواحد الاعتباري فيشمله التَّعريف إلى جانب المعنى الحقيقي.

شرح التعريف:

(لفظ وضع لمعنى واحد على الانفراد، أو لكثير محصور)

1 -

اللفظ: كالجنس يشمل الخاص وغيره، والتعبير به هنا متعين تفادياً لتكرار الوضع، لأنه يريد أن يصف المعنى بالواحد، فلو قال: (كلمة وضعت لمعنى واحد

الخ) لتكرر الوضع في التعريف لأن الكلمة في الاصطلاح لفظ وضع لمعنى بخلاف اللفظ، وتفادياً لذلك لجأ إلى التعريف بالجنس البعيد للحاجة؛ فلا يرد عليه بأن التعريف بالجنس القريب أولى.

2 -

وضع: الوضع جعل الألفاظ دليلاً على المعاني2، وهذا القيد

1 المرجع السابق، كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/79، وشرح المنار لابن ملك 1/20، مع الحواشي ص:62 ط المطبعة العثمانية سنة 1319هـ، أصول السرخسي 1/128، وأصول الأحكام د. حمد عبيد الكبيسي ص:283.

2 المنار مع حواشيه ص: 62.

ص: 61

كالفصل يخرج ما لم تكن دلالته وضعية، كدلالة اللفظ المهمل على حياة لا فظة.

3 -

لمعنى: المراد به هنا مدلول اللفظ الوضعي1: وهو بمعنى المفهوم فيشمل الذات كزيد، والمعنى كالعلم، والذكاء.

4 -

واحد: الواحد صفة للمعنى وبه خرج المشترك؛ لأنه موضوع لمعنيين فأكثر على سبيل البدل، ويخرج به المطلق على رأي من لم يجعله خاصاً ولا عاماً؛ لأن الوحدة والكثرة من الصفات، والمطلق ملحوظ فيه الذات دون الصفات2.

5 -

على الانفراد: يراد بهذا القيد كون اللفظ متناولاً لمعنى واحد من حيث إنه واحد مع قطع النظر عن أن يكون له في الخارج أفرادٌ أو لم تكن3، وبه يخرج العام؛ لأنه وإن كان موضوعاً لمعنى واحد تشترك فيه أفراد العام منظور فيه عند الوضع شمولُه لما تناوله من أفراد.

6 -

أو لكثير محصور: يراد من هذا القيد إدخال الخاص الاعتباري، وهو ما كان انحصاره مستفاداً من نفس اللفظ كالمثنى وأسماء العدد؛ لأنهما

1 المرجع السابق ص: 62.

2 المرجع السابق ص:63.

3 المرجع السابق ص: 63 حاشية الرهاوي ص: 64، وتيسير التحرير 1/185، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 1/30.

ص: 62

وإن دل كل منهما على متعدد موضوعان في اللغة لوحدة اعتبارية وهي: المجموع في أسماء العدد والتثنية في المثنيات - ولم يلاحظ عند الوضع كل فرد على حدة في المثنيات، ولا كل جزء من أجزاء العدد على حدة. كما لم يلاحظ ذلك عند وضع لفظ زيد اسماً لشخص آخر مثلاً.

وقد أورد على تعريف البزدوي والسرخسي للخاص اعتراض.

وهو أن كلمة (كل) في قوله: (الخاص كل لفظ وضع لمعنى واحد

الخ) لم تقع موقعها؛ لأنها لإحاطة الأفراد والتعريف للحقائق1.

ودفع هذا الاعتراض بأوجه منها:

أولاً: أن كلمة (كل) الغرض منها بيان التسمية وتطبيقها على الأفراد؛ فلا استبعاد؛ لأن التسمية للأفراد دون الحقائق.

ثانياً: أن كلمة (كل) شائعة في الحدود على طريقة الأدباء؛ لأنها أقرب إلى إفهام المتعلمين، فكأنه قال:(الخاص كل لفظ أريد به كذا الخ) وحينئذ يحصل المقصود من الحد مع تقريب الفهم وضبط المحدود.

ثالثاً: أن كلمة (كل) ليست من الحد، وإنما دخلت عليه بعد تركيبه2 إشارة إلى ضبط المراد من الخاص.

1 المنار للنسفي مع حواشيه ص: 65.

2 مشكاة الأنوار المسماة بفتح الغفار لابن نجيم، وهي شرح للمنا للنسفي 1/17، مع الحاشية ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1355هـ.

ص: 63

2 -

صيغ الخاص:

يراد بصيغ الخاص: الألفاظ التي دل الاستقراء على أنها وضعت لتدل على معنى واحد على الانفراد، أو لكثير محصور، وسبق القول بأن العلماء يعنون بالواحد ما يتناول المعنى الحقيقي والاعتباري، وأمثلة كل من النوعين كثيرة، ذكرنا فيما سبق ما يمكن أن يكون داخلاً تحت القسمين ونكتفي هنا بذكر بعضها1، فمن تلك الصيغ:

1 -

أسماء الأشخاص: كزيد وعمرو ونحو ذلك.

2 -

ما يطلق على النوع أو الجنس، وكان خاصاً به: مثل رجل، إنسان، حيوان.

3 -

ما وضع لمعنى واحد: مثل: العلم، الذكاء، العقد الحوالة، الكفالة

الخ.

4 -

ما وضع لواحد اعتباري: كالمثنى وأسماء العدد، مثل: عشرة، ومائة وألف ونحوها.

5 -

صيغ الأمر والنهي: وسيأتي الكلام عليها في مبحث مستقل.

6 -

النكرة في سياق الإثبات: إذا لم يقترن بها ما يفيد العموم، وهي نفس المطلق عند بعض الأصوليين، كرجل ورجال، فإنها نكرة في

1 الأحكام للآمدي 2/162، والمختصر لابن الحاجب 2/155 بمراجعة وتصحيح شعبان محمد إسماعيل - نشر مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1393هـ.

ص: 64

سياق الإثبات فتدل على الوحدة الحقيقية، إذا كانت مفردة، وتدل على ما فوقها في الوحدة الاعتبارية، كالمثنى وأسماء العدد، والجمع المنكر، فلو قلت مثلاً: أكرمت رجلين، وتصدقت بدراهم، تكون صادقاً بإكرامك رجلين، وبتصدقك بثلاثة دراهم أيّ ثلاثة.

7 -

حروف المعاني: وهي تتناول الآتي:

أ - حروف العطف1: مثل: واو العطف، وثم، وبل، ولكن

الخ.

ب - حروف الجر2: مثل: على، حتى، في، عن، من

الخ.

جـ - أسماء الظروف3: مثل: قبل، وبعد، وعند

الخ.

د - كلمات الشرط4: مثل: إن، ولو، وإذ ما، ومتى

الخ.

وقد أطلق عليها كلها لفظ الحرف تغليباً لكثرة الحروف فيها، وسميت بحروف المعاني لوضعها لمعان خاصة، وتمييزاًَ لها عن حروف المباني وهي الحروف التي تتركب منها بنية الكلمة؛ فالهمزة المفتوحة مثلاً إذا قصد بها الاستفهام أو النداء كانت من حروف المعاني، وفي أحمد وأكرم من حروف البناء5 التي تتركب منها بنية الكلمة، وقد أفاض الأصوليون

1 المنار 431 - 478، والمرآة لملاخسرو 130 - 142، والتوضيح 338 - 381.

2 المنار 478 - 495، والمرآة لملاخسرو 142 - 151، والتوضيح 381 - 396.

3 المنار 495 - 499، والمرآة لملاخسرو 151 - 152، والتوضيح 396 - 398.

4 المنار 499 - 511، والمرآة لملاخسرو 152 - 155، والتوضيح 398 - 404.

5 التلويح مع التوضيح 1/348، والمرآة لملاخسرو ص:130.

ص: 65

في بيان هذه الحروف وما يترتب على ذلك من أحكام وفروع فقهية كثيرة، فمن يريد الزيادة فعليه مراجعة الكتب المطولة1.

1 المنار مع حواشيه ص478 - 495، والتلويح مع التوضيح 1/381 - 396، والمرآة مع شرحها ص: 130 - 142.

ص: 66

تكملة في تقسيمات اللفظ الموضوع

أشرنا في تمهيدنا للبحث إلى أن ألفاظ اللغة العربية ذات دلالات متنوعة، وذكرنا هناك ما نظنه راجحاً، وهو انقسام اللفظ المفيد إلى عام وخاص، وسبق الكلام على ماهيتهما، وما لهما من الصيغ مفصلاً، وإكمالاً للفائدة نزيد هنا آراء الأصوليين فيما وضع له اللفظ.

فنقول: لم يتفق الأصوليون على تقسيم خاص بما وضع له اللفظ، فقد قسمه البزدوي إلى عام، وخاص ومشترك، ومؤول، وجعل الجمع المنكر من العام بناء على أن الاستغراق ليس شرطاً في العموم عنده1.

وتابعه في ذلك صدر الشريعة2 وغيره من

1 أصول البزدوي مع كشف الأسرار 1/32.

2 التوضيح على التنقيح ومعهما التلويح للتفتازاني 1/32 - 33.

وصدر الشريعة هو: عبيد الله بن مسعود بن محمود بن عبيد الله بن محمود المحبوبي الإمام الحنفي الفقيه الأصولي، عالم محقق وحبر مدقق، كان حافظاً لقوانين الشريعة محيطاً بمشكلات الفروع والأصول، متبحراً في المعقول والمنقول، عرف بصدر الشريعة الأصغر منذ نشأته فاشتهر بذلك بين أقرانه وشيوخه، وكان يعقد الدروس فيجتمع إليه الناس ويستفيدون من علمه الزاخر، وصنف كتباً كثيرة ومفيدة منها:(التنقيح في أصول الفقه وشرحه المسمى بالتوضيح) توفي رحمه الله سنة 747هـ ولم أعثر على سنة ولادته.

الفتح المبين في طبقات الأصوليين 2/155، وتاج التراجم ص:40.

ص: 67

الأصوليين1 إلا أن صدر الشريعة استدرك على البزدوي إيراده المؤول في الموضوع له اللفظ، فقال بعد أن ذكر الأقسام الثلاثة الأولى:(وإنما لم أورد المؤول؛ لأنه ليس باعتبار الوضع، بل باعتبار رأي المجتهد2، وزاد عليها جعل الجمع المنكر قسماً مستقلاً وعرفه بأنه: (لفظ وضع وضعاً واحداً لكثير غير محصور وغير مستغرق) .

ولكن ابن الهمام3 من الحنفية كان له رأي فيما وضع اللفظ له، خالف فيه أكثر الأصوليين، إذ قسم اللفظ الموضوع تقسيماً أولياً باعتبار اتحاد الوضع وتعدده.

إلى: مفرد: وهو اللفظ الموضوع لمعنى واحد لا غير.4

1 المنار للنسفي بشرح ابن ملك والحواشي ص: 53، ط العثمانية 1315هـ.

2 التوضيح 1/3433.

3 ابن الهمام: هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود بن حميد الدين بن سعد الدين، فقيه حنفي أصولي متكلم نحوي، السيواسي أصلاً الاسكندري مسكناً، كمال الدين المعروف بابن الهمام ولد سنة 790? وتنقل بين الاسكندرية والقاهرة حتى برع في المنقول والمعقول، وكان حجة في الفقة والأصول، له مؤلفات كثيرة منها:(التحرير في الأصول، وفتح القدير في الفقه) توفي رحمه الله سنة 861هـ طبقات الأصوليين 3/36 - 39، والإعلام للزركلي 7/134 - 135 ط الثالثة.

4 التحرير مع التيسير 1/186 - 190.

ص: 68

وإلى: مشترك: وهو لفظ وضع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة على أن يستعمل في كل معنى على سبيل البدل لا الاجتماع، مثل: لفظ العين الموضوع ليدل على العين الباصرة، وعلى العين الجارية والجاسوس والذهب، بمعنى: أنه وضع لكل معنى من هذه المعاني على حدة على أن يستعمل في أحدها بعينه، فهو بالنسبة لهذه المعاني مشترك وقد يكون بالنسبة إلى أحدها عاماًَ - إذا ورد بصيغة العموم - كقولك:(عوقب العيون أشد العقاب) ؛ فإنه يستغرق كل عين بمعنى الجاسوس، وكذا لو قيل: امتلأت العيون بالماء؛ فإنه يكون عاماً لاستغراقه لكل عين جارية، وبناء على ذلك يكون للمشترك نظران.

الأول: النظر إليه من حيث المعاني التي وضع لها، وهو بالنسبة لهذه المعاني مشترك.

الثاني: النظر إليه من جهة الأفراد الداخلة تحت كل معنى من تلك المعاني، وفي هذه الحال قد يكون خاصاً وقد يكون عاماً حسب الصيغة التي يرد بها، فقولك: شربت من عين خاص، وإذا قيل: العيون عذبة الماء كان عاماً، وبعد التقسيم السابق حصر ابن الهمام ما وضع له اللفظ في العام والخاص؛ لأن المشترك كما عرفنا مبني على حسب الصيغة التي يرد بها، فإذا ورد بصيغة خاصة كان من قبيل الخاص، وإذا ورد بصيغة عامة كان من قبيل العام، فلا وجه لإخراجه عن العام، أو الخاص.

أما الجمع المنكر، فإن ابن الهمام يراه من الخاص لعدم استغراقه؛ إذ

ص: 69

قال: (لا وجه لإخراج الجمع المنكر عن العام أو الخاص، سواء اشترط الاستغراق أو لم يشترط؛ ذلك أن الجمع المنكر يكون داخلاً في العام عند من لا يشترط الاستغراق، وعند من يقول باشتراط الاستغراق في العموم يكون الجمع المنكر داخلاً في الخاص لعدم استغراقه.

ولأن رجالاً في الجمع المنكر مطلق، كرجل في المفرد، والمطلق مندرج تحت الخاص - كما سبق - والاختلاف فيما صدق عليه رجل وهو كل فرد على سبيل البدل، وما صدق عليه لفظ رجال وهو كل جماعة جماعة لا أثر له في الإطلاق والتقييد1.

لكن على الرأي الراجح من أن الاستغراق شرط في العموم لا يكون الجمع المنكر عاماً لعدم قبوله أحكام العام الاستغراقي -كالاستثناء والتخصيص والتوكيد باللفظ العام؛ إذ لا يستقيم في اللغة (أكرم رجالاً إلا زيداً) على أن زيداً مستثنى من رجال؛ لكون الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ المستثنى منه، وزيد لم يتعين دخوله في مفهوم لفظ رجال حتى يكون إخراجه منهم إخراجاً صحيحاً؛ ذلك أن المأمور بالإكرام في المثال السابق، يكون ممتثلاً وخارجاً عن عهدة الأمر بإكرامه لثلاثة رجال أي ثلاثة كانوا سواء أكان منهم زيد أم لم يكن، وكذا لا يستقيم لغة في المثال السابق (أكرم رجالاً ولا تكرم زيداً) على أن زيداً

1 تيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/190.

ص: 70

مخصص من لفظ رجال، لعدم عمومه الاستغراقي، بل إنما يصح ذلك على الاستئناف وهو أن يجعل قوله:(ولا تكرم زيداً) 1 كلاماً مستقلاً لا صلة له بما قبله.

ثم إن الجمع المنكر لا يقبل التوكيد باللفظ العام، إذ لا يقال: سافر طلاب جميعهم، ويصح سافر الطلاب جميعهم.

وبهذا تبين مفارقة الجمع المنكر للعام الاستغراقي، لعدم قبوله أحكام العام كما عرفنا في الأمثلة الآنفة، لكن بقي أن يقال: إذا لم يكن الجمع المنكر من العام فهل يصح جعله قسماً مستقلاً؟ أي: وسطاً بين العام والخاص.

والذي يظهر أنه من قبيل الخاص.

يقول الشوكاني2: (الراجح أن الجمع المنكر من قبيل الخاص؛ لأن دلالته على أقل الجمع قطعية، كدلالة المفرد على الواحد) 3، ويؤيد ذلك

1 مشكاة الأنوار المسماة بفتح الغفار لابن نجيم شرح على المنار للنسفي 1/86.

2 الشوكاني هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الواحد الفقيه المجتهد السلفي، ولد بهجرة شوكان (من بلاد خولان باليمن) سنة 1173هـ، ونشأ بصنعاء وولى قضاءها سنة 1229هـ توفي رحمه الله سنة 1250هـ له مؤلفات كثيرة منها:(فتح القدير في التفسير) ونيل الأوطار في الحديث، وإرشاد الفحول في الأصول.

الاعلام للزركلي 7/190 - 191، والفتح المبين 3/114.

3 إرشاد الفحول ص: 117.

ص: 71

أن جمعاً من الأصوليين ذكروا أن المطلق من الخاص، ولا أحد يشك في أن الجمع المنكر مطلق؛ لأن لفظ رجل مطلق باتفاق، ولا فرق بينه وبين لفظ رجال في الدلالة؛ إذ كل واحد منهما يدل على شائع في جنسه، والاختلاف بالعدد وعدمه لا أثر له في الإطلاق والتقييد - كما سبق، وإذا كان المطلق من الخاص كما هو الراجح عند جمهور الأصوليين والجمع المنكر من قبيل المطلق بناء على المناقشة السابقة يكون الجمع المنكر من الخاص ضرورة؛ لأن الحكم على الأعم حكم على كل جزئي من جزئياته، والجمع المنكر من جزئيات المطلق.

وبهذا التوضيح لما وضع له اللفظ بعد تقسيمه تقسيماً أولياً باعتبار اتحاد الوضع وتعدده إلى المفرد والمشترك، يظهر أن ما ذهب إليه الكمال من تقسيم اللفظ الموضوع للدلالة على المعنى إلى العام والخاص، هو الأحق بالاتباع لسهولته وتبادره إلى الذهن، وسلامته من الاعتراض.

ص: 72

المبحث الثالث: دلالة الخاص والعام بين القطعية والظنية

أولاً: دلالة الخاص:

يقصد بالخاص - هنا - ما تقدم تعريفه، وهو: لفظ وُضِعَ لمعنى واحد على الانفراد أو لكثير محصور، ولم يقترن به ما يصرفه عن حقيقة وضعه اللغوي.

ويراد بالدلالة هنا: دلالة اللفظ الوضعية، وهي: كون اللفظ إذا أُطْلِقَ فهم منه المعنى1 أو هي فَهْم المعنى المراد من وضع اللفظ متى أُطْلِقَ بالنسبة للعام بالوضع2، فمتى كانت دلالة اللفظ على المعنى لا تحتمل غيره سميت قطعية، وإن احتملت مع المعنى الموضوع له اللفظ معنى آخر سميت ظنية، فعلى هذا يكون القطع والظن من صفات دلالة اللفظ على المعنى، لكن القطع يطلق ويراد به أحد معنيين.

الأول: أن لا يكون هناك احتمال أصلاً: مثل قطعية المتواتر من الأخبار في ثبوته3 والمحكم4 من الآيات في معانيها وهذا النوع: يفيد علم

1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 23، وراجع ما سبق في التمهيد ص:22.

2 تنقيح الفصول للقرافي ص: 23، وراجع ما سبق في التمهيد ص:22.

3 المتواتر من الأخبار: ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة فإن كان في جانب الأحاديث النبوية اشترط فيه أن يستمر ذلك في العصرين التاليين لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومن المتواتر ثبوتاً القرآن الكريم، فإنه نقل إلينا بالطريق المتواتر.

4 المحكم: لغة المتقن، واصطلاحاً: ما دل بصيغته على معناه وسيق الكلام لأجله، ولم يحتمل تأويلاً ولا نسخاً، كصفات الرب سبحانه وتعالى.

كشف الأسرار 1/50، وأصول الأحكام د. حمد الكبيسي.

ص: 73

اليقين في ما يثبت له، فيسمى القطع بالمعنى الأخص.

النوع الثاني: أن لا يكون هناك احتمال ناشئ عن دليل مثل: قطعية الحديث المشهور1 في ثبوته، وقطعية النص2 والمفسر3 من الألفاظ في المعنى الظاهر منهما، وهذا النوع من القطع يفيد علم الطمأنينة أي: اطمئنان القلب وميله إلى صحة الخبر، وعدم احتمال اللفظ للصرف عن

1 المشهور من الخبر ما لم يتواتر في العصر الأول، وتواتر في العصرين التاليين له، أي: أنه خبر روي في عصر الرسول بطريق الآحاد، ثم رواه في عصر الصحابة والتابعين، جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب.

ميزان الأصول ص: 428، ومناهج الأصوليين ص: 546 - 547.

2 النص: لغة الظاهر والمرتفع، واصطلاحاً: له عدة تعاريف أقربها أن يقال: النص: ما دل على معناه دلالة قطعية، أو هو ما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل.

المستصفى 1/385، مختصر المنتهى 2/302، روضة الناظر 2/27 - 28.

3 المفسر: لغة المبين والموضح، واصطلاحاً: اللفظ الدال على الحكم دلالة واضحة لا يبقى معها احتمال للتأويل أو التخصيص، ولكنه مما يقبل النسخ في عصر الرسالة.

التقرير على التحرير 1/147، ملتزم الطبع المكتبة الكبرى الأميرية ببولاق مصر سنة 1316هـ، وأصول السرخسي 1/165، وأصول الأحكام لحمد عبيد الكبيسي ص/252، وتفسير النصوص 1/165.

وليس للجمهور اصطلاح خاص في المفسر: المرجع السابق.

ص: 74

الظاهر ويسمى القطع بالمعنى الأعم.

بقي أن يقال: من أي النوعين دلالة الخاص؟

الذي يظهر أنها من النوع الثاني أي: أن القطع في دلالة الخاص بالمعنى الأعم وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل لا عدم الاحتمال أصلاً، ذلك أن القطع بمعناه الخاص كما يكون للمتواتر يكون لغيره، وغير المتواتر الاحتمال فيه قائم، كما أن الخاص محتمل للمجاز باتفاق العلماء لصحة توكيده مثل: جاء زيد نفسه، أو عينه، أي: لا رسوله: فمجيء التوكيد بعد اللفظ الخاص دليل على احتماله للصرف عن الظاهر المتبادر، إذا وجدت القرينة الصارفة، قال الكمال ابن الهمام:(الاتفاق على إطلاق وصف قطعي الدلالة على الخاص، وعلى احتماله المجاز واقع) 1، قال الشارح2 للتحرير بعد ذكر العبارة السابقة: (وعدل عن اتفقوا على أن الخاص قطعي الدلالة إلى قوله: (الاتفاق

الخ) مع كون التعبير باتفقوا أخصر وأظهر في المراد؛ لأن الأئمة لم يصرحوا بذلك، وإنما فهمت قطعية دلالة الخاص من إطلاقاتهم3، ويلزم من الاتفاق على احتمال الخاص المجاز أن يراد بالقطع في دلالة الخاص

1 التحرير 1/267، وتيسير التحرير 1/370.

2 المرجع السابق 1/370، والشارح هو ابن أمير الحاج ستأتي ترجمته.

3 تيسير التحرير 1/370.

ص: 75

المعنى الأعم؛ لأن نفي الاحتمال مطلقاً ينفي وجود المجاز في ضمنه.

على أنه لا خلاف بين جمهور العلماء في إطلاق وصف القطعية على دلالة الخاص، وإنما الخلاف بينهم في ناحية أخرى وهي: هل الخاص باعتباره قطعي الدلالة بيِّنٌ في نفسه لا يحتمل البيان، أو أنه رغم قطعية دلالته يحتمل أن يصرف إلى غير المعنى الموضوع له اللفظ لغة؟

لعلماء الأصول في ذلك مذهبان:

الأول: القول بمنع احتمال الخاص للبيان وبه قال جمهور الأصوليين من الحنفية.

واستدلوا على ذلك بأن حقيقة البيان الظهور وإزالة الخفاء لازمة له، ومن شرط اللفظ القابل للبيان أن يكون مجملاً1، أو مشكلاً2،

1 المجمل: لغة المجموع، يقال: أجمل الحساب، إذا جمعه، واصطلاحاً: لفظ احتمل معنيين فأكثر ولا مزية لأحدهما على الآخر، ومن أمثلته المشترك الذي خلا عن القرينة التي تبين أحد معانيه. المستصفى للغزالي 1/345.

2 المشكل: لفظ خفي مدلوله لتعدد المعاني التي استعمل فيها، مع العلم أن اللفظ المشترك بين تلك المعاني مجاز، لكن يمكن معرفة المراد بالتأمل في قرينة المجاز، ومن أمثلته قوله تعالى:{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} مع قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ، فأَنّى تأتي بمعنى (أين) وبمعنى (كيف) فاشتبه الأمر على السامع ويزول هذا الاشتباه بالتأمل في قرينة المجاز، وهي قوله تعالى:{نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ؛ فإنها تدل على أن المراد (بأنى) المعنى الثاني أي: (كيف شئتم إذا كان المأتي في موضع الحرث) وبدلالة الكتاب على تحريم القربان في الأذى، وهو قذر الحيض، أصول الخضري ص:135.

ص: 76

وكلاهما غير متحقق في الخاص، لأن الخاص قد وضع لمعنى واحد على الانفراد، فهر بيِّنٌ ظاهر بموجب الوضع اللغوي، فلو احتمل التصرف فيه ببيان آخر لكان في ذلك تحصيل الحاصل، وهو محال1، قال البزدوي بعد أن بيَّن حكم دلالة الخاص من حيث القطعية، وأنه يتناول المخصوص قطعاً ويقيناً بلا شبهة لما أريد به من الحكم، قال:(لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكون بيناً لما وضع له)2.

القول الثاني: أن الخاص يحتمل البيان وبه قال الشافعية ومن وافقهم.

واستدلوا على ذلك بأن الخاص وإن كان قطعي الدلالة على ما وضع له، إلا أنه يحتمل التصرف فيه عن أصل وضعه إذا وجد الدليل الصارف بدليل أن الاتفاق واقع على احتمال الخاص للمجاز، والمجاز بيان للمراد من اللفظ.

1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/79.

2 أصول البزدوي 1/79، وعبارة البزدوي اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعاً ويقيناً بلا شبهة لما أريد به من الحكم، ولا يخلو الخاص عن هذا في أصل الوضع، وإن اختمل التغيير عن أصل وضعه، لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان؛ لكونه بيناً لما وضع له) .

ص: 77

فليكن مناط احتمال الخاص للبيان هو وجود الدليل الصارف عن أصل الوضع، وإلا كان القول باحتمال الخاص المجاز، وعدم احتماله للبيان متناقضاً، لما سبق أن المجاز بيان للمراد من اللفظ والمسألة مفروضة على الإطلاق1 كما ترى.

أضف إلى ذلك أن بعض العلماء قد خالف في المجاز المصطلح عليه عند علماء البلاغة مثل: مجاز2 الإسناد والاستعارة وسمى ذلك

1 لا يدخل في هذا الإطلاق النسخ عند من يسميه بياناً؛ لأن البيان إذا أطلق يراد به بيان التفسير، والنسخ عند من يسميه بياناً لا يستعمل إلا مع التقييد بكونه بيان تغيير، لا بياناً مطلقاً.

التوضيح مع التلويح 1/35، وأصول الفقه للزحيلي ص:205.

2 مجاز الإسناد: هو المجاز العقلي وهو: إسناد الفعل أو ما يقوم مقام الفعل إلى غير فاعله الأصلي؛ لعلاقة بينهما مثل: أنبت المطر العشب، والمنبت حقيقة هو الله، وسمي المطر منبتاً؛ لأنه سبب في الإنبات والاستعارة تشبيه حذف أحد أركانه مثل: رأيت اليوم بحراً يقذف بالذهب على الفقراء، تريد رجلاً كريماً ينفق ماله في سبيل الله، فإن أصل التركيب رأيت رجلاً يشبه البحر في سعة كرمه، فشبهت الرجل بالبحر ثم تناسيت التشبيه وادعيت أن الرجل قد أصبح لِسَعَةِ كرمه فرداً من أفراد البحور، فقلت: رأيت اليوم بحراً وجئت بالقرينة الدالة على التشبيه وهي القذف بالذهب على الفقراء) ، لتدل على أن مرادك بالبحر ليس معناه الأصلي، وإنما هو رجل كريم.

تفسير النصوص 1/166 فما بعدها، والتوضيح 1/35، 129، والمناهج الأصولية ص 660 - 661.

ص: 78

إيجازاً1، وحيث كان الخاص محتملاً للنوعين (الإيجاز والمجاز) .

ولم يعهد أن خالف أحد في احتمال الخاص للإيجاز وبيان الخاص الموجز يظهر أن ما ذهب إليه الشافعية ومن وافقهم هو الأرجح.

نقول: هذا على فرض أن الخلاف بين الفريقين قد ورد على محل واحد، مع أن المدقق في ذلك يجد أن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد، لأن الحنفية عندما نفوا احتمال الخاص للبيان نظروا إلى أصل الوضع وحال الواضع، عندما أراد أن يجعل اللفظ دليلاً على المعنى، ولا شك أن دلالة اللفظ الخاص بالنسبة للواضع قطعية كما يقول الحنفية.

وغيرهم نظر إلى أن اللفظ بعد الاستعمال وطريان الإجمال عليه بسبب كثرة المعاني التي استعمل فيها، أو بسبب قلة استعماله في المعنى الموضوع له، مما يجعله غير مألوف لدى أكثر أهل اللغة2.

1 الإيجاز: قلة في الألفاظ وزيادة في المعاني.

2 ومع أن الخلاف بعد التدقيق يظهر كونه لفظياً إلا أن البزدوي، وغيره قد فرعوا على قطعية الخاص، وعدم احتماله للبيان عدة فروع فقهية ذكرها البزدوي في أصوله 1/81 فما بعدها.

وذكر تلك الفروع صدر الشريعة في باب البيان، وهو ما سماه بالزيادة على النص القطعي بخبر الواحد، يقول ابن النجيم في فتح الغفار شرح المنار:(إن ما فعله صدر الشريعة أوجه؛ لأن الزيادة على النص كما تكون على الخاص تكون على غيره) ، وهذا التعليل لعله عائد إلى حسن الترتيب وعدم التكرار، وإلا فلكل مؤلف طريقته في عرض الموضوع الذي يبحثه، فتح الغفار لابن النجيم الحنفي 1/26 مع الحاشية، والمرآة شرح المرقاة 1/23.

ص: 79

ثانياً: دلالة العام:

عَرَّفنا العامّ فيما سلف بأنه: (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) ، كما عرفنا أيضاً الدلالة بأنها تعني، فهم المعنى من اللفظ متى أطلق.

وهنا نقول: لا خلاف بين العلماء في قطعية دلالة العام الذي اقترن به ما يدل على العموم قطعاً، كقوله تعالى:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} 1، والعموم في هذه الآية الكريمة جاء من أن (دابة) نكرة في سياق النفي، والنكرة المنفية من صيغ العموم - كما تقدم - فتعم كل دابة، وأما القرينة الدالة على أن الآية عامة قطعاً فهي أن تجويز التخصيص فيها يؤدي إلى وجود شريك مع الله تعالى يرزق بعض الدواب، وهذا محال؛ بل إن اعتقاد ذلك يؤدي بصاحبه إلى الكفر والعياذ بالله.

وكذا لا خلاف بين جمهور العلماء أن العام إذا خص2 منه بعض

1 سورة هود آية: 6.

2 التخصيص: لغة التمييز والقصر: واصطلاحاً له عدة تعاريف نقتصر على اثنين منها، الأول: التخصيص قصر العام على بعض أفراده بدليل مستقل مقارن للعام في نزوله إن كان قرآناً، أو في وردوه إن كان سنة مساوٍ للعام في قوته ثبوتاً ودلالة، وهذا التعريف قال به جمهور الحنفية. المنار ص: 228، والمناهج الأصولية ص:288.

الثاني: التخصيص عند الجمهور: بيان أن ما تناله اللفظ العام بطريق الوضع، غير مراد للشارع، وإنما المراد بعض مدلول العام اللغوي أو هو: قصر العام على بعض أفراده، بدليل المنهاج 2/75، وأصول الفقه للخضري ص: 216، وبيان النصوص لبدران ص:148.

ص: 80

أفراده بدليل صحيح أن دلالته على الباقي تبقى ظنية، كقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 1، بعد أن خرج من عمومه المستأمن بقوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} 2؛ ذلك أن العام الذي خصص قد يكون مخصصه معللاً بعلة يمكن تحققها في الأفراد الباقية، ومع هذا الاحتمال لا تبقى دلالة العام المخصوص قطعية، وإنما وقع الخلاف في دلالة العام المجرد من القرينة التي تدل على عمومه قطعاً.

ولم يثبت أن خص منه بعض الأفراد بدليل مسلَّم به لدى جميع الأصوليين.

آراء العلماء في دلالة العام المطلق:

اتفق جمهور3 علماء الأصول على أن العام شامل لجميع أفراد

1 سورة البقرة آية: 193.

2 سورة التوبة آية: 6.

3 من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، انظر المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي للدكتورفتحي الدريني ص:533.

ص: 81

معناه، وأن الحكم الثابت للعام ثابتٌ لكلِّ فردٍ من أفرادِه، كما اتفقوا أيضاً على وجوبِ إجراءِ العام على عمومه والعمل به، ما لم يظهر دليل يخصص العام، ثم اختلفوا في صفة دلالة العام المطلق على شمول أفراده أقطعية هي أم ظنية؟

أ - فذهب معظم الحنفية إلى أن دلالة العام المطلق على كل فرد من أفراده قطعية1، ووافقهم على ذلك الشاطبي2 من المالكية وبعض من كتبوا في الأصول حديثاً3.

1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/291، أصول السرخسي 1/136، والموافقات للشاطبي 3/290.

2 الشاطبي: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، الشهير بالشاطبي - أصولي حافظ من أهل غرناطة (بلد بالأندلس) وهو من أئمة المالكية، له مؤلفات كثيرة، منها:(الموافقات في أصول الفقه) ، (والاعتصام) توفي الشاطبي رحمه الله سنة 790هـ.

انظر: شجرة النور الزكية ص: 231، رقم الترجمة 828 ط جديدة بالأوفست عن الطبعة الأولى سنة 1349هـ المطبعة السلفية ومكتبتها - طبع على نفقة دار الكتاب العربي بيروت، والأعلام للزركلي 1/71 ط 3، 1398هـ.

3 أصول الفقه للخضري بك ص 157 ط م ك الاسكندرية محمد محمود مسعد توزيع مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية، وأصول الفقه للدكتور بدران أبو العينين بدران ص: 832، وأصول الفقه للأستاذ أبي زهرة ص: 124 ملتزم الطبع والنشر دار الفكر.

ص: 82

ب - وذهب جمهور الأصوليين ومنهم الشافعية إلى أن دلالة العام المطلق ظنية1.

واستدل الحنفية ومن وافقهم على قطعية دلالة العام المطلق بأدلة منها:

1 -

قالوا: إن العموم مما تدعو الحاجة إلى التعبير عنه بالألفاظ فوضعت له العرب ألفاظاً تدل عليه، واللفظ متى كان موضوعاً للدلالة على المعنى يكون ذلك المعنى ثابتاً به قطعاً، سواء أكان اللفظ الموضوع عاماً أم خاصاً، حتى يرد الدليل بخلاف ذلك2.

2 -

وقالوا أيضاً: إن اللفظ العام بمنزلة الخاص في كون دلالة كل منهما ثابتة بطريق الوضع، وحيث إن الاتفاق قائم على أن الخاص يدل على معناه قطعاً، ولا يؤثر في قطعية دلالته احتماله للمجاز، فكذلك تكون دلالة العام المطلق قطعية، ولا يؤثر فيها احتماله للتخصيص؛ لأن الكل احتمال؛ ولأن التفريق بين العام والخاص في كون دلالة الخاص لا تتأثر باحتماله للمجاز حتى تكون ظنية وتتأثر دلالة العام باحتماله للتخصيص حتى تكون بسبب ذلك ظنية تفريق بين متماثلين في الوضع

1 تفسير النصوص 2/108، 109 التلويح 1/40، وروضة الناظر 2/166، والمناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي ص 536.

2 أصول السرخسي 1/132، والمنار مع حواشيه ص/286 - 291.

ص: 83

بدون دليل يقتضي التفريق.

واعترض الجمهور على هذا الدليل، فقالوا: إن قياس دلالة العام على دلالة الخاص في حيز المنع؛ لأنه وإن صح لغة إلا أنه قياس مع الفارق في الدلالة الشرعية.

ووجه الفرق: أن دلالة الخاص اللغوية مرادة للشارع في الكثير الغالب، بينما ثبت في العام ما يصح اعتباره عرفاً شرعياً، وهو قصر العام على بعض أفراده، ومن المتفق عليه أن عرف الشرع وهو استعماله اللفظ لمعنى يقصده قاضٍ على معناه اللغوي في ميدان استنباط الأحكام، وبهذا يفترق العام عن الخاص، ومع افتراقهما لا يصح قياس دلالة العام على الخاص في القطعية.

وأضاف الشاطبي إلى الدليلين السابقين ما يمكن اعتباره دليلاً ثالثاً، وهو:

3 -

أن مذهب القائلين بظنية دلالة العام يؤدي إلى إبطال الكليات القرآنية، وذلك يتنافى مع ما هو معلوم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد بعث بجوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً"1

1 روي هذا الحديث عن جماعة من الصحابة - رضوان الله عليهم - منهم أبو هريرة بلفظ: ((فضلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)) ، رواه البخاري 1/92 دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي، ومسلم 1/28 دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي.

وفي إرواء الغليل رقم الحديث: 152 قال عنه: صحيح متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: لكني لم اجد لفظ (واختصر لي الكلام اختصارا) في الكتب التي وقفت عليها إلا في الموافقات حيث أورده الشاطبي في 3/291 - 292.

ص: 84

وقد قرر الشاطبي أن رأس هذه الجوامع هي العموميات، فإذا فُرِضَ أنها ليست موجودةً، أو أن الموجودَ منها مفتقرٌ إلى مخصص، فقد خرجت تلك العمومات من أن تكون جوامع مختصرة، وفي ذلك توهين للأدلة الشرعية، وتضعيف للاستناد إليها إلا بجهة من التساهل وحسن الظن1.

1 المرجع السابق نفس الجزء والصفحة 3/291 - 292.

ومن أدلة الحنفية على قطعية العام فهم الصحابة رضي الله عنهم وتمسكهم بالعمومات في احتجاجهم، مثل: تمسك علي رضي الله عنه بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، في أن عدة الوفاة تكون بأبعد الأجلين سواء كانت المرأة المتوفى عنها زوجها حاملاً أو حائلاً، جمعاً بين الآيتين الواردتين في العدة.

ومثل: تمسك فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءت إلى أبي بكر رضي الله عنه تطالب بميراثها في فدك احتجاجاً بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} .

وهذه الأدلة مسلَّم بها، ولكنها لا تنهض حجةً على المدعى؛ لأنها من قبيل العام المخصوص.

وكلامنا في العام المجرد، ووجه تمسك الصحابة بهذه العمومات مبني على أن الأصل في العام أن يعمل به على عمومه، ولا يلجأ إلى التخصيص إلا بعد وجود المخصص، والصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا على قدر متساو في العلم بالسنة؛ لأنها لم تكن قد دونت بعد، كما قد يغيب عن بعضهم تاريخ النزول بين الآيتين، بدليل أن ابن مسعود رضي الله عنه كان من مذهبه أن عدة الحامل تكون بوضع الحمل طالت المدة أو قصرت، لما ثبت عنده من تأخر نزول آية {وَأُوْلَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فكانت على رأيه ناسخة لتأخرها عن آية الوفاة.

ص: 85

ب - واستدل الجمهور على أن دلالة العام المطلق ظنية بعدة أدلة منها:

أولاً: قالوا: إن دلالة العام المطلق من قبيل الظاهر1، والظاهر يفهم على ظاهره، ولا يُنفى الاحتمال عن غير ما ظهر منه، وما كانت دلالته كذلك فدلالته ظنية2.

ثانياً: وقالوا - أيضاً -: ثبت بالاستقراء والتتبع لموارد العام في الشريعة قصره على بعض أفراده إلا في القليل النادر حتى شاع بين العلماء

1 الظاهر: هو اللفظ الذي يحتمل معنيين أو أكثر هو في أحدها أرجح منه في الآخر، ومن أمثلته العام المطلق، فأنه ظاهر في المعنى الراجح، محتمل لأن يصرف عن ذلك بالدليل.

2 الإمام مالك لأبي زهرة ص: 141 م الاعتماد بمصر سنة 1365هـ.

ص: 86

قولهم: (ما من عام إلا وقد خص منه البعض) 1 ومثل: ذلك يورث شُبْهةً في دلالة العام سواء ظهر المخصص أو لم يظهر، ومع هذا الاحتمال لا يصح القول بقطعية العام2.

وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل وهو كثرة التخصيص للعام وشيوع تلك الكثرة بين العلماء وقالوا: إنها في حيز المنع وفي ذلك يقول صدر الشريعة:

(لا نسلم أن التخصيص الذي يورث شبهة شائع في العام، بل هو

1 نسب بعض الأصوليين هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر الشاطبي: أنه إذا ثبت بطريق صحيح فهو مؤول، ولم يذكر وجه ذلك، حيث يقول: وربما نقلوا في الحجة لهذا الموضع عن ابن عباس أنه قال: (ليس في القرآن عام إلا مخصص إلا قوله تعالى: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، ثم قال بعد ذلك: وجميع ذلك مخالف لكلام العرب ومخالف لما كان عليه السلف من القطع بعمومات الكتاب التي فهموها تحقيقاً بحسب قصد العرب في اللسان وبحسب قصد الشارع في موارد الأحكام) ، الموافقات للشاطبي 3/291 - 292.

والذي أعرفه أن هذا القول اشتهر على ألسنة الأصوليين والعلماء باعتباره قاعدة أصولية مبنية على التتبع والاستقراء لموارد العام في الشريعة. انظر تفسير النصوص 2/114.

2 ورضة الناظر لابن قدامة ص: 166، والتوضيح مع التلويح 1/40، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص:534.

ص: 87

في غاية القلة) 1، لأن التخصيص عندنا إنما يكون بكلام مستقل موصول بالعام2 مساوٍ له في القوة، وهذا النوع ليس شائعاًَ؛ بل هو في غاية القلة، أضف إلى ذلك أن القطع الذي أثبتناه للعام مرادنا به المعنى الأعم، وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل، وما اعتبره غيرُنا دليلاً صالحاً، وهو: كثرة تخصيص العام وشيوع تلك الكثرة بين العلماء غير مسلّم لما سبق أن تخصيص العام إنما يكون عندنا بكلام مستقل مقارن للعام مساو له في القوة، وهذا النوع نادر، وليس شائعاً كما يدعي الطرف المنازع.

ويبدو أن هذا الاعتراض من الحنفية لا يفيد، لأنه مبني على اصطلاح الحنفية في المخصص؛ فلا يرد على الجمهور ما لم يسلموا لهم به.

ومع هذا فقد دفع الجمهور هذا الاعتراض، وقالوا: إن قولنا: بظنية العام لم يكن بدون دليل، وإنما كان ذلك بناء على وفرة التخصيص، وإذا وقع الخلاف في مسمى التخصيص بماذا يكون. فلنا أن نقول: إن المؤثر في دلالة العام هو كثرة قصره على بعض أفراده، سواء كان ذلك بالدليل الذي لم يستقل بنفسه - كالاستثناء والشرط - أم كان القصر بالدليل المستقل الذي لم يتأخر التخصيص به عن وقت العمل بالعام.

ولا شك في كثرة قصر العام بهذا المعنى سواء سمي تخصيصاً في

1 التوضيح 1/ 40 - 42.

2 المنار مع شروحه ص: 228.

ص: 88

الاصطلاح أم سمي قصراً؛ إذ لا دخل للتسمية في دلالة اللفظ1.

وأما تخوف الشاطبي على إبطال الكليات القرآنية فلا مبرر له، إذا علمنا أن العدول إلى التخصيص لا يكون إلا بعد وجود الدليل، وأن الأمر ليس متروكاً بدون ضوابط أو قيود، كما أنه ليس هناك أي تناف بين القول بظنية العام المطلق، وثبوت جوامع الكلم للرسول صلى الله عليه وسلم، ما دمنا نعتبر العام على عمومه، ونعمل بما ظهر لنا منه، ولا نلجأ إلى التخصيص حتى يوجد الدليل المخصص فعلاً، وبهذا فإن الخلاف في هذه المسألة يظل نظرياً لا ثمرة له، حتى يوجد الدليل المخصص، فإذا وجد الدليل فعلاً2 اختلفت أنظار العلماء في تقويمه، ومدى معارضته للعام؛ فالقائل بظنية العام لا يرى مانعاً من جواز تخصيصه بكل دليل معتبر شرعاً بشرط أن يظهر كونه مخصصاً قبل العمل بالعام.

1 التحرير مع شرحه التيسير 1/266، والكمال يميل إلى مذهب الجمهور في هذا الموضع، وتفسير النصوص 2/112.

2 المناهج الأصولية ص: 542. والذي يظهر أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأنه لم يرد على موضع واحد، فالشاطبي وغيره ينظر إلى اللفظ عند الواضع وقبل الاستعمال، ويقر بالحقيقة الشرعية، ولكنه يسمي التخصيص بالقرائن المتصلة كبيان المجمل وهي ليست مجازاً، وغيرهم يرى أن التخصيص بهذه القيود يصير اللفظ إلى المجاز، واستعمال الشرع اللفظ لا يخرجه عن وضعه اللغوي بالكلية، لكنه ينطبق عليه تعريف المجاز.

ص: 89

والذي يرى أن دلالة العام المطلق قطعية يحكم بالتعارض بين العام وبين الدليل الذي يساويه في القوة، ولا يرى التخصيص بالدليل الظني، كأخبار الآحاد ونحوها؛ لأن التخصيص إنما يكون بدليل مساو للعام في قوته، وأخبار الآحاد ليست كذلك مع عام القرآن والسنة المتواترة أو المشهورة، وكذلك القياس لا يخصص العام من القرآن والسنة المتواترة ابتداءً ما لم يخص قبله بقطعي.

ص: 90

المبحث الرابع أنواع الخاص

يتنوع الخاص باعتبار صيغته والحال الملابسة له -كما سبق- فتارة يتعدد باعتبار الصيغة، وتارة باعتبار الحالة الملابسة له، فهو باعتبار الصيغة يتنوع إلى الأمر والنهي الموضوعين للدلالة على طلب الفعل أو الكف عنه، وباعتبار الحالة التي تلابسه ينقسم إلى المطلق والمقيَّد: وسيأتي الكلام عليهما بالتفصيل، لأنهما موضوع الرسالة.

وقد اهتم الأصوليون بمباحث الأمر والنهي؛ لأن مدار التكاليف عليهما وبمعرفتهما تستبين الأحكام، وعليهما تتوقف معرفة الحلال من الحرام.

ولذلك بدأ أصحاب الأصول كتبهم بمباحث الأمر والنهي، وبينوا السبب الذي دعاهم إلى ذلك حيث يقول السرخسي:

(فأحق ما يبدأ في البيان الأمر والنهي؛ لأن معظم الابتلاء بهما، وبمعرفتهما تتم معرفة الأحكام ويتميز الحلال من الحرام) 1، وفي هذا ما يقوي الصلة بين أنواع الخاص باعتبار صيغته والحالة الملابسة له، فيجدر

1 أصول السرخسي 1/11، والفكر الأصولي دراسة تحليلية نقدية: ص274، ومعالم وضوابط الاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية: ص156.

ص: 91

بنا أن نسترشد بكلام السرخسي السابق فنجعل الكلام على ماهية الأمر والنهي وصيغهما المشهورة وحكمهما مفتاحاً لموضوع بحثنا، وخاصة إذا علمنا أن الإطلاق والتقييد مما يعرض للخاص أمراً كان أو نهياً أو غيرهما، وفيما يلي كلمة مختصرة توضح تلك النقاط السابقة من مباحث الأمر والنهي الكثيرة اقتصرنا فيها على ما يخص بحثنا، ولنبدأ بالأمر أولاً في نقاطه الثلاث:

1-

تعريفه.

2-

صيغه المشهورة.

3-

حكمه.

ص: 92

المطلب الأول: في الأمر:

تعريف الأمر:

أ- الأمر في الأصل مصدر للفعل الثلاثي (أَمَر) ثم جعله أهل اللسان العربي اسماً لقول القائل لغيره: (افعل كذا) ولكن عرف علماء اللغة خصه بالقول الدال على طلب الفعل طلباً جازماً، مع قطع النظر عن خصوص مادة الأمر، بل المعتبر فيه عند علماء اللغة القول الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً سواء أكان من مادة الأمر أم غيرها، وعلى ذلك يمكن تعريف الأمر في اصطلاح علماء اللغة.

بالقول الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً1.

وأما عامة علماء الأصول، فحيث كان بحثهم في نوع خاص من الأمر وهو ما كان صادراً عن طريق الشارع، فقد أضافوا إلى التعريف

1 مقاييس اللغة لابن فارس 1/137 ط 2 طبع مصطفى البابي الحلبي بمصر عام 1389هـ، ومختار الصحيح للرازي ص:24.

ويقارن بأصول السرخسي 1/11، وحصول المأمول من علم الأصول للسيد محمد صديق خان بهادر ص: 70 - 71 ط مصطفى محمد سنة 1357هـ بمصر، وإرشاد الفحول ص: 93، وتيسير التحرير 2/45.

الإحكام للآمدي 2/8، تعليق عبد الرزاق عفيفي ط. والمستصفى 370 شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر عام 1391هـ، بتعليق محمد مصطفى أبو العلا.

ص: 93

اللغوي قيد الاستعلاء1، وهو ألا يكون الطلب على جهة التذلل، بياناً منهم أن المقصودَ بالتعريف الأمر الإلهي وليخرجوا من دائرة الأمر في الاصطلاح الأصولي الالتماس (وهو الطلب من المساوي) والدعاء: وهو الطلب من الأعلى، وعرفوه بناء على ذلك2.

ب- بأنه: القول الدال بالذات على طلب الفعل على جهة الاستعلاء3.

شرح التعريف:

1-

القول: كالجنس في التعريف يشمل الأمر وغيره، والتعبير به أوْلى من التعبير باللفظ أو الكلمة، أو الكلام، أما أولوية القول على اللفظ؛ فلأن اللفظ جنس بعيد لاستعماله في المهمل والمستعمل، والقول خاص بالمستعمل فكان التعبير به أولى؛ لكونه جنساً قريباً، وأما أولوية التعبير بالقول على (الكلمة) والكلام؛ فلأن كلاً منهما أخص من القول؛

1 الاستعلاء: عرف بتعريف آخر، وهو طلب العلو وعد الآمر نفسه عالياً - سواء كان عالياً في نفس الأمر أم لا.. انظر نسمات الأسحار شرح المنار ص: 17، وشرح المنهاج للأسنوي 2/3 - 4.

2 المناهج الأصولية ص: 701.

3 الأحكام للآمدي 2/11، ومختصر ابن الحاجب مع حاشية السعد 2/77، وإرشاد الفحول ص: 92، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 1/101، وحاشية المرآة للأزميري 1/28، وروضة الناظر ص: 98، وجمع الجوامع 1/421.

ص: 94

لأن الكلمة تختص بالمفرد، والكلام يختص بالمركب، بينما القول يجمعهما ويشملهما، فكان تعريف الأمر به أولى.

2-

الدال بالذات: يقصد بالدلالة هنا الدلالة الوضعية، ولهذا اكتفى بها عن كون الطلب حازماً؛ لأن دلالة اللفظ الوضعي لازمة له، وبهذا القيد يخرج ما كانت دلالته بغير الوضع - كدلالة اللفظ المهمل على حياة لا فظه.

3-

على طلب الفعل: هذا أهم عنصر في تعريف الأمر، وبه يحترز عن النهي؛ لأنه طلب هو الكف عن المنهي عنه كما سيأتي.

4-

على جهة الاستعلاء: الاستعلاء كما تقدم هو ألا يكون الطلب على وجه التذلل وبه يخرج عن حد الأمر الدعاء1 والالتماس2، إذ المفروض فيهما عدم التعالي.

2-

الصيغ المشهورة لطلب الفعل:

هي: الألفاظ التي وضعها العرب للدلالة على طلب الفعل طلباً جازماً، ثم جاء على وفق ذلك نصوص الشرع، أو كانت من الألفاظ التي استعملها الشارع ابتداء من الطلب الجازم، وهي كثيرة تتنوع حسب

1 الدعاء: الطلب الصادر من الأدنى إلى الأعلى، كطلب العبد من ربه أن يغفر له.

2 الالتماس: هو الطلب الصادر من المساوي للمطلوب منه في المنزلة مثل: طلب الزميل من زميله إعطاءه قلماً.

ص: 95

أسلوب القرآن والسنة في طلب الفعل، منها:

1-

فعل الأمر:

كقوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 1، فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة ثلاثة أفعال هي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله، بصيغة فعل الأمر:(أقيموا) و (آتوا) و (اعتصموا بالله) .

2-

صيغة فعل المضارع المقرون بلام الأمر:

كقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 2، فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة فعلاً، هو (الصيام) بصيغة الفعل المضارع المقرون بـ (لام الأمر)، وهو قوله تعالى:(فليصمه) ، فإن (يصم) فعل مضارع مجزوم، واللام الداخلة عليه (لام الأمر) .

3-

الجملة الخبرية المقصود بها الطلب:

مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ} 3، فجملة (والمطلقات يتربصن) جملة خبرية مكونة من مبتدأ، هو (المطلقات) وخبر

1 سورة الحج آية: 78.

2 سورة البقرة آية: 185.

3 سورة البقرة آية: 228.

ص: 96

وهو (يتربصن) ، وليس المقصود منها الإخبار بتربص المطلقات هذه المدة، وإنما المقصود طلب التربص منهن هذه المدة؛ والتقدير (ليتربص المطلقات ثلاثة قروء) وفي العدول عن صيغة الطلب الأصلية تأكيد إيقاع الفعل والحث عليه، حتى أصبح بمنزلة الفعل الواقع المخبر عنه.

4-

صيغ المصدر النائب عن فعل الأمر:

كقوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} 1، ففي هذه الآية طلب فعل هو ضرب الرقاب، بالمصدر النائب عن فعل الأمر، وهو (ضرب الرقاب)، والأصل:(فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم) .

5-

اسم فعل الأمر 2:

ويقصد به اسم بمعنى فعل (الأمر) مثل: قول المؤذن (حيَّ على الصلاة) ؛ فإن المؤذن يقصد طلب فعل: هو (الإقبال على الصلاة بواسطة اسم فعل الأمر: (حيّ) ؛ لأن (حي) معناها أقبل على الصلاة.

3-

حكم صيغة الأمر ونحوها مما يدل على الطلب الجازم:

ذهب جمهور الأصوليين إلى أن (صيغة الأمر) المجردة من القرائن

1 سورة محمد آية: 4.

2 ينظر في صيغ الأمر: روضة الناظر ص: 167، وأصول الفقه لأبي النور زهير 2/129، وأصول الفقه للزحيلي 1/218 - 219، والمناهج الأصولية ص:70.

ص: 97

ونحوها مما يدل على الطلب الجازم، حقيقة في الوجوب1، بمعنى أنها موضوعة للدلالة على وجوب فعل المأمور به، ولا تصرف عن ذلك إلا إذا وجدت قرينة تدل على عدم الوجوب، حتى ذهب بعض الأصوليين إلى أن الوجوب ملازم لهذه الصيغة2، ولا يمكن استفادته بدونها، بدليل أن الأفعال الواجبة لم يكتف فيها بمجرد الفعل، بل قرنت بصيغة الأمر الدال على وجوبها، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن تعليم أفعال الصلاة:"صلوا كما رأيتموني أصلي"3، وفي شأن تعليم أفعال الحج: "خذوا عني

1 مختصر المنتهى مع حاشية السعد 2/79، التوضيح مع التلويح 1/153، والآمدي 2/13، والقواعد الأصولية لابن اللحام ص: 160 بتحقيق وتصحيح محمد حامد الفقي ط السنة المحمدية سنة 1375هـ القاهرة، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 1/273، وإرشاد الفحول ص: 94 - 95، أسباب اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الزلمي ص: 77 ط أولى الدار العربية للطباعة في بغداد سنة 1396هـ.

2 المنار مع حواشيه ص: 112.

3 أصل الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن مالك بن الحويرث في باب الآذان والإقامة ولكن مسلم لم يذكر وصلوا كما رأيتموني أصلي، واللفظ المتفق عليه "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"، وورد لفظ "وصلوا كما رأيتموني أصلي" في البخاري 1/162 - 163 ترتيب أحمد شاكر، وفي إرواء الغليل للألباني 1/227، رقم الحديث 263 وص: 291، قال صحيح أخرجه البخاري ومسلم إلا أن مسلماً لم يذكر:"وصلوا كما رأيتموتي أصلي".

وفي رسالة الدكتور سليمان محمد الأشقر أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام ص: 32 - 34

كلام كثير حول الحديث ودلالته فمن يريد الاستزادة فليراجعه ط أولى سنة 1398هـ مكتب المنار الإسلامية بالكويت.

ص: 98

مناسككم"1، فلم يكتف بالفعل فقط، بل قرن الفعل بالقول.

1 رواه مسلم في باب استحباب رمي جمرة العقبة راكباً 2/943 من المتن ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي ط إحياء التراث العربي رقم الحديث 1297، وانظر النووي مع صحيح مسلم 9/45 المكتبة المصرية.

ورواه أبو داود في كتاب المناسك 2/211 رقم الحديث 1970 نشر إحياء السنة النبوية وتعليق محمد محي الدين بن عبد الحميد.

والإمام أحمد 2/368 ط ثانية المكتب الإسلامي - بيروت سنة 1398هـ من طريق أبي الزبير انه سمع جابر بن عبد الله يقول: "رأيت رسول الله (يرمي جمرة العقبة وهو على بعيره ويقول: يا أيها الناس خذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أرجع بعد عامي هذا"، ولفظ مسلم "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أرجع بعد حجتي هذه"، المتن 2/943.

ص: 99

المطلب الثاني: في النهي

وبحثنا في هذا المطلب يقتصر على ثلاثة أمور: لها علاقة وصلة بموضوع بحثنا (المطلق والمقيد)، وهذه الأمور الثلاثة هي:

1-

تعريف النهي.

2-

صيغه المشهورة.

3-

حكم الصيغة المجردة.

1-

تعريف النهي:

أ- النهي في اللغة: المنع، يقال: نهاه عن كذا إذا منعه عنه، وسمي العقل نهية؛ لأنه يمنع صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب1، وتجمع النهية على (نهى) قال الله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} 2، أي عظات وعبر لأصحاب العقول.

ب- والنهي في الاصطلاح:

القول الدال بالذات على طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء3 وبما ذكرناه في شرح تعريف الأمر يستغني به عن شرح

1 ترتيب القاموس المحيط 4/454، ومختار الصحاح للرازي ص: 83، ومقاييس اللغة لابن فارس 5/359، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص:507.

2 سورة طه آية: 54.

3 الأحكام للآمدي 2/35 وحاشية الأزميري على مرآة الأصول للسيد الفناري 1/28، ومسلم الثبوت مع شرحه 1/395، وجمع الجوامع مع شرح المحلي 1/447 - 448.

ص: 100

تعريف النهي لأن معظم ألفاظ تعريف النهي قد ذكرت في تعريف الأمر.

والفرق بين التعريفين يكمن في أن الأمر طلب الفعل، والنهي طلب الكف عن الفعل بما يدل على الكف عنه.

2-

صيغ النهي:

يراد بصيغ النهي: الألفاظ الموضوعة لغة لتدل على الكف عن الفعل، ثم جاء على وفق ذلك نصوص الشارع؛ أو كانت من الألفاظ التي استعملها الشرع ابتداء للدلالة على المنع من الفعل على وجه الحتم واللزوم، وهي كثيرة تتنوع حسب أسلوب القرآن والسنة في كيفية طلب الكف عن الفعل، ومنها:

1-

صيغة النهي:

وهي: الفعل المضارع المقرون بـ (لا) الناهية، كقوله تعالى:{وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ} 1؛ فالله سبحانه وتعالى قد طلب في هذه الآية الكريمة الكف والامتناع عن فعل هو قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، كالقصاص والردة، نعوذ بالله من الارتداد عن الدين

1 سورة الأنعام آية: 151.

ص: 101

واستعمل في طلب الكف عن القتل صيغة المضارع المقرون بـ (لا) الناهية فقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُواْ النَّفْسَ} .

2-

مادة النهي في سياق الإثبات وما اشتق منها:

مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1، ففي هذه الآية الكريمة طلب كف عن ثلاثة أفعال هي: الفحشاء، والمنكر، والبغي، بصيغة فعل المضارع المشتق من مادة النهي وهو قوله تعالى:{وَيَنْهَى} وكذلك الحكم إذا كان طلب الكف باسم فاعل مُشْتَقاً من النهي أو مصدراً لفعل النهي بشرط كونه في سياق الإثبات.

3-

الجملة الخبرية المثبتة:

التي استعملت فيها مادة التحريم كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ

} 2 الآية، ففي هذه الآية الكريمة طلب الكف عن نكاح الأمهات وما ذكر معهن من المحرمات

1 سورة النحل آية: 90.

2 سورة النساء آية: 23.

ص: 102

بجملة خبرية مثبتة، مشتقة من مادة التحريم وهي قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية.

4-

نفي الحِلِّ:

مثل قوله تعالى في شأن المنع من أخذ شيء مما أعطاه الزوج لزوجته بقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَاّ أَن يَخَافَا أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1، ففي هذه الآية الكريمة إخبار من الله سبحانه وتعالى بنفي الحِّل عن أخذ شيء مما أعطاه الزوج لزوجته، وفي ذلك تأكيد لطلب الكف عن الفعل.

5-

فعل الأمر الدال على الكف عن الفعل:

كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 2، فالله سبحانه وتعال قد طلب في هذه الآية الكريمة الكف عن فعل هو البيع بعد نداء الجمعة بصيغة فعل الأمر الدال

1 سورة البقرة آية: 229.

2 سورة الجمعة آية: 9.

ص: 103

على طلب الترك والكف عن الفعل وهو قوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، أي اتركوا الاشتغال بتحصيله وقت نداء الجمعة.

3-

حكم النهي المجرد:

ذهب جمهور الأصوليين إلى أن النهي المجرد من القرائن (المطلق) يدل على تحريم المنهي عنه حقيقة، ولا يصرف عن ذلك إلا بقرينة تدل على عدم التحريم1.

واستدلوا على ذلك بجملة أدلة منها:

1-

قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} 2 حيث تدل هذه الآية على أن ما نهى عنه يجب الانتهاء عن فعله؛ لأن قوله تعالى: {فَانتَهُوا} فعل أمر وتقدم لنا أنه يفيد وجوب ترك المنهي عنه.

ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم قد فهموا التحريم من النهي المجرد، واستدلوا به على تحريم فعل المنهي عنه.

3-

ومنها تبادر التحريم من الصيغة المجردة، والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة، وهذان الدليلان الأخيران يصلحان للاستدلال بهما على أن

1 الآحكام للآمدي 2/48، وأصول البزدوي 1/257، وتيسير التحرير 2/90، ومختصر المنتهى 2/95 - 96، وإرشاد الفحول ص:94.

2 سورة الحشر آية: 7.

ص: 104

الأمر المطلق يدل على الوجوب حقيقة، وهناك أدلة أخرى، فمن يريد الوقوف عليها فعليه بمراجعة الكتب الأصولية المطولة.

ص: 105