الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد
فيما مر من المباحث ذكرنا أن دلالة اللفظ، أو حكمه يعني قوة دلالته على المعنى الموضوع له - من حيث القطعية، أو الظنية.
لكن علماء الأصول يقصدون بحكم المطلق والمقيد ما هو أعم من ذلك1، إذ هو عندهم يتناول حالتين.
الأولى: حكم المطلق والمقيد في حال انفراد كل منهما عن الآخر.
والثانية: حكم المطلق والمقيد في حال اجتماعهما معاً.
والحق أن المراد بالحكم أو الدلالة في الحال الأولى يختلف عن المراد به في الحال الثانية؛ لأنه في الحال الأولى يعني مدى قوة دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له من حيث القطعية أو الظنية وموقف المفسر حال تبيينه وتوضيحه للنص المطلق أو المقيد.
وأما في الحال الثانية: فإن المقصود بحكم المطلق والمقيد مدى تأثير المقيد على المطلق أيقوى على تفسيره وبيانه أم لا؟
1 أصول الفقه د. حسين حامد حسان ص: 458، ط العالمية 1390 الناشر دار النهضة العربية.
والمقصود: أن إفادة اللفظ لمعناه إما أن تكون على سبيل القطع أو على سبيل الظن.
والكلام على هذه الحال - سيأتي - في الباب الثاني، ولكن قبل أن نذكر حكم المطلق والمقيد في حال انفراد كل منهما عن الآخر، نذكر الشروط التي إذا توفرت في اللفظ المطلق وجب إجراؤه على إطلاقه وهي كثيرة منها:
1 -
أن لا يكون هناك إجماع1 على خلاف الحكم الذي يفيده المطلق بإطلاقه، فإن وجد إجماع يخالف المطلق فيما دل عليه وجب تقييد المطلق بما يتفق وحكم الإجماع - سواء عرف دليل الإجماع أم لم يعرف، لأن الإجماع أقوى في دلالته على الحكم من اللفظ المطلق، لعدم احتمال الإجماع للنسخ2.
1 الإجماع لغة العزم والاتفاق، واصطلاحاً: اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على حكم شرعي، أو هو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور.
راجع: شرح الإبهاج والأسنوي على المنهاج 2/230، والتوضيح مع التلويح2/41، وتنقيح الفصول ص: 322 - 233، ومختصر ابن الحاجب 2/28 - 29، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص:211.
2 روضة الناظر وجنة المناظر ص: 208.
وهذا الشرط مأخوذ من شرط تحقق النسخ وشروط تعارص الأدلة وسيأتي لها بعض التوضيح فيما بعد، وينظر رسالة التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية د. عبد اللطيف البرزنجي ص: 224، ونظرية النسخ د. شعبان محمد إسماعيل ص: 222، ط مطابع الرجوي - القاهرة.
2 -
الشرط الثاني: أن لا يوجد دليل مسلم بحجيته يخالف المطلق فيما دل عليه، فإن وجد الدليل المخالف، وجب التوفيق بينه وبين المطلق؛ لأن نصوص الشرع لا تعارض بينها إلا في الظاهر، والتعارض الظاهري ممكن دفعه بوجه من الوجوه التي ذكرها العلماء للتوفيق بين الأدلة المتعارضة.
3 -
الشرط الثالث: أن لا يرد اللفظ المطلق نفسه مقيداً في موضع آخر، فإن ورد مقيداً في موضع آخر، فالحكم سيأتي بالتفصيل في الباب الثاني.
وبعد أن عرفنا أهم الشروط التي إذا توفرت في اللفظ المطلق وجب إجراؤه على إطلاقه نذكر أقوال العلماء في حكم المطلق والمقيد، وكيفية دلالة كل منهما على المعنى الموضوع له، ونبدأ أولاً:
أ - بحكم المطلق أو كيفية دلالته على معناه:
يتحدد1 حكم المطلق، وموقف المفسر حياله في الآتي:
إذا ورد لفظ مطلق في نص من النصوص الشرعية، وتوفرت فيه شروط الإطلاق السابقة، فقد اتفق علماء الأصول أنه يجب العلم به على إطلاقه، وليس من حق المفسر أن يقيده أو يضيق من دائرة اتساعه بدون
1 أصول الفقه للشيخ منصور ص: 250.
دليل1، كما اتفقوا أيضاًَ على أن اللفظ المطلق يحتمل التأويل، والصرف عن ظاهره المتبادر منه إذا قام الدليل على ذلك، يستوي في ذلك من يجعل للمطلق حكم الخاص2، ومن يجعله في قوة العام3؛ لأن صرف اللفظ الخاص بالدليل متفق عليه4.
لكن الخلاف بين الأصوليين جار في كيفية دلالة المطلق على معناه
1 فصول البدائع في أصول الشرائع للفناري 2/82، التوضيح مع التلويح 1/63، مختصر ابن الحاجب 2/155، تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي ص: 61 ط الحلبي بمصر 1341هـ المرآة وشرحها المرقاة ص: 82، أصول الفقه د. محمد سلام مذكور ص: 307، ط أولى دار النهضة العربية بالقاهرة سنة 1396هـ، الوجيز في أصول الفقه د. عبد الكريم زيدان ص: 237 ط 3 مطبعة سلمان الأعظمي بغداد سنة 1387هـ، وأصول الفقه لشاكر الحنبلي ص: 104، ط أولى مطبعة الجامعة السورية سنة 1368هـ.
2 حاشية الأزميري على مرآة الأصول لملاخسرو ص: 340 - 347، فصول البدائع في أصول الشرائع ص: 81، التوضيح مع التلويح 1/63، وفتح الغفار المسمى مشكاة الأنوار لابن نجيم الحنفي 2/56.
3 أصول السرخسي 1/159، وشرح الكوكب المنير لشهاب الدين الفتوحي ص: 218 ط أولى بتحقيق محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية بالقاهرة 1372.
4 علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف ص: 192، وأصول الأحكام د. حمد عبيد الكبيس ص: 184، والمدخل إلى علم أصول الفقه للأستاذ معروف الدواليبي ص:212.
أهي قطعية أم ظنية؟
أ - فذهب معظم الحنفية إلى أن دلالة المطلق على المعنى الموضوع له قطعية1.
ب - وذهب جمهور الأصوليين - ومنهم الشافعية - إلى أن دلالة المطلق كدلالة العام2.
وهذا الخلاف يشبه اختلافهم في دلالة العام المطلق.
وحيث ذكرنا هنالك أدلة كل فريق ووجه الدلالة منها نكتفي هنا بالأدلة الخاصة بحكم المطلق:
1 -
حيث أضاف الحنفية إلى أدلتهم السابقة دليلاً آخر خاصاً بحكم المطلق، وهو مأخوذ بطريق الإلزام، إذ قالوا: لما كان الاتفاق قائماً على أن دلالة الخاص قطعية3، والمطلق من الخاص - كما هو
1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/79، باب دلالة الخاص، 2/286 - 292، باب المطلق والمقيد، وشرح المنار لابن ملك 1/67، باب دلالة الخاص (558) باب المطلق والمقيد، وأصول السرخسي 1/28، 68 باب دلالة الخاص، والتوضيح 1/63، ومسلم الثبوت 1/363.
2 المراجع السابقة والمستصفى 2/185، وروضة الناظر ص: 136، والتحرير1/267، وتيسير التحرير 1/370.
3 التحرير 1/267 للكمال بن الهمام مطبعة مصطفى البابي الحلبي سنة 1350هـ مع تيسير التحرير.
الراجح1 عند أكثر الأصوليين، فتكون دلالته قطعية كذلك؛ لأن الحكم على العام حكم على كل فرد من أفراده، والمطلق من أفراد الخاص فيشمله حكمه2.
ولكن الجمهور لم يسلموا لهم هذا الدليل وناقشوهم فيه، حيث قالوا: إن الحكم على اللفظ بأنه خاص، أو عام إنما هو بالنظر إلى أصل المعنى الموضوع له، ولا خلاف بين الأصوليين على أن دلالة اللفظ على أصل المعنى الذي يستقيم به الوضع قطعية - سواء كان اللفظ عاماً أو خاصاً3.
وإنما الخلاف بينهم في جواز قصر اللفظ على بعض مدلوله المتعدد4، وحيث إن المطلق يشبه العام لاسترساله على الأفراد على سبيل البدل، فيجوز قصره على بعضها إذا قام الدليل على ذلك، كما جاز قصر العام على بعض أفراده بالدليل المخصص؛ لأن الفرق بينهما كما سبق إنما هو في كيفية تناول اللفظ للأفراد حيث أن المطلق يتناولها بدلاً، والعام يتناولها دفعة واحدة، وهذا الفرق لا أثر له في دلالة اللفظ من حيث
1 المرآة وشرحها المرقاة 1/340.
2 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 64 - 65.
3 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 64 - 65.
4 التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي ص: 362 تحقيق محمد حسن هيتو ط أولى 1400هـ، الناشر مؤسسة الرسالة.
القطعية والظنية.
على أن الجمع بين الرأيين ممكن؛ لأن العلماء كما مضى مختلفون فيما وضع له اللفظ المطلق.
1 -
فمن يرى أنه موضوع للماهية من حيث هي يقول: إن دلالته قطعية1، لأن الماهية تتحقق بأقل ما يطلق عليه اللفظ، وهو المقصود بأصل المعنى فيما سبق.
2 -
ومن يقول: إن المطلق موضوع للدلالة على البعض المنتشر على سبيل2 البدل يقول: إن دلالته ظنية لجواز قصره على بعض أفراده.
وفي ذلك يقول صاحب مسلم الثبوت: "إذا كان المدعى هذا النحو من الدلالة فالنزاع ليس إلا في اللفظ"3، وقد تفرع على القول بقطعية المطلق على معناه، وعلى القول بأن الظني لا يقاوم القطعي أمران نذكرهما فيما يلي كأثر لهذا الخلاف.
فالأمر الأول:
الاختلاف في جواز تقييد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بالدليل الظني ابتداء.
1 فتح الغفار شرح المنار لابن نجيم 2/56.
2 تيسير التحرير 1/35.
3 مسلم الثبوت 2/360.
1 -
فالذي يرى أن دلالة المطلق قطعية لا يجوز عنده تقييده بالدليل الظني كالقياس وخبر الآحاد؛ لأن تقييد المطلق في نظر هذا الفريق مبني على التعارض بين المطلق والمقيد والظني لا يعارض القطعي1 وهذا
1 في كل من الدعويين نظر.
أما قطعية المطلق فقد سبقت المناقشة فيها.
وأما الأمر الثاني: وهو أن القطعي لا يعارض الظني فكذلك أيضاً فيه مناقشة للعلماء؛ لأن التعارض يطلق ويراد به أحد معنيين.
الأول: التعارض بمعنى التناقض والتضاد، وهذا النوع لا وجود له في الشريعة الإسلامية المنزلة من لدن عليم خبير يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والمبنية لنا من قبل المعصوم الذي لا يتكلم إلا بوحي:{إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} .
والمعنى الثاني: التعارض بمعنى وجود مطلق التنافي الظاهر عند المجتهدين بين الحجتين، وهذا لا يمكن لأحد أن ينكر وجوده بين نصوص الكتاب والسنة، لأنه مبني على الجهل بالتاريخ بين المتعارضين وعدم الإطلاع على المصالح التي توخاها الشارع، وعدم معرفة القرائن المصاحبة لنزول النصين، وحيث إن التعارض الموجود في الشريعة من هذا القبيل، فلا وجه فيه للتفريق بين دليل قطعي وآخر ظني، لاستوائهما في سبب وجود التعارض وهو كما سبق الجهل بتاريخ نزول النصين، وعدم معرفة المصالح التي توخاها الشرع.
وأيضاً فالتفرقة بين القطعي والظني إنما قامت على أساس التعارض بمعنى التناقض، وهذا النوع من التعارض لا وجود له في الشرع، كما سلف أو أن التساوي شرط في بقاء المعارضة قائمة لا في مجرد تصورها، وكلاهما منعدم في النصوص الشرعية.
التمهيد للأسنوي ص: 366 ونشر البنود على مراقي السعود 1/279، مطبعة فضالة المحمدية بالمغرب.
مذهب الحنفية.
2 -
ومن يرى أن دلالة المطلق ظنية يجوز عنده تقييد المطلق بالدليل القطعي وغيره؛ لن تقييد المطلق من قبيل البيان، والبيان لا يتوقف على قوة الدليل، ولو فرض استواء المبين مع ما يبينه في القوة لجاز تبين المطلق بالقياس، وأخبار الآحاد؛ لاستوائهما في الظنية عند هذا الفريق"1.
الأمر الثاني:
الخلاف في وجود التعارض بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة وبين مقيد أخبار الآحاد.
1 -
فالذي يرى قطعية دلالة المطلق لا يقول بالتعارض بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة وبين مقيد أخبار الآحاد والقياس؛ لأن التعارض مبناه على التساوي في نظر هذا الفريق، وأخبار الآحاد لا تساوي مطلق الكتاب والسنة المتواترة، لأنها من قبيل الظني الثبوت وإن كانت دلالتها قطعية أحياناً، وكذلك القياس؛ فإنه في مرتبة أخبار الآحاد؛ لأنه لا يفيد إلا الظن.
1 المختارات الفتحية في أصول الفقه وتاريخ التشريع للأستاذ أحمد أبو الفتوح ص: 204، ط 4 سنة 1343 مطبعة النهضة بمصر.
2 -
والذي يرى أن دلالة المطلق ظنية سواء كان من قبيل مطلق الكتاب أو غيره، يقول لا مانع من وجود التعارض الظاهري بين مطلق الكتاب والسنة المتواترة، ومقيد أخبار الآحاد، وإذا حصل ذلك فيلزم المجتهد التوفيق بينهما بوجه من الوجوه التي ذكرها العلماء لدفع التعارض بين الأدلة الشرعية ومنها حمل المطلق على المقيد، كما سيأتي تفصيل ذلك.
بقي أن نذكر مثالاً للمطلق الذي توفرت فيه شروط الإطلاق السابقة، ووجب العمل به على إطلاقه.
ومثاله قوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 1، فلفظ:"أزواجاً" في هذه الآية الكريمة جمع منكر مفرد زوج، والجمع المنكر من المطلق كما سلف، ولم يذكر في الآية كون الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن مدخولاً بهن أو غير مدخول بهن، كما لم يقم دليل يخالف هذا الإطلاق فيما دل عليه، ولا ورد هو نفسه في موضع آخر مقيداً بوصف الدخول أو عدمه، ولهذا كان الحكم أن تعتد الزوجة المتوفى عنها زوجها هذه المدة المقررة في الآية لعدة الوفاة،
1 سورة البقرة آية: 234.
سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن مدخولاً بها1.
تطبيقاً لقاعدة المطلق يعمل به على إطلاقه ما لم يقم دليل على تقييده2.
ب - حكم المقيد أو كيفية دلالته على معناه:
الذي يبدو أن علماء الأصول متفقون على أن حكم المقيد من حيث الدلالة حكم الخاص، ومع أن الاتفاق واقع على أن الخاص قطعي الدلالة لكن سنفصل القول في حكم المقيد فيما يلي فنقول:
لما كان الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه حتى يقوم الدليل على أن إطلاقه غير مراد، كان الأصل في المقيد أن يعمل به مع قيده حتى يقوم الدليل على أن ما ذكر معه من قيد لا مفهوم له في بيان تشريع الحكم، وإجراء لهذه القاعدة، فإذا ورد اللفظ مقيداً في موضع ولم يرد نفسه مطلقاً في موضع آخر، ولا قام دليل على إلغاء مفهوم القيد، فإن الحكم فيه أن يعمل به مع قيده، ولا يحق لأحد أن يلغي القيد بدون دليل3، وبناء على ذلك يكون القيد معتبراً في دلالة اللفظ المقيد على
1 حاشية ابن عابدين 2/830 ط 2 مصطفى البابي الحلبي وإخوانه 1386هـ، وفرق الزواج للأستاذ الخفيف ص: 330، وتفسير النصوص د. أديب صالح 2/193.
2 وهذا بالنسبة للمدخول بها وعدمه، وللصغيرة والكبيرة لا الحامل وغير الحامل، فإن الحامل ورد فيها نص، وهو حديث سبيعة الأسلمية بأن عدتها تنتهي بوضع حملها.
3 البرهان للزركشي 2/15، وإرشاد الفحول ص: 154، وأسباب اختلاف الفقهاء للخفيف ص: 234، وتفسير النصوص 2/198، أصول الفقه للدكتور محمد سلام مذكور ص:203.
الأحكام واستنباطها منه حتى يقوم الدليل على إلغائه وعدم اعتباره في بيان تطبيق الحكم.
وإليك أمثلة تبين المراد:
1 -
فمن أمثلة المقيد الذي بقي على تقييده:
لعدم قيام الدليل على إلغاء القيد فيه قوله تعالى، في كفارة الظهار:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتمَاسَّا} 1.
فقد ورد صيام الشهرين في هذه الآية الكريمة مقيداً بالتتابع، وبكونه قبل التماس، أي: الاختلاط بالزوجة المظاهر منها، ولم يرد الدليل على إلغاء هذين القيدين فيعمل بهما عند تطبيق الحكم، وعليه فلا يجزئ في حق من وجبت عليه كفارة الظهار بالصوم أن يصوم شهرين على التفريق، وكذلك لا يجزيه صيام أشهر بعد الاستمتاع بمن ظاهر منها، وإن كان
1 سورة المجادلة آية: 3، 4.
الصوم متتابعاً1.
2 -
ومن أمثلة المقيد الذي قام الدليل على أن القيد فيه ملغى، وغير معتبر، قوله - تعالى -: في آية المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَاّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} 2، فإن لفظ "ربائبكم" في الآية مطلق3 قد ورد تقييده فيها بقيدين.
الأول: كون الربيبة4 في حجر زوج الأم.
والثاني: كون أم الربيبة مدخولاً بها.
وهذا القيد الأخير باق على معناه، لعدم الدليل الصارف له، فيعمل به عند استنباط الحكم وعلى ذلك فلا تحرم الربيبة إلا إذا كان الزوج قد
1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/221 - 224، والتوضيح مع التلويح 1/64، ونيل الأوطار للشوكاني 4/241 ط الأخيرة البابي الحلبي، والمبسوط 3/75، أعيد طبعه بالأوفست بدار المعرفة للطباعة، بيروت سنة 1398هـ، والهداية مع فتح القدير والعناية 4/257، 259 ط أولى 1389 مصطفى البابي الحلبي، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17/283، دار إحياء التراث العربي، أصول الفقه لبدران ص: 352، وإرشاد الفحول ص:154.
2 سورة النساء آية: 23.
3 لا تعارض بين المطلق والعام: لأن المعتبر في المطلق الصفات، وفي العام: الأفراد.
ويراجع الفرق بين المطلق والنكرة ص: 109.
4 هي: بنت الزوجة من زوج آخر.
دخل بأمها.
وأما القيد الأول:
وهو كون الربائب في الحجور، أي: في رعاية زوج الأم وكفالته، فقد دل الدليل على عدم اعتباره، وأنه من القيود التي لم تعتبر في التحريم، وإنما جاء ذكره في الآية جرياً على ما هو الغالب والمعروف عادة من كون الربيبة تكون في حضانة أمها، وعلى ذلك فلا تحرم الربيبة على زوج أمها سواء كانت في حجره ورعايته أو لم تكن حتى يدخل بأمها.
والدليل على إلغاء هذا القيد وأنه غير معتبر في التحريم أن الله سبحانه وتعالى اكتفى في مقام التحليل بنفي القيد الثاني فقط، فقال تعالى:{فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ، فلو كان القيد الأول معتبراً في التحريم لما اكتفى بنفي الدخول في معرض الإحلال.
ولقال: "فإن لم يكن في حجوركم ولم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم"1، والله أعلم.
بقي حكم المقيد الذي ورد مطلقاً في موضوع آخر وسيأتي الكلام عليه مفصلاً في الباب الثاني.
1 أصول الفقه د. حسين حامد حسان ص: 460، أصول الفقه د. بدران أبو العينين بدران ص:352.