المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل - المطلق والمقيد

[حمد بن حمدي الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما

- ‌الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح

- ‌المبحث الثالث تعريف المقيد اصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة

- ‌المبحث الثالث المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد

- ‌المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية

- ‌المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد

- ‌الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد

- ‌الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل

- ‌المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها

- ‌المطلب الأول: في محل الإتفاق

- ‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف

- ‌المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد

- ‌الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه

- ‌المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها

- ‌المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد

- ‌المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة

- ‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص

- ‌الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف

- ‌المبحث الثاني في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات:

- ‌المبحث الثالث: في مسائل متفرقة

- ‌الباب الثالث: في مقيدات المطلق

- ‌الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها

- ‌الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة

- ‌المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها

- ‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل

‌الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد

‌الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد

‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل

المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل.

اختلف الأصوليون في معنى حمل المطلق على المقيد على مذهبين:

أ - المذهب الأول:

يرى جمهور الأصوليين ومنهم الشافعية - أن معنى حمل المطلق على المقيد هو تفسير المطلق بكونه مراداً به المقيد ابتداء أي: منذ نزول المطلق، فكأن النصين - المطلق والمقيد - بمنزلة نص واحد1، فهو يشبه نوعاً من أنواع المجاز يسمى عند علماء البلاغة بإطلاق الجزء وإرادة الكل2، أو

1 حاشية سعد الدين التفتازاني على مختصر المنتهى لابن الحاجب 2/156، وتيسير التحرير لابن أمير الحاج 2/35، وحاشية الأزميري على مرآة الأصول 2/119، وفصول البدائع في أصول الشرائع للفناري ص: 82، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي 2/216، والمسودة لآل تيمية ص: 144، والأحكام للآمدي 2/212.

2 إنما كان حمل المطلق على المقيد يشبه مجاز الكل والبعض ولم يكن مجازاً، لأن العلاقة بين المطلق والمقيد عند بعض الأصوليين هي الكلية والجزئية لا الكل والجزء عند علماء البلاغة

والفرق بينهما أن الكلية نسبة إلى الكلي وهو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، كـ (لفظ إنسان) فإنه مشترك بين أفراد بني آدم يستوي فيه الذكر والأنثى، وكذلك الجزئية نسبة إلى الجزئي وهو ما لا يقبل الاشتراك ويعرف بأنه مفهوم ذهني يمتنع فرض صدقه على أكثر من فرد واحد، ويدل على الجزئي في الكلام، الاسم العلم نحو: سعيد وصالح، وعدنان الخ.. فإن كلا منها موضوع لفرد بعينه، ومع تخصيص الوضع للفرد المعين لا يتصور الفكر جواز إطلاقه على فرد آخر مهما كان مماثلاً له، لأن العلم لم يوضع له إلا لتمييزه عن كل فرد سواه.

والعلاقة بين الكلي والجزئي: أن الكلي مفهوم ينطبق على أفراد، وكل فرد منها هو جزئي لهذا الكلي- وكل جزئي يطلق عليه اسم الكلي، فخالد مثلاً جزئي ويطلق عليه اسم (إنسان) الذي، هو كلي يشمله وغيره من أفراد الإنسان، والقاعدة في ذلك أن يجعل الجزئي (مبتدأً) والكلي (خبراً) فإذا استقام الكلام- فالعلاقة بينهما الجزئية والكلية كقولك:(زيد إنسان) .

وأما الكل: فما تركب من أجزاء مجتمعة لا يصح إطلاق اسم (الكل) على كل جزء منها وحده، مثل:(بيت) فإنه كل باعتبار اشتماله على أجزاء له، هي الجدران والسقف والباب مثلاً، ومعلوم أنه لا يصح إطلاق اسم البيت على جزء من هذه الأجزاء وحده، فالجدار لا يسمى وحده (بيتاً) والسقف وحده كذلك لا يسمى بيتاً.

وخلاصة القول إن الكلي تحته جزئيات وأن الكل تحته أجزاء، وأن الحكم على الكلي يصدق بأي جزئي من جزئياته، أما الحكم على الكل فلا يصدق بجزء من أجزائه، بل لا بد من اجتماعها فلو قلت: الجدار بيت لم يصح: ويصح الكلي زيد إنسان. وعلى هذا فمفهوم المقيد أعم من المطلق؛ لأن كل من أتى بالمقيد فهو آتٍ بالمطلق دون العكس، وإن كانت دائرة المطلق أوسع. ضوابط المعرفة ص:34.

ص: 169

العكس كقوله: "أعتق رقبة" مراداً بها جميع الإنسان، والرقية في الحقيقة اسم لجزء من الإنسان، وإنما جاز إطلاق الرقبة على جميع أجزاء الإنسان؛

ص: 170

لأنها أعظم جزء فيه، وبهلاكها لا وجود له، فهي بمنزلة السبب لوجوده وبقاء حياته، وهكذا الأمر في حمل المطلق على المقيد أو بيانه بواسطته يراد به عند الجمهور أن مدلول اللفظ المطلق بعد أن كان قبل التقييد حكماً في فرد منتشر يصبح مدلوله بعد الحمل حكماً في فرد مقيد، لأن القيد الذي ورد عليه قلل من شيوعه وحصر انطباق حكمه على بعض الأفراد التي كانت صالحة لتناوله على سبيل البدل.

فمثلاً: عندما يطلب الشارع (عتق رقبة) ؛ فإن هذا اللفظ بإطلاقه يفيد أنه يجزئ في تحقيق المطلوب عتق أي رقبة، لأن الرقبة اسم مبهم يتحقق مدلوله في الخارج بواحد غير معين من أفراد جنسه، ولكن عندما نحمل هذا اللفظ المطلق على المقيد الذي وصفت فيه الرقبة بقيد الإيمان في نص آخر، لا يجزئ في تحقيق المطلوب إلا إعتاق رقبة توفر فيها ذلك الوصف، وهو الإيمان.

فكأن وصف الرقبة بالإيمان عند الجمهور كان منوياً عند نزول المطلق، ولكن لم يصرح به اعتماداً على فهمه من النص المقيد، أو أن العمل بالمطلق على إطلاقه لم يكن مرادا للشارع؛ وإنما مراد الشارع في العمل ما تضمنه القيد؛ فلو تقدم المطلق في النزول على المقيد لم يضر إلا عندما يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت العمل.

ثم استدل الجمهور على أن معنى حمل المطلق على المقيد هو تفسير

ص: 171

المطلق وبيانه بواسطة المقيد بعدة أدلة منها1:

أولاً: قالوا: إن حمل المطلق على المقيد بطريق البيان هو الذي يتفق وغالب الأحكام الشرعية التي وردت (مجملة) في أول الأمر ثم (فصلت) وبينت بالتدريج على حسب ما يستجد من الحوادث والحاجات، كما هو الحال في (المجمل والمفسر) فكان حمل المطلق على المقيد بطريق البيان أولى، لاتفاقه وغالب أحكام الشرع.

ومنها: أن المطلق يشبه العام - بل هو قسم منه - على رأي بعض الأصوليين وقد دل الاستقراء التام لنصوص الشرع أن العموم في العام غير مراد للشارع في أغلب الأحيان، وأن عرف الشرع قد صرف العام إلى بعض أفراده في الكثير الغالب حتى أصبح قولهم:"ما من عام إلا وقد خصص"، قاعدة، وهذه قرينة تورث في العام احتمالاً، فيجوز صرفه على ظاهره بالدليل وحيث إن المطلق يشبه العام أو هو قسم منه - فتورث هذه الشبهة فيه احتمالاً، وعندئذ يجوز تقييده وصرفه عن إطلاقه بالدليل المقيد.

ووجه الشبه بين تخصيص العام وتقييد المطلق، أن في كل منهما

1 جمع الجوامع 2/46، ومختصر المنتهى مع حاشية السعد 2/156، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/113، والأحكام للآمدي 2/163 فما بعدها، وتيسير التحرير 2/35.

ص: 172

قصراً لما شمله اللفظ العام ظاهراً، ولما تناوله المطلق بدلاً، فالمخصص فيه قصر العام على بعض أفراده، والمقيد فيه قصر وتضييق لدائرة الحكم الذي أفاده المطلق، وحيث إن تخصيص العام بيان، فكذلك تقييد المطلق يكون بياناً لقوة الشبه بينهما.

ومن أدلتهم أيضاً أن في حمل المطلق على المقيد بطريق البيان جمعاً1

1 الجمع لغة: تأليف المتفرق، وكل ما تجمع وانضم بعضه إلى بعض يسمى جمعاً، ومنه إزالة الاختلاف بين الدليلين بتأويلهما، أو تأويل أحدهما عن ظاهره.

القاموس المحيط 3/14-15 باب العين فصل الميم، وترتيب القاموس 1/528.

والجمع اصطلاحاً: بيان التوافق والائتلاف بين الأدلة الشرعيةَ سواء أكانت عقلية أم نقلية، وإظهار أنه لا يوجد بينها اختلاف حقيقي (يؤدي إلى التناقض أو النقص فيها) ، وسواء كان ذلك البيان بتأويل الطرفين أو أحدهما، وعلى هذا يطلق الجمع عند الأصوليين أو هو المعنى الخاص للجمع.

ويطلق الجمع بمعناه العام بالإضافة إلى المعنى الخاص على الأمور التالية:

1-

إظهار مزية لأحد الدليلين المتعارضين على الآخر، ويسمى الجمع والتوفيق بهذا النوع ترجيحاً.

2-

يطلق الجمع على تقديم بعض الأدلة على بعضها الآخر، لتقديم رتبته في القوة ويسمى الجمع بهذا النوع تقديم بعض الأدلة على بعضها الآخر حسب المرتبة.

3-

ويطلق الجمع أيضاً على بيان التاريخ بين المتعارضين وجعل أحدهما وهو المتأخر نزولاً ناسخاً والآخر وهو المتقدم في النزول منسوخاً، وبهذا المعنى العام يستعمل لفظ (الجمع) كثيراً وهو المراد من قول المحققين من أصحاب الأصول والمحدثين:(أنه لا يوجد نصان مختلفان إلا بعد التحقيق فيه له وجه يحتمل أن لا يكون مختلفاً)، ومن قولهم:"لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديثان بإسنادين صحيحين متضادان"، الرسالة للإمام الشافعي بتحقيق محمد شاكر ص: 216-217، والكفاية للخطيب البغدادي ص: 606 ط أولى م السعادة بدون، والتعارض والترجيح للدكتور مصطفى البرزنجي ص:339.

ص: 173

بين الأدلة المتعارضة في الظاهر، والجمع أو خطوة يخطوها المجتهد للتوفيق بين الدليلين المتعارضين، ووجه الجمع هنا أن بيان المطلق بواسطة المقيد لا يلغيه بالكلية، وإنما يجعل تطبيق الحكم منحصراً في دائرة المقيد، ومن القواعد المقررة في الأصول أن العمل بالدليلين، ولو من وجه خير من إهمالهما معاً أو إعمال أحدهما وإهمال الآخر1.

ب - وأما الحنفية:

فقد اختلفت الروايات عندهم في معنى حمل المطلق على المقيد، وكان السبب في ذلك يعود إلى وقت ورود المقيد وتساويه مع المطلق.

أ - فالمحققون منهم يرون أن معنى حمل المطلق على المقيد يكون بياناً في حالتين:

الأولى: إذا ورد المطلق والمقيد معاً، أي: إذا اقترنا في النزول.

الحالة الثانية: إذا جهل التاريخ بينهما؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد

1 الأسنوي على منهاج العقول ص: 139.

ص: 174

بطريق البيان تقديماً له على النسخ الذي لا يثبت بدون معرفة التاريخ1، وهذا الرأي يتفق مع مذهب الجمهور، إلا أنه يختلف معه في تحديد الصور والحالات التي يكون حمل المطلق على المقيد فيها بياناً.

ب - ويرى بعض الأحناف أن معنى حمل المطلق على المقيد، نسخ المطلق2 بواسطة المقيد، وهذا ما يعبر عنه بالزيادة على النص، إلا أن من شرط حمل المطلق على المقيد عند هؤلاء تساويهما في الثبوت والدلالة.

جـ - وذهب فريق آخر3 من الحنفية إلى أن معنى حمل المطلق على المقيد في الصور التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد يختلف عن المراد به لدى الجمهور، وفي ذلك يقول شارح مسلم الثبوت:"الأظهر المطابق لأصولنا أن هذا "يعني" حمل المطلق على المقيد من قبيل العمل بالمقيد والتوقف فيما عداه من أفراد المطلق لمعارضة وجوب القيد إجزاءه4 فيحتاط في العمل، فيعمل بما يخرج عن العهدة بيقين، وهو

1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/290، وتيسير التحرير 1/331، ومسلم الثبوت 1/1392.

2 حاشية الرهاوي على المنار ص: 561، وبدائع الصنائع للكاساني ط الإمام محمد كريم القلعجي نشر زكريا علي يوسف 6/2928، والمنار مع حواشيه ص:566.

3 هناك رواية للبزدوي أنه لا يحمل المطلق على المقيد أبداً، وسيأتي الكلام على ذلك، وكيفية تأويل قوله:(أبداً) .

4 معنى كلامه: أن اللفظ المطلق يفيد أن من أتى بالفرد الذي وجد فيه القيد أو بالفرد المطلق فقد أجزأه ذلك، لكن المقيد يوجب الإتيان بما وجد فيه القيد فقط، فتعارض الإجزاء المفهوم من اللفظ المطلق مع الوجوب المفهوم من المقيد، وعندئذ يحتاط في العمل فيعمل بالمقيد الذي يفيد الوجوب؛ لأن الآتي بالواجب آت بما هو جائز قطعاً، وليس كذلك من أتى بالجائز؛ لأنه قد يكون آتياً بما هو واجب أو مستحب، وعلى هذا يكون الوجوب أخص من الجواز فيعمل بالوجوب احتياطاً.

ص: 175

المقيد - وهذا مراد مشايخنا بحمل المطلق على المقيد وبالحمل على المقارنة، لا كما يحمل الشافعية، فإنه من قبيل المجاز وليس قرينة عليه"1.

1 مسلم الثبوت 1/362.

وإنما كان ذلك مجازاً عند الشافعية فقط في نظره؛ لأنهم أي: الشافعية يقولون إن المراد من المطلق ابتداء هو المراد من المقيد، وهذا ينطبق عليه تعريف مجاز الكل والبعض كما سبق، ومن شروط المجاز وجود القرينة الصارفة عن المعنى الأصلي إلى المعنى المجازي، وصاحب هذا الاتجاه ينكر وجود القرينة الصارفة وقت نزول المطلق.

ولكن الشافعية ومن معهم يقولون: إنها موجودة، وهي إما قولهم:(ما من عام إلا وقد خص منه البعض) ، والمطلق عام على سبيل البدل، فيكون داخلاً في هذه القاعدة، أو أن حمل المطلق على المقيد أسلوب عربي حيث يتركون التقييد في موضع اعتماداً منهم على ذكره في موضع آخر، وهذا يختلف عن المراد عند الحنفية؛ لأن المطلق عند الأحناف حكمه باق على إطلاقه، وإنما لم يعمل به لتعارضه مع المقيد فتقديم العمل بالمقيد احتياطاً في الأفراد الداخلة تحته لا يسلب حكم المطلق عن الأفراد الخارجة عن اللفظ المقيد، فيبقى المطلق شاملاً لما وراء المقيد من الأفراد حتى يرد الدليل الصالح لنسخ الإطلاق، فإذا وجد الدليل الصالح لنسخ الإطلاق أخذوا به وعندئذ تكون المسألة من باب نسخ المطلق بالمقيد، وليست من باب حمل المطلق على المقيد كما يقول الجمهور، وهذا هو أساس الخلاف بين الفريقين.

ص: 176

وهذا الاتجاه تؤيده الشروط التي اشترطها الحنفية لحمل المطلق على المقيد، وتعليلاتهم وردودهم على المخالفين لهم - كما سيأتي - لكن بالتأمل في هذا الرأي يبدو أن معنى حمل المطلق على المقيد عند هذا الفريق يعود إلى نوع من أنواع التوفيق بين الأدلة المتعارضة يسمى الترجيح1.

ويعرفونه بأنه إظهار المجتهد مزية معتبرة في أحد الطرفين المتعارضين تقتضي تقديمه على الآخر2، أو هو فضل أحد المتساويين وصفاً3 كما ذكر ذلك السرخسي حيث قال بعد تفصيل في المعنى اللغوي للترجيح.

وكذا الترجيح في الشريعة: (عبارة عن زيادة تكون وصفاً لا أصلاً) ، وإنما يكون الترجيح بما لا يصلح علة موجبة للحكم لو انفردت، فهذان التعريفان الأخيران يؤيدان ما ذهب إليه شارح مسلم الثبوت من أن معنى حمل المطلق على المقيد هو العمل بالمقيد والتوقف فيما عداه من أفراد المطلق، أو هو ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق في الأفراد4

1 المنار مع حواشيه ص: 567 والتشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عودة ص: 199.

2 أصول الفقه للدكتور محمد سلام مدكور ص: 325، والتعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية للبرزنجي ص:136.

3 أصول السرخسي 2/249-250، وكشف الأسرار على أصول البزدوي ص:71.

4 كشف الأسرار على أصول البزدوي 4/78، ومرآة الأصول لملاخسرو ص: 271، وأدلة التشريع المتعارضة لبدران ص: 63-64.

ص: 177

المشمولة بالوصف، كما يسميه بعضهم، ووجه ذلك أن المطلق والمقيد متساويان في القوة عند الحنفية؛ لأنهما من قبيل الخاص، ودلالة الخاص على معناه قطعية فيتساوى فيها كل فرد أو جزء1 من أجزاء الخاص، ولكن المقيد هنا اقترن به وصف لا يستقل بالحجية لو انفرد وهو مفهوم القيد - كما سيأتي - فاقتران المقيد بالوصف يجعله راجحاً في نظرهم؛ لأن الوصف لو انفرد لم يوجب حكماً بذاته.

ومع هذا التوجيه لمذهب الحنفية إلا أن تسميتهم ذلك حملاً للمطلق على المقيد فيه تسامح؛ لأن الترجيح عند الجمهور ليس خاصاً بالمطلق والمقيد، كما يظهر ذلك من التعريف الأول للترجيح، إذ يقتضي الترجيح لكل طرفين متعارضين لأحدهما فضل على الآخر.

وقد استدل هذا الفريق على وجهة نظره في معنى حمل المطلق على المقيد بالآتي:

1 -

حيث قال: إن الأصل التزام ما جاء عن الشارع في دلالات ألفاظه على الأحكام، فكل نص من نصوص الشرع دليل مستقل بنفسه

1 يراد بالأفراد هنا مدلولات اللفظ الخاص الذي يتناولها على سبيل البدل، فإن دلالته على كل واحد منها متساوية، ويراد بالإجزاء أجزاء الخاص المحصور، مثل عشرة ومائة وألف.

ص: 178

في إفادة الحكم، وحجة قائمة بذاتها في إثبات الحكم، سواء كان النص عاماً أم خاصاً، مطلقاً أو مقيداً، حتى يرد الدليل الصارف عن ذلك الأصل، وبناء على ما هو الأصل في المطلق والمقيد، لا يلزم حمل المطلق على المقيد إلا إذا كان الأخذ بكل منهما على حدة مدعاة للتناقض، وذلك عندما يكون تناف بين الإطلاق والتقييد فحينئذ يعمل بالمقيد احتياطاً لما فيه من الخروج عن العهدة بيقين1.

ونوقش هذا الدليل من قبل الجمهور، بأن الدليل الصارف موجود، وهو إما قولهم:"ما من عام إلا وقد خصص منه البعض"، أو كون ذلك أسلوباً من أساليب اللغة التي جاء القرآن موافقاً لها في جميع استعمالاتها.

2 -

ومن أدلتهم أيضاً: أن المطلق والمقيد من أنواع الخاص على الرأي الراجح2.

وقد تقدم أن الخاص لا يحتمل البيان عند الحنفية وعلى ذلك يكون ترجيح المقيد على المطلق والعمل به احتياطاً متعيناً عند الجهل بالتأريخ، لاستوائهما في الدلالة وامتياز المقيد على المطلق بما حواه من القيد الذي لا يستقل بالحجية لو انفرد.

وقد تقدم جواب الجمهور عن ذلك في دلالة الخاص، وأنه لا فرق

1 مسلم الثبوت 1/362.

2 المرآة وشرحها المرقاة 1/340.

ص: 179

بين احتمال الخاص للمجاز واحتماله للبيان إذا وجد الدليل، وبعد أن عرفنا المراد من حمل المطلق على المقيد لدى جمهور الأصوليين وبعض الحنفية، والأدلة التي تمسك بها كل فريق على وجهة نظره، ومعاضدة رأيه يحسن بنا أن نذكر السبب في هذا الاختلاف.

والحقيقة إن الخلاف في معنى حمل المطلق على المقيد يعود إلى أكثر من سبب، فهو من جهة يرجع إلى اختلاف الجمهور مع الحنفية في سبب الحمل ما هو؟ ومن جهة أخرى يعود إلى اختلاف الفريقين في المقصود من التعارض1

1 التعارض: يطلق على أحد معنيين، عام وخاص.

فالتعارض الخاص ما يكون بمعنى التناقض والتضاد، وهذا النوع لا يمكن لمسلم أن يقول بوجوده في الشريعة الإسلامية الصادرة عمن يعلم السر وأخفى، والمبلغة إلينا بواسطة المعصوم عليه الصلاة والسلام.

ومن هنا قال فريق من العلماء بنفي التعارض في الشريعة وأنه لا يوجد بين أحكامها أي تناف أو تضاد.

انظر رأي هذا الفريق في شرح المحلى على جمع الجوامع 2/359، والإبهاج شرح المنهاج للسبكي 3/142-143، وإرشاد الفحول ص: 275، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص: 59-63.

وما ذهب إليه هذا الفريق من عدم وجود التعارص بين نصوص الشرع (حق) إذا حمل على المعنى الخاص للتعارض، كما سبق بيان ذلك.

ويطلق التعارض: بمعناه العام على مطلق وجود التنافي بين الدليلين كالذي يقع بين العام والخاص وبين المجمل والمبين، والمطلق والمقيد، وهذا النوع من التعارض لا يمكن لمانعي التعارض في الشريعة إنكاره، ونفيه عن نصوص الكتاب والسنة؛ لأن سببه ناشئ من جهة المجتهد نفسه لجهله بالتاريخ بين الدليلين وعدم اطلاعه على القرائن الحالية والمقالية المصاحبة لنزول الدليلين المتعارضين في الظاهر، وما قد يتضمنه النص من مصالح للعباد في دنياهم وآخرتهم لا يحيط بها إلا علام الغيوب.

على أن الجمع هنا ممكن بين من ينفي وجود التعارض بين نصوص الشريعة، وبين من يقول بوجود التعارض بمعناه العام فيها، وذلك بحمل كلام المجوزين على المعنى العام للتعارض، وحمل كلام المانعين على المعنى الخاص للتعارض، وهو جمع وجيه ومعقول، ويدل عليه استقراء أدلة الفرق المختلفة وعندئذ يصح لمثبتي التعارض بمعناه العام الاحتجاج بمفهوم الخطاب في قوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً} حيث يدل على ثبوت الاختلاف القليل وأنه لا ينافي كونه من عند الله، ولا شك أن الاختلاف الواقع بين العام والخاص، والمطلق والمقيد اختلاف قليل، لأننا نتمكن من الجمع بين الدليلين والعمل بمقتضاهما.

ينظر في ذلك: نهاية السول للأسنوي 3/165، حيث يفند كلام المانعين من تعارض الأدلة القطعية وينقل عن الرازي جوازه فيها ثم يقول:(فدل ذلك على أن إطلاق المنع مردود) ، ومشكاة الأنوار المسماة بفتح الغفار لابن نجيم 2/109-110، وشرح المحلى 2/357، وتنقيح الفصول ص: 417-418، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/63-66، ص:109.

ص: 180

بين الأدلة، ومحله منها1

1 محل التعارض من الأدلة:

اختلف القائلون بوجود التعارض في الشريعة فيما يقبله من الأدلة، وكان لهم في ذلك مذهبان مبناهما الخلاف في تفسير التعارض.

أ- فمن يرى أن المقصود به التناقض والتضاد منع من وقوعه في الأدلة القطعية؛ لأن التفاوت في القطعيات ممنوع في نظر هذا الفريق، ولا يرى مانعاً من وقوع التعارض في الظنيات؛ لأن التفاوت بين الظنون متصور وجائز، وممن ذهب إلى هذا الاتجاه الشيرازي والبيضاوي وغيرهم.

انظر ذلك في شرح المحلى 2/309، ونهاية السول 3/256، ومشكاة الأنوار 2/417، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص: 66-77، وبخاصة كلامه ص: 112-113 عند رأي الأستاذ بخيت المطيعي.

ب- ومن يرى: أن المقصود بالتعارض في الشرع معناه العام، وهو مطلق التنافي لا يرى مانعاً من وقوع التعارض بمعناه العام بين كل حجتين سواء كانتا من قبيل القطعي أم من قبيل الظني؛ لأن السبب في وجود التعارص بهذا المعنى الجهل بالتاريخ بين الدليلين وعدم الاطلاع على المصالح والأسرار التي توخاها الشارع، وهذا السبب لا فرق فيه بين الأدلة، سواء كانت قطعية أم ظنية وسواء كانت نقلية أم عقلية، وهذا الرأي قال به كثير من المحققين.

انظر: الإبهاج 3/33-134، وشرح الكوكب المنير ص:426، والتلويح للتفتازاني 2/103، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 109-113.

تنبيه: الأدلة: تنقسم إلى قطعية وظنية ومن أمثلة القطعية القياس المنطقي البرهاني مثل: (العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث) ، فالعالم محدث، والإجماع المنقول بطريق التواتر، كالإجماع على الصلوات الخمس.

ومثال الظنية: أخبار الآحاد والأقيسة الفقهية كقياس الشافعي جميع المطعومات على الشعير والحنطة في حرمة البيع متفاضلاً. التعارض ص: 205.

ص: 181

وشروط1 تحققه فيها، وكيفية2 دفعه عنها إذا وجد.

2 -

تعليل حمل المطلق على المقيد عند بعض الأحناف.

لو رجعنا إلى دليل الحنفية الأول لوجدنا أن هذا الفريق من الحنفية يجعل سبب حمل المطلق على المقيد دخول التنافي بينهما في باب تعارض الأدلة، بدليل اشتراطهم في الترجيح (فضل أحد المتساوين وصفاً3،

1 شروط التعارض: اتفق الأصوليون على شرطين فقط من الشروط الكثيرة المذكورة في مبحث تعارض الأدلة، وهذان الشرطان هما:

أولاً: حجية المتعارضين، وذلك بأن يكون كل منهما حجة يصح التمسك بها ويستساغ أخذ الأحكام عن طريقها، ومفهوم هذا الشرط أنه لا يوجد التعارض بين الدليل المتفق على حجيته مثل: الحديث الصحيح، وبين الحديث المختلف على حجيته مثل: الحديث المرسل؛ لأن المخالف في حجية المرسل يمنع التعارض لفقدان شرطه، وهو التساوي في الحجية.

الشرط الثاني: وجود مطلق التنافي بين الدليلين، وبهذا الشرط يكون مجال التعارض شاملاً لجميع الأدلة سواء كانت عقلية كالقياس أم نقلية كنصوص الكتاب والسنة، وسواء كانت قطعية كالمتواتر من النصوص الشرعية أم ظنية كالأقيسة الفقهية، والظاهر من الألفاظ في دلالته، وأحاديث الأحاد في ثبوتها، ما دام أن مطلق التنافي موجود بينها.

2 سيأتي كيفية دفع التعارض بين الأدلة ص: 184.

3 تقدم أن هذا الفريق يرى أن معنى حمل المطلق على المقيد هو ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق ص: 145، وأصول السرخسي 2/249-250، وكشف الأسرار 4/78.

ص: 183

وهذا يتحقق في باب المطلق والمقيد كما سبق، وعندئذ فإن التنافي الموجود بين المطلق والمقيد يكون خاضعاً لقواعد الجمع والترجيح بين الأدلة المتعارضة) 1، ومعروف أن باب التعارض من الأبواب التي جال العلماء فيها كثيراً وكان بينهم خلاف طويل في مسائله المتشعبة والتي كان من بينها اختلافهم في وجود التعارض وعدمه في أحوال المطلق والمقيد الآتية، وكيفية التوفيق بينهما إذا وجد التعارض.

على أن المهم هو اتفاق الجميع على وجوب دفع التعارض بين المطلق والمقيد سواء سمي ذلك جمعاً وبياناً، كما يقول جمهور الأصوليين، أو سمي ترجيحاً وتقديماً كما يراه بعض الأحناف؛ لأن الاختلاف في الاصطلاحات أسهل من بقاء التعارض بين الأدلة الشرعية المنزهة عن التناقض والتضاد2، ذلك أن مرجع الخلاف في الاصطلاحات يكون عائداً إلى المقصود منها عند المصطلحين، بخلاف بقاء التعارض بين الأدلة؛ فإنه لا يكون مقصوداً.

1 أصول الفقه وحسان حامد حسين ص: 460.

2 إرشاد الفحول ص: 275، والكفاية للخطيب البغدادي في علوم الحديث ص: 606-607، والموافقات للشاطبي 4/294، والإبهاج 3/46، والأحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/151، ط العاصمة بالقاهرة الناشر زكريا يوسف، والتعارض والترجيح بين الأدلة للدكتور مصطفى البرزنجي 1/60-63، وصفحة 109 -113.

ص: 184

فإن قيل: فما الفرق بين رأي الجمهور وبعض الأحناف؟ إذا كان حمل المطلق على المقيد يؤدي في النهاية إلى العمل بالمقيد على كلا المذهبين.

والجواب أن ذلك مسلم، لكن الفرق بينهما يظهر في التعليل والتطبيق والشروط كما سيأتي.

ص: 185