الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما
الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد
المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة
…
التمهيد: تقسيم اللفظ الخاص باعتبار الحالة الملابسة له إلى المطلق والمقيد
في بداية الكلام على أنواع الخاص أشرنا إلى أن من أنواعه باعتبار الحالة الملابسة له المطلق والمقيد1، ووعدنا ببسط الكلام عليهما؛ لأنهما موضوع الرسالة، وقد آن الأوان للوفاء بالوعد فنقول:
من خلال استقراء النصوص في الكتاب والسنة تبين للباحثين عن استنباط الأحكام الشرعية، أن اللفظ قد يرد خالياً عن أي قيد لفظي،
1 اختلفت وجهات نظر العلماء إلى المطلق والمقيد، هل هما قسمان للفظ الموضوع؟ أو هما قسمان للخاص أو أن المطلق من العام والمقيد من الخاص؟
أ- فذهب جمهور الأصوليين إلى أنهما من أنواع الخاص، وهؤلاء نظروا إلى المعنى الذي وضع له اللفظ، وإلى المعنى الخاص للإطلاق والتقييد، وهو ما جرينا عليه.
ب- وذهب فريق آخر إلى أن المطلق والمقيد قسمان للفظ الموضوع باعتبار الحالة الملابسة له، وهذا الفريق نظر إلى الإطلاق والتقييد بالمعنى العام كما سيأتي.
جـ- وذهب فريق ثالث إلى التفصيل:
1-
فجعل المطلق من أنواع العام، لما فيه من العموم البدلي.
2-
والمقيد من الخاص لقطعية دلالته لما وضع له.
انظر: مرآة الأصول ص: 340-347.
فيكون مدلوله شائعاً بين أفراده، لأنه وضع للمعنى المشترك بين أفراد الحقيقة الواحدة من حيث هو - بقطع النظر عن اعتبار الوحدة، أو الجمع أو الوصف في مفهومه الوضعي، فيسمى حينئذ مطلقاً.
وقد يرد مقيداً بوصف أو شرط أو نحوهما، فيكون مدلوله محدود الشيوع قاصراً على بعض الأفراد التي كان يتناولها بطريق البدل، فيسمى عندئذ مقيداً.
كما تبين من خلال المقارنة لموارد النصوص التي يكون فيها لفظ مطلق وآخر مقيد، أنه قد يكون بينهما شيء من اللقاء في سبب الحكم، أو في الحكم نفسه، أو فيهما معاً، مما يقتضي وجود قواعد وضوابط تنظم العلاقة بين المطلق والمقيد وتبين مدى تأثير أحدهما على الآخر.
وحينما عمد المجتهدون إلى ارساء هذه القواعد، اختلفوا في بعضها وسوف نورد - بعد التعريف بماهية المطلق والمقيد، ودلالتهما وبيان الأحوال التي تعرض لهما، والشروط التي اشترطها من يقول بحمل المطلق على المقيد - أهم القواعد التي اختلف فيها علماء الأصول في هذا الباب، ثم نتبع ذلك ببعض الأمثلة التي توضح أثر الاختلاف في تلك القواعد على الفروع الفقهية.
المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة
المطلق في اللغة: اسم مفعول، مأخوذ من مادة يدور معناها في وجوه تصاريفها المختلفة على معنى الانفكاك والتخلية1.
يقال: أطلق الأسير إذا خلى سبيله، وأطلق الطير إذا فتح قفصه وأطلق القوم مواشيهم إذا سرحوها وأرسلوها إلى المرعى، وأطلق يده بخير فتحها به، وأطلق الرجل امرأته وطلقها بمعنى خلاها من قيد الزواج، وأطلق الرجل البلاد فارقها، وأطلق المتكلم في كلامه أي عمّ ولم يقيد.
والمطلق في الألفاظ ضد المقيد، ومن الخيل ما لا تحجيل في إحدى قوائمه، لكن هذا المعنى أعني (الانفكاك والتخلية) يكثر استعماله في الأجسام المحسوسة مما جعل بعض العلماء يقول: إن الإطلاق والتقييد في الألفاظ مستعاران من المحسوسات، يقال: رجل أو حيوان مطلق؛ إذا خلا من قيد، ومقيد إذا كان في رجله قيد ونحوه من موانع الحركة الاختيارية التي ينتشر بها بين أفراد جنسه، فإذا ورد في ألفاظ الشارع لفظ مطلق، مثل (أعتق رقبة) كانت هذه الرقبة شائعة في جنسها شيوع الحيوان المطلق
1 ترتيب القاموس المحيط 3/90-92، ومختار الصحاح للشيخ محمد أبي بكر الرازي ص:396 وأقرب الموارد في فصح العربية والشوارد ص 713، والمصباح المنير للفيومي ص:376.
بحركته الاختيارية يتحرك إلى أي جهة شاء.
وإذا قال الشارع: (أعتق رقبة مؤمنة) كانت هذه الصفة وهي مؤمنة بالنسبة للرقبة كالقيد المانع للحيوان من الحركة الاختيارية1.
وبناء على ذلك تكون نسبة الإطلاق والتقييد إلى اللفظ بحسب ما له من دلالة على المعنى، أي: أنهما وصفان للفظ باعتبار المعنى.
والظاهر أنه ليس للأصوليين اصطلاح خاص في المطلق والمقيد بعيد عن المعنى اللغوي، بل هما مستعملان بما لهما من معنى في اللغة.
لأن المطلق مأخوذ من الإطلاق، وهو الإرسال والشيوع، ويقابله التقييد2، قال ابن فارس3 في كتابه (الصاحبي) تحت عنوان (الخطاب المطلق والمقيد) :
(أما الإطلاق: فأن يذكر الشيء باسمه لا يقرن به وصف، ولا شرط، ولا زمان ولا عدد، ولا شيء مما يشبه ذلك.
والتقييد: أن يذكر بقرين من بعض ما ذكرناه، فيكون ذلك القرين
1 روضة الناظر مع شرحها لبدران 2/191 ط المطلبعة السلفية بمصر 1342هـ.
2 أصول الفقه للشيخ رضا المظفر ص: 171 ط 3 طبع بمطابع دار النعمان.
3 ابن فارس هو: أبو الحسين أحمد بن فارس القزويني أحد أئمة اللغة في القرن الرابع ولد سنة 329هـ، وله عدة مصنفات منها (مقاييس اللغة في 6 أجزاء والصاحبي في فقه اللغة ألفه لخزانة الصاحب بن عباد، توفي في الري سنة 395هـ.
انظر: الأعلام 1/184، ط 3/ 1398، ومقدمة الصاحبي للمؤلف.
زائداً في المعنى1.
وضابط ذلك كما يقول القرافي2:
(أن تقتصر على مسمى اللفظة المفردة نحو: (رقبة) - إنسان - حيوان ونحو ذلك من الألفاظ المفردة فهذه كلها مطلقات، ومتى زدت على مدلول اللفظة المفردة مدلولاً آخر، بلفظ أو بغير لفظ، صار اللفظ مقيداً كقولك:(رقبة مؤمنة) ورجل صالح، وحيوان ناطق.
وتلك المطلقات السابقة هي في أنفسها مقيدات إذا أخذت مسمياتها بالنسبة إلى ألفاظ أخر، فإن الرقبة هي إنسان مملوك، وهذا مقيد، والإنسان حيوان ناطق، وهذا مقيد، والحيوان جسم حساس، وهذا مقيد أيضاً، فصار التقييد والإطلاق أمرين نسبين، غاية الأمر أن إظلاق كل شيء بحسبه وما يليق به فرب مطلق مقيد ورب مقيد مطلق3.
1 الصاحبي لابن فارس ص: 164م السعيد سنة 1328هـ القاهرة الناشر المكتبة السلفية.
2 القرافي: هو شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي الصنهاجي، المصري المالكي، كان إماماً عالماً بارعاً في الفقه والأصول، والتفسير. وله عدة مؤلفات منها:(تنقيح الفصول وشرحه في أصول الفقه، والعقد المنظوم في خصوص والعموم مخطوط، والفروق) توفي رحمه الله سنة 684 بمصر.
انظر: الأعلام 1/90، وطبقات الأصوليين 2/86-87، وشجرة النور الزكية ص: 188 رقم الترجمة 627.
3 تنقيح الفصول ص: 266.