الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: في مقيدات المطلق
الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها
…
تمهيد في العلاقة بين مخصصات العام ومقيدات المطلق
جرت عادة جمهور الأصوليين أن يتكلموا عن العام والخاص قبل الكلام على المطلق والمقيد، وقد أفاض الأصوليون في الكلام على تخصيص العام والمخصصات التي يقع بها التخصيص.
وحيث كان هناك شبه بين مخصصات العام ومقيدات المطلق، اكتفى الأصوليون عن تفصيل القول في مقيدات المطلق بما قالوه في باب التخصيص والمخصصات، ثم أحالوا من أراد الاستزادة على ذلك، يقول الآمدي في أحكامه بعد أن عرف المطلق والمقيد:"وإذا عرف معنى المطلق والمقيد فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم فهو بعينه جار في مقيدات المطلق، فعليك باعتباره ونقله إلى هنا"1.
ويقول الشوكاني في إرشاد الفحول: "اعلم أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جار في تقييد المطلق فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص"2.
لكن بعض3 شراح الكتب الأصولية خطا خطوة في البيان عن
1 الأحكام للآمدي 3/4، بتعليق عبد الرزاق عفيفي.
2 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 167.
3 غاية الوصول شرح لب الأصول لأبي زكريا الأنصاري ص: 82.
مقيدات المطلق فلم يكتف بالإحالة كما فعل غيره، فخص بعض المقيدات بالذكر، ومن هؤلاء الأنصاري في غاية الوصول حيث ذكر أن ما يخص به العام يقيد به المطلق، وما لا يخص العام لا يقيد به المطلق، وعلل ذلك بأن المطلق عام من حيث المعنى، ثم فرع على هاتين القاعدتين فقال:"يجوز تقييد الكتاب به وبالسنة والسنة بها وبالكتاب، ويجوز تقييدهما بالقياس، والمفهومين، وفعل الرسول وتقريره بخلاف مذهب الراوي وذكر بعض جزئيات المطلق على الأصح في غير مفهوم الموافقة"1.
وذكر البناني في حاشيته على شرح المحلى وجمع الجوامع مثل ما ذكره الأنصاري، وكذلك صاحب الكوكب المنير2.
وهذا يعني أن الكلام على مقيدات المطلق وأحكام التقييد والتمثيل لها فيه شيء من الصعوبة، لقلة من كتبوا فيه بالتفصيل، وبناء على إرشادات الأصوليين الآنفة الذكر، فإن منهجي في بحث مقيدات المطلق يعتمد على الرجوع إلى ما كتبه الأصوليون في مخصصات العام، واعتبار ذلك في مقيدات المطلق، وحيث تكون الحاجة ماسة إلى ذكر أقوال
1 المرجع السابق.
وقوله: (في غير مفهوم الموافقة) ، يعني أن مفهوم الموافقة جرى الاتفاق على حكم التقييد به، وإن اختلف في تسميته كما سبق حيث يرى الحنفية أنه من قبيل دلالة النص، ويرى الجمهور أن ذلك (قياس جلي) أو مفهوم موافقة.
2 شرح الكوكب المنير للفتوحي ص: 216.
العلماء في القاعدة والتمثيل لها، فإني أذكر ما قيل في التخصيص والمخصصات ليكون دليلاً على مرادهم في تقييد المطلق.
ولكن إذا كان الحكم لا ينطبق على المطلق لما سبق من الفرق بينه وبين العام، فإني أُبيِّن ذلك، اعتقاداً مني أن الاختلاف في الذات يبنى عليه الاختلاف في الأحكام، وهذا يقتضي أن أعرض ما قيل في مخصصات العام على أحكام المطلق وخصائصه السابقة، فما لا يتعارض معها جاز التقييد به، وما كان منها متعارضاًَ مع تلك الخصائص والأحكام منعنا التقييد به وبينا السبب في ذلك.
وقبل أن نبدأ في تفصيل الكلام على مقيدات المطلق ينبغي أن نعرف معنى التقييد والمقيد باسم الفاعل والفرق بين التقييد والتخصيص وبينهما وبين النسخ، فنقول:
1 -
التقييد:
تفعيل، مأخوذ من الفعل الرباعي:"قَيَّدَ" يقال: قَيّد الحيوان تقييداً؛ إذا جعل في رجله قيداً ونحوه من موانع الحركة.
وفي الاصطلاح:
إضافة قيد إلى اللفظ المطلق واعتبار ذلك في مدلوله، وحيث عرفنا المُقَيّد باسم المفعول فيما سلف بأنه اللفظ الذي اقترن به ما يحد من شيوعه وانتشاره بين أفراد جنسه.
يمكن تعريف التقييد بأنه: "تحديد شيوع اللفظ المطلق بقيد يقلل من
انتشاره بين أفراد جنسه"1.
2 -
أما المُقَيِّدُ باسم الفاعل:
فقد اختلف العلماء في المراد به، وكان لهم في ذلك رأيان:
الأول: أن المقيد إرادة المتكلم، والدليل كاشف عن تلك الإدارة، واختار هذا القول، كما يقول الشوكاني: ابن برهان2 وفخر الدين الرازي.
الثاني: أن المقيد هو الدليل الذي وقع به التقييد، والحق أن المقيِّد حقيقة هو المتكلم لكن لما كان المتكلم يقيد بالإرادة أسند التقييد إلى إرادته فجعلت مُقَيَّدة، ثم جعل ما دل على إرادة المتكلم وهو الدليل مقيداً في الاصطلاح والمراد: - هنا - إنّما هو الدليل الذي يحصل به التقييد3.
1 روضة الناظر ص: 136.
2 ابن برهان: هو أحمد بن علي بن محمد الوكيل المعروف بابن برهان، وكنيته أبو الفتح، فقيه شافعي أصولي محدث، ولد سنة 444هـ، وكان حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي، وأخذ عن القاضي والغزالي وأبي الحسين الكيا الطبري، له مصنفات كثيرة منها: الوسيط والأوسط، والوجيز في أصول الفقه، توفي سنة 520هـ، طبقات الأصوليين 2/16، وابن كثير في البداية والنهاية 12/196، وكشف الظنون لحاجي خليفة 1/133.
3 إرشاد الفحول ص: 145، والمعتمد 1/256.
3 -
الفرق بين التقييد والتخصيص:
أ - ذهب جمهور الأصوليين - ومنهم الشافعية والمالكية والحنابلة - إلى عدم التفريق بين التقييد والتخصيص، حيث يطلقون على كل منهما قصراً أو تخصيصاً على سبيل الترادف، وذلك؛ لأن التخصيص عندهم هو: قصر شمول العام على بعض أفراده بدليل1، أو هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص2 والمطلق عندهم نوع من العام فيسمى تقييده قصراً أو تخصيصاً.
ب - وذهب الحنفية إلى التفرقة بين التخصيص والتقييد فقالوا: إن التقييد نوع من قصر العام على أفراده، ولكنه لا يسمى تخصيصاً في الاصطلاح، لعدم استقلال الدليل الذي يكون به التقييد عن اللفظ العام في المعنى.
وأما التخصيص: فهو "قصر العام بدليل مستقل مقارن للعام في نزوله ومساوٍ له في قوته"3.
1 بقطع النظر عن نوعية الدليل الذي يحصل به التخصيص من حيث قوة الدلالة، أو تاريخ التشريع، أو الاستقلال في المعنى، فاتسع بذلك مفهوم التخصيص عند الجمهور.
2 إرشاد الفحول ص: 142، وأصول الفقه للخضري ص:216.
3 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/306، ومالك لأبي زهرة ص: 142، والتقرير والتحبير 1/240، وإرشاد الفحول ص: 142، وأصول الفقه للخضري ص:216.
فأساس التفرقة يقوم على أن مفهوم التخصيص عند الحنفية أخص منه لدى الجمهور؛ إذ يشترط الحنفية في المخصص للعام ابتداءً إذا كان كلاماً1 أن تتوفر فيه ثلاثة شروط لا يرى الجمهور اشتراطها في المخصص.
الأول: استقلال المخصص في المعنى؛ بحيث يكون نصاً مفيداً تام المعنى في ذاته.
الثاني: أن يكون مقارناً للعام في زمن تشريعه.
الثالث: مساواته للعام في الدلالة والثبوت، فإذا كان الدليل غير مستقل في معناه فهو عند الحنفية يسمى قصراً لا تخصيصاً، ومرادهم من هذا الدليل غير المستقل المخصصات المتصلة، كالصفة والشرط والغاية ونحوها؛ فإن كلاً من هذه القيود لو فصل عما قبله لم يفدْ شيئاً؛ إذ هي ليست مستقلة في معناها، بل هي تابعة للكلام السابق2، على أن الحنفية يجوزون إطلاق لفظ القصر على التخصيص دون العكس، وبذلك يكون القصر عندهم أعم، فكل تخصيص قصر وليس كل قصر تخصيصاً3.
1 نشير هنا إلى أن التقييد قد يكون بالنقل (النصوص) وقد يكون بالعقل أو العرف، وهذه الشروط الثلاثة خاصة بالنقل، المناهج الأصولية ص: 265، ومسلم الثبوت 2/300.
2 مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/300.
3 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/306، والمناهج الأصولية ص:566.
وحيث عرفنا معنى التقييد والتخصيص عند الجمهور والحنفية نلخص الفروق بينهما في النقاط التالية على رأي الحنفية مع التنبيه إلى أنه يمكن إرجاع تلك الفروق إلى الاختلاف بين العام والمطلق الذي سبق الكلام عليه في أثناء حديثنا عن دلالة المطلق فنقول:
1 -
يؤخذ من تعريف التقييد أنه إخراج ما كان صالحاً لتناول اللفظ المطلق عن طريق البدل لولا ورود المقيد.
كما يؤخذ من تعريف التخصيص أنه إخراج لبعض الأفراد التي استغرقها اللفظ العام بوضعه اللغوي على تقدير عدم المخصص.
2 -
التقييد تصرف فيما سكت عنه اللفظ المطلق، وأما التخصيص فهو تصرف فيما تناوله اللفظ العام ظاهراً، فلو قلت:"أعط الرجل الفقير درهماً بعد قولك: "أعط الرجل درهماً" لكان التقييد بالصفة - وهي الفقر هنا - تصرفاً فيما سكت عنه لفظ "الرجل" في وضعه اللغوي وبياناً له؛ لأن لفظ الرجل في وضعه اللغوي إنما يدل على خلاف المرأة، وهو كما ترى لا يدل على غني أو فقير، بل هو ساكت عن ذلك، فجاء التقييد إذاً تصرفاً فيما سكت عنه اللفظ في الوضع اللغوي ومبيناً لما لم يتناوله لغة بخلاف التخصيص؛ فإنه تصرف فيما تناوله اللفظ ظاهراً؛ لأنه لو قيل في العام: "عاقب المذنبين" ثم قيل: "لا تعاقب الأطفال منهم"، لكان القسم الأول من الكلام وهو "عاقب المذنبين" متناولاً للقسم الثاني بوضعه اللغوي، وعملاً بدلالة العموم، فجاء الشطر الثاني من الكلام متصرفاً فيما
تناوله الشطر الأول لغة ومبيناً عدم شموله للأطفال المذنبين.
3 -
التقييد من حيث هو يقتضي إيجاب شيء زائد، فلو قال الشارع:"اعتق رقبة" أجزأ المأمور بالعتق إعتاق أيّ رقبة كانت، سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن إذا قيدها بالإيمان فقال:"أعتق رقبة مؤمنة" وجب على المأمور إعتاق رقبة مؤمنة، ولا يجزئه غيرها، فالتقييد إذاً زيادة قيد على اللفظ المطلق واعتبار ذلك في مدلوله وفيه نوع مشقة1.
أما التخصيص فهو في حقيقته لا يقتضي الإيجاب، وإنما يقتضي الدفع لبعض ما تناوله الحكم العام، وذلك نقصان في الحكم وتخفيف عن المكلف2.
4 -
التقييد مفرد والتخصيص جملة، ومراد الأصوليين بالمفرد هنا ما لا يستقل بنفسه عن إفادة تمام المعنى، وبالجملة ما كان مستقلاً بذاته في إفادة المعنى.
5 -
التقييد أعم من التخصيص؛ لأنه يدخل على الخاص، وقد
1 انظر: المسودة لآل تيمية ص: 148، وتنقيح الفصول ص:220، ومسلم الثبوت 1/365.
2 المراجع السابقة وكشف الأسرار 3/198، والمدخل إلى علم أصول الفقه للأستاذ معروف الدواليبي ص: 192، ورسالة التعارض والترجيح للدكتور مصطفى البرزنجي ص:595.
يدخل على العام، بخلاف التخصيص؛ فإنه لا يدخل إلا على العام1.
4 -
الفرق بين التقييد والنسخ:
عرفنا معنى التقييد ولبيان الفرق بينه وبين النسخ لا بد من تحديد مفهوم النسخ عند المتقدمين والمتأخرين.
النسخ في لسان السلف يطلق ويراد به رفع الحكم تارة، ورفع ما اقتضاه اللفظ العام والمطلق تارة أخرى، وبيان المراد من اللفظ المجمل والمبهم تارة ثالثة، حتى إنهم كانوا يسمون الإخراج بالاستثناء والصفة نسخاً، لتضمن ذلك كله رفع الظاهر من اللفظ، وبيان أن مراد الشارع في التكليف والعمل هو ما دل عليه الناسخ حقيقة، وما دل عليه المخصص والمقيد ظاهراً2، وهذا المفهوم للنسخ أعم من المفهوم المصطلح عليه لدى علماء الأصول، حيث خصوا اسم النسخ بالنوع الأول، وعرفوه بناء على ذلك بأنه:"رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متراخ عنه" 3، فعلى اصطلاح الأصوليين تظهر الفروق بين التقييد والنسخ في المقارنة التالية، وهي من ناحيتين:
1 المراجع السابقة، ويراجع في ذلك ما سبق في دخول الإطلاق على الأفعال والأسماء الشخصية.
2 الموافقات للشاطبي 3/108.
3 إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية 1/35.
الأولى: في أوجه الاتفاق بين التقييد والنسخ:
1 -
حيث يتفق التقييد والنسخ في أن كلا منهما بيان للمطلوب من المكلف ومعنى ذلك: أنه بعد مجيء المخصص والمقيد والمبين قد أصبح حكم اللفظ العام والمطلق والمجمل مشابهاً لحكم اللفظ المنسوخ في الظاهر من حيث العمل فيما يستقبل من الزمان.
ووجه الشبه: أن في كل منها تركاً لما أفاده اللفظ الأول ظاهراً، إما حقيقة كما في اللفظ المنسوخ وإما ظاهراً كما في العام المخصوص والمطلق المقيد، والمجمل المبين، إذا كان إجماله من وجه أو على القول، بأنه ما تساوت فيه الدلالة، ولهذا استسهل السلف إطلاق اسم النسخ على المراد من هذه الألفاظ لاشتراكها في معنى واحد1، وهو تغيير اللفظ الأول بعد مجيء الثاني.
2 -
أن كلا منهما قائم على التعارض بين النصين، وإن كان التعارض بين المطلق والمقيد لا يعد تعارضا إذا قيس بالتعارض الذي يقوم عليه النسخ؛ لأن التقييد فيه عمل بالدليلين، بخلاف النسخ الكلي؛ فإن فيه عملاً بالدليل الناسخ، وإهداراً للدليل المنسوخ.
3 -
ذكر بعض أصحاب الأصول أن في كل من التقييد والنسخ
1 الموافقات للشاطبي 3/109، وتاريخ التشريع الإسلامي للشيخ الخضري بك ص:19.
تركاً للمطلق، والدليل المنسوخ وعملاً بالمقيد والدليل الناسخ، وهذا لا يطرد إلا في النسخ الكلي؛ فإنه يعمل فيه بالدليل الناسخ فقط، وأما المطلق فإننا عندما ضيقنا دائرته بالقيد الذي ورد عليه لم نهمله بالكلية، بل عملنا به في بعض أحواله1، وهذا هو مراد الشارع منه، بخلاف النسخ فقد نسخ مراد الشارع من الحكم.
الناحية الثانية: في أوجه الفرق بين التقييد والنسخ:
يفترق التقييد والنسخ في الأوجه التالية:
1 -
أن النص المطلق لم يرتفع حكمه، وإنما ضاقت دائرته بالقيد الذي ورد عليه، أما المنسوخ فقد رفع حكمه بالدليل الناسخ.
2 -
المطلق ما زال كما هو دليلاً على الحكم مع مراعاة القيد عند العمل.
أما المنسوخ: فلا يمكن أن يعتبر دليلاً بعد نسخه، فالتقييد على هذا وصف للنص المطلق يقلل من مدلوله، والنسخ ليس كذلك؛ لأنه إهدار للدليل المنسوخ، هذا إذا كان النسخ كلياً، أما عند من يرى النسخ الجزئيَّ؛ فلا مانع من أن يكون الحكم المنسوخ بعضه معمولاً به باعتبار البعض الذي لم يدخله النسخ.
1 النسخ بين النفي والإثبات ص: 146-148 د. محمد محمود فرغلي، والنسخ في القرآن د. مصطفى زيد ص:155.
3 -
التقيد مفرد، لأنه وصف للمطلق في المعنى كما سبق، والأصل في الوصف أن يكون بلفظ مفرد، ومن ثم فهو غير مستقل بنفسه عن الموصوف.
أما النسخ: فهو جملة تامة في معناها، لأن من شرطه التأخر عن المنسوخ والاستقلال في المعنى لازم له.
4 -
التقييد يقع بالسابق والمقارن واللاحق الذي لم يتأخر عن وقت العمل عند جمهور الأصوليين.
أما النسخ: فلا يكون إلا باللاحق أي بالمتأخر في نزوله عن المنسوخ، ومذهب الحنفية في التقييد بالمتأخر كالتخصيص به، يعتبرون كليهما نسخاً1، فعلى هذا التقييد وإن كان نسخاً فهو أعم من النسخ المتعارف، من حيث ما يثبت به أو من حيث طريقه.
5 -
التقييد: قد يدخل على الأوامر والأخبار وغيرهما إذا اشتملت على حكم شرعي2.
أما النسخ: فلا يدخل إلا على الأحكام الشرعية، وعليه فالتقييد أعم من حيث المحل.
1 أصول الفقه د. بدران أبو العينين بدران ص: 452، والنسخ لمصطفى زيد 1/160.
2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/198، المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص: 192، والنسخ بين النفي والإثبات د. محمد محمود فرغلي ص: 146-148.
الفصل الأول في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها
أولاً: تقسيم المقيدات:
تقدم لنا معنى التقييد وأنه تحديد شيوع اللفظ المطلق بما يقلل من انتشاره بين أفراد جنسه.
وكلامنا في هذا الفصل في بيان بأي شيء يكون التقييد؟
ونظراً إلى التشابه الموجود بين العام والمطلق، فإن مقيدات المطلق تختلف تبعاً لاختلاف المذاهب في مخصصات العموم، وشروط المخصص ولكنها في الجملة:
1 -
إما أن تكون كلاماً.
2 -
أو غير كلام، ويراد بغير الكلام هنا التخصيص بالعقل والحس 1 ونحوهما.
والمقيدات الكلامية تنقسم إلى قسمين أيضاً:
1 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 145، والمعتمد لأبي الحسين البصري 1/256، ومثال: التخصيص بالعقل قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فقد دل العقل على أن ذاته غير مخلوقه، لافتقار المخلوق إلى الخالق، والله سبحانه وتعالى غني عن العالمين، ومثال التخصيص بالحسن قوله تعالى: حكاية عن بلقيس {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} ، وقد دل الحس والعادة على أن بعض الأشياء لم تؤتها بلقيس مثل الأشياء التي كانت بيد سليمان عليه السلام.
أ - مقيدات متصلة:
وهي ما كانت غير مستقلة بنفسها، بل تابعة للمطلق في تمام الفائدة مثل: التقييد بالشرط والصفة ونحوهما.
ب - ومقيدات منفصلة:
وهي ما كانت مستقلة بنفسها عن اللفظ بتمام الفائدة، وهذا القسم يتنوع إلى نوعين:
1 -
مستقل مقارن للمطلق في نزوله إن كان قرآناً أو في وروده إن كان سنة.
2 -
ومستقل متأخر عن اللفظ المطلق كما سيأتي.
وتقسيم المقيدات إلى متصلة ومنفصلة إنما هو على رأي الجمهور ومنهم الشافعية 1، وخالف في ذلك الحنفية حيث قصروا المقيدات على ما كان منفصلاً مقارناً دون المتصل والمستقل المتأخر؛ فلا يسمى كل منهما مقيداً عند الحنفية.
أما المتصل: فقد منعوا 2 التقييد به لأمرين:
الأول: ما سبق أن شرط المقيد عندهم أن يكون مستقلاً بتمام
1 إرشاد الفحول ص: 145، والمعتمد ص:256.
2 الأحكام للآمدي 2/286، ونهاية السول 2/93، وجمع الجوامع 1/226، وإرشاد الفحول ص:145.
الفائدة عن اللفظ المطلق، والمقيدات المتصلة في نظرهم ليست كذلك؛ لأنها أجزاء من الكلام المتصلة به، لا غنى لها عنه، ولا استقلال لها بدونه 1.
والثاني: أن التقييد عندهم لا بد فيه من معنى المعارضة، والتقييد بالصفة والشرط ونحوهما من المقيدات المتصلة لا يتصور إلا مع القول بمفهوم المخالفة وهم لا يقولون به، كما سلف.
وأما إذا كان الدليل مستقلاً ومتأخراً عن المطلق مدة يصح القول فيها بالنسخ؛ فإنه يكون ناسخاً 2 لا مقيداً عند الحنفية إن تساوى مع المطلق في قوة الثبوت والدلالة.
1 التلويح مع التوضيح 1/42، وفواتح الرحموت 1/316، والنسخ في القرآن د. مصطفى زيد ص:113.
2 تيسير التحرير 1/282، وفصول البدائع 2/50.
ثانياً: أقوال العلماء في المقيدات المتصلة:
سلف أن عرّفنا المقيدات المتصلة بأنها: ما لا يستقل بنفسه عن اللفظ المطلق، بل يكون تابعاً للمطلق في تمام معناه 1.
مثل قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ؛ فإن لفظ مؤمنة غير مستقل في الدلالة؛ لأن دلالتها لا تستفاد بدون اتصالها بالمطلق الموصوف بها.
وكما اختلف الحنفية مع الجمهور في تسميتها مقيدات، اختلف الجمهور أنفسهم في عددها، وفيما يعتبر منها مقيداً للمطلق، ولمعرفة أقوالهم في هذه المسألة نورد أقوالهم في تخصيص العام بها.
وهي ثلاثة أقوال:
الأول: القول بأن المخصصات المتصلة أربعة هي:
1 -
الاستثناء: كقوله - تعالى -: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 2.
2 -
الشرط: كقوله - تعالى -: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ} 3.
1 غاية الوصول للأنصاري ص: 82.
2 سورة العصر الآيات: 1-3.
3 سورة النساء آية: 12.
3 -
الغاية: كقوله - تعالى-: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 1.
4 -
الصفة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة"2.
القول الثاني:
إن المخصصات المتصلة خمسة: وزاد على الأربعة السابقة بدل البعض كقوله - تعالى -: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 3.
وبه قال ابن الحاجب 4 وتابعه السبكي 5.
وقد اعترض على هذا الرأي بأن المبدل منه مستعمل في معنى البدل والمقصود بالحكم إنما هو البدل، ولكن نسب إلى المبدل منه بقصد توطئة النسبة إلى البدل ليفيد فضل توكيد، فعلى هذا ليس بدل البعض من المخصصات 6
1 سورة المائدة آية: 6.
2 الحديث تقدم تخريجه ص:230.
3 سورة آل عمران آية: 97.
4 مختصر ابن الحاجب 2/131.
5 جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/34.
6 فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/345، وتيسير التحرير 1/282.
القول الثالث:
إن المخصصات المتصلة اثنا عشر مخصصاً الخمسة التي تقدمت وسبعة أخرى: 6 - الحال، 7 - وظرف الزمان، 8 - وظرف المكان، 9 - والجار مع المجرور، 10 - والتمييز، 11 - والمفعول معه، 12 - والمفعول لأجله، وبه قال الشوكاني حكاية عن القرافي 1.
هذه خلاصة أقوال العلماء في ما يعتبر من مخصصات العام المتصلة، وحيث إن كل ما ذكر في تخصيص العام جار في تقييد المطلق كما نقلنا ذلك عن أكثر الأصوليين، ومنهم الشوكاني الذي حكى هذه الأقوال وأمر بنقلها إلى باب المطلق والمقيد، فكان معنى كلامه أن تكون هذه الأقوال نفسها جارية على مقيدات المطلق المتصلة، ولكن لما كان للمطلق ميزات وخصائص يختلف بها عن العام، فسوف نعرض لهذه المقيدات مقتصرين على الخمسة الأولى، لأن السبعة الباقية تدخل في الحقيقة تحت الصفة، ومن ثم نرى ما يمكن تقييد المطلق به، وما لا يمكن على ضوء الفروق والميزات التي ذكرناها. في الفرق بين العام والمطلق.
ولكن نبادر إلى القول بأن الاستثناء وبدل البعض لا يمكن أن يكونا
1 إرشاد الفحول ص: 145، ولم أعثر على قول القرافي إنها اثنا عشر، وإنما وجدت في كتابه العقد المنظوم في الخصوص والعموم ص: 182: أنها عشرة ولم يذكر المفعول معه والمفعول لأجله.
من مقيدات المطلق.
1 -
أما الاستثناء؛ فلأنه معيار العموم الذي يختبر به عموم اللفظ، فكل لفظ صح الاستثناء منه مما لا حصر فيه فهو عام وليس بمطلق، وأيضاً فإن حقيقة الاستثناء على القول الراجح إخراج ما لولاه لوجب دخوله في اللفظ المستثنى منه، والمطلق ليس كذلك، لأنه عبارة عن النكرة في سياق الإثبات على قول، وهي غير مستغرقة، وحيث كان إخراج بعض مفهومات اللفظ، فرع العلم باندراجه تحته من حيث الإرادة ولا علم بذلك فيما لا استغراق فيه 1، كان الأصح عدم جواز الاستثناء من النكرة في سياق الإثبات؛ لأنك لو قلت:"أكرم رجالاً إلا زيدا" لم يصح الاستثناء؛ لأن زيداً لم يتعين دخوله في مفهوم لفظ رجال حتى يكون إخراجه منهم تقييداً.
نقول: هذا مع الاعتراف بجواز الاستثناء من النكرة إذا كانت جارية مجرى العموم، مثل: اشتريت عبداً إلا ربعه وداراً إلا سقفها، لكن استثناء ربع العبد وسقف الدار ليس بتقييد للمطلق؛ لأنهما أجزاء من كل والمطلق إنما هو كلي يقيد بجزئيه لا بجزئه 2.
2 -
وكذلك لا يكون بدل البعض مقيداً للمطلق لوجهين:
1 تيسير التحرير 1/310.
2 تنقيح الفصول ص: 27، والتمهيد للأسنوي ص:83.
الأول: أن بدل البعض لا يكون إلا من كل، والمطلق كلي وليس بكل عند بعض العلماء 1.
الثاني: أن يدل البعض في نحو أكلت الرغيف ثلثه هو جزء من كل وتقييد المطلق لا يكون إلا بجزئيه لا بجزئه فلهذا لا يكون بدل البعض من مقيدات المطلق.
1 الفروق للقرافي 172.
3 -
حكم التقييد بالشرط:
الشرط لغة: العلامة.
وسمي ما علق به الجزاء شرطاً؛ لأنه علامة على حصوله 1.
وفي الاصطلاح:
ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته 2.
فالقيد الأول: "ما يلزم من عدمه العدم" احتراز عن المانع، فإنه لا يلزم من عدمه شيء عند الأكثر.
والقيد الثاني: "ولا يلزم من وجوده وجود" احتراز عن السبب، فإنه يلوم من وجوده الوجود.
والقيد الثالث: احتراز عن مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود كالحول مع النصاب، ومقارنة الشرط قيام المانع فيلزم العدم، لكن ذلك ليس لذات الشرط، يل لوجود السبب أو المانع 3.
وإذا كان علماء الأصول قد اصطلحوا على أن الشرط ما يتوقف عليه الشيء، ولا يكون داخلاً في ماهيته ولا مؤثراً فيه، فإن لعلماء النحو
1 الكليات لأبي البقاء 3/64 فصل الشين.
2 تنقيح الفصول ص: 262، جمع الجوامع 2/55.
3 المرجعين السابقين وحاشية البناني على جمع الجوامع 2/55-56.
اصطلاحاً خاصاً في تعريف الشرط اللغوي المقصود بهذا المبحث، حيث يعنون به ما دخل عليه أحد الحرفين "إن" أو "إذا" أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني نحو:"أعتق رقبة إن كانت مؤمنة" فإن تقدير هذا الكلام في اللسان العربي إذا كانت الرقبة مؤمنة فأعتقها، ولازمه إذا لم تكن كذلك فلا تعتقها، فلو أعتق المأمور بهذا الأمر رقبة غير مؤمنة لم يكن ممتثلاً للأمر السابق، ولهذا 1 اعتبر الشرط من مقيدات المطلق عند جميع العلماء.
وقد يشترط في الحكم الواحد شروط متعددة إما على سبيل البدل أو على الجمع 2.
1 -
فمثال ما كان على سبيل البدل: "أعتق رقبة إن كانت مؤمنة أو كاتبة، فأي الشرطين حصل كانت الرقبة مستحقة للإعتاق.
2 -
ومثال ما يكون على الجمع: قولك: "أعتق رقبة إذا كانت مؤمنة وكاتبة"، فلا تستحق الرقبة العتق إلا إذا حصل الأمران جميعاً، فكان الشرط الثاني زيادة قيد، إذ لو اقتصر على الأول لاستحقت الإعتاق بكونها مؤمنة فقط، ولكن بعد ذكر القيد الثاني لا تستحق الإعتاق إذا
1 المعتمد لأبي الحسين 1/259.
2 أي: لأنه بمعنى السبب الجعلي والسبب والمسبب متلازمان.
وانظر المرجحات ص: 398.
كانت مؤمنة ولم تكن كاتبة؛ لأن حصول الإعتاق متوقف على تحقق الشرطين، وهكذا كلما تعدد الشرط.
وإذا ذكرت أشياء متعددة وذكر بعدها شرط فقد اختلف العلماء فيما يعود إليه الشرط.
أ - فذهب الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة إلى أن الشرط يعود إلى الجميع 1.
ب - وحكى الرازي عن بعض الأدباء أن الشرط يختص بالجملة التي تليه، فإن كان متأخراً اختص بالأخيرة وإن كان متقدماً اختص بالجملة الأولى 2.
ومثال ذلك: قولك: "أكرم علماء وأعط شعراء إن أقاموا عندك"، فعند الجمهور الشرط يعود إلى الجميع، فيجب على المأمور إكرام عدد من العلماء وإعطاء عدد آخر من الشعراء، إن أقاموا عند المخاطب.
وعلى الرأي الآخر الذي نقله الرازي عن بعض الأدباء يكون الواجب إكرام عدد من العلماء على الإطلاق بدون شرط الإقامة عند المخاطب، ولا يعطي الشعراء إلا إذا أقاموا عنده.
1 شرح الكوكب المنير للفتوحي ص: 201.
2 المحصول للرازي مخطوط.
والراجح رأي الجمهور عند عدم القرينة، للأمور التالية:
أولاً: أن المراد بالشرط هنا الشرط اللغوي، وهو بمعنى السبب الجعلي والسبب مظنة الحكمة والمصلحة فناسب فيه التعميم، لأن فيه تكثير المصلحة 1.
وثانياً: لأن الشرط وإن كان متأخراً لفظاً فهو متقدم في الرتبة.
وثالثاً: للأسباب التي سنذكرها في عود الصفة إلى الجميع كما سيأتي.
1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 250-265، وإرشاد الفحول ص:153.
4 -
حكم التقييد بالغاية:
الغاية في اللغة مدى الشيء، ومنتهاه وأقصاه 1.
واصطلاحاً: نهاية الشيء المقتضية مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها 2.
ولها لفظان: هما: "حتى" و"إلى" 3، وحكمها في التعدد حكم الشرط.
وتقييد المطلق بها متصور، وذلك إذا كان الإطلاق في جانب الأفعال نحو:"سرحتي الكوفة"، و"نم حتى طلوع الفجر"، و"صلّ إلى منتصف الليل"؛ فإن كل فعل من هذه الأفعال يقدر بمصدره فيكون نكرة في سياق الإثبات وهي حقيقة المطلق، وقد قيد في الأمثلة المذكورة بالغاية.
وهذا على رأي من لا يشترط في الغاية المخصصة تقدم العموم عليها، وأما على مذهب من يشترط ذلك، فلا تكون الغاية عنده من مقيدات المطلق؛ لأن المطلق المتقدم على الغاية لا يدل على الشمول كالعام، وإنما يتناولها بطريق البدل، فإذا كانت الغاية من جزئيات المطلق، صح التقييد بها وإلا بأن كانت جزءاً مثلاً، فلا يصح تقييد الكلي بها، لما سبق أن المطلق يقيد بجزئيه لا بجزئه.
1 مادة (غيا) لسان العرب لابن منظور.
2 إرشاد الفحول ص: 154.
3 المرجع السابق، وجمع الجوامع 2/58.
5 -
حكم التقييد بالصفة:
يقصد بالصفة هنا الصفة المعنوية، وهي: مطلق القيد غير الشرط والغاية والعدد، ولا يقتصر بها على النعت النحوي الذي:"هو التابع المكمل لمتبوعه ببيان صفة من صفاته أو صفات ما تعلق به" 1، بل يعني بها الأصوليون معنى أعم من ذلك يتناوله وغيره، وهو كما قلنا: مطلق القيد الآنف الذكر سواء كان نعتاً نحوياً أو لم يكن 2.
ومثال المطلق الذي قيد بالصفة قولك: "أعتق رقبة"؛ فإن الرقبة مطلقة أي شائعة في جنس الرقاب تتناولها على سبيل البدل، فيجزئ المأمور إعتاق أي رقبة سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن إذا قيدت الرقبة بوصف الإيمان فقيل:"أعتق رقبة مؤمنة"؛ فإن وصفها بالإيمان يحد من انتشارها، فيجب اعتباره عند إرادة العتق، بحيث لا يجزئ المأمور إلا إعتاق رقبة مؤمنة، وهكذا كلما زادت صفة زاد التقييد وضاقت دائرة المطلق.
ولا خلاف بين العلماء في جواز قصر شيوع المطلق بالصفة، وإنما الخلاف جار بينهم فيما تعود إليه الصفة المذكورة بعد شيئين فصاعداً عطف أحدهما على الآخر بالواو، ولم تكن هناك قرينة تعين ما تعود إليه
1 شرح ابن عقيل 2/191، ط مصطفى محمد.
2 إرشاد الفحول ص: 153.
الصفة أيجوز أن تعود إلى جميع ما قبلها أم تختص بما يليها فقط؟
1 -
ذهب الحنفية إلى أنها تعود إلى الأخير 1.
2 -
وذهب الجمهور ومنهم الشافعية والمالكية والحنابلة إلى أنها تعود إلى الجميع 2.
3 -
وذهب جماعة من الأصوليين إلى التوقف، إلا أن منهم من توقف للاشتراك كالمرتضى 3 من المعتزلة، ومنهم من توقف لعدم العلم بمدلوله في اللغة كالقاضي من المالكية والغزالي من الشافعية 4.
قال العضد 5 بعد أن ذكر القول بالاشتراك والقول بالتوقف لعدم
1 التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة 2/30، ومسلم الثبوت 1/332.
2 تنقيح الفصول للقرافي ص: 249، والأحكام للآمدي 2/300، وشرح الكوكب المنير 1/193.
3 هو: الشريف المرتضى علي بن الحسين أديب متكلم، ولد ومات ببغداد وتولى نقابة الطالبيين، وكان إمامياً معتزلياً متبحراً في الكلام والفقه والحديث، وله عدة مؤلفات من أشهرها أماليه المسماة: درر القلائد وغرر الفوائد. الأعلام 5/89.
4 المستصفى للغزالي 2/177، والأحكام للآمدي 2/301، وتنقيح الفصول ص: 249، ونهاية السول 2/106.
5 العضد هو: عبد الرحمن بن أحمد الإيجي الملقب بعضد الدين الشافعي الأصولي، ولد بإيج بلدة من أعمال شيراز بفارس، وبها نشأ وتعلم، وكان من تلاميذه التفتازاني مات رحمه الله محبوساً سنة 756هـ، من أشهر مؤلفاته: شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول والمواقف في أصول الدين.
معرفة مدلوله في اللغة: "وهذان القولان موافقان لقول الحنفية، وإن خالفاه في المأخذ" 1، ومعنى ذلك: أن من توقف للاشتراك ومن قال بالتوقف لعدم معرفة مدلوله في اللغة موافقان لمذهب الحنفية في أن الصفة إنما تعود إلى الأخيرة خاصة لظهور تناولها للأخيرة عند الحنفية، وعدم العلم بعودها إلى ما قبل الأخيرة عند غيرهم، فيلزم عودها إلى الأخيرة ضرورة عدم استقلالها 2.
أدلة المذاهب:
أولاً: أدلة من قال بالتوقف.
الذي قال بالتوقف إما أنه توقف للاشتراك، أو لعدم العلم بمدلوله لغة، واستدل من قال بالتوقف للاشتراك بما يلي:
1 -
قالوا: إنه يحسن الاستفهام عن عود الصفة إلى ما يليها أو إلى الجميع ولو كان عودها إلى ما يليها أو إلى الجميع حقيقة في أحد هذه المحامل دون غيره لما حسن الاستفهام وذلك يدل على الاشتراك 3.
والجواب أن حسن الاستفهام لا يدل على الاشتراك؛ لجواز أن يكون الاستفهام لدفع احتمال بعيد أو للحصول على اليقين وهذا يكفي
1 شرح العضد وحاشية السعد 2/139.
2 المرجع السابق 2/139.
3 الأحكام للآمدي 2/307، وشرح تنقيح الفصول ص:251.
في جواز الاستفهام 1.
2 -
واستدلوا أيضاً:
بصحة إطلاق الصفة وإرادة عودها إلى الأخير أو الجميع أو إلى البعض دون البعض بإجماع أهل اللغة، والأصل في الإطلاق الحقيقة. والمعاني مختلفة وذلك هو الاشتراك 2.
والجواب عن ذلك أن يقال: إن الأصل عدم الاشتراك، وما ورد فيه عود الصفة إلى معين إنما كان لدليل، والعطف هنا قرينة تدل على عود الصفة إلى الجميع حيث لم يمنع من ذلك مانع، فيجب القول بعود الصفة إلى الجميع للقرينة المذكورة 3.
3 -
واستدلوا ثالثاً:
بأن الصفة لا تستقل بنفسها فكان احتمال عودها إلى الجميع أو الأخير متساوياً وهذا هو الاشتراك، فيجب التوقف حتى يقوم دليل يعين ما تعود إليه الصفة.
والجواب عن ذلك منع المساواة في عودها إلى الأخير أو الجميع، لأن الواو العاطفة قرينة مرجحة لعودها إلى الجميع.
1 المرجعين السابقين.
2 الأحكام للآمدي 307، وشرح تنقيح الفصول ص:252.
3 المرجعين السابقين.
واحتج من قال بالتوقف لعدم العلم بمدلوله في اللغة بالدليل التالي، حيث قال: إن الصفة وردت عائدة إلى كل ما تقدم عليها وإلى ما يليها خاصة. ولا يعلم أيهما الحقيقة وأيهما المجاز، فنتوقف في الحكم بعودها إلى الجميع أو الأخيرة خاصة حتى يقوم الدليل الذي يعين عود الصفة 1.
ويجاب عن هذا الدليل بأن عود الصفة إلى بعض ما تقدم عليها تارة، وإلى الجميع تارة أخرى، لا يلزم منه الاشتراك ولا المجاز، بل هذه حالات مختلفة تبعاً لسياق الكلام وما يشتمل عليه من قرائن 2، والعطف هنا قرينة على العود إلى الجميع حيث لم يمنع من ذلك مانع.
ثانياً: أدلة الحنفية:
استدل الحنفية على أن الصفة تعود إلى ما يليها خاصة بعدة أدلة منها:
1 -
قالوا: إن الصفة لا تستقل بنفسها في إفادة الحكم، ولهذا وجب تعليقها بغيرها ضرورة، وحيث إنه لا خلاف في عودها إلى ما يليها فتعلق به، وبهذا القدر تندفع الضرورة، فيكتفي بذلك، ولا تتعلق بغيره، لأن الضرورة تقدر بقدرها 3.
1 إرشاد الفحول ص: 151، وشرح البدخشي على المنهاج 2/204-206، ومسلم الثبوت 1/339، والعدة لأبي يعلى 2/683، وأثر القواعد الأصولية للدكتور مصطفى الخن ص: 337، وحاشية السعد على العضد 2/139-140.
2 العقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي ص: 215.
3 التوضيح على التنقيح 2/30، والمعتمد 1/269.
والجواب عن ذلك أننا لا نسلم أن الصفة لا تعود إلا إلى القدر الذي تستقل به في الإفادة، بل الصفة إذا وردت بعد شيء واحد عادت إليه، وإن وردت بعد متعدد عادت إلى الجميع، ولا تقيد بالأخير كما لو دل الدليل على عودها إلى الجميع؛ فإنها تعود إليه إجماعاً، ومع جواز عودها لا يتم ما ذكرتم 1 كما أن هذا الاستدلال منقوض بالشرط والاستثناء بالمشيئة؛ فإن كلا منهما غير مستقل بنفسه، ومع ذلك تعلق بجميع ما تقدمه حتى عند الحنفية فلتكن الصفة كذلك والجامع بينهما عدم الاستقلال في المعنى.
2 -
واستدلوا أيضاً:
فقالوا: إن الكلام الأول مطلق، والأصل أن يبقى على إطلاقه، حتى يقوم دليل على تقييده، وحيث لا يوجد دليل في مسألتنا على عود الصفة إليه فيبقى على إطلاقه 2.
وجواب ذلك أن العطف بالواو ظاهر في عود الصفة إلى الجميع، لأنه يجعل المتعدد في حكم الشيء الواحد فهو قرينة قوية على عود الصفة إلى الجميع.
1 المستصفى للغزالي 1/269.
2 المعتمد 1/269، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/304.
3 -
ومن أدلتهم:
أن المطلق الأخير حائل بين الصفة والمطلق الأول، فيكون مانعاً من العود إليه 1، وجواب ذلك أنهما مع العطف كالشيء الواحد فلا يتم ما ذكرتم.
ثم هو منقوض بالشرط، إذ لا فرق بينهما، والشرط يعود إلى الجميع اتفاقاً 2.
ثالثاً: أدلة القائلين بعود الصفة إلى الجميع:
استدل جمهور الأصوليين على عود الصفة إلى جميع ما تقدمها عند عدم القرينة المانعة بعدة أدلة منها:
1 -
قالوا: إن العطف يجعل المتعدد كالشيء الواحد، وما دام أن الصفة بعد الواحد تعود إليه بالاتفاق، فكذلك يكون الحكم في المتعدد؛ لأنه بعد العطف لا فرق بينهما 3.
2 -
قالوا: إن الشرط يعود إلى الجميع، فكذلك الصفة 4، لاشتراكهما في عدم الاستقلال بالمعنى.
1 فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/333، وتيسير التحرير 1/304.
2 الأحكام للآمدي 2/305، ومختصر ابن الحاجب 2/148.
3 المعتمد 1/267، والأحكام للآمدي 2/301.
4 الأحكام للآمدي 2/302، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي ص:193.
3 -
قالوا: إن تكرار الصفة بعد كل واحد من الموصوفات مستهجن لغة، وتجنباً لذلك اكتفى بذكرها بعد الأخير لوجود ما يرجح ذلك.
وهو أن المتكلم إذا أراد أن يعيد الصفة إلى الجميع لم يكن أمامه إلا طريقان:
الأول: أن يكرر الصفة عقب كل موصوف وهذا مستهجن لغة.
الثاني: أن يذكر الصفة بعد الموصوف الأخير، فإذا كان غرضه منها أن تعود إلى الجميع ولم نجوز له ذلك لم يبق أمامه طريق لعود الصفة إلى الجميع، فكان ذكرها بعد الأخير متعيناً، وهذا مرجح آخر بجانب العطف لعود الصفة إلى الجميع.
ومن أدلتهم أيضاً:
أن الصفة صالحة إلى أن تعود إلى كل واحد من الموصوفات، وليس بعضها أولى من بعض كما هو "الفرض" فوجب عودها إلى الجميع لعدم المرجح 1.
الراجح:
بعد عرض أقوال العلماء وأدلتهم في هذه المسألة، وبناء على المناقشة السابقة، يظهر أن ما ذهب إليه الجمهور من عود الصفة إلى جميع ما تقدم
1 الأحكام للآمدي 2/302.
عليها حيث لم يمنع من ذلك مانع هو القول المختار.
وأما ما بقي من المخصصات المتصلة، وهي السبعة التي ذكرها الشوكاني وغيره، فقد تقدم أنها داخلة تحت الصفة؛ لأن المراد منها الصفة المعنوية فتأخذ حكم الصفة الذي تقدم الكلام عليه بالتفصيل.
وتقييد المطلق بها هو القول الراجح، إلا الحال فإن عليه ملاحظة نذكرها بعد التمثيل لهذه المقيدات.
وحيث سبق التمثيل لظرفي الزمان والمكان، والجار والمجرور في مبحث دخول الإطلاق والتقييد على الأفعال، فنكتفي هنا بالتمثيل لتقييد المطلق بالمفعول به، والمفعول لأجله، والتمييز.
1 -
فمثال: تقييد المطلق بالمفعول له والمفعول معه:
قولك: "أعطه إكراماً واكسه وزيداً" فقد قيد الفعل في الجملة الأولى بكون للإكرام، وقيدت الكسوة في الجملة الثانية بمعية زيد وصحبته، فإن الواو هنا للمعية وليست عاطفة، وذلك جائز إذا كان الإطلاق في جانب الأفعال، لأن المفعول له معناه التصريح العلة التي لأجلها وقع الفعل، والمفعول معه، معناه تقييد الفعل بتلك المعية.
2 -
ومثال تقييد المطلق بالتمييز:
قولك عندي له رطل ذهباً: فالتمييز في هذا المثال هو لفظ "ذهباًَ" وقد جاء مقيداً للمطلق، وهو "رطل"؛ لأنه قبل التمييز كان صالحاً لكل ما يوزن وبعد التمييز أصبح الرطل مقيداً بكونه ذهباً، ومن أمثلة ذلك
أيضاً بيت ابن مالك في ألفيته حيث يقول:
كشبرٍ أرضا وقفيز بُرا
…
ومَنَويَن عسلاً وتمرا
فقد ذكر في هذا النظم ألفاظاً مطلقة هي: شبر قفيز، منوين، ثم قيدها بالتمييز فقال:"كشبر أرضاً""وقفيز بُرا، ومنوين عسلا وتمرا" وإذا جاء التمييز عقب متعدد، فإنه يعود إلى الجميع 1 كما يشير إلى ذلك كلام البيضاوي في المنهاج 2.
وأما حكم التقييد بالحال:
فهو متوقف على صاحب الحال؛ لأن الحال لا تقيد إلا صاحبها، والمطلق عبارة عن النكرة في سياق الإثبات عند بعضهم، والنحويون مختلفون في مجيء الحال من النكرة، إلا أن الراجح جواز ذلك بمسوغ 3.
والمسوغات كثيرة منها: أن يكون صاحب الحال موصوفاً، ومنها تقدم الجار والمجرور على صاحب الحال نحو:"في الدار جالساً رجل"، فصاحب الحال في هذا المثال لفظ "رجل" وقد تقدم الخبر، وهو جار ومجرور "في الدار" وجاء منه الحال وهو لفظ "جالسا" وعلى ذلك يجوز تقيد المطلق بالحال إذا كان صاحبها نكرة.
1 التمهيد للأسنوي ص: 113، وإرشاد الفحول ص:155.
2 المنهاج للبيضاوي 2/105.
3 أوضح المسالك على ألفية ابن مالك 2/87-88.
وأما إذا كان صاحب الحال معرفة فلا نقيده حينئذ بالحال، لأنه ليس مطلقاً 1.
1 المرجع السابق.