المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص - المطلق والمقيد

[حمد بن حمدي الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما

- ‌الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح

- ‌المبحث الثالث تعريف المقيد اصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة

- ‌المبحث الثالث المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد

- ‌المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية

- ‌المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد

- ‌الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد

- ‌الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل

- ‌المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها

- ‌المطلب الأول: في محل الإتفاق

- ‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف

- ‌المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد

- ‌الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه

- ‌المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها

- ‌المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد

- ‌المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة

- ‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص

- ‌الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف

- ‌المبحث الثاني في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات:

- ‌المبحث الثالث: في مسائل متفرقة

- ‌الباب الثالث: في مقيدات المطلق

- ‌الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها

- ‌الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة

- ‌المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها

- ‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص

‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص

.

خلال حديثنا المستفيض عن أحوال المطلق والمقيد ذكرنا أن من الأسباب التي أدت إلى اختلاف الأصوليين في حكم حمل المطلق على المقيد في بعض الصور1، هو اختلافهم في الزيادة على النص، أهي بيان أو نسخ؟

وحتى يكون الكلام على حقيقة الخلاف مبنياً على أساس متين، ووافياً بالغرض المقصود، نخص هذه النقطة الأخيرة وهي الزيادة على النص بين النسخ والبيان، بمزيد من البحث والتفصيل وليكن الكلام عنها في النقاط التالية:

1 -

المراد بالبيان.

2 -

المراد بالنسخ.

3 -

تعريف النص والمقصود به في هذا المبحث.

4 -

تحرير محل النزاع في الزيادة على النص.

5 -

أقوال العلماء في حكم الزيادة على النص وأدلتهم.

6 -

ثمرة الخلاف في الزيادة على النص.

1 انظر الحال الثالثة من الأحوال المختلف في حكم حمل المطلق على المقيد فيها ص: 238.

ص: 358

1 -

المقصود بالبيان:

يراد بالبيان أن الحكم الذي يتناوله النص بظاهره لم يرد منا الشرع أن نعمل به على إطلاقه وشموله، وإنما المقصود منه هو العمل بمقتضى ما جاءت به الزيادة.

2 -

ويراد بالنسخ:

أن الحكم الذي يتناوله النص بظاهره كان مراداً للشارع على الإطلاق ثم جاءت الزيادة ناسخة لذلك الإطلاق، ومقيدة للحكم ببعض محاله التي كان يتحقق فيها قبل مجيء الزيادة.

وبناء على ذلك يتفق البيان والنسخ على أن الحكم الذي يجب العمل به بعد مجيء الزيادة هو ما تضمنته الزيادة نفسها، ويختلفان في أن ذلك الحكم هل هو المشروع ابتداء لم يطرأ عليه أي تغيير؟ وعندئذ تكون الزيادة قد أظهرت وبينت ما هو مشروع ابتداء فقط، وهذا المعنى هو المراد بالبيان، أو أن المشروع ابتداء هو ما يفيده النص على إطلاقه، والزيادة جاءت قاصرة له على بعض ما كان يتناوله، وحينئذ تكون الزيادة قد غيرت وأزالت بعض ما كان مراداً للشارع في ابتداء التشريع، وقصرت الحكم فيما يستقبل من الزمان على بعض ما كان قد تناوله النص، فتكون نسخاً بهذا الاعتبار بذلك قال الحنفية، كما سيأتي.

3 -

تعريف النص والمراد به هنا:

أ - النص في اللغة: يأتي بمعنى الظهور والارتفاع، تقول العرب:

ص: 359

نصت الظبية رأسها، إذا أظهرته ورفعته، ونص فلان الحديث إلى فلان، إذا رفعه إليه، ونص كل شيء منتهاه1، ومن النص بمعنى الظهور والارتفاع سمي الكرسي الذي تجلس عليه العروس منصة؛ لأنها تكون مرفوعة وظاهره على غيرها، ومنه أيضا قول الفقهاء:(نص الكتاب ونص السنة) أي: ما دل عليه ظاهرها من الأحكام2.

ب - والنص في الاصطلاح: يختلف تعريفه باعتبار ما يراد منه3،

1 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/356 ط 2 البابي الحلبي سنة 1392 بمصر.

2 النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/64 - 65 ط الحلبي.

3 فيعرف باعتبار مقابلته للدال بالمفهوم: بأنه اللفظ الذي يفهم منه عند النطق به معنى؛ فيكون والحالة هذه هو والظاهر سواء.

ويعرف باعتباره قسيماً للظاهر، بأنه: ما لا يتطرق إليه احتمال لا على بعد ولا على قرب، مثل لفظ:(الخمسة) ؛ فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة أو الأربعة، ومثل لفظ (الفرس) ، فإنه لا يحتمل غير المسمى به، إذ لا يطلق على الحمار أو البعير اسم الفرس مثلاً، ولكن لما كان نفي مجرد الاحتمال غير ممكن في دلالة اللفظ. نظراً لما يتطرف إلى الدلالة اللفظية من الاحتمالات والمقدمات، اختار بعض الأصوليين تعريفاً وسطاً للنص المقابل للظاهر، حيث يرى هذا الفريق أن النص: ما لا يتطرق إليه احتمال مقبول، ويريد بالاحتمال المقبول ما كان ناشئاً عن دليل، أما الاحتمال الذي لم يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصاً.

دراسات في التعارض والترجيح د. السيد صالح عوض ص: 241، والمستصفى للغزالي ص:128.

ص: 360

والذي يهمنا من ذلك هو تعريف النص باعتباره شاملاً لنصوص الكتاب والسنة، حيث يعرَّف والحالة هذه بأنه: اللفظ الذي يفهم منه معنى عند النطق به1، وسواء أكان ذلك المعنى مقطوعاً به أم غير مقطوع به، وهذا التعريف أقرب معاني النص لما يراد منه في هذا المبحث؛ لأن علماء الأصول يعنون بالزيادة على النص أن يوجد نص شرعي يفيد حكماً، وقبل وقت العمل به يأتي نص آخر أو ما في حكمه2 مفيداً نفس الحكم السابق للواقعة مع زيادة لم يتضمنها النص الأول، أو يضيف إلى حكم الواقعة الذي تناوله النص الأول بظاهره زيادة فقط.

كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 3 مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحاح: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام"4.

1 المرجعين السابقين.

2 يراد بما في حكم النص مفهوم المخالفة والقياس، والمراد بالاتيان - هنا - هو الظهور للمجتهد.

3 سورة النور آية: 2.

4 روى هذا الحديث مسلم في باب حد الزنى 3/1316 رقم الحديث 1690، وأبو داود 4/144، الحديث رقم 4415 دار إحياء السنة النبوية تعليف محمد محي الدين عبد الحميد.

والبيهقي 8/210 - 222 من طرق عن الحسن بن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت.

وذكر الألباني في إرواء الغليل 8/10 الجملة الأخيرة وقال: صحيح، وذكر من خرجه من المحدثين رقم 2341 الجزء السابع.

ص: 361

فالنص الأول: وهو الآية الكريمة أفاد حكماً شرعياً هو وجوب جلد الزاني مائة جلدة، وجاء الحديث الشريف فزاد على جلد المائة تغريب عام، فجلد المائة هو المزيد عليه، وتغريب عام هو المزيد، أو الزيادة على النص.

ولكن الحنفية عندما اشترطوا في النص الذي تكون الزيادة عليه نسخاً كونه مقطوعاً به ثبوتاً ودلالة، قد قصروا النص على نوع خاص من ألفاظ الكتاب والسنة، وهو ما ثبت وصوله إلينا بالطريق المتواتر، أو المشهور، وكانت دلالته على الحكم لا يتطرق إليها احتمال مقبول.

فبالشرط الأول: يكون النص شاملاً لجميع ألفاظ القرآن الكريم، وكذلك السنة المتواترة أو المشهورة، أما شموله للقرآن الكريم؛ فلأنه قد وصل إلينا كله بالطريق المتواتر، وكذا السنة المتواترة، وأما المشهورة فألحقت بالمتواترة حكماً عند الحنفية.

وبالشرط الثاني: يخرج اللفظ الذي في دلالته أو ثبوته احتمال، كالعام الذي دخله التخصيص والسنة الأحادية؛ لأنها لم تصل إلينا بالطريق

ص: 362

المتواتر أو المشهور.

والحاصل أن ما ثبت له الحكم بطريق قطعي لا يزول عنه بطريق ظني عند الحنفية؛ لأن الزوال بعد الثبوت في الأحكام الشرعية يكون نسخاً في الغالب، ونسخ القطعي بالظني غير جائز1.

ويرى الجمهور أن تغيير الظاهر قبل وقت العمل لا يسمى نسخاً؛ لأنه وقع في زمن البيان، والبيان أكثر وقوعاً في الشريعة من النسخ، فيحمل التغيير في هذه المدة على البيان؛ لأنه الغالب على أحكام الشرع إلا إذا قام دليل قاطع على النسخ، كالتصريح في الزيادة على نسخ ما أفاده الظاهر، فإنه يكون حينئذ نسخاً لهذه القرينة، وليس لتعارض الزيادة مع النص.

4 -

تحرير محل النزاع في الزيادة على النص:

لكي يكون النزاع2 في محل الزيادة على النص واضحاً أمامنا لا بد من الإشارة إلى أن الزيادة عند الأصوليين تنقسم إلى قسمين.

زيادة مستقلة بنفسها، بمعنى أن المزيد ليس جزءاً أو شرطاً لشيء آخر، وهذا النوع من الزيادة يتنوع بدوره إلى نوعين:

1 وكلتا الدعويين غير مسلمة لدى الجمهور كما سيأتي.

2 مرآة الأصول لملاخسرو 2/190، 168، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/191، والمنار ص:723.

ص: 363

الأول: أن يكون المزيد مخالفاً لجنس المزيد عليه مثل: زيادة الزكاة على الصلاة، فإن كلاً منهما جنس يختلف عن الآخر، والمزيد وهو الزكاة مستقل عن المزيد عليه؛ إذ الزكاة لا تتعلق بالصلاة تعلق الجزء بالكل أو الشرط بالمشروط.

والنوع الثاني: من الزيادة المستقلة أن يكون المزيد من جنس المزيد عليه، كزيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس مثلاً، فإن كلا من الزيادة والمزيد عليه جنس واحد كما هو الظاهر، والمزيد وهو الصلاة السادسة مستقل بنفسه عن المزيد عليه، لعدم تعلق الصلاة السادسة بما قبلها من الصلوات.

وهذا القسم من الزيادة بنوعيه الاتفاق قائم بين العلماء دون خلاف يعتد به على أن الزيادة ليست نسخاً لحكم المزيد عليه؛ لأنها زيادة حكم في الشرع دون تغيير الحكم الأول، فمثلاً: وجوب الصلاة لم يتغير بعد زيادة وجوب الزكاة في الشرع، بل ظلت الصلاة واجبة بعد مشروعية الزكاة، كما كانت واجبة قبل مشروعيتها، وكذلك الحال بالنسبة لزيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس.

القسم الثاني:

زيادة غير مستقلة، بمعنى أن المزيد لا يستقل عن المزيد عليه في إفادة تمام الحكم، لأن الحكم مكون من مجموع الأمرين الزيادة والمزيد عليه، ومن أمثلة هذا القسم زيادة تغريب عام على الجلد في حد الزاني غير

ص: 364

المحصن، إذ إن الحكم بعد زيادة التغريب أصبح مكوناً من جزئين جلد مائة، وتغريب عام، ومثل زيادة وصف الرقبة بالإيمان في كفارة الظهار قياساً لها على كفارة القتل، فقد أصبح الحكم بعد زيادة اشتراط الإيمان إعتاق رقبة مؤمنة لا يجزئ غيرها.

وهذا النوع من الزيادة له حالتان:

الأولى: أن تكون الزيادة مقارنة للمزيد عليه في نزوله إن كان قرآناً، أو في وروده إن كان سنة، بحيث لا تتأخر عنه مدة يمكن القول بنسخ الحكم فيها، ومن أمثلة هذه الحال رد شهادة القاذف؛ فإنها وردت متصلة بالجلد في قوله - تعالى -:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1.

وقد اتفق العلماء على أن هذا النوع من الزيادة غير المستقلة لا يكون نسخاً لفقدان شرط النسخ فيه، وهو التأخر عن المنسوخ بمقدار عقد القلب والعزم على تنفيذ الحكم عند الحنفية، وعند غيرهم شرط النسخ التأخر عن وقت العمل، وكلا الشرطين لم يتحققا في هذا النوع من الزيادة.

1 سورة النور آية: 4.

ص: 365

الحال الثانية:

أن تكون الزيادة غير المستقلة قد تأخرت عن المزيد عليه مدة1 يمكن نسخ الحكم فيها، وفي هذه الحال من الزيادة اختلفت أنظار العلماء، وكانت لهم في حكمها مذاهب أهمها ما يلي:

المذهب الأول:

الزيادة على النص نسخ مطلقاً2 وهذا مذهب جمهور الحنفية،

قال الإمام السرخسي: (الزيادة على النص بيان صورة ونسخ معنى

1 أشرنا إلى أن المدة التي يمكن فيها نسخ الحكم عند الحنفية مقدار عقد القلب والعزم على تنفيذ الفعل، وأما عند الجمهور فهي غير محددة الزمن، ولكنها محددة بألا تتأخر عن وقت العمل.

وبالتأمل في هذه المسألة نجد أن الخلاف فيها يمكن إرجاعه إلى الخلاف في جواز النسخ قبل العمل؛ وعليه فالخلاف في هذه المسألة قليل الفائدة بالنسبة للفروع، لأن أمثلة النسخ قبل العمل قليلة إن لن تكن نادرة الوقوع، وحينئذ فلا بد للفروع المنسوبة لهذه القاعدة من أصل آخر غير الزيادة على النص، وسيأتي لهذا المزيد من البحث إن شاء الله.

2 فصول البدائع في أصول الشرائع 2/148، ومسلم الثبوت 2/92، والمرآة في أصول الفقه لملاخسرو مع حاشية الأزميري 2/190، والأحكام للآمدي 2/285، والمستصفى للغزالي ص: 139، وإرشاد الفحول ص: 194 - 196، وكشف الأسرار 3/191، والمنار مع حواشيه ص: 723، وتنقيح الفصول للقرافي ص:319.

ص: 366

عندنا) 1، وأشار بقوله: معنى إلى أن الزيادة إنما كانت نسخاً عند الحنفية لتحقق معنى النسخ فيها، وإن كان ذلك لا يمنع من تسميتها بياناً في الصورة كما هو مصرح به في كتب الحنفية.

المذهب الثاني:

الزيادة ليست نسخاً مطلقاً2، وإليه ذهب جمهور الأصوليين، ومنهم الشافعية.

وإذا لم تكن الزيادة نسخاً فهي بيان؛ لأن الأقوال منحصرة في الأمرين.

المذهب الثالث:

القول بالتفصيل على النحو التالي:

أ - الزيادة على النص تكون نسخاً إذا أفادت خلاف ما أفاده مفهوم المخالفة - كإيجاب الزكاة في الغنم المعلوفة، فإنه خلاف ما أفاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"في الغنم السائمة الزكاة"، الذي يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة بمفهومه المخالف - وإن لم تفد خلاف ما أفاده المفهوم المخالف فليست بنسخ.

1 أصول السرخسي 2/82، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص:66.

2 المرجع السابق.

ص: 367

ب - وقال جماعة من الأصوليين:

إن غيرت الزيادة المزيد عليه في المستقبل، بحيث لو فعل بانفراده لا يعتد به ويجب استئنافه؛ كزيادة ركعة ثالثة في الفجر فهي نسخ، وإلا فليست بنسخ، مثل زيادة التغريب على الجلد؛ فإن السلطان لو جلد ثم استفتى فأفتى بالتغريب لا يجب عليه استئناف الجلد مرة أخرى، ونسب هذا القول إلى الكرخي1 من الحنفية وأبي عبد الله البصري2.

جـ - وقال آخرون: إن اتحدت الزيادة مع المزيد عليه اتحاداً يرفع التعدد والانفصال فهي نسخ، وفيما عدا ذلك لا تكون الزيادة نسخاً، ونسب هذا القول إلى الغزالي من الشافعية3، مثل: زيادة ركعتين في

1 الكرخي هو: أبو عبيد الله بن الحسين أبو الحسن، ولد سنة 260 هـ فقيه أصولي، انتهت إليه رئاسة الحنفية بالعراق، وله رسالة في الأصول عليها مدار فروع الحنفية توفي سنة 320هـ.

راجع: الأعلام 4/347.

2 أبو عبد الله البصري هو: الحسين بن علي ولد عام 288هـ بالبصرة وهو من شيوخ المعتزلة، كان يشار إليه بالبنان، فقيها متكلماً، أخذ علم الكلام عن أبي هاشم فبلغ بجدّه واجتهاده ما لم يبلغه أحد من تلاميذه، له عدة مؤلفات منها: الإيمان، والإقرار، والمعرفة، وكتاب التفضيل، توفي ببغداد سنة 367 وقيل 363هـ.

راجع: الفرق وطبقات المعتزلة من تحقيق كتاب المنية والأصل لابن المرتضى1/111، والأعلام 2/266.

3 فصول البدائع في أصول الشرائع للفناري 2/148، والمستصفى ص: 139، ومسلم الثبوت 2/92، ومرآة الأصول لملاخسرو 2/190.

ص: 368

صلاة الصبح فرضاً، إذ لم يثبت ذلك.

د - واختار بعض المحققين 1:

أن الزيادة إن رفعت حكماً شرعياً بدليل شرعي متأخر فهي نسخ لوجود حقيقة النسخ فيها عندئذ، وما عدا ذلك فليست الزيادة فيه نسخاً، كأن يكون الحكم المرفوع مثلاً: ليس حكماً شرعياً، بل عدماً أصلياً، أو كانت الزيادة غير متأخرة عن المزيد عليه مدة يمكن النسخ فيها.

أو كان ثبوت الزيادة بدليل غير شرعي في نظر بعض الأصوليين، مثل: الزيادة بمفهوم المخالفة عند الحنفية، فالزيادة في هذه الصور الثلاث لا تكون نسخاً؛ لأن حقيقة النسخ لم توجد فيها، لتخلف شرط من شروط النسخ الثلاثة السابقة فينتفي النسخ بانتفاء كل واحد منها.

قال الفناري من الحنفية: "وهذا الرأي أقرب؛ لأنه مبني على حقيقة النسخ، وهو مآل مذهبنا وإن اختلف في بعض الأمثلة لأصل آخر"2.

1 نسب الفناري هذا التحقيق إلى أبي الحسين البصري، وابن الحاجب ص: 148، وانظر نشر البنود وشرح مراقي السعود 1/302.

2 المرجع السابق ص: 248.

ص: 369

5 -

أدلة المذاهب:

أولاً: أدلة الحنفية:

استدل الحنفية على أن الزيادة نسخ بعدة أدلة منها:

1 -

قالوا: إن المزيد عليه كان قبل الزيادة مجزئاً بدون تلك الزيادة وبعدها لم يكن كذلك، والإجزاء حكم شرعي، وقد ارتفع بعد مجيء الزيادة فتحقق بذلك معنى النسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي1.

وأجيب عن هذا الاستدلال من قبل الجمهور بأن إجزاء المزيد عليه بدون الزيادة يدل على أمرين:

الأول: الامتثال بفعل المزيد عليه.

والثاني: عدم توقفه على شيء آخر.

والأمر الأول حكم شرعي، ولكنه لم يرتفع بالزيادة، بل بقي الامتثال بفعله بعدها، كما لو جلد الزاني البكر مائة جلدة؛ فإن السلطان لا يعيد الجلد مرة أخرى، ويبقى عليه التغريب الذي أفادته الزيادة.

والأمر الثاني: قد ارتفع؛ لأن المزيد عليه أصبح بعد الزيادة متوقفاً على شيء آخر، هو ضم الزيادة إلى المزيد عليه في الحكم، ولكن ارتفاعه لا يمثل النسخ؛ لأنه مستند إلى البراءة الأصلية، ورفع البراءة الأصلية لا يعتبر نسخاً، بدليل أن العبادة إذا وجبت ابتداء؛ فإن وجوبها رافع للحكم

1 مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2/92.

ص: 370

العقلي، وهو براءة الذمة من التكاليف، وليس ذلك نسخاً بإجماع1.

2 -

واستدل الحنفية على خصوص مسألة زيادة المقيد على المطلق.

فقالوا: إن الإطلاق حكم يريده الشارع، وكذلك التقييد حكم يريده الشارع2 أيضاً، وهما ضدان، فمن ضرورة ثبوت صفة التقييد في محل انعدام صفة الإطلاق فيه، وحيث كانت صفة الإطلاق منتهية بحلول صفة التقييد محلها أصبح معنى النسخ متحققاً في زيادة المقيد على المطلق؛ لأن حقيقة النسخ كما سبق بيان انتهاء الحكم الشرعي بدليل شرعي، فكانت زيادة المقيد على المطلق نسخاً من هذا الوجه أيضاً3.

وهذا الدليل يمكن أن يجاب عنه بوجهين:

الأول: منع كون صفة الإطلاق منافية لصفة التقييد بالكلية، لما تقدم في تعريف المطلق والمقيد أنها من الأمور النسبية، فقد يكون اللفظ مطلقاً ومقيداً في آن واحد كالرقبة الموصوفة بالإيمان؛ فإنها مقيدة بتلك الصفة ومطلقة عن غيرها من الصفات

الوجه الثاني: أن حلول صفة التقييد على صفة الإطلاق لا يعدمها

1 شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب 2/203.

2 بدليل ورود أحكام مطلقة وأخرى مقيدة في الشرع، فكان ذلك دليلاً على أن الإطلاق والتقييد مما يريده الشارع.

3 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار 3/192، وأصول السرخسي 2/82، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص:66.

ص: 371

بالكلية كما هو المدعى، بل يخصصها ببعض المحال التي كانت تتحقق في ضمنها، ويضيق من دائرة انتشارها قبل التقييد، وذلك لا يسمى نسخاً، بل هو قصر لصفة الإطلاق على بعض المحال التي كانت صالحة لها قبل ورود التقييد عليها، وحيث أن حكم المطلق لم ينته بالكلية بعد زيادة المقيد عليه، بل ظل معمولاً به في بعض أحواله لم يتحقق معنى النسخ المصطلح عليه، اللهم إلا إن كان صاحب هذا الدليل يريد بالنسخ هنا النسخ الجزئي؛ فإن كان مراده ذلك فصياغة الدليل لا تساعده، لقوله:(وهما ضدان) ثم إن حمل النسخ في هذا المبحث على النسخ الجزئي يجعل الخلاف لفظياً، لأن الجمهور يقرون بهذا النوع من التغيير، ولكن لا يسمونه نسخاً إلا إذا تأخر عن وقت العمل بالمطلق1.

ويمكن أن يجاب عنه بجواب ثالث:

فيقال: سلمنا أن الإطلاق والتقييد لا يجتمعان، ولكن ذلك في الإطلاق والتقييد بالمعنى العام، وكلامنا هنا في الإطلاق والتقييد عند الأصوليين وحينئذ يكون الدليل خارجاً عن محل النزاع.

3 -

ومن أدلتهم أيضاً:

أن شرط النسخ قد وجد في زيادة المقيد على المطلق وهو ثبوت التعارض بين الدليلين، إذا جهل التاريخ، وهذا الشرط متحقق في زيادة

1 المرجع السابق.

ص: 372

المقيد على المطلق، فإنه لو جهل تاريخ كل من النص المطلق والمقيد لثبت التعارض بينهما، فدل ذلك على أنه عند معرفة التاريخ يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم1.

والجواب عن هذا الدليل أن يقال:

التعارض له معنيان: عام، وخاص، فأي المعنيين تريدون؟ فإن كان مرادكم بالتعارض معناه العام الذي هو مطلق وجود التنافي بين الدليلين فهذا مسلّم به، ولكنه لا يوجب القول بالنسخ؛ لأن الجمع بين المطلق والمقيد ممكن، ومع إمكان الجمع بين المتعارضين لا يعدل عنه إلى القول بالنسخ؛ لأن العمل بالأدلة ولو من وجه أولى من العمل ببعضها وإهمال بعضها الآخر.

وإن كنتم تعنون بالتعارض معناه الخاص، وهو وجود التناقض والتضاد بين الأدلة، بحيث لا يمكن الجمع بينها فهذا غير موجود في الشريعة، وعلى فرض وجوده فمن شرطه تساوي الدليلين في الدلالة والثبوت، وقد مر بنا أن دلالة المطلق على الأفراد الشائعة مثل دلالة العام، فهي محل خلاف بين الأصوليين، فلا تعارض دلالة المقيد التي هي محل وفاق بينهم.

ومن هنا لم يتحقق في المطلق والمقيد شرط المعارضة الخاصة التي

1 أصول السرخسي ص: 84.

ص: 373

تقتضي النسخ عند القائلين بوجودها في الشرع، وحينئذ فلا يكون مطلق التعارض بين المطلق والمقيد عند الجهل بالتاريخ مقتضياً للقول بالنسخ كما هو المدعى.

ثانياً: أدلة الجمهور:

لما كانت دعوى الحنفية ذات شقين:

الأول: أن الزيادة على النص نسخ مطلقاً.

والثاني: إن نسخ القطعي بالظني لا يجوز، فقد سار الجمهور عند عرضهم لأدلة مذهبهم في اتجاهين أيضاً.

الاتجاه الأول: إثبات أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً.

والثاني: على فرض أن الزيادة على النص نسخ فلم لا تجوز بالدليل الظني؟ وخاصة إذا علم تأخر الظني عن القطعي، فإنه يكون للنقاش مجال واسع عندئذ.

أ - أدلة الجمهور على أن الزيادة ليست بنسخ:

استدل جمهور الأصوليين على أن الزيادة على النص ليست بنسخ مطلقاً بعدة أدلة منها:

إن حقيقة النسخ لم توجد في هذه الزيادة؛ لأن حقيقته رفع وتبديل الحكم الشرعي بدليل شرعي، وهذه الزيادة تقرير للحكم الشرعي الذي أفاده المزيد عليه قبل مجيء الزيادة وتثبيت له، ذلك أن ضم شيء إلى آخر يثبت المضموم إليه ويقرره نظراً إلى أن الانضمام صفة لا بد لها من محل

ص: 374

تقوم به، ولهذا نرى حكم المزيد عليه لم يرتفع بعد إلحاق الزيادة به فشأن هذه الزيادة في حقوق الله شأن الأمر بالصوم بعد الأمر بالصلاة.

والعلماء متفقون على أن زيادة الأمر بالصوم بعد الأمر بالصلاة لم تكن نسخاً للصلاة فكذلك هذه الزيادة1.

ونظيرها في حقوق العباد، من ادعى على آخر بألف وخمسمائة ريال، ثم شهد له شاهدان بألف، وآخران بألف وخمسمائة، فإن شهادتهم تقبل عند الجمهور، ويكون الألف مقضياً له به بشهادة الجميع، لأن إلحاق الخمسمائة ريال بالألف بشهادة الآخرين قد قررت الألف لاتفاق الجميع عليه، ولو كانت الزيادة نسخاً مطلقاً لما صحت شهادة الأولين على الألف، لأن الزيادة وهي إلحاق الخمسمائة بشهادة الآخرين تكون ناسخة لشهادة الأوليين.

وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل بعدة اعتراضات منها:

1 -

قالوا: لا نسلم أن هذه الزيادة تقرير للأصل الذي أفاده المزيد عليه، وضم حكم آخر إليه، بل هي نسخ للمزيد عليه، إذ كيف تكون تقريراً وهي ترفع أحكاماً شرعية كثيرة، واحداً منها يكفي للقول بالنسخ

1 شرح تنقيح الفصول للقرافي ص: 309، والأحكام للآمدي 2/285، والمسودة لآل تيمية ص: 207 - 208، وأسباب اختلاف الفقهاء ص: 68، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/92.

ص: 375

فضلاً عن جميعها فمن تلك الأحكام الشرعية التي ارتفعت بعد مجيء الزيادة ما يلي:

الإجزاء بدون تلك الزيادة الذي يستفاد من الأصل بمقتضى إطلاقه حيث كان مطلق الرقبة مثلاً، مجزئاً في كفارة الظهار، ولما زيد عليها وصف الإيمان انتسخ هذا الإجزاء، لأن وصف الإيمان أصبح بعد الزيادة شرطاً في إجزاء الرقبة، وحيث ارتفع حكم شرعي دل عليه النص المطلق بدليل شرعي هو تلك الزيادة فقد تحقق معنى النسخ الذي هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في هذا النوع من الزيادة، فتكون نسخاً لا تقريراً.

وقد تقدم الجواب عن ذلك في الدليل الأول للحنفية.

وثاني الأحكام التي ترفعها الزيادة حرمة التعدي والزيادة على الحكم الذي أفاده المزيد عليه فمثلاً: زيادة التغريب على حد الزاني غير المحصن، كانت محرمة بمقتضى النص المطلق، وبعمومات أخرى مثل: قوله - تعالى -: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار" 2، وقد ارتفعت هذه الحرمة بعد ورود الزيادة بالتغريب؛ لأن

1 سورة البقرة آية: 229.

2 الحديث رواه مالك في الموطأ مع شرح الزرقاني 4/32، باب القضاء في المرافق رقم الحديث 1500، ورواه أحمد 5/326، 326، والبيهقي 6/69، ونصب الراية للزيلعي 4/384 - 385.

قال الألباني في إرواء الغليل بشرح منار السبيل 7/228، بعد ذكر الحديث: صحيح، وذكر طرقه ومن خرجه فيراجع ذلك من يريد الاستفادة أكثر.

ص: 376

الزيادة أصبحت الآن غير محرمة والتحريم من الأحكام الشرعية، فرفعه يكون نسخاً.

وثالث الأحكام التي ترفعها الزيادة إباحة الاقتصار على المزيد عليه، مثل: إباحة الطواف بدون طهارة بمقتضى قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1، والطواف يتحقق بمجرد الدوران حول البيت، ولا يشترط في مفهومه اللغوي الطهارة، ومثل: إباحة تحرير الرقبة بدون اشتراط وصف الإيمان فيها الذي يدل عليه النص المطلق، وبعد اشتراط الطهارة في الطواف، والإيمان في الرقبة قد ارتفعت هذه الإباحة، فرفعها بعد ثبوتها هو حقيقة النسخ، لأنها من الأحكام الشرعية2.

كما اعترض الحنفية دليل الجمهور السابق بالنسبة لما ذكروه من التنظير للزيادة بحقوق العباد، وقالوا: إنه خارج عن محل النزاع؛ لأن نظير هذه الزيادة الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة3، وفيهما لا تقبل

1 سورة الحج آية: 29.

2 التحرير مع التيسير 3/219.

3 أصول السرخسي 2/84.

ص: 377

الشهادة الزائدة على الأصل، إذا كانت مساوية أو أقل، والفرق بين ما ذكره الجمهور من التنظير وما ذكره الحنفية أن مثال الجمهور من قبيل الدين وهو يقبل الوصف بالتجزئي بخلاف مقدار الثمن والإجارة، فإن كلا منهما علة وسبباً لانعقاد البيع والإجارة والعلة لا تتجزأ في نظر الحنفية، إذ لا يمكن أن يكون البيع قد انعقد بألف وبألف وخمسمائة في آن واحد، وكذلك الإجارة لا يمكن أن تكون قد وقعت بالسبعمائة وبالثمانمائة في وقت واحد، مثلاً: فعند الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة، لا تقبل الشهادة المثبتة للزيادة إذا كانت مساوية أو أقل من الشهادة الأولى، فلو شهد شاهدان على أن مقدار الثمن ألف ريال، وآخران على أن مقداره ألف وخمسمائة ريال، لا تقبل شهادة الآخرين على الألف، لأنها زيادة مساوية للأصل، فتسقط، وكذلك لو كان الشاهد على إلحاق الخمسمائة شخص واحد لا تقبل شهادته؛ لأنها أقل من شهادة الاثنين فلا ترفع شهادتهما.

فالزيادة هنا في نظر الحنفية بمنزلة بعض العلة، وبعض العلة لا يوجب شيئاً من الحكم الثابت بالعلة، فكانت الزيادة نسخاً من هذا الوجه أيضاً، وبذلك فارقت هذه الزيادة حقوق العباد التي تحتمل الوصف بالتجزئي؛ فإنه يمكن إلحاق الزيادة بها تقريراً للمزيد عليه كما في الدين بخلاف ما لا يحتمل الوصف بالتجزيئ من حقوق العباد، فإن الحكم فيه

ص: 378

جار على وفق الحكم في هذه الزيادة، التي نبحثها كما سبق في الاختلاف في مقدار الثمن والإجارة، وهكذا الشأن عند الحنفية في كل ما يجب حقاً لله تعالى من عبادة، أو عقوبة أو كفارة؛ فإن هذه الأمور لا تحتمل الوصف بالتجزيئ وليس للبعض منها حكم الكل بوجه من الوجوه، ولذا قالوا: إذا صام المظاهر شهراً، ثم عجز فأطعم ثلاثين مسكيناً لم يكن مكفراً لا بالصوم ولا بالإطعام، وكذلك القاذف إذا جلد تسعة وسبعين سوطاً لا تسقط شهادته عند الحنفية؛ لأن رد الشهادة متعلق عندهم بالحد لا ببعضه، وبعض الحد لا يكون حداً عندهم.

ودفعت هذه الاعتراضات من قبل الجمهور بجوابين أحدهما مجمل والآخر مفصل.

أما الجواب المجمل: فقالوا: بينوا لنا ما تعنون بالنسخ الذي تضمنته الزيادة عندكم، أتعنون به أن حكم المزيد عليه من الإيجاب والتحريم والإباحة قد ارتفع بالكلية؟ أم تقصدون به تغيير وصف المزيد عليه بزيادة شيء آخر؟ من شرط أو قيد، أم تريدون بالنسخ ما هو أعم من الأمرين جميعاً، لأن النسخ يطلق على هذه المعاني جميعاً في اللغة.

فإذا أردتم بالنسخ معناه العام الذي هو رفع الظاهر بتخصيص، أو تقييد، أو شرط، وبالجملة تغيير وصف الحكم بزيادة شيء آخر عليه، فهذا مسلم به ولكن لا يلزم من الزيادة، حينئذ بطلان حكم المزيد عليه

ص: 379

ولا رفعه ولا معارضته1، بل غاية هذه الزيادة مع المزيد عليه أن تكون عندئذ كزيادة الشروط والموانع والمخصصات، وشيء من ذلك لا يكون نسخاً اصطلاحاً، وإن كان كثير من السلف يسمي ذلك نسخاً لغة حتى سمى الاستثناء نسخاً بهذا الاعتبار، فإن كنتم تقصدون هذا المعنى العام للنسخ فلا مشاحة في الاسم، ولكن ذلك لا يُسَوِّغُ رد السنن الزائدة على مطلق القرآن، لأن أحداً لا ينكر نسخ القرآن بالسنة بهذا المعنى العام.

وإنما النزاع في جواز نسخ القرآن بالسنة الأحادية، النسخ المصطلح عليه عند الأصوليين، وهو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بعد نزول الناسخ بمنزلة ما لم يشرع، وهذا المعنى الخاص للنسخ لا ريب أن الزيادة لا تتضمنه فلا تكون نسخاً اصطلاحاً؛ لأن المزيد عليه لم يرتفع حكمه بالكلية.

وإن أردتم بالنسخ الذي تضمنته الزيادة ما هو أعم من القسمين فقد جمعتم في كلامكم بين مقبول ومردود، فسموا الزيادة ما شئتم، ولكن إبطال السنن الصحيحة بهذا الاسم مما لا سبيل إليه2.

1 إعلام الموقعين لابن القيم 2/316، والمعتمد لأبي الحسين 1/442 - 443، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص:68.

2 المراجع السابقة.

ص: 380

وأما الجواب المفصل:

فقالوا: إن نسخ الزيادة للمزيد عليه إما أن تكون لوجوبه، أو لإجزائه، أو لعدم وجوب غيره، أو لأمر رابع، وهذا يتضح بالمثال، فزيادة التغريب على المائة جلدة في حد الزاني غير المحصن، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوب المائة جلدة؛ لأن وجوبها باق بعد زيادة التغريب لم يرتفع، ولا يمكن أن تكون الزيادة ناسخة لإجزاء المائة أيضاً؛ لأن المائة مجزئة عن نفسها حتى بعد ورود الزيادة، ولا يمكن أن تكون رافعة لعدم وجوب الزائد؛ لأنه حكم عقلي وهو براءة الذمة من التكاليف حتى يقوم ما يشغلها، فلو كان رفع البراءة الأصلية نسخاً لكان كلما أوجب الله شيئاً بعد الشهادتين نسخ به ما قبله، وذلك ممنوع بإجماع العلماء.

والأمر الرابع: غير متصور فلا يمكن الحكم عليه.

فإن قيل: بل هناك أمر رابع معقول، وهو جواز الاقتصار على المزيد عليه، وقد ارتفع هذا الحكم بعد الزيادة، وهو غير الأقسام الثلاثة السابقة، فرفعه يكون نسخاً، والجواب عن ذلك أن يقال: لا معنى للاقتصار على المزيد عليه إلا عدم وجوب غيره، وكونه جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه، غيرتم التعبير وكسوتموه عبارة أخرى1.

ثم أجاب الجمهور عن كل اعتراض على حدة، فقالوا: إن إجزاء

1 إعلام الموقعين 2/316.

ص: 381

المزيد عليه بدون الزيادة قد تقدم جوابه في أدلة الحنفية.

وأما حرمة الزيادة: فلا يخلو الحال فيها من أحد أمرين:

الأول: أن تكون ثابتة بغير الأصل الذي هو المزيد عليه، وحينئذ تكون خارجة عن محل النزاع.

والثاني: أن تكون ثابتة بالأصل المزيد عليه، وهذا في حيز المنع عند الجمهور؛ لأن الأصل لم يتعرض للزيادة بأي وجه، اللهم إلا إذا كان له مفهوم مخالف والحنفية لا يقولون به، فكيف يستدلون به هنا على حرمة الزيادة، وعلى فرض التسليم بالمفهوم، فإنما يكون رفعه نسخاً إذا استقر الحكم مدة يتمكن المكلف فيها من العمل، أو يكون قد حصل العمل به، وهذا خارج عن محل الخلاف أيضاً، لأن تاريخ الزيادة لا يعرف في كثير من المواضع، ثم إن رفع المفهوم كتخصيص العموم؛ لأنه رفع لبعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد، كما جاز التخصيص به، فزال المحظور الذي من أجله ادعى أن الزيادة على النص نسخ ونسخ القطعي بالظني لا يجوز.

أما الجواب عن الاعتراض الثالث، فقد تقدم قبل قليل، وهو: أنه تابع لكونه لم يجب عليه شيء، وكونه لو يجب عليه شيء إشارة إلى نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة من التكاليف، وذلك حكم عقلي، والتابع للعقلي عقلي مثله، فلا يكون رفعه نسخاً1.

1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 395.

ص: 382

ثم أجاب الجمهور على الاعتراض الذي أورده الحنفية على نظير هذه الزيادة بحقوق العباد، وقولهم: إن ذلك بمنزلة العلة، والعلة لا تتجزأ، وليس للبعض منها حكم الكل، فقالوا: إن ذلك غير مسلم؛ لجواز التجزئي في العلة عند الجمهور، مثل: علة القصاص؛ فإنها مكونة من عدة أوصاف هي القتل العمد العدوان.

2 -

واستدل الجمهور أيضاً على أن الزيادة ليست بنسخ مطلقاً.

فقالوا: إن اللفظ المطلق عن الزيادة يشبه العام، والعام لا يوجب العلم يقيناً، بل يجوز أن يراد به بعض ما يتناوله لغة، وإن كان ذلك مشروطاً بوجود الدليل الصارف لظاهر العام، إلا أن مساواة الدليل الصارف للعام في القوة غير معتبرة، لكون صرف العام عن ظاهره من قبيل التخصيص، وهو نوع من البيان، ولا يشترط في البيان مساواة المبيِّن للمبيَّن.

وحيث كان اللفظ المطلق عن الزيادة يشبه العام، فيكون صرفه إلى ما وجد فيه القيد بياناً، وقصراً له على بعض محاله التي كان يتحقق فيها قبل مجيء الزيادة، وليس نسخاً.

ووجه الشبه بين العام والمطلق أن الرقبة وهي من قبيل المطلق اسم عام على سبيل البدل، يتناول المؤمنة والكافرة، والزمنة وغيرها، فإخراج الكافرة من لفظ (رقبة) بعد اشتراط قيد الإيمان يكون قصراً لا نسخاً كإخراج أهل الذمة من لفظ (المشركين) ، وكإخراج الزمنة والعمياء عن

ص: 383

الصلاحية للتكفير.

وهذا الدليل اعترضه الحنفية فقالوا: التخصيص لا يكون إلا للدال على الأعيان، والمطلق لا يدل على غير الماهية من حيث هي، وما دام أن لا دلالة للمطلق على الأفراد، فلا يثبت له حكم التخصيص، لكونه فرع الدلالة على الأفراد.

ودفع الجمهور هذا الاعتراض من وجهين:

الأول: إن المراد بالتخصيص هنا مطلق القصر، ومطلق القصر متحقق بالنسبة للمطلق في هذا المقام؛ ذلك أن ما يدل عليه المطلق من الماهية أو القدر المشترك، كان قبل الزيادة صالحاً لأن يتحقق ضمن الأفراد المجردة عن الزيادة، والأفراد التي ثبت لها الزيادة، وبعد مجيء الزيادة انحصر تحققه ضمن النوع الثاني1.

الوجه الثاني: قالوا: كون المطلق لا دلالة له على الأفراد في حيز المنع، لأننا لو سلمنا أن لا دلالة له عليها بالمطابقة، ولكن لا نسلم فقدان دلالته عليها بطريق التضمن أو الالتزام، وقد سبق في تعريف المطلق أن فريقاً من الأصوليين ذهبوا إلى أنه موضوع للدلالة على الأفراد لتبادرها منه عند الإطلاق، بدون قرينة وذلك أمارة الحقيقة، ثم أجاب الحنفية

1 روضة الناظر ص: 41، ومسلم الثبوت 2/32، وأبرز القواعد الأصولية د. عمر ص: 107، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/528.

ص: 384

عن التعليل الثاني فقالوا: إن عدم جواز إعتاق العمياء والزمنة ونظائرهما، ليس تخصيصاً للرقبة، بل لكون هذه الرقاب مستهلكة من وجه، وفائت المنفعة لا يسمى رقبة؛ لأن المطلق يتناول الكامل، وهذه الرقاب ليست كاملة المنافع.

وقال الأحناف أيضاً، ولو قيل: إن بين صفة الكفر والإيمان تضاد1، فإذا جوزنا إعتاق المؤمنة في كفارة الظهار امتنع جواز الكافرة، أجبنا بأن جواز المؤمنة عندنا، لأنها رقبة لا لصفة الإيمان، لأن الوصف فيها غير معتبر لعدم الدليل الناهض على اشتراطه وما ادعيتموه من دليل على الاشتراط لا يثبت بالزيادة عندنا؛ لأنه من قبيل أخبار الآحاد أو القياس، ومثل ذلك لا تجوز به الزيادة على النص؛ لأنها نسخ، والناسخ لا بد وأن يكون في قوة المنسوخ.

ويدفع هذا الاعتراض بما يذكره الجمهور في الاتجاه الثاني من أدلتهم.

3 -

واستدل الجمهور على أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً أيضاً.

فقالوا: إن النسخ أمر ثبت للضرورة، لأن الأصل في أحكام الشرع البقاء والقول بالتخصيص أو التقييد، وإن كان يوجب تغيير العام من الحقيقة إلى المجاز ومن الظاهر إلى خلافه، إلا أنه متعارف في اللغة فكان

1 قال في المبسوط 7/4: (ألا ترى أنا نجوز الكبيرة والصغيرة وبين الصفتين تضاد، ويجوز الذكر والأنثى وبينهما تضاد) ، يراجع بدائع الصنائع 6/2928.

ص: 385

الحمل عليه أولى من الحمل على النسخ1.

وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل باعتراضين:

أولهما: قالوا: إن المجاز لو سلم، فإنه مشروط بوجود القرينة عند العدول عن الحقيقة إلى المجاز، والفرض عدمها عند نزول المطلق.

وتقدم جواب الجمهور عن ذلك في شروط حمل المطلق على المقيد2.

ثانيهما: قالوا: لا نسلم أن المطلق من العام، بل هو من الخاص المتفق على أنه قطعي الدلالة، وذلك ينفي احتمال التصرف فيه بغير النسخ، وقد تقدم جواب الجمهور عن ذلك في دلالة المطلق3.

والدليل الرابع للجمهور:

قالوا: لو كانت الزيادة على النص نسخاً مطلقاً لكان القياس باطلاً، لأن القياس إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص وزيادة حكم لم يوجبه النص بصيغته، وحيث كان القياس جائزاً شرعاً ودليلاً من أدلة الأحكام يعلم أن الزيادة ليست نسخاً مطلقاً.

1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 3/193.

2 ص: 203.

3 ص: 127.

ص: 386

وقد أجاب الحنفية عن هذا الدليل:

بأن قالوا: لا نسلم أن كل زيادة على النص تكون نسخاً، بل الزيادة التي ترفع الحكم الشرعي بعد ثبوته بدليل شرعي تكون نسخاً والقياس لم يكن كذلك، لأنه لا يفيد رفع حكم المقيس عليه1.

ب - الزيادة على النص بأخبار الآحاد وما في حكمها:

عرفنا فيما سلف أن المقصود بالنص في مبحث الزيادة أخص من الظاهر، كما عرفنا أن تعيين ما يندرج تحت مفهوم النص من الأدلة والألفاظ لم يتفق العلماء على تحديد أنواعه.

ولكن لما كانت الزيادة على النص نسخاً في نظر الحنفية منعوا أن تثبت الزيادة بأخبار الآحاد، وما في حكمها من الأدلة الظنية كالقياس، والعام الذي دخله التخصيص، وعللوا ذلك المنع بأن ثبوت الزيادة على النص بهذه الطرق يقتضي نسخ القطعي بالظني وهو غير جائز.

2 -

ويرى جمهور العلماء عدا الحنفية أن ثبوت الزيادة على النص بأخبار الأحاد وما في حكمها من الأدلة الظنية جائز، ثم اختلفوا في التوجيه والتعليل لهذا الجواز:

أ - فذهب أكثر الأصوليين إلى أن ذلك يعود إلى كون الزيادة على النص بياناً، والبيان لا يشترط فيه مساواة المبيِّن للمبيَّن، وهؤلاء متفقون

1 حاشية الأزميري على مرآة الأصول لملاخسرو 2/190 - 194.

ص: 387

مع الحنفية على منع نسخ القطعي بالظني، كما ترى، ولكنهم يجوزون الزيادة على النص بالدليل الظني بناء على أن الزيادة من قبيل البيان، والبيان لا يشترط فيه المساواة بين الدليلين.

ب - وذهب الظاهرية وأكثر المحدثين إلى أن جواز الزيادة على النص بالدليل الظني لا يعود أولاً إلى كون الزيادة بياناً كما يقول بذلك الجمهور.

وثانياً: لو فرض أن الزيادة نسخ، فنسخ القطعي بالظني جائز وواقع شرعاً فما ادعاه الحنفية من المحظور في حيز المنع.

واستدل من منع نسخ القطعي بالظني بعدة أدلة منها1:

1 -

قالوا: إننا استقرينا الأدلة الشرعية، وتتبعناها فما وجدنا دليلاً قطعياً قد نسخ بدليل ظني نسخاً ضمنياً قائماً2 على التعارض بين مدلول

1 إرشاد الفحول لشوكاني ص: 190، وشرح المحلى على جمع الجوامع 2/78، ومناهل العرفان 2/143 - 145، وشرح الورقات للعبادي ص: 145 - 147، ومسلم الثبوت 2/76.

2 النسخ الضمني: هو أن لا ينص الشارع صراحة في تشريعه اللاحق على إبطال التشريع السابق، ولكنه يشرع حكماً معارضاً للحكم السابق، بحيث لا يمكن التوفيق بين الحكمين إلا بإلغاء أحدهما، فيعتبر الحكم اللاحق ناسخاً للحكم السابق ضمناً.

أصول الفقه للأستاذ خلاف ص: 223، وهذا النوع من النسخ هو المراد عند الجمهور.

ص: 388

القطعي والظني، وهذا يدل على عدم الوقوع.

ومنها ثانياً:

أن الدليل القطعي من قبيل المتواتر والظني من قبيل الآحاد، والآحاد أضعف من المتواتر، وحيث انعدمت المساواة، فلا نسخ1، وهذا الدليل نوقش من عدة أوجه نذكر بعضها في تقييد المطلق بأخبار الآحاد.

واستدل الظاهرية ومن معهم على جواز نسخ القطعي بالظني ووقوعه شرعاً بعدة أدلة منها2.

1 -

قوله تعالى: {قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} 3.

ووجه الدلالة أن هذه الآية الكريمة قد حصرت المحرم من المطعومات في الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله؛ فيكون ما عدا ذلك من المطعومات باقياً على الحل والإباحة الأصلية، ولكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير"4.

1 داراسات في أصول الفقة للدكتور عبد الفتاح حسيني الشيخ ص: 147.

2 شرح العبادي على شرح المحلى ومتن الورقات ص: 140، وإرشاد الفحول ص: 190 - 191، ومناهل العرفان 2/144 - 145، وروضة الناظر ص:45.

3 سورة الأنعام آية: 145.

4 رواه البخاري في كتاب الذبائح، باب أكل كل ذي ناب 7/124.

ص: 389

والنهي يقتضي التحريم، فاقتضى ذلك أن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير حرام، وهذا رافع للإباحة التي أشارت إليها الآية الكريمة، ولا معنى للنسخ إلا هذا، والحديث ليس متواتراً وإنما هو أحاد فيكون القطعي قد نسخ بالظني فثبت المطلوب.

وأجيب عن ذلك بوجهين:

الوجه الأول: قال المخالفون في نسخ القطعي بالظني: لا نسلم أن الآية فيها حصر للمحرمات بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل، بل أقصى ما تدل عليه الآية أن المحرمات إلى وقت نزولها هذه الأشياء المذكورة، وذلك لا يمنع من تحريم أشياء أخرى في المستقبل، والدليل على عدم الحصر بالنسبة إلى المستقبل أن الفعل في قوله تعالى:{قُل لَاّ أَجِدُ} حقيقة في الحال، فيحمل الكلام عليه؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وحيث انعدم النسخ هنا لعدم وجود حقيقته يكون الكلام من قبيل التخصيص، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز.

الوجه الثاني:

قالوا: سلمنا أن الآية فيها حصر للمحرمات في المذكورات بالنسبة للماضي والحاضر والمستقبل، ولكن نمنع أن يكون ما رفعه الحديث من قبيل النسخ1؛ لأن الحديث إنما رفع الإباحة الأصلية، ورفع الإباحة الأصلية

1 إنما يتوجه هذا على رأي من يمنع القول بحجية المفهوم المخالف، وفي الجمهور هنا من يقول بحجيته فكيف يستقيم لهم ذلك.

ويمكن أن يجاب عنهم بأن حجية المفهوم مشروطة بعدم وجود دليل معارض، وهنا دل الدليل على تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، وذب مخلب من الطير، فالموضوع خارج عن محل الاستدلال بالمفهوم كما ترى.

ولو سلم أن الإباحة فهمت من الآية بطريق مفهوم الحصر فيكون رفعها نسخاً، لكان الجواب لمن يرى حجية المفهوم أن يقول دلالة المفهوم من قبيل الظني، فما رفع الظني إلا ظني مثله.

ص: 390

ليس نسخاً، لأنها ليست حكماً شرعياً، والنسخ خاص برفع الأحكام الشرعية.

ومن أدلتهم أيضاً:

أن التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة كان ثابتاً بالسنة المتواترة، وبينما كان أهل قباء يصلون ذات يوم متوجهين إلى بيت المقدس أتاهم آت يخبرهم أن القبلة قد تحولت إلى الكعبة فاستجابوا له وقبلوا خبره1، وظاهر هذه القصة يدل على أن من أخبرهم لم يبلغ حد التواتر فدل ذلك على نسخ القطعي بالظني.

وهذا الدليل أجيب عنه، بأن محل النزاع، إنما هو في وقوع نسخ القطعي بخبر الواحد المجرد عن القرائن، والخبر المذكور قد انضم إليه ما يفيد العلم، كـ (قربهم) من مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وترقبهم تحول القبلة في

1 الرسالة للشافعي ص: 106، مع القرآن للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص:462.

ص: 391

أي وقت1.

وللظاهرية أدلة أخرى لم تسلم من الاعتراض.

ويبدو أن عصر الرسول خارج عن محل النزاع لسببين:

الأول: أن اصطلاح المتواتر والآحاد أمر حادث بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتضته الحيطة والاهتمام بالعلوم الشرعية حتى لا ينسب إلى الدين ما ليس منه، أما في عصر الرسول فلا يعلم أن أحداً اعترض على شيء من أخباره صلى الله عليه وسلم بأن هذا خبر أحاد لا يفيد العلم، وذاك خبر متواتر يفيد العلم ويجوز النسخ به، بل الكل عندهم سواء في وجوب العلم والعمل.

السبب الثاني:

أن عصر الرسول كان زمن الوحي وذلك وازع للرواة على تحري الصدق خوفاً من أن يكشف الوحي خفاياهم وأسرارهم، وبعد انقضاء الوحي بموت الرسول صلى الله عليه وسلم قد زال هذا الوازع.

وبناء على ذلك، تكون مسألة نسخ القطعي بالظني مفروضة في حق مجتهد بعد عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تعارض لديه دليلان أحدهما مقطوع به ثبوتاً ودلالة، والآخر محتمل فهل يعمل بالدليل المقطوع به وإن كان متقدماً

1 الرسالة للإمام الشافعي ص: 106، والمستصفى ص: 124، والإحكام للآمدي 3/129، وأصول الفقه لأبي النور زهير 3/72 مع القرآن للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص:462.

ص: 392

على معارضه نظراً لقوته، ويترك العمل بالدليل الظني، وإن كان متأخراً عن معارضه نظراً لضعفه، أم لا بد من الجمع بينهما؟ ومن طرق الجمع كما هو معروف نسخ المتقدم بالمتأخر1، هذا هو محط الخلاف في النسخ القطعي بالظني كما تصوره كتب الأصول القديمة، وإذا علمنا أن زمن النسخ هو زمن نزول الوحي، وفيه يجوز نسخ القرآن بالسنة لاستوائها معه في أن كلاً منهما وحي من الله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} 2.

وعلمنا أيضاً أن جمهور الأصوليين متفقون مع الحنفية على عدم وقوع نسخ القطعي بالظني، لم يبق أمام الفريقين إلا أن يصطلحوا ويسلموا أن النسخ الذي تضمنته الزيادة على النص في نظر الحنفية، والبيان الذي يقول به الجمهور شيء واحد تعددت أسماؤه واتحد مدلوله.

وهذا الاختيار لم يكن عارياً عن الأدلة التي تعضده، بل هناك اعتبارات بعضها سبق وبعضها سيأتي تساند هذا الرأي، كما أنه يتفق وما انتهى إليه البحث في هذه المسألة عند كثير من الباحثين3.

فمن الاعتبارات التي سبقت:

1 -

أن حمل المطلق على المقيد بيان على رأي الجمهور، وقد

1 مع القرآن للدكتور شعبان محمد إسماعيل ص: 458.

2 سورة النجم آية: 4.

3 أصول الأحكام للدكتور حمد عبيد الكبيسي ص: 364.

ص: 393

وجدنا الحنفية يسمونه تارة بالزيادة على النص، (وهي نسخ عندهم) وتارة بالترجيح أو بتقديم العمل بالمقيد احتياطاً، كما هو مختار شارح مسلم الثبوت.

وهذا يدل على أن مدلول الترجيح والنسخ الذي تضمنته الزيادة شيء واحد عند الحنفية، وإلا لم يجز إطلاقها على مسمى واحد بدون قرينة.

2 -

وفي مبحث تحرير محل النزاع في الزيادة على النص تبين أن للزيادة ثلاث حالات.

الأولى: أن تكون مقارنة للنص في نزوله، وهذه بيان اتفاقاً.

والحال الثانية: أن تتأخر عن وقت العمل، وهذه نسخ اتفاقاً.

بقي الحال الثالثة: وهي إذا تأخرت الزيادة عن النص مدة يمكن القول بالنسخ فيها، ولكنها لم تتأخر عن وقت العمل وفي هذه الحالة وقع النزاع.

1 -

فالحنفية بناء على إيجابهم وصل مبين النص الذي له ظاهر يمكن العمل به (كالعام والمطلق) وتسميتهم رفع مقتضى الظاهر بالدليل الذي لم يقارن الظاهر حين نزوله نسخاً حكموا على هذا النوع من الزيادة بالنسخ لتحقق شرط النسخ فيها، وهو مضى فترة يتمكن المكلف فيها من عقد القلب والعزم على الفعل.

وكان رأي الجمهور في ذلك أن هذا التقدير ليس شرطاً لازماً

ص: 394

للحكم بالنسخ، لجواز تأخير البيان إلى وقت العمل، وما حصل من نسخ الحكم قبل العمل مسلم به، لكنه يرجع إلى قرينة في الدليل الناسخ تدل على أن الشارع أراد من المكلفين العمل بالحكم المنسوخ على إطلاقه ثم اقتضت حكمته عز وجل رفع ذلك الحكم أو بعضه قبل العمل به لمصالح وحِكَم تعجز عن الإحاطة بها عقول البشر.

وبهذا التحرير لمحل الخلاف يتبين أن دائرة النزاع في الزيادة على النص محصورة في جواز نسخ الحكم قبل العمل، والجمهور يسلمون بذلك، ولكنهم يمنعون التفريع عليه؛ لأن أمثلة النسخ قبل العمل قليلة ونادرة، وما كان من الأحكام قليل الوقوع يمتنع التفريع عليه، وحينئذ لا بد للفروع الفقهية المنسوبة إلى الخلاف في قاعدة الزيادة على النص من أصل آخر تقوم عليه.

وقد توصل إلى ذلك الأصل كثير من الباحثين وقرروا أن السبب في الفروع المنسوبة إلى الخلاف في قاعدة الزيادة على النص هل هي نسخ أو بيان يعود إلى اختلاف الجمهور من الحنفية في شروط العمل بخبر الواحد.

وفي هذا الصدد يقول أحدهم1: "وعندي أن الفروع التي ذكروها يعني بها الفروع المنسوبة إلى الخلاف في الزيادة على النص، تدل على أن فقهاء العراق ما كانوا يأخذون بحديث الواحد ما أمكن عمل النص

1 الأستاذ أبو زهرة في كتابه (أبو حنيفة وأراؤه الفقهية) ص: 248 - 249.

ص: 395

القرآني وما ثبتت دلالته، ذلك هو المنهاج الذي ذكره العلماء عنهم؛ فهم يأخذون بدلالات القرآن، ومفهوم عباراته وإشاراته، ويتركون حديث الآحاد عند ذلك احتياطاً في قبول الرواية. وترجيحاً لنص قرآني لا شك في صدقه على رواية حديث يحتمل الصدق في وقت راج فيه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وهذا على فرض أن أبا حنيفة عندما قرر هذه الفروع كان يعلم بالأحاديث الواردة في بابها. وإني أشك في أنه كان يعلم بهذه الأحاديث عندما قرر هذه الأحكام؛ إذ أكثرها يتعلق بالعبادات، وأبو حنيفة كان يحتاط في العبادات، كما أن الأحاديث المروية وإن كانت أحاديث تحتمل الآيات الاجتماع معها وإعمال نصها مع ما تدل عليه، كما أعمل أبو يوسف1 حديث الاطمئنان في الركوع والسجود مع قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2.

1 أيو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، ولد بالكوفة سنة 113هـ، ونشأ بها فقيراً وكان فقيهاً من الطراز الأول، وهو أحد صاحبي أبي حنيفة غير أنه خالفة في كثير من المسائل وأقام الحجة على ما ذهب إليه من الآراء. توفي رحمه سنة 182هـ.

طبقات الأصوليين 1/108 - 109.

2 سورة الحج آية: 77.

ص: 396

وبالتأمل قليلاً نجد أن أقصى ما تدل عليه التعليلات والأسباب السابقة أن إحجام الحنفية عن قبول خبر الواحد الزائد على ظاهر القرآن إنما كان لرواج الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتمال خبر الواحد الانقطاع، وذلك يزول بزوال سببه وهو الوقوف على صحة الحديث، ومن هنا يتبين أن تعميم الحكم على أحاديث الآحاد فيه نظر، لأن ميزان القبول أو الرفض عندئذ ينبغي أن يكون صحة الحديث أو عدم صحته، لا توهينه واعتباره لا يقول على بيان المراد من الدليل القطعي لمجرد كونه خبر أحاد.

والوقوف على صحة الحديث وإن كان فيه مشقة وصعوبة في زمن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لعدم تدوين السنة كاملة في وقته، وأيضاً فقواعد الجرح والتعديل لم تنضج بعد، إلا أنه بعد تدوين السنة ونضوج علم الجرح والتعديل من السهل الوقوف على صحة الحديث، وذلك يكون بعرضه على القواعد والضوابط التي وضعها علماؤنا الكرام لتمييز الخبيث من الطيب وبيان الصحيح من غيره، وهي قواعد أمينة ودقيقة انفردت بها أمتنا عن أمم الأرض قاطبة، وما أحسب الباحث إلا سيجد نماذج صالحة للتطبيق كالذي رأيناه من أبي يوسف حيث أعمل حديث المسيء صلاته مع الآية الكريمة، وحكم بفريضة الطمأنينة في الصلاة مع أن الحديث من أخبار الآحاد.

ص: 397