الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد
المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة
…
أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد
من يستقصي أقوال العلماء ومناقشاتهم في باب حمل المطلق على المقيد يتبين له أن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في حكم حمل المطلق على المقيَّد في بعض الصور كثيرة.
فهي من ناحية تعود إلى اختلاف الجمهور مع الحنفية في معنى حمل المطلق على المقيد، ومن ناحية أخرى ترجع إلى الاختلاف في دلالة المطلق، ومدى تعارضها مع دلالة المقيد، بالإضافة إلى الخلاف في كيفية دفع التعارض بين الأدلة، وشروط تحقق ذلك التعارض.
وحيث سبقت الإشارة إلى هذه الأسباب إجمالاً، نكتفي بالكلام هنا على سببين أفردهما الأصوليون بالبحث باعتبار أنهما من أهم الأسباب التي أدت إلى الخلاف في هذا الباب، وسيكون كلامنا عنهما في مطلبين:
الأول: في اختلاف العلماء في حجية المفهوم المخالف.
الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص.
المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة
حتى يكون مفهوم المخالفة واضحاً أمامنا، لا بد من الإشارة إلى كيفية دلالة اللفظ على المعنى، ذلك أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها، وهي في دلالتها على تلك المعاني تختلف؛ فتارة تدل على المعنى من جهة النطق تصريحاً، وتارة أخرى تدل عليه من جهة النطق تلويحاً1.
فاصطلح على تسمية دلالة اللفظ على المعنى من جهة النطق تصريحاً بالمنطوق، وعلى تسمية دلالته على المعنى من جهة النطق تلويحاً بالمفهوم: وهذه الطريقة أعني (تقسيم الدلالة إلى منطوق ومفهوم) ، قال بها ابن الحاجب وغيره من محققي الشافعية، وعرفوا المنطوق: بأنه ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: أنه المعنى المستفاد من اللفظ من حيث النطق به2.
1 مسلم الثبوت 1/413، وشرح الكوكب المنير ص: 238، وتسهيل الوصول للمحلاوي ص: 117 ط الحلبي، وسلم الوصول بشرح نهاية السول للشيخ بخيت المطيعي 2/168، وأصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي ص: 125-126، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص: 464-465، وإرشاد الفحول ص:178.
2 حاشية البناني على جمع الجوامع 1/240، ومختصر ابن الحاجب 2/171-172، وتيسير التحرير لأمير الحاج 1/192، وإرشاد الفحول ص:178.
ومثاله: وجوب الزكاة في الغنم السائمة، الذي دل عليه حديث "في سائمة الغنم الزكاة"1، فإن دلالة هذا الحديث على وجوب الزكاة في الغنم السائمة قد استفيدت من منطوق الحديث أي: لفظه.
وأما المفهوم: فهو اسم مفعول مأخوذ من الفهم، وهو في الأصل اسم لكل ما فهم سواء أكان من النطق أم غيره.
وفي الاصطلاح: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق2، ومعنى ذلك أن المفهوم دلالة اللفظ على حكم شيء لم يذكره المتكلم في كلامه ولم ينطق به3، والتعبير بـ (لا في محل النطق) يشار به إلى أن الدلالة في المفهوم انتقالية؛ لأن الذهن ينتقل من تحريم التأفيف مثلاً: إلى تحريم الضرب بطريق التنبيه بالأول على الثاني، وسمي مفهوماً نظراً لكونه مجرداً عن اللفظ، وإلا فما دل عليه المنطوق يسمى مفهوماً أيضاًَ؛ لأن المعنى لا
1 قال الألباني: بعد سوقه له من الدليل بعنوان (حديث الصديق مرفوعاً) ، "وفي الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة".
صحيح، أخرجه: أبو داود 2/99، رقم الحديث 1570، والبيهقي 4/86، وأحمد 1/11-12، عن حماد بن سلمة بلفظ:"وفي صدقة الغنم عن سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة". المكتب الإسلامي. ونيل الأوطار 4/141 ط الأخيرة مصطفى البابي الحلبي.
2 حاشية البناني 1/240، وإرشاد الفحول ص:178.
3 روضة الناظر لابن قدامة ص: 139.
ينطبق به، وإنما ينطبق بالدال عليه، ولكن لما كان المعنى في المنطوق مستنداً إلى لفظ مذكور في الكلام سمي منطوقاً، وغيره مفهوماً، وإن كانت استفادته قد جاءت بواسطة اللفظ، ثم إن الحكم الذي يستفاد من طريق المفهوم قد يكون موافقاً للحكم المنطوق به وقد يكون مخالفاً له.
فالأول مفهوم موافقة.
والثاني مفهوم مخالفة.
فمفهوم الموافقة: حيث يكون الحكم المسكوت عنه موافقاً للمنطوق، ويسمى فحوى الخطاب ولحنه، سواء كان الحكم المسكوت عنه أولى من حكم المنطوق به أو مساوياً له.
فالأول: وهو ما كان حكم المسكوت عنه أولى من المنطوق به مثل: دلالة تحريم التأفيف في قوله - تعالى -: {فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} 1 على تحريم الضرب؛ إذ إنه أشد من التأفيف فكان النهي عنه أولى.
والثاني وهو ما كان مساوياً للحكم المنطوق به مثاله: دلالة تحريم أكل مال اليتيم المستفاد من قوله - تعالى -: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 2 على تحريم إحراق مال
1 سورة الإسراء آية: 23.
2 سورة النساء آية: 10.
اليتيم بطريق المفهوم؛ لأن الإحراق مساوٍ للأكل في إتلاف المال، ومن الأصوليين من يفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب، فيجعل الفحوى لما كان المسكوت عنه أولى من المنطوق، ولحن الخطاب لما كان المسكوت فيه مساوياً للمنطوق؛ ولكن عامة الأصوليين على عدم التفرقة.
ولا خلاف بين العلماء في أن كلاً من المنطوق ومفهوم الموافقة حجة صالحة لإثبات الأحكام الشرعية؛ وإنما يظهر التفاوت بين المنطوق ومفهوم الموافقة عند التعارض، حيث يقدم ما يدل بالمنطوق الصريح1، على ما يدل بالمنطوق غير الصريح2، ويقدم مفهوم الموافقة على مفهوم
1 المنطوق الصريح: ما كانت دلالة اللفظ فيه على المعنى الموضوع له، بالمطابقة أو التضمن، ويسمى عند الحنفية (عبارة النص) .
2 المنطوق غير الصريح: هو دلالة اللفظ على معنى لم يوضع له اللفظ؛ ولكن لازم للمعنى الموضوع، فيدل عليه اللفظ بواسطة الالتزام، وقد قسمت دلالة الالتزام إلى ثلاثة أنواع: اقتضاء، وإشارة، وإيماء وتنبيه.
1-
فدلالة الاقتضاء: هي دلالة اللفظ على معنى مقصود للمتكلم تتوقف عليه استقامة اللفظ، أو صحته العقلية أو الشرعية.
انظر مختصر ابن الحاجب 2/172، وجمع الجوامع 2/20، وتسهيل الوصول للمحلاوي ص: 103، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص: 176 شرح على روضة الناظر.
فمثال ما تتوقف عليه استقامة اللفظ حديث " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان"، فذات الخطأ والنسيان لم يرتفعا، بدليل وقوعهما من الأمة؛ فلا بد من تقدير محذوف تتوقف عليه استقامة اللفظ، وهو المؤاخذة أو الإثم، تقديران عند العلماء مبناهما عموم المقتضى وعدم عمومه، والذي ترجحه الأدلة الأول، أي: عموم المقتضى، والحديث رواه ابن ماجه بلفظ:"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وقال عنه الألباني في إرواء الغليل صحيح 1/123.
ومثال ما تتوقف عليه الصحة العقلية قوله -تعالى-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} والمراد أهلها، لأن السؤال يوجه إلى من يتصور منه البيان وهم العقلاء، وأما الأبنية فسؤالها لا يتصور عقلاً.
ومثال ما تتوقف عليه الصحة الشرعية: قولك "اعتق عبدك عني بألف"؛ فإن صحة هذا الكلام شرعاً تتوقف على تقدير "بع عبدك لي بألف وأعتقه عني؛ لأن الإنسان ممنوع من التصرف في مال غيره، إلا بعد أن يتملكه، فاقتضت صحة الكلام شرعاً هذا التقدير.
2-
ودلالة الإشارة هي دلالة اللفظ على معنى غير مقصود للمتكلم، ولكنه لازم للمقصود، مثل: دلالة قوله -تعالى-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} على صحة صوم من أصبح جنباً؛ فإن من ضرورة إباحة الجماع في جميع أجزاء الليلة حتى الجزء المتصل بالفجر الإصباح جنباً، ذلك أ، الاغتسال من الجنابة يحتاج إلى وقت ولم يحدد له زمناً من الليل في هذه الآية الكريمة، فلم يبق إلا جوازه في غيره وهو النهار، والنهار محل للصيام، فذل ذلك على اجتماع الجنابة والصوم في وقت واحد، وجواز اجتماعهما في وقت واحد دليل على عدم التنافي بينهما.
تسهيل الوصول ص: 107.
3-
دلالة الإيماء والتنبيه: هي أن يرد وصف مقترناً بحكم في نص من نصوص الشرع على وجه لو لم يكن ذلك الوصف مفيداً للتعليل لكان الكلام معيباً أو بعيداً.
ومثالها: قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم "واقعت أهلي وأنا صائم"، فقال الرسول:"أعتق رقبة"، فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق؛ لأن السؤال معاد في الجواب فكأنه قال له:((إذا واقعت أهلك وأنت صائم، فكفر بإعتاق رقبة)) .
تيسير التحرير 4/44، والأحكام للآمدي 3/41، والتوضيح 2/61، وأصول مذهب الإمام أحمد ص: 126، والمناهج الأصولية ص: 467، وروضة الناظر مع شرحها للشنقيطي ص:236.
المخالفة عند القائلين بحجية مفهوم المخالفة، كما سيأتي بيان ذلك، ولكن وقع الخلاف بين الجمهور والحنفية في المفهوم المخالف هل هو حجة لإثبات الحكم أو لا؟
ولعلاقة هذه المسألة بالخلاف في حمل المطلق على المقيد سوف أتناولها بالبحث في النقاط التالية، وسيتبين لنا من اختلافهم في حجية مفهوم المخالفة، اختلافهم بالتالي في حمل المطلق على المقيد أو عدم حمله عليه في الصور المتنازع فيها؛ فالذي يرى أن مفهوم القيد حجة جعله سبباً للحمل، ومن لا يرى حجية المفهوم نفي السببية التي أوجبت الحمل عند غيره.
نقاط البحث في مفهوم المخالفة:
1 -
تعريفه.
2 -
مذاهب العلماء في حكم الاحتجاج به.
3 -
شرط حجيته عند القائل بها.
4 -
الفرق بين القيد والعلة.
5 -
أثر الخلاف.
أولاً: تعريف مفهوم المخالفة
من تعريف مفهوم الموافقة السابق تتضح حقيقة مفهوم المخالفة، وأنه ما كان الحكم المسكوت عنه مخالفاً للحكم المنطوق به، ويسمى أيضاً دليل الخطاب؛ لأن الدلالة على الحكم المخالف تحصل باعتبارات موجودة في الخطاب نفسه، كالوصف والشرط والغاية وغيرها من القيود التي لها مفهوم مخالف، وبناء على ذلك يمكن تعريفه في اصطلاح القائلين بحجيته.
بأنه: دلالة اللفظ على ثبوت نقيض الحكم المنطوق به لانتفاء قيد معتبر في تشريعه1.
ومثال ذلك: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "في الغنم السائمة زكاة"2؛ فهذا الحديث عند من يقول بالمفهوم المخالف يدل على حكمين:
الأول: وجوب الزكاة في الغنم السائمة، وهذا الحكم منطوق به في الحديث صراحة.
الثاني: عدم إيجاب الزكاة في الغنم غير السائمة، وهذا الحكم على نقيض من الحكم الأول، كما ترى بدل عليه التقييد بوصف السوم، فمن
1 أصول الفقه للأستاذ أبي زهرة ص: 117، وتفسير النصوص أديب صالح 1/665، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص:403.
2 تقدم تخريج هذا الحديث ص:230
حيث إن استفادة هذا الحكم لم تستند إلى لفظ منطوق به في الكلام سمي مفهوماً؛ ومن حيث إنه كان مخالفاً للحكم المنطوق به سمي مخالفاً فقيل: مفهوم المخالفة أو المفهوم المخالف.
ولكن من لا يرى حجية مفهوم المخالفة يقول: إن عدم إيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة لم يتعين منشؤه؛ فلا يدرى أهو دلالة التقييد بوصف السوم أم للعدم الأصلي؟ الذي هو براءة الذمة من التكاليف حتى يدل دليل على انشغالها؟
ذلك أننا قد وجدنا بالاستقراء لجزئيات كثيرة وردت بها نصوص شرعية مقيد حكم كل منها بقيد، وثبت انتفاء حكم الواقعة المنصوص عليه عند انتفاء القيد، وكان ذلك الانتفاء موافقاً للعدم الأصلي1، ومن
1 فكل من مفهوم المخالفة والعدم الأصلي متفق من حيث النتيجة العملية، وهي عدم إيجاب الزكاة في الغنم غير السائمة.
قال صاحب التيسير مع شرح التحرير: " لا يمنع من نفي الحنفية للمفهوم موافقة أصحابنا للشافعية في غالب الأحكام التي أخذها الشافعية من مفهوم المخالفة؛ لأن أصحابنا استندوا في هذه الأحكام لغير مفهوم المخالفة، وهو إما استصحاب العدم الأصلي (البراء الأصلية) .
وإما استصحاب أصل أتى به الشارع، فمن الأول عدم إيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة، ومن الثاني عدم جواز ضرب القاذف أكثر من ثمانين جلدة؛ لأنه مأخوذ من عموم الدليل على المنع من الأذى".
تيسير التحرير 1/150، والتوضيح 1/144، والوسيط في أصول الحنفية للشيخ أحمد فهمي أبو سنة ص: 129، والمناهج الأصولية ص:440.
وفي نسمات الأسحار سرح المنار يقول في ص: 50: "والحنفية ينفون مفهوم المخالفة بأقسامه في كلام الشارع فقط، ويضيفون حكم الصفة، والشرط إلى الأصل وهو العدم الأصلي الذي هو براءة الذمة من التكاليف قبل ورود الشرع، وحكم الغاية والعدد إلى الأصل الذي قرّره السمع"، وفي المنار مع حواشيه ص: 546، نحو هذا الكلام.
هنا وقع الشك في انتفاء الحكم عن الحادثة التي انتفى القيد عنها، ومع الاحتمال والتردد لا تنهض الحجية؛ إذ يجب الاحتياط في تقرير المناهج الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية، حتى لا ينسب إلى الشرع ما ليس منه1.
ويرد على ذلك بأن الجمهور القائلين بحجية المفهوم المخالف لا ينفون الاحتمال في منشأ الحكم، ولهذا يقولون: إن دلالة مفهوم المخالفة ليست قطعية، لكنهم يرجحون احتمال كون منشأ انتفاء الحكم وثبوت نقيضه مستنداً إلى دلالة القيد لا للعدم الأصلي، وذلك للأدلة المرجحة لهذا القول، والظن الراجح كاف في وجوب العمل به في الأحكام العملية وأدلتها.
1 المناهج الأصولية ص: 439.
ثانياً: مذاهب العلماء في حجية مفهوم المخالفة وأدلتهم:
يقصد بحجية مفهوم المخالفة أن يكون طريقاً صالحاً لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، مثل: استفادة عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة من حديث: "في سائمة الغنم زكاة"، لعدم تحقق صفة السوم فيها.
ويقصد بعدم حجيته أنه لا يكون منهجاً أصولياً تستنبط الأحكام الشرعية عن طريقه، ذلك أن المحل المخالف للمنطوق، وقع الشك في نفي الحكم عنه، أهو لانتفاء القيد الموجود في المنطوق، فيكون من قبيل دلالة النص؟ أم أن ذلك يرجع إلى عدم الحكم الشرعي أم هو يعود إلى أدلة أخرى، فلا يكون مأخوذاً من النص المقترن بالقيد؟
إذا علم ذلك فنقول:
اتفق الأصوليون على أن مفهوم المخالفة حجة يجب العمل بمقتضاها في المؤلفات العلمية، وعقود الناس وتصرفاتهم القولية وسائر معاملاتهم، لأن عرف الناس واصطلاحهم في التعبير عن مقاصدهم يدل على ذلك، وإلا كان الإتيان بالقيد في عرفهم عبثاً1.
ولهذا شاع بين الحنفية مع نفيهم لحجية المفهوم في كلام الشارع:
1 علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: 116.
قولهم: (مفاهيم الكتب حجة) 1، وبناء على ذلك فقول الواقف جعلت ربع مالي لأقاربي الفقراء، يفيد بمنطوقه استحقاق أقربائه الفقراء لربع ماله، ويفيد بمفهومه المخالف عدم استحقاق أقاربه غير الفقراء لربع ماله، ونصه حجة على الحكمين إلا إذا دلت قرينة على أن القيد ليس للتخصيص2، فعندئذ يؤخذ بما توجبه القرينة3.
ثم وقع الخلاف بين الجمهور والحنفية في الاحتجاج بمفهوم المخالفة في نصوص الشرع:
أ - فذهب الحنفية ومن وافقهم إلى أن مفهوم المخالفة ليس بحجة في نصوص الشرع4.
ب - وذهب جمهور الأصوليين من المالكية والشافعية والحنابلة فيما
1 التحرير مع التقرير والتحبير 1/177، والمناهج الأصولية ص:436.
2 علم أصول الالفقه للخلاف ص: 116، وتيسير التحرير 1/149، والعضد على منتهى ابن الحاجب 2/174.
3 تفسير النصوص د. أديب صالح ص: 688، نقلاً عن رد المحتار على الدر المختار 3/416، ورسالة رسم المفتي لابن عابدين ص:45.
4 مع الحنفية الظاهرية والغزالي والآمدي من الشافعية.
الأحكام للآمدي 2/153، والآحكام لابن حزم 7/886، والمستصفى للغزالي 2/42، وإرشاد الفحول للشوكاني ص: 178، وتيسير التحرير 1/149 - 150، ومسلم الثبوت 1/414.
عدا مفهوم اللقب1 إلى أن المفهوم المخالف حجة شرعية صالحة لأخذ الأحكام بواسطتها.
1 يراد باللقب هنا: الاسم الجامد سواء كان علماً كزيد، أو لقباً كزين العابدين، أو كنية كأبي بكر، فكل ذلك لا مفهوم له عند الجمهور، ونسب إلى الدقاق من الشافعية وبعض الحنابلة القول بمفهوم اللقب والتحقيق في ذلك أن ما نسب إلى الدقاق ومن معه من القول بحجية مفهوم اللقب مؤول بما كان مقترناً بما يدل على الحجية، وعندئذ يكون خارجاً عن محل النزاع لأن الحجية قد جاءت من الدليل لا من مفهوم اللقب.
انظر: أصول مذهب أحدم ص: 145، والعدة لأبي يعلى ص: 63 مخطوط، والأحكام للآمدي 3/96، وشرح مختصر ابن الحاجب 2/182، وإرشاد الفحول ص:382.
ثالثا: شرط حجيته عند القائل بها.
وقبل أن نذكر أدلة المذاهب نشير هنا إلى أن الجمهور قد احتاطوا للأخذ بمفهوم المخالفة فاشترطوا للقول به شروطاً لا بد من توفرها حتى يكون حجة شرعية، وتلك الشروط إذا روعيت فيها تقريب لوجهات النظر المختلفة بعضها من بعض، كما أنها تخفف من حدة الاختلاف بين مسالك العلماء، وفيها أيضاً جواب عن كثير من الاعتراضات التي يمكن أن تورد على القائلين بالحجية، وهي شروط كثيرة، ولكن بالاستقراء يمكن تلخيصها في شرطين:
الأول: أن لا يعارض المفهوم المخالف ما هو أقوى منه1، ومفاد هذا الشرط أن يقدم العمل بالمنطوق ومفهوم الموافقة عند تعارضهما مع المفهوم المخالف.
أما تقديم المنطوق فهو ظاهر لقوته واتفاق العلماء على الاحتجاج به، وأما تقديم مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة عند التعارض؛ فلأمرين:
أولهما: ما سبق في تعريف المفهوم الموافق أن من شرط الحكم
1 المراجع التي سبقت وشرح الكوكب المنير ص: 246، والواضح لابن عقيل ورقة ص: 52 من الجزء الثاني مخطوط، والمسودة لآل تيمية ص: 351 - 352، وأصول مذهب الإمام أحمد ص:137.
الثابت به أن يكون أولى من المنطوق أو مساوياً له، وهذا يقتضي تقديم العمل بمفهوم الموافقة عند تعارضه مع مفهوم المخالفة لمساواة مفهوم الموافقة للمنطوق على أقل تقدير.
ثانياً: أن الحكم الثابت بالمفهوم الموافق، ثابت بطريق النص نفسه لوضوح علته، والوقوف عليها وتعلقها بمجرد سماع المنطوق بخلاف مفهوم المخالفة فهو وإن كان ثابتاً بطريق اللفظ عند القائل به، لكنه يحتاج إلى تأمل وروية، فعلى هذا يقدم عند التعارض مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة لقوته ووضوحه.
وخاصة إذا علمنا أن بعض الباحثين يرى أن تقسم الدلالات إلى قسمين:
1 -
منطوق ويتضمن أغلب أنواع الدلالات1 بما فيها مفهوم الموافقة، لأن العلة فيه تفهم بمجرد ذكر النص.
2 -
ومفهوم: ويراد به هنا: ما يقابل المنطوق وهو منحصر في مفهوم المخالفة عند صاحب هذا الاتجاه: وعليه فاعتبار مفهوم الموافقة
1 عدد الدلالات التي تندرج تحت المنطوق عند هذا الفريق أربع دلالات وهي: عبارة النص، وإشارته، واقتضاؤه، وسبق تعريف هذه الدلالات عند الجمهور كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى ويلحق بها مفهوم الموافقة.
أصول الفقه لأبي زهرة ص: 147، والمناهج الأصولية ص:413.
خارجاً عن المنطوق فيه نظر.
الشرط الثاني: أن لا يكون للقيد الذي خص بالذكر1 فائدة أخرى غير تخصيص الحكم بالذكر.
وهذا شرط جامع كما ترى، إلا أنه لما كان يعسر الوقوف على نفي الفوائد الأخرى نظراً لاشتمال الأحكام الشرعية على أسرار وحِكَم لا يحيط بها إلا مُشَرِّعُهَا العليم الحكيم2.
أقول: من أجل ذلك اعترض المخالفون في حجية المفهوم على هذا الدليل، وقالوا: إن هذا الشرط يدفع القول بحجية المفهوم، لعدم إمكان الاطلاع على نفي الفائدة.
وكان رد الجمهور على ذلك ما سبقت الإشارة إليه من أن الظن الراجح كاف للقول بوجوب العمل بالمفهوم المخالف، ومعنى ذلك أن المجتهد إذا بحث في النصوص المشتملة على قيد من القيود ثم غلب على ظنه أن ما ورد فيها من قيد هو لبيان نفي الحكم عند انتفاء القيد عن الواقعة، لزمه العمل بمقتضى ما ترجح له، وهذا هو مراد القائلين بالحجية، أي: أنه دليل راجح يجب العمل به على هذا الأساس.
1 جمع الجوامع 1/133، والمناهج الأصولية ص/417.
2 نسمات الأسحار شرح المنار ص: 105، ورسالة رسم المعنى لابن عابدين ص:45.
أدلة الفريقين:
أ - أدلة الحنفية ومن وافقهم 1:
استدل الحنفية ومن وافقهم على منع الاحتجاج بمفهوم المخالفة في نصوص الشرع، بعدة أدلة، أظهرها ما يلي:
1 -
قالوا: إن دلالة التقييد على نفي الحكم عن غير المتصف بالقيد ينبغي أن تثبت بما تثبت به الأوضاع اللغوية لمساس علاقة هذه الدلالة باللغة، وطريق إثبات الأوضاع اللغوية إما أن يكون بدليل عقلي، أو بدليل نقلي، ولا سبيل إلى إثباتها بطريق العقل؛ لأنه لا مجال له في اللغات، ولا دخل له في وضع الألفاظ.
والنقلي إما متواتر أو آحاد، ولا سبيل للقول بالأول، وهو المتواتر، لأن المتواتر لو كان موجوداً، لما وقع الاختلاف بين العلماء في حجية مفهوم المخالفة، نظراً إلى أن المتواتر لا يدع مجالاً للاختلاف، وحيث إن الاختلاف واقع في هذه المسألة؛ فإنه يدل على عدم توفر الدليل النقلي المتواتر فيها.
بقي الدليل النقلي الأحادي وهو لا يفيد في هذه المسألة؛ لأنه يفيد
1 الأحكام للآمدي 2/153، والأحكام لابن حزم 7/886، والمستصفى للغزالي 2،42، ومسلم الثبوت 1/431، وتيسير التحرير 1/149 - 150، والعضد على مختصر ابن الحاجب 2/174، وإرشاد الفحول ص:178.
الظن، ولا اعتبار بالظن في إثبات الأصول اللغوية، وحيث إن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم يجري عليهما ما يجري على اللغة؛ فلا اعتبار فيهما لمفهوم المخالفة، لأنه لم يثبت بالنقل المتواتر1.
وقد أجيب عن هذا الدليل بما يلي:
أولاً: إن عدم إفادة أخبار الآحاد لمثل هذه المسألة غير مسلم، لأن عدم قبول الآحاد فيها، واشتراط ثبوتها بالطريق المتواتر يؤدي إلى امتناع العمل بأكثر أدلة الشرع، لعدم توفر التواتر في مفرداتها.
وثانياً: إن معظم قواعد اللغة وأساليبها ما وصل إلينا إلا بطريق النقل الأحادي كالنقل عن الخليل، وسيبويه، والأصمعي2، فلو اشترطنا
1 الأحكام للآمدي 3/76، والعضد على مختصر ابن الحاجب 2/179، وعلم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: 185، وتيسير التحرير 1/103.
2 المراجع السابقة، وروضة الناظر مع شرحها لبدران 2/207، وشرح الكوكب المنير ص: 146، والمستصفى للغزالي 2/43، والمناهج الأصولية ص: 448، وتفسير النصوص د. أديب محمد الصالح، وحاشية السعد التفتازاني مع شرح العضد ص:179.
والأصمعي هو: عبد الملك بن قريب بن علي بن أصبح الباهلي، أبو سعيد الأصمعي راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان، نسبته إلى جده أصمع، ومولده ووفاته بالبصرة أخباره كثيرة جداً، وله تصانيف منها: الإبل، والأضداد، والمترادف، توفي سنة 216هـ، وكانت ولادته سنة 122هـ وقيل: 123، وله أيضاً كتاب الأجناس في أصول اللغة، والمذكر والمؤنث، وكتاب الخراج.
انظر: معجم المؤلفين 6/187، والأصمعي حياته وآثاره د. عبد الجبار الجومرد ط مطابع الكشاف، وطبقات اللغويين والنحويين 183 - 1392 طبع عام 1375هـ.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي: أبو عبد الرحمن الأزدي من أئمة اللغة والأدب والشعر، وشيخ سيبويه واضع علم العروض، وقد أبدع بدائع لم يسبق إليها، وكانت ولادته سنة 100هـ، وهو رأس الطبقة الخامسة من مصنفاته: كتاب العين في اللغة، توفي سنة 170هـ.
المختصر من تاريخ اللغويين والنحويين 13 - 14، وطيقات النحويين واللغويين للزبيدي 43 - 47، معجم المؤلفين 4/112.
لقبول ذلك التواتر لضاع كثير من قواعد اللغة.
وثالثاً: وجدنا العلماء في شتى البلاد ومختلف العصور مكتفين بالنقل الآحادي في فهم معنى الألفاظ وأساليب اللغة، وهذا دليل منهم على أن التواتر ليس شرطاً لمعرفة القواعد اللغوية.
2 -
واستدلوا أيضاً:
فقالوا: إن التعليق بالوصف لو كان دالاً على نفي الحكم عند عدمه للزم أن لا يثبت عند انتفاء القيد؛ لأن ثبوته عندئذ يكون مخالفاً للدليل.
ولكن الحكم المعلق على الوصف قد يثبت عند عدمه، ويدل على ذلك قوله - تعالى -:{وَلَا تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُم خَشْيَةَ إمْلَاقٍ} 1؛ فإن النهي عن قتل الأولاد قيد بحال خشية الإملاق، مع أن الحكم وهو تحريم القتل ثابت
1 سورة الإسراء آية: 31.
في حال عدم خشية الإملاق، وهو الفقر، أو كان القتل مع خشية الإملاق.
وأجيب عن هذا الدليل بما تقدم في شروط حجية مفهوم المخالفة، وهو أن لا يكون الحكم المسكوت عنه أولى من المنطوق به، وفي هذه الحال حكم تحريم قتل الأولاد في حال عدم خشية الإملاق أولى بالتحريم من حال خشية الإملاق، فلا يدل التقييد على نفي الحكم في هذه الصورة، لتخلف شرط حجيته، وهو أن لا يعارضه ما هو أقوى منه، وفي هذه الحال قد عارضه مفهوم الموافقة، فيقدم العمل به لقوته ووضوحه، على العمل بالمفهوم المخالف.
3 -
ومن أدلتهم أيضاً:
قياس ما عدا اللقب من المفاهيم على اللقب بجامع أن كلاً منهما يميز ما تعلق به، ويحد من دائرة شموله، وحيث كان مفهوم اللقب ليس بحجة باتفاق أكثر العلماء، فكذلك غيره من المفاهيم لا يكون حجة لاشتراكهما في العلة، وهي التمييز في كل.
وأجيب عن ذلك بأن قياس غير اللقب من المفاهيم على اللقب قياس مع الفارق، ووجه الفرق أن غير اللقب من المفاهيم فيه الإشعار بالعلية، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، بخلاف اللقب، فإنه لا دلالة له على علة الحكم، فعدمت المساواة بينهما، ثم إن ذلك منقوض بالغاية، فإن المقصود منها التمييز.
مع أنها تدل على أن ما بعدها مخالف لم قبلها في الحكم، فلو كان كل ما هو موضوع للتمييز لا يدل على نفي الحكم عند انتفائه لما دلت الغاية على ذلك1، وكل هذا مع التسليم بصحة القياس في اللغة، مع أن الراجح عدم جريان القياس فيها.
4 -
ويمكن لنفاة الاحتجاج بمفهوم المخالفة أن يؤيدوا وجهة نظرهم بمبدأ تعليل الأحكام؛ لأن أغلبها معلل في نظر الجمهور من العلماء2، وحيث كان الأمر كذلك، فإنها تتعدى إلى غير موضع النص لاتحاد المناط، وعلى ذلك لا يكون المحل المسكوت عنه خالياً من الحكم حتى نعطيه نقيض الحكم المنطوق به في النص المقيد، وهذا المبدأ لا يدع مجالاً للأخذ بمفهوم المخالفة؛ لأن احتمال وجود العلة في غير المنصوص قائم، فيكون من غير المعقول أن نثبت فيه نقيض الحكم بمفهوم المخالفة3.
ويجاب عن هذا الدليل بأنه خارج عن محل النزاع، لما سبق في شروط الاحتجاج بالمفهوم التي منها عدم وجود دليل على الحكم المسكوت عنه، وحيث إن القياس دليل من الأدلة التي تثبت بها الأحكام،
1 الأحكام للآمدي 3/79.
2 إعلام الموقعين لابن القيم 1/179، وتاريخ التشريع الإسلامي للشيخ حسب الله ص: 34 - 35، والمدخل للفقه الإسلامي للأستاذ محمد مذكور ص: 145، وتفسير النصوص 1/685، وأصول مذهب أحمد ص:142.
3 أصول الفقه للأستاذ أبي زهرة ص: 143.
لا يكون المحل خالياً عن الدليل، فلا يصح الاحتجاج عليه بالمفهوم المخالف علماً أن تعارض القياس والمفهوم فيه خلاف بين العلماء، فبعضهم يقدم مفهوم المخالفة لاستناده إلى النص، ولا قياس مع النص.
وبعضهم يقدم القياس، لاتفاق أكثر العلماء على حجية القياس، بخلاف المفهوم المخالف فقد خالف في الاحتجاج به كثير من العلماء، والذي يترجح عندي أن يفرق بين القياس المنصوص العلة، وما كانت علته مستنبطة فالأول يعارض مفهوم المخالفة ويقدم عليها؛ لأنه في الحقيقة مفهوم الموافقة الذي سبق الكلام عليه.
وأما ما كانت العلة فيه مستنبطة فهو محتمل، وللمجتهد دوره في الترجيح عند التعارض بين هذا النوع من القياس وبين مفهوم المخالفة.
ب - أدلة الجمهور على أن مفهوم المخالفة حجة:
استدل جمهور الأصوليين على أن مفهوم المخالفة حجة شرعية يصلح لاستنباط الأحكام الشرعية بواسطته بأدلة منها:
أولاً: عرف أهل اللغة:
فقد روي عن الإمام الشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام1 أنهما
1 هو: أبو عبيد القاسم بن سلام كان أبوه عبداً رومياً لرجل من أهل هراة، وكان تقياً ورعاً أثنى عليه كثير من العلماء، وعدوه من أتقن أهل زمانه، توفي في مكة سنة 222هـ وقيل 223.
انظر: نزهة الألباء ص: 69، ومعجم الأدباء ص: 245 - 261 جزء 16، وطبقات الشافعية 2/159، وطبقات النحويين واللغويين ص: 217، تحقيق محمد أبو الفضل.
حينما سمعا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته" 1، قالا: هذا يدل على أن مطل غير الغني ليس بظلم2.
فدل ذلك على أن انتفاء الحكم عن الواقعة التي ورد بها النص عند انتفاء القيد، وثبوت نقيضه هو المتبادر من فهم أئمة اللغة. والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة، وعرف أهل اللغة حجة وإلا لم يكونوا أئمة فيها.
ثم إن الظاهر أن عرفهم يستند إلى أصل لغوي، إذ لا مجال للاجتهاد بالرأي في إثبات الأوضاع اللغوية3، وقد نقل هذا الفهم عنهم نقلاً
1 متفق عليه، رواه البخاري باب الحوالة 3/127، ط دار إحياء التراث، قدم لهذه الطبعة أحمد محمد شاكر، ومسلم في باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة واستحباب قبولها إذا أحيل على ملئ، النووي مع مسلم 10/227 المطبعة المصرية ومكتبتها، وهناك رواية أخرى بلفظ "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته" رواها أهل السنن راجع المختصر لابن الحاجب 2/175، والأحكام للآمدي 3/69، وروضة الناظر ص:140.
2 المراجع السابقة، وشرح الكوكب المنير ص: 246 - 247، وتيسير التحرير1/103، والمستصفى للغزالي 2/73، وروضة الناظر مع شرحها 2/207.
3 يشبه هذا إجماع المجتهدين في عصر من العصوم على حكم شرعي؛ إذ لا بد أن يكون إجماعهم مستنداً إلى أصل شرعي، وإن لم يصرحوا به.
تيسير التحرير 1/154 - 155، والمناهج الأصولية ص:443.
وهنا نشير إلى مدى صلة العقل الإنساني باللغة، فلا مراء أن العقل ليس له دخل في وضع مادة اللغة، لكن هذا لا ينفي أن يكون للعقل مدخل في تقرير مقتضى الحكمة والمنطق الذي ينبغي أن يكون عليه وضع اللغة.
ذلك أن واضع اللغة لم يكن إبّان وضعه لها بمعزل عن المنطق والحكمة.
المناهج ص: 444، وتيسير التحرير 1/155.
مستفيضاً عبر القرون، فدل ذلك على أن ما يفيده أسلوب مفهوم المخالفة مدلول لغوي للنص نفسه1، فكان حجة؛ إذ كل ما كان من مدلول النص يجب الأخذ به ولا يجوز تركه.
وعورض هذا الفهم بفهم الأخفش وغيره2 من أئمة اللغة الذين لا
1 شرح المختصر لابن الحاجب 1/175.
2 كابن جني وابن فارس.
والأخفش هو: سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء أبو الحسن المعروف بالأخفش الأوسط من أهل بلخ وسكن البصرة، نحوي عالم باللغة والأدب، وهو الذي زاد في العروض البحر الخفيف، له كتاب الأوسط في النحو، ومعاني القرآن، والمقاييس في النحو، ومعاني الشعر، توفي سنة 215هـ.
انظر: طبقات اللغويين والنحويين ص: 74 - 76، ومعجم المؤلفين 4/231، والبداية والنهاية 10/293 ط 3 سنة 1398 مكتبة المعارف بيروت.
وابن جني هو: عثمان بن جني الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو، كان يقول عنه المتنبئ ابن جني أعرف بشعري مني، توفي سنة 392هـ، له عدة مصنفات منها: الخصائص في اللغة، والتنبيه في شرح ديوان الحماسة.
يقرون مفهوم المخالفة.
وقد دفعت هذه المعارضة بأن منزلة الأخفش في اللغة دون الإمام الشافعي وأبي عبيد، كيف وقد قال بذلك الإمام الشافعي وهو من أئمة اللغة الذين يحتج بقولهم فيها؛ فالأصمعي قد احتج بقوله وصحح عليه دواوين الهذليين، ثم هناك قاعدة في المعارضة والترجيح تقضي بأنه إذا تعارض المثبت والنافي كان المثبت أولى بالقبول؛ لأن المثبت معه زيادة علم لم يطلع عليها النافي، ذلك أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود إلا ظناً1، لكن الوجدان يدل على الوجود قطعاً، ولا شك أن القطعي أولى بالقبول من الظني.
واستدلوا أيضاً:
بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل عنه هذا الفهم، كما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك، بدليل أن يعلى2 بن أمية لما سمع قول الله - تعالى -:
1 تيسير التحرير 1/155.
2 هو: يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همام التميمي حليف قريش، صحابي مشهور روى له الجماعة، مات سنة بضع وأربعين ومائة. تقريب التهذيب ص:387.
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} 1، قال لعمر رضي الله عنه: ما بالنا نقصر وقد أَمِنّا2، فقد فهم من تعليق جواز قصر الصلاة على الخوف عدم جوازه حالة الأمن، فأقره عمر على هذا الفهم، بدليل قول عمر جواباً ليعلى: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته"3.
فعمر رضي الله عنه قد فهم من هذه الآية كما فهم يعلى، وسأل رسول الله عن ذلك، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على فهمه، ولكنه بين له أن القصر في حال الأمن تشريع مبتدأ تخفيفاً من الله على عباده، ولو كان ما فهمه عمر من هذا الأسلوب لا تدل علية الآية الكريمة، لما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على فهمه، ولبين له أن ما فهمه من الآية كان خطأ؛ إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
1 سورة النساء آية: 100.
2 أَمِنّا: دخلنا في حالة الأمن.
3 رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها، انظر النووي على صحيح مسلم 5/196، المكتبة المصرية ومطبعتها، ونيل الأوطار للشوكاني 3/227 في أبواب صلاة المسافر، الطبعة الأخيرة، الناشر مصطفى البابي الحلبي.
3 -
واستدل الجمهور أيضاً:
فقالوا: إن القيود التي ترد في النصوص الشرعية لا بد أن تكون لحكمة، لأن الشارع لا يقيد بوصف أو شرط أو غاية عبثاً، وأظهر ما يتبادر إلى الفهم أن تكون هذه الحكمة تخصيص الحكم بما يوجد فيه القيد1، والتخصيص يقتضي نفي الحكم عما لم يوجد فيه القيد، فإذا عري القيد بعد البحث والتمحيص عن أغلب الاحتمالات والفوائد التي تتوخى منه عادة إلا عن تخصيص الحكم بالمذكور وجب حمله على ذلك؛ لئلا يكون القيد خالياً عن الفائدة، وهو ما ينبغي أن يصان عنه كلام العقلاء، فضلاً عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق اعتراض الحنفية على هذا الاستدلال، وجواب الجمهور عن ذلك.
4 -
ومن أدلة الجمهور أيضاً:
أن ربط الحكم بالوصف يومئ إلى علية ذلك الوصف، ومعلوم أنه إذا انتفت العلة انتفى المعلول؛ فكان انتفاء الوصف دليلاً على انتفاء الحكم، وهذا الدليل يرجع إلى اعتبار لغوي في النص وهو القيد، كما أنه يعود إلى اعتبار عقلي أيضاً، وهو ارتباط المسبب بالسبب عقلاً؛ فإن العقل يحكم بأنه حيثما توجد العلة يوجد الحكم، وبهذا يكون الاعتبار اللغوي
1 الأحكام للآمدي 3/75، وتيسير التحرير 1/168، والمناهج الأصولية ص:446.
والشرعي قد تأيدا بالاعتبار العقلي في حجية المفهوم، وقد اعترض على هذا الدليل بعدة اعتراضات منها:
أولاً: أن انتفاء الحكم عند انتفاء العلة غير مسلّم به، لجواز علة أخرى يثبت بها الحكم، ذلك أن الحكم الواحد قد يكون له عدة أسباب يثبت بكل واحد منها على سبيل البدل1.
ويدفع هذا الاعتراض بأن الدليل مفروض فيما لم يوجد فيه إلا علة واحدة، واعترض عليه ثانياً بأن قياس الوصف (القيد) على علة الحكم قياس مع الفارق ووجه الفرق ما سوف نذكره في الفقرة التالية.
اللهم إلا أن يراد أن الوصف (القيد) يشبه العلة من حيث دوران الحكم معها وجوداً وعدماً، فهذا مسلم به، ولكن ذلك لا يقتضي أن يكون الوصف علة للحكم؛ لأن دوران الحكم مع القيد حينئذ قد يكون بسبب أن ذلك القيد شرط مقارن لعلة الحكم2.
1 المرجعين السابقين.
2 المرجع الأخير ص: 447.
رابعاً: الفرق بين القيد والعلة:
ذكرنا قبل قليل أن القيد يشبه العلة عند القائلين بحجية مفهوم المخالفة من حيث دوران الحكم معه وجوداً وعدماً، فهل هما شيء واحد أم بينهما فرق؟
وللجواب على هذا التساؤل: نذكر تعريف كل منهما وبه يتضح الفرق عند من يرى ذلك.
فالعلة قد عرفت بتعاريف متعددة أقل هذه التعاريف اعتراضاً القول بأنها: الوصف المعرف للحكم1، ومعنى تعريف الوصف للحكم أنه علامة على وجوده، كالإسكار فإنه علامة على حرمة المسكر بقطع النظر عن ذات المسكر، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر حرام"، وفي لفظ آخر:" كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"2.
1 الأحكام للآمدي 3/75، وإرشاد الفحول ص: 207، ودراسات في أصول الفقه د. عبد الفتاح حسن الشيخ ص:204.
2 أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم بألفاظ مختلفة، فقد رواه البخاري بلفظ "كل شراب أسكر فهو حرام" 4/28. ومسلم في صحيحه في باب بيان أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام 3/1587 - 1588.
وابن ماجه باب كل مسكر حرام 2/1123 ط عيسى البابي الحلبي الأحاديث 3386 - 3391، وخاصة رقم 1390.
وفي إرواء الغليل 4/40 صحيح وله عدة طرق عن ابن عمر.
وأما القيد: فليس هو الوصف المعرف للحكم، ولكنه حالة من أحواله أو ظرف من ظروفه، أو شرط مقارن لعلته، يحدد مجال تطبيق الحكم فيجعله قاصراً على بعض الأحوال دون سواها، وهذا يتضح بالمثال.
فزكاة الأموال العلة فيها هي المال النامي حقيقة أو تقديراً وقد حددت زكاة الزروع بمقدار: (عشر المحصول) 1 إذا سقيت بماء السماء، أو الأنهار والعيون، ونحوها مما لا كلفة فيه.
وأما في حال السقي بالآلات أو بما فيه تكاليف (فنصف العشر) 2،
1 لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر، وما سقي بمؤونة ففيه نصف العشر".
روى هذا الحديث الإمام الشافعي في الأم 7/180، وروى أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا مسلماً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر"، راجع منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 4/149، وصحيح البخاري 2/155 باب العشر فيما يسقى من ماء السماء، ترتيب أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، وأبو داود 2/108، رقم الحديث 1596 ونصب الراية 2/385، وفي إرواء الغليل صحيح أخرجه أحمد عن جابر 3/353.
2 لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر، وما سقي بمؤونة ففيه نصف العشر".
روى هذا الحديث الإمام الشافعي في الأم 7/180، وروى أحمد وأصحاب الكتب الستة إلا مسلماً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر"، راجع منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار 4/149، وصحيح البخاري 2/155 باب العشر فيما يسقى من ماء السماء، ترتيب أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، وأبو داود 2/108، رقم الحديث 1596 ونصب الراية 2/385.
وفي إرواء الغليل: صحيح أخرجه أحمد عن جابر 3/353.
فكل من الحالين إذن ليس هو العلة، بل العلة هي المال النامي نفسه وهاتان الحالتان هما قيدان، أو شرطان مقارنان لعلة الحكم لتحديد المقدار الواجب لاعتبارات تتعلق بالعدل في توزيع التكاليف، وهكذا حق مطالبة الدائن مدينه سببه ومناطه هو الدين؛ إذ هو الذي خَوّل الدائن حق المطالبة1، ولكن هذا الحق حددت ممارسته بحال اليسر حتى إذا انتفت ثبت عكسه، وهو عدم جواز المطالبة في حال الإعسار، مع أن العلة قائمة في الحالتين، وهي (الدين) ولكن (الإعسار) حال دون اقتضاء العلة لحكمها لاعتبارات تتعلق بالمصلحة والعدل، وتوثيق عرى التعاون بين أفراد المجتمع، وبهذا يظهر أن القيد إذا كان له مفهوم يكون ذا أثر في أمرين:
الأول: تحديد مدى تطبيق الحكم.
1 هذا الحديث الذي نشير إليه سبق تخريجه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، يحل عرضه وعقوبته".
الثاني: تحديد مقدار الحكم إذا كان من المقدرات.
فإذا لم يكن للقيد مفهوم مخالف، وذلك بأن كان مجيئه لغرض آخر، فلا يكون للقيد حينئذ أثر في الحكم لا ثبوتاً ولا نفياً، فيطبق الحكم على إطلاقه؛ لأن القيد لا مفهوم له في بيان الحكم.
وقد التفت إلى أصل التفرقة بين القيد والعلة بعض1 أصحاب الأصول إلا أنه يرى أن القيد جزء متمم للعلة، ومعنى ذلك أنه إذا انتفى الوصف أي: القيد انتفت العلة؛ فلا تعمل عملها لانتفاء الجزء المتمم لها، وإليك نص كلامه:(والفرق بين العلة والوصف) أن الوصف قد يكون علة كالإسكار، وقد لا يكون علة بل متمماً لها (كالسوم) ، فإن وجوب الزكاة في الغنم السائمة العلة فيه هي الغنم والسوم متمم لها.
وهذا التوجيه اعترض عليه بأن أصل التفرقة مسلم به، ولكن كون الوصف متمماً للعلة في حيز المنع، بل الوصف هنا بمثابة الشرط المقارن للعلة، فالعلة تامة، ولكنها لم تعمل عملها لفقدان شرطها المقارن لها2.
1 تسهيل الوصول للمحلاوي ص: 113، والمناهج الأصولية ص:427.
2 المناهج الأصولية ص: 427.
قوله: فالعلة تامة فيه نظر؛ لأن المخالف يرى أن العلة لا تسمى علة إلا إذا استوفت شروط عملها وتجردت من موانعها، وحينئذ يكون الخلاف في هذه المسألة لفظياً، لكون الفريقين لم يتفقا على ماهية العلة، هل هي الوصف المعرف للحكم فقط، أو هي الوصف مع الشروط وانتفاء الموانع.
وبعد هذا نصل إلى الفقرة الأخيرة من هذا المبحث، وهي ثمرة الخلاف في حجية مفهوم المخالفة.
خامساً: أثر الخلاف في حجية مفهوم المخالفة:
لما كان مفهوم المخالفة حجة شرعية لدى جمهور الأصوليين، دل عليها النص لغة وشرعاً، فيعتبر ما يستنبط عن طريقه حكماً شرعياً ثابتاً بالنص نفسه كالحكم الثابت بالمنطوق، وبالتالي تجري عليه الأحكام التي تجري على الحكم المستفاد من المنطوق، فيجري التعارض بينه وبين الحكم المنطوق على اعتبار أنهما ثابتان بالنص كما يجوز نسخه والقياس عليه.
وأما على رأي الأحناف ومن وافقهم، الذين يرون أن انتفاء الحكم عند انتفاء القيد الثابت بالعدم الأصلي في بعض الحالات، فلا يكون الحكم الثابت للمحل المسكوت عنه في كل الحالات حكماً شرعياً، بل مجرد حكم عقلي، وحينئذ فلا يستفاد من النص الذي ورد معه القيد إلا حكم واحد هو المنطوق به، والشارع ساكت عن غيره لم يتعرض له بنفي أو إثبات فيبقى على العدم الأصلي عارياً عن الحكم الشرعي حتى يرد دليل من الشارع ينتهض بحكمه، ولا مجال للقول بمفهوم المخالفة في إثبات الحكم فيه، لأن مفهوم المخالفة ليس بحجة شرعية عند الأحناف، وهذا يتضح بالأمثلة الآتية:
1 -
فمثال تعارض المفهوم مع المنطوق، قوله تعالى في شأن ميراث بنات المتوفى:{فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} 1، مع قول الرسول
1 سورة النساء آية: 11.
صلى الله عليه وسلم لأخي سعد بن الربيع1 "أعط ابنتي سعد الثلثين وزوجته الثمن، وما بقي فهو لك"2، فعلى مذهب الجمهور يوجد تعارض بين مفهوم المخالفة في قوله تعالى:{فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} ، حيث يدل على أن الواحدة أو الاثنتين لا يرثان الثلثين، وبين منطوق الحديث الذي يفيد أن الاثنتين يرثان الثلثين بقوله:"أعط ابنتي سعد الثلثين"، وقد نسب إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه فهم ما تقتضيه هذه القاعدة فلم يورث البنتين
1 هو: سعد بن الربيع بن عمرو الخزرجي الأنصاري، صحابي جليل شهد العقبتين وشهد بدراً واستشهد يوم أحد بعد أن أبلى بلاء حسناً رضي الله عنه وأرضاه.
الاستيعاب في معرفة الأصحاب 2/589، والإصابة في تمييز الصحابة القسم الثالث ص 58، ط دار النهضة مصر.
2 هذا الحديث له قصة فقد روى جابر رضي الله عنه أن امرأة سعد ابن الربيع جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد، وإن عمهما أخذ مالهما، ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الله في ذلك، فنزلت آية المواريث فبعث الرسول إلى أخي سعد فقال له:"أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك".
أخرج هذا الحديث أبو داود في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب 3/120 - 121، رقم الحديث 2892، كما أخرجه الترمذي في كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث البنات 3/280، رقم الحديث 2172، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفرائض باب فرائض الصلب 3/908.
وانظر تلخيص الحبير 4/83.
الثلثين، ولكن الجمهور قالوا: إن البنتين يرثان الثلثين، بمنطوق الحديث، وبأدلة أخرى1، ومفهوم المخالفة لا يقوى على معارضة منطوق الحديث لما سبق أن من شرط حجيته أن لا يعارضه منطوق، وهنا قد عارضه المنطوق فلا يصح التمسك به في مقابلته.
وأما على رأي الأحناف فلا توجد معارضة أصلاً، لأن الحديث بين حكم واقعة مسكوت عنها في آية المواريث.
2 -
ومثال نسخ المفهوم عند القائلين به: ما نقل من اتفاق الصحابة رضي الله عنهم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" 2، ناسخ لقوله صلى الله عليه وسلم "الماء من الماء" 3، ولولا أن قوله:
1 لمراجعة الأدلة التي ترجح القول بمنطوق الحديث، ينظر العدة في شرح أصول الفقه لأبي يعلى 2/573، وإيضاح القرآن للشنقيطي 1/308 - 310.
2 أخرج هذا الحديث الشافعي في الأم 1/36، والنسائي وصححه ابن حبان، وابن القطان، لكن في تصحيح هذا الحديث بهذا اللفظ كلام للمحدثين، والرواية الصحيحة الثابتة:"إذا قعد بين شعبها الأربع ثم مس الختانُ الختانَ، فقد وجب الغسل"، ولمسلم وأحمد:"وإن لم ينزل"، روى هذا الحديث البخاري بلفظ: "إذا جلس
…
الخ" 1/80 دار إحياء التراث العربي، ومسلم 1/271 باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين.
3 أخرج هذا الحديث مسلم بلفظ: "إنما الماء من الماء" في باب إنما الماء من الماء 1/269 رقم الحديث 343، وقد عول المخالفون على هذه الزيادة في ادعاء الحصر والعموم، وقالوا: إن كلا منهما مستفاد من النص لغة، وليس من مفهوم المخالفة، وأحمد باللفظ المذكور "الماء من الماء" 3/36 المكتب الإسلامي، وأبو داود في باب الإكسال 1/56، رقم الحديث 217، وسبل السلام 1/85 ط4 1379هـ بتعليق محمد عبد العزيز الخولي.
"الماء من الماء" يدل على نفي الغسل من غير إنزال لما كان ناسخاً له، وقد نوقش هذا المثال من قبل المخالفين، حيث قالوا: إن اتفاق الصحابة على النسخ ليس مرده إلى المفهوم، بل لمدلول العموم والحصر، لأن (أل) في الماء، للجنس وفيها معنى حصر المبتدأ في الخبر، وهذا خارج عن محل النزاع.
3 -
ومثال القياس على الحكم المأخوذ بطريق المفهوم: ما تقدم في كفارة القتل من أن الآية الكريمة قد اشترطت بمنطوقها الإيمان في كفارة القتل، ودلت بمفهومها المخالف على أن غير المؤمنة لا تجزئ، فقاس الجمهور على كفارة القتل الخطأ كفارة الظهار فاشترطوا فيها أن تكون مؤمنة بناء على صحة هذا القياس، وكان رد الحنفية عليهم بأن أصل القياس ليس حكماً شرعياً، بل عدماً أصلياً؛ فلا يصح هذا القياس، لأن العدم ليس بحكم شرعي، ودفع هذا الاعتراض من قبل الجمهور بأن المعدي وجوب القيد، وهو حكم شرعي ثابت بمنطوق النص، وبهذا المثال تبين أن الخلاف في حمل المطلق على المقيد له صلة قوية بالخلاف في حجية مفهوم المخالفة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك1.
1 فمن يرى أن مفهوم القيد حجة جعله سبباً لحمل المطلق على المقيد، ومن لا يرى ذلك نفي السببية وقال بعدم الحمل، لعدم وجود التعارض الظاهري.
الترجيح:
يبدو أن الرأي الراجح هو القول بحجية مفهوم المخالفة، وذلك لموافقته للمنقول والمعقول.
أما المنقول: فلأن هناك نصوصاً من الكتاب والسنة يؤخذ منها بوضوح أن تقييد النص يدل على أن الثابت عند انتفاء القيد هو نقيض الحكم الثابت عند وجوده، ومن هذه النصوص قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَاّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 1، فقد اتفق جميع العلماء باستثناء الظاهرية على عدم حرمة الربيبة إذا انتفى قيد الدخول بأمها، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"في الغنم السائمة الزكاة" حيث اتفق العلماء باستثناء مالك2
1 سورة النساء آية: 23.
2 مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني الفقيه إمام دار الهجرة رأس المتقين وكبير المثبتين حتى قال البخاري أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر، من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقدي بلغ تسعين سنة. التقريب 326.
ولمالك مؤلفات جليلة مروية عنه بأسانيد صحيحة وأشهر هذه المؤلفات الموطأ وهو أول كتاب جمع بين دفتيه الحديث والفقه معاً، ومنها رسالة في القدر، ورسالة في الأقضية، ورسالة إلى الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة. طبقات الأصوليين 1/112 - 118.
والليث1 بن سعد على الأخذ بمفهوم المخالفة. فقالوا بعدم وجوب الزكاة في المعلوفة2.
وأما المعقول: فلأن الذي يتفق مع المنطق البياني السليم هو أن القيد من شرط أو وصف أو غاية أو غير ذلك، لا يمكن أن يكون عبثاً، بل هو لفائدة وسبب، فإذا لم تكن هناك مقاصد بيانية أخرى من وراء ذكر القيد من ترغيب أو ترهيب أو نحوها، ولم يقم دليل خاص على حكم المسكوت غير أخذه من القيد يجب عندئذ الأخذ بهذا الطريق من الدلالة، فإذا كان الحل مقيداً بقيد ما فالتحريم يكون عند تخلف هذا القيد والعكس بالعكس.
1 الليث بن سعد قال في التقريب: الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، فقيه ثبت فقيه مشهور من السابعة، مات سنة خمس وسعين ومائة. تقريب التهذيب لابن حجر ص:287.
2 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 188، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/528، والمناهج الأصولية د. فتحي الدريني ص: 449 - 452، وأصول مذهب أحمد ص: 144، وعلم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص:157، وتقسير النصوص د. أديب صالح 1/672.