الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها
المطلب الأول: في محل الإتفاق
…
أحوال المطلق والمقيد:
بعد أن اشترط الأصوليون لحمل المطلق على المقيد الشروط الآنفة الذكر، استقرؤوا النصوص الشرعية التي فيها لفظ مطلق وآخر مقيد دون ما يدل على لزوم العمل بأحدهما، فظهر أن أحوالهما من حيث الاتحاد في الحكم والسبب الذي من أجله شرع الحكم، ومن حيث الاختلاف في ذلك أربعة أحوال.
كما تبين من الاستقراء أن الإطلاق والتقييد تارة يكونان داخلين على الحكم نفسه، وتارة أخرى يكونان داخلين على سبب الحكم ومن هنا يتصور للمطلق والمقيد ثمانية أحوال.
لأن المطلق والمقيد إما أن يتحدا في الحكم والسبب، أو يختلفا في الحكم والسبب معاً، أو يتحدا في الحكم ويختلفا في السبب أو بالعكس، أي: يتحدا في السبب ويختلفا في الحكم، فهذه أربع صور، وفي كل حال إما أن يدخل الإطلاق والتقييد على الحكم، أو على السبب، فلو بسط الكلام على كل حال على حدة مع اعتبار جريان الإطلاق والتقييد تارة في الحكم وأخرى في السبب لكان الجميع ثماني صور، ولكن لما كان الحكم واحداً في كل حال يكون الإطلاق والتقييد فيها داخلين على الحكم نفسه، وكذلك يكون الحكم واحداً في كل حال يدخل الإطلاق والتقييد فيها على سبب الحكم، اكتفى الأصوليون بذكر الأحوال والصور التالية خشية التكرار والتطويل المملّ.
أ - فالصورة الأولى إذا كان الإطلاق والتقييد في الحكم:
ويشتمل على الأحوال التالية:
الحال الأولى: أن يتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب.
الحال الثانية: أن يختلفا في الحكم والسبب معاً.
الحال الثالثة: أن يختلفا في الحكم، ويتحدا في السبب.
الحال الرابعة: أن يتحدا في الحكم ويختلفا في السبب.
ب - الصورة الثانية: إذا كان الإطلاق والتقييد داخلين على السبب وتحته حالة واحدة.
وهي أن يتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب، ويجري الإطلاق والتقييد في السبب، والعلماء بادئ ذي بدء متفقون على جواز حمل المطلق على المقيد، لكن اختلفت أنظارهم في الحالات التي يصح فيها الحمل، والحالات التي لا يصح فيها بناء على اختلافهم السابق في مفهوم الحمل، والسبب الداعي للحمل، فأدى ذلك إلى الاختلاف في الأحكام الفرعية؛ لأن التفاوت في الأصول ينبني عليه الاختلاف فيما يتفرع عنها من أحكام، من هنا سيكون كلامنا على الأحوال السابقة للمطلق والمقيد في ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: في محل الاتفاق.
ونعني بمحل الاتفاق - هنا - أحوال المطلق والمقيد التي اتفق الأصوليون على حكمها، أو كان الخلاف نادراً فدخل تحت هذا المطلق من أحوال المطلق السابقة ما اتفق العلماء فيه على الحمل، وما اتفقوا فيه على عدم الحمل، وما كان الخلاف فيه قليلاً أو نادراً.
وبناء على ذلك فإن هذا المطلب يتضمن الصور والحالات التالية:
أ - إذا كان الإطلاق والتقييد في الحكم:
ويدخل تحتها الأحوال التالية:
الحال الأولى: إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم والسبب.
ومثال هذه الحال: مما يجري به الاستدلال: صيام شهرين عن كفارة الفطر في رمضان لمن عجز عن إعتاق رقبة، فقد روي عن أبي هريرة1 رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل وقع على أهله
1 أبو هريرة هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي الأزدي، أسلم رضي الله عنه في السنة السابعة للهجرة، وتوفي بالعقيق سنة 57 على الراجح، وهو من الرواة المكثرين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث بلغ ما أخرج له في مسند بقي بن مخلد 5374 حديثاً، وليست هذه الرتبة لأحد من الصحابة سواه، روى عن عدد كثير من الصحابة، وأصح الأسانيد عنه، ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب عنه، وأضعفها السري بن سليمان عن داود عن يزيد الأزدي عن والده عن أبي هريرة.
انظر ترجمته في: الإصابة القسم السابع رقم الترجمة (10674) باب الكنى تحقيق محمد علي البجاوي ط دار نهضة مصر الفجالة القاهرة، وحلية الأولياء 2/376، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/270.
وقارن بعلوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح ص 362، ط إدارة الطباعة المنيرية بالقاهرة.
في رمضان: "اعتق رقبة، قال: ما أجدها، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكيناً"1.
وروي عنه أيضاً: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: مالك؟ قال: واقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل
1 أخرج البخاري هذا الحديث مع زيادة القيد الآتي في صحيحه في كتاب الصوم، باب إذا جامع في نهار رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه، رقم الحديث: 1936، مع الشرح 4/163 طبع المكتبة السلفية.
وأخرجه مسلم في كتاب الصيام باب تغليظ تحريم الجماع في رمضان على الصائم 2/281، ط دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي.
وانظر: السنن الكبرى للبيهقي كتاب الصيام 4/225ط أولى الهند سنة 1352هـ.
ويلاحظ أن الحديثين وردا بعدة ألفاظ ولكن الواقعة واحدة، نصب الراية 2/451، ط 2 المكتب الإسلامي وطبع المجلس العلمي سنة 1393هـ، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص:242.
تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا
…
الحديث1.
ففي هاتين الروايتين لصيام الشهرين - في حق من أفطر في رمضان - نجد أن الصيام ورد مطلقاً عن التتابع في الحديث الأول، وورد مقيداً بالتتابع في الحديث الثاني.
والحكم في المطلق والمقيد واحد: وهو الأمر بصيام الشهرين لمن عجز عن إعتاق رقبة، وكان مستطيعاً للصيام، وكذلك السبب فيهما واحد وهو الإفطار2 أو الوقاع في نهار رمضان متعمداً، وقد جرى
1 أخرج البخاري هذا الحديث مع زيادة القيد الآتي في صحيحه في كتاب الصوم، باب إذا جامع في نهار رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه، رقم الحديث: 1936، مع الشرح 4/163 طبع المكتبة السلفية.
وأخرجه مسلم في كتاب الصيام باب تغليظ تحريم الجماع في رمضان على الصائم 2/281، ط دار إحياء التراث العربي ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي كتاب الصيام 4/225ط أولى الهند سنة 1352هـ.
ويلاحظ أن الحديثين وردا بعدة ألفاظ ولكن الواقعة واحدة، نصب الراية 2/451، ط 2 المكتب الإسلامي وطبع المجلس العلمي سنة 1393هـ، والمنتقى من أحاديث الأحكام ص:242.
2 حديث "من أفطر في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر" قال عنه الزيلعي: غريب بهذا اللفظ، والحديث لم أجده بهذا اللفظ فيما اطلعت عليه من الكتب، وقال في المسودة بعد ذكره:(إن صح الخبر) وقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مرفوعاً: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلاً أفطر في رمضان أن يعتق رقبة أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكيناً"، وهذا الحديث رواه غير واحد من المحدثين ومنهم البيهقي في السنن الكبرة في كتاب الصيام باب رواية من روى الحديث مطلقاً 4/225.
وهو حديث كما ترى مطلقاً للكفارة على كل من أفطر في رمضان، سواء كان بجماع أو غيره، ولكن جمهور العلماء حملوا الروايات المطلقة على المقيدة، كما قال البيهقي في سننه 4/225 ورواية الجماعة عن أبي هريرة مقيدة بالوطء، ناقلة للفظ صاحب الشرع، أولى بالقبول لزيادة حفظهم وآدائهم الحديث على وجهه، كيف وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك عن الزهري نحو رواية الجماعة، والمعروف أن هذه السلسلة من السلاسل الذهبية في رواية الأحاديث.
قال الألباني بعد أن جمع طرق هذا الحديث، راداً على من يقول: إن خصال الكفارة على التخيير، وأن الإفطار كان بغير الجماع:"فهؤلاء ثلاثون شخصاً اتفقوا على أن الرواية على الترتيب وأن الإفطار كان بالجماع، فروايتهم أرجح؛ لأنهم أكثر عدداً، ولأن معهم زيادة علم، ومن علم حجة على من لم يعلم"، وثمة مرجحات أخرى تنظر في إرواء الغليل 4/88، وفتح الباري شرح صحيح البخاري 4/163، والعدة للقاضي أبي يعلى 1/629.
الإطلاق والتقييد في الحكم نفسه، حيث يدل الحديث الأول بإطلاقه على إجزاء صيام الشهرين سواء أكان متتابعاً أم متفرقاً، ويدل الحديث الثاني على عدم إجزاء الصيام غير المتتابع نظراً لمفهوم قيد التتابع.
وليس هناك ما يعين الحكم الذي أفاده الحديث المطلق، أو المقيد.
فوقع التعارض بينهما في الصيام الذي لم يتابع فيه، حيث يفيد الحديث المطلق إجزاءه، ويدل الحديث المقيد على عدم إجزائه، ودفعاً لهذا
التعارص الظاهري، فقد اتفق العلماء على أنه يحمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة1، إذا توفرت فيه بقية الشروط التي اشترطت لحمل المطلق على المقيد عند الفريقين2، يقول الغزالي بصدد هذه الحال:"وإن اتحدت الواقعتان فهو مقول به بإجماع"3، ويقول الآمدي:"لا أعرف خلافاً في حمل المطلق على المقيد ههنا"4.
وذكر علاء الدين البخاري صاحب كشف الأسرار على أصول البزدوي: "أن الاتفاق قائم بين أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة"5.
1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/221-224، 290، والتلويح مع التوضيح 1/64، ونيل الأوطار 4/241، وحاشية الأزميري على مرآة الأصول لملاخسرو 1/345.
2 سبق أن المراد بالحكم الوجوب، وأن لا يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة
…
وبقي من الشروط عند الحنفية أن لا يعلم تأخر أحدهما عن الآخر، وأن يكونا مستويين في قوة الثبوت والدلالة، وبقي من الشروط المهمة أن لا يكون المطلق والمقيد في سياق النهي.
3 المنحول في علم الأصول للغزالي ص: 177.
4 الأحكام للآمدي 3/4، ومفتاح الأصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 107، والمسودة لآل تيمية ص:146.
5 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/289-290، وحاشية الأزميري على مرآة الأصول 1/345.
وقال في إرشاد الفحول للشوكاني: "اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم، فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل المطلق على المقيد، والصحيح من مذهبهم أنه يحمل، ثم قال: ونقل أبو منصور الماتريدي1 عن أبي حنيفة2 القول بالحمل في هذه الصورة، وحكى الطرطوسي3 الخلاف
1 أبو منصور الماتريدي هو: محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي (نسبة) إلى محلة بسمرقند البغدادي، كان إمام المتكلمين وله رأي وسط بين المعتزلة والأشاعرة في القول بحسن الأفعال وقبحها، من مؤلفاته: مآخذ الشرائع في الأصول، وكتاب التوحيد، وكتاب المقالات في علم الكلام، وكتاب أوهام المعتزلة، وله في التفسير كتاب تأويلات القرآن، قال عنه المراغي: إنه كتاب لا يوازيه، بل لا يدانيه شيء من تصانيف من سبقه في ذلك الفن، توفي رحمه الله بسمرقند سنة 333هـ.
انظر ترجمته في طبقات الأصوليين 1/182-183، مفاتح دار السعادة 2/21.
2 الإمام أبو حنيفة هو: النعمان بن ثابت بن زوطى وهو تيمي بالولاء، ولد سنة 80هـ بمدينة الكوفة، قيل: إنه أدرك أنس بن مالك وعبد الله بن أوفى فهو إذاً تابعي، أخذ الفقه عن حماد بن سلمة بن أبي سليمان، وقد نبغ في العلوم الشرعية والعربية، وكان تقياً ورعاً يعتمد على كسب يده، من أشهر مؤلفاته المنسوبة إليه: (المخارج في الفقه، ومسند في الحديث، جمعهما تلاميذه من بعده، توفي رحمه الله في بغداد سنة 150هـ.
3 الطرطوسي هو: محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان القرشي الفهري الأندلسي الطرطوسي مولداً، وهي آخر بلاد المسلمين من الأندلس، ولد سنة 450هـ فقيه مالكي اشتهر بأبي زندقة ويكنى بأبي بكر، من مؤلفاته: تعليقه على مسائل الخلاف وتعليقه في الأصول، وكتاب في بر الوالدين.
انظر ترجمته في: طبقات الأصوليين 2/18، وشجرة النور الزكية 1/124، رقم الترجمة:36.
عن المالكية1 وبعض الحنابلة.
قال الشوكاني: "وفي هذا النقل عن المالكية نظر؛ لأن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب2، وهو من المالكية، لكن البزدوي عندما قال في أصوله: "وعندنا لا يحمل مطلق على مقيد أبداً" توهم بعض العلماء3 أن هذه العبارة تفيد أن الأحناف لا يحملون المطلق على المقيد
1 إرشاد الفحول ص: 154.
2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/289، ورد المختار على الدر المختار لابن عابدين 4/553، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص:134.
وعبد الوهاب هو: أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد الثعلبي البغدادي فقيه، مالكي أصولي، ولد سنة 362هـ في بغداد ونشأ بها وتولى القضاء في العراق ومصر وبها توفي سنة 422هـ، له مصنفات كثيرة منها: الإشراف على مسائل الخلاف، والإفادة، والتلخيص في أصول الفقه.
انظر ترجمته في: طبقات الأصوليين 1/230، وشجرة النور الزكية ص:103.
3 والبعض الذي يشير إليهم البخاري هنا مثل: صاحب العناية مع الهداية على فتح القدير 3/199، وشارح المرآة الأزميري 1/36، والزنجاني في تخريج الفروع على الأصول ص: 134، وحديثاً صاحب أسباب اختلاف الفقهاء مصطفى الزلمي في رسالته ص:124.
انظر: الفروق للقرافي ص: 195، وإذا عُدّت هذه الرواية عن الحنفية قولاً ومذهباً يكون لهم في حمل المطلق على المقيد أربع روايات، ثلاث منها في معنى الحمل: وتقدم الكلام عليها، ورواية رابعة بعدم الحمل مطلقاً، وهي: المذكورة هنا بناء على عبارة البزدوي السابقة، ويمكن ترتيب هذه الروايات على النحو التالي:
الأولى: حمل المطلق على المقيد بطريق البيان، كما هو مذهب الجمهور، وهذا قول المحققين من الحنفية مثل علاء الدين البخاري والكمال بن الهمام، إلا أنهم اختلفوا مع الجمهور في عدد الصور التي يحمل فيها المطلق على المقيد.
الثاني: ترجيح العمل بالمقيد على العمل بالمطلق، فيما تعارضا فيه، كما يقول بذلك شارح مسلم الثبوت 1/362.
الثالثة: نسخ المطلق بالمقيد كما هو اختيار الفحول، نقل هذا الرأي الرهاوي في حاشيته على المنار ص:561.
الرابعة: عدم حمل المطلق على المقيد أبداً، ونسب ذلك إلى البزدوي وغيره بناء على ظاهر عبارته السابقة.
المرآة لملاخسرو 1/346، وتخريج الفروع لزنجاني ص: 134، وكشف الأسرار 2/290، والفروق للقرافي 1/195، وإرشاد الفحول للشوكاني ص:154، وأسباب اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى الزلمي ص: 124، وتفسير النصوص للدكتور أديب صالح 2/224.
في جميع الأحوال، مما اضطر الباحثين إلى تأويل عبارته السابقة وصرفها عن ظاهرها لتتفق مع مذهب جمهور الحنفية، وفي بيان ذلك يقول علاء الدين البخاري شارح أصول البزدوي عند شرحه للعبارة الآنفة وهي قول
البزدوي: "وعندنا لا يحمل مطلق على مقيد أبداً": يعني لا في حادثتين ولا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين، ولا تلتفت إلى ما توهمه البعض أن المراد في نفي الحمل بالكلية، وإن كان القيد والإطلاق في حكم واحد وحادثة واحدة، فإن ذلك مخالف للروايات أجمع، ثم قال: وذكر في الأسرار فإن قيل: إنك لا تحمل المطلق على المقيد. قلنا: نعم، إذا كانا غيرين حكمين أو شرطين أو علتين، فأما الواحد إذا ثبت بوصف فدونه لا يكون ثابتاً لا محالة ضرورة1.
وبهذا يتبين أن الحنفية يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحال كبقية العلماء، فلا خلاف إذاً في حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب وجريان الإطلاق والتقييد في الحكم.
وإن وقع خلاف عند تطبيق الفروع على القاعدة، فذلك راجع إلى وجود سبب خارج عن أصل القاعدة، كتخلف شرط من شروط الحمل عند أحد الفريقين، أو وجود مانع يمنع من حمل المطلق على المقيد، وذلك غير قادح في أصل القاعدة، ومع أن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال متفق عليه بين العلماء، إلا أنهم ذكروا لذلك أدلة تؤيد أن المطلق هو الذي يحمل على المقيد دون العكس2.
1 كشف الأسرار 2/289.
2 نشير هنا إلى أن من العلماء من يحمل المقيد على المطلق، وذلك بأن يلغي القيد، وقد نسب هذا الرأي الأستاذ محمد سلام مدكور إلى صاحب طلعة الشمس.
انظر: أصول الفقه لمحمد سلام مدكور ص: 210.
ومن أدلتهم على ذلك ما يلي:
أولاً: قالوا: إن المطلق ساكت عن القيد، إذ هو لا يثبته ولا ينفيه1، والمقيد ناطق به ومبين له، وإذا تقابل السكوت والنطق كان الناطق حرياً بأن يجعل أصلاً، ويبنى عليه الساكت، إذ هو كالمفسر له، فكان المقيد أولى بأن يبنى عليه المطلق ويكون مفسراً للمراد منه2.
فإن قيل: بطريق الشبهة أن المقيد لم يفد حكم المطلق حتى يلزم التنافي بين مدلوليهما ثم يحمل أحدهما على الآخر، بل أفاد المقيد استحباب الإتيان بالمقيد، أو أنه عزيمة والمطلق رخصة، بدليل أنه نص عليه بعد دخوله تحت الاسم المطلق، فدل ذلك على أهميته وشرفه، لا أنه لا يجزئ غيره3.
1 كشف الأسرار على أصول البزدوي لعلاء الدين البخاري 2/287، والمنار مع حواشيه ص: 558، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص:134.
2 الأحكام للآمدي 3/4، بتعليق عبد الرزاق عفيفي، والتوضيح مع التلويح 1/64، وأبرز القواعد الأصولية المؤثرة في اختلاف الفقهاء مذكرة أصول الفقه لطلبة قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية تأليف د. عمر عبد العزيز ملا ص:86.
3 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/312، والمنار 563، وفصول البدائع في أصول الشرائع لللفناري 2/63.
والجواب عن هذه الشبهة من وجهين:
أولاً: أن القول بأن المقيد يفيد الاستحباب خارج محل النزاع، لأن محل الحمل كما سبق إنما يكون إذا كان الحكم الوجوب، ولو سلم دخول الحكم المستحب في باب محل حمل المطلق على المقيد لكان إثبات الوجوب بالمقيد أولى؛ لأنه أقوى في دلالته على الوجوب من المطلق، والحكم الواجب آكد من الحكم المستحب، فإثباته بالدليل الأقوى أولى للتناسب بين الحكم ودليله1.
وثانياً: إن وجوب المقيد كما ينافي الجواز المستفاد من المطلق عند صاحب هذا الرأي ينافي التخيير الذي يرى حمل المطلق عليه؛ لأن معنى التخيير أن المكلف لو أتى بالمطلق أجزأه ذلك، ومعنى وجوب المقيد أن المكلف لو فعل غير المقيد لا يكون فعله مجزئاً لانتفاء شرط التقييد فيه، أضف إلى ذلك أن المخالف ينكر مشروعية المطلق، ويقول: إن المراد به المقيد ابتداء. فليس الإطلاق مراداً أصلاً عند الجمهور حتى يصح التمسك به.
الدليل الثاني:
قالوا: لو حمل المقيد على المطلق هنا لترتب على ذلك إلغاء القيد المنصوص عليه وإسقاطه بالكلية، وفي حمل المطلق على المقيد يبقى المطلق
1 الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 3/4، والعدة في الأصول لأبي يعلى 2/647.
معمولاً به في بعض صوره؛ لأن المطلق جزء من المقيد والعامل بالكل عامل بجزئه، بخلاف العكس، وقد مر بنا أكثر من مرة أن إعمال الأدلة هو الأصل وأن العمل بالدليل ولو من وجه خير من إهماله بالكلية1.
واستدلوا ثالثاً:
فقالوا: إن الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة في البيان والقيد في المقيد زيادة على المطلق، فلا يحسن إلغاء تلك الزيادة، بل يجعل كأنه قالهما معاً2، ويكون المقيد مبيِّناً للمراد من المطلق، صوناً لكلام الشارع عن العبث واللغو.
ومن أدلتهم وهو الرابع:
قالوا: إن في العمل بالمقيد خروج المكلف عن عهدة التكليف بيقين، سواء كان المطلوب الإتيان بالمطلق أو المقيد؛ لأنه إذا كان المطلوب الإتيان بالمطلق كان العمل بالمقيد مجزئاً؛ لكونه فرداً من الأفراد التي يتحقق فيها مفهوم المطلق عن طريق البدل، وإن كان المطلوب المقيد يكون الإتيان به مجزئاً أيضاً، لأنه المطلوب نفسه، بخلاف العمل بالمطلق، فإنه يحتمل عدم الخروج عن العهدة بيقين؛ لأن المطلق كما ذكرنا يتحقق مدلوله بأي فرد كان سواء أكان الفرد المقيد أم غيره، فلربما يأتي المكلف بذلك الغير،
1 الأحكام للآمدي 3/4، وأصول الفقه د. محمد سلام مدكور ص:211.
2 تخريج الفروع للزنجاني ص: 134.
ويكون المطلوب الفرد المقيد، وحينئذ فخروجه عن العهدة ليس متيقناً1.
الدليل الخامس:
قالوا: لو لم يحمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم والسبب، لكان السبب الواحد موجباً للمتنافيين في آن واحد، وهما الإطلاق والتقييد.
بيان ذلك أن المطلق في المثال السابق يوجب إجزاء الصيام غير المتتابع لموافقته المأمور به، والمقيَّد يوجب عدم إجزائه لمخالفته المأمور به، والحكم الواحد يستحيل اتصافه بالوصفين معاً بطريق الوجوب لما يلزم عنه من اجتماع المتنافيين في وقت واحد2، ودفعاً لهذا التنافي في الظاهر
1 المنار مع حواشيه ص: 563، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/287.
وينظر الاعتراض الوارد على قولهم: (المطلق يوجب إجزاء غير المقيد لموافقته المأمور به، والمقيد يوجب عدم إجزائه لمخالفته المأمور به، وهو اعتراض وارد على الحنفية القائلين بالحمل في هذه الحال مع عدم قولهم بالاستدلال بالمفهوم المخالف، والرد عليه من قبل شارح المرآة للأزميري، وشراح المنار 1/346، والمنار ص:563.
وخلاصة الرد أن المقيد يدل على عدم إجزاء المطلق من حيث هو مطلق، لكن لا بدلالة اللفظ حتى يلزم القول بالمفهوم المخالف، بل بواسطة إيجاب المقيد عقلاً.
2 المنار مع حواشيه ص: 563، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/287.
وينظر الاعتراض الوارد على قولهم: "المطلق يوجب إجزاء غير المفيد لموافقته المأمور به، والمقيد يوجب عدم إجزائه لمخالفته المأمور به، وهو اعتراض وارد على الحنفية القائلين بالحمل في هذه الحال مع عدم قولهم بالاستدلال بالمفهوم المخالف"، والرد عليه من قبل شارح المرآة للأزميري، وشراح المنار 1/346، والمنار ص:563.
وخلاصة الرد أن المقيد يدل على عدم إجزاء المطلق من حيث هو مطلق لكن لا بدلالة اللفظ حتى يلزم القول بالمفهوم المخالف، بل بواسطة إيجاب المقيد عقلاً.
يحمل المطلق من الصوم عن التتابع على الصيام المقيد بالتتابع لما بيَّنَّا من المرجحات، وحينئذ تجتمع الأدلة وتتفق ولا تختلف.
الحال الثانية: الاختلاف في الحكم والسبب:
هذه هي الصورة الثانية التي جرى الاتفاق على حكمها بين الأصوليين، ولكن لا على حمل المطلق على المقيد فيها، بل على عدم حمله عليه.
ومثالها: قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1، مع قوله تعالى في شأن الوضوء:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2.
فقد ورد لفظ الأيدي مطلقاً في الآية الأولى، وورد مقيداً بكونها إلى المرافق في الآية الثانية، والحكم فيهما مختلف؛ إذ هو في الآية
1 سورة المائدة آية: 38.
2 سورة المائدة آية: 6.
الأولى الأمر بقطع اليد، وفي الآية الثانية الأمر بغسلها، كما أن السبب فيهما مختلف أيضاً؛ لأنه في الآية الأولى السرقة، وفي الثانية إرادة أداء الصلاة أو القيام لها.
ففي هذه الحال وأمثالها - اتفق العلماء على أنه لا يحمل المطلق على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده1، وفي ذلك يقول الغزالي:"إن تباعدت الحادثتان من كل وجه فهو ممنوع بالإجماع"2.
ويقول الآمدي: "لا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر) 3.
وقد استدل على عدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال بأدلة منها:
أولاً:
عدم المنافاة بين المطلق والمقيد، والحمل إنما يكون لدفع المنافاة بينهما، فإذا كانت المنافاة معدومةً كما هنا يبقى المطلق على إطلاقه والمقيَّد على تقييده؛ لأن الأصل في الأدلة أن تكون مستقلةً بذاتها وغير
1 أسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص: 127، وأبرز القواعد المؤثرة في اختلاف الفقهاء د. عمر عبد العزيز ملا ص: 88، القسم المقرر على طلاب السنة التمهيدية بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية عام 1399هـ.
2 المنخول للغزالي ص: 177.
3 الأحكام للآمدي 3/4، وإرشاد الفحول ص: 164، والتوضيح 1/64، وشرح المنار لابن ملك 2/536-537، وتفسير النصوص أديب صالح 2/214.
محتاجة إلى غيرها في بيان المراد منها1.
واستدلوا ثانياً:
فقالوا: إن فائدة حمل المطلق على المقيَّد هو اتحاد الحكم والتخلص من تعدده وتعارضه اللذين هما على خلاف الأصل؛ فإذا كان حكمهما مختلفاً بالنص كما في هذه الحال انتفت الفائدة المذكورة وامتنع الإلحاق2.
لكن يلاحظ على هذه الحال أمران:
الأول: أن الأيدي في آية السرقة ورد تقييدها بالسنة العملية والقولية بأن القطع يكون من الرسغ3، ولهذا فهي تقيد بالدليل المذكور،
1 روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة ص: 117، والمنهاج مع شرحيه 2/140، وشرح مختصر ابن الحاجب للعضد 2/156، وأبرز القواعد الأصولية د. عمر عبد العزيز ص:88.
2 شرح مختصر الروضة للطوفي 2/262، مخطوطة بمكتبة الحرم المكي الشريف.
3 أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم "قطع سارقاً من المفصل"، والمراد بالمفصل كما يقول البيهقي هنا: مفصل الكف.
انظر: السنن الكبرى 8/270-271 ط أولى الهند سنة 1354هـ، ونصب الراية للزيلعي 3/280 ط 2 المجلس العلمي توزيع المكتب الإسلامي بيروت، وتفسير الطبري 6/34-35 ط 3 دار المعرفة للطباعة والنشر أعيدت طبعته بالأوفست سنة 1398هـ بيروت، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى ص: 250 ط مصطفى البابي الحلبي أولى سنة 1356هـ.
وقد جمع طرق هذا الحديث وشواهده الألباني في إرواء الغليل 8/81-82، فمن يريد الزيادة فليراجعه.
وإذا وجد الدليل كان ذلك خارجاً عن محل حمل المطلق على المقيد، لما سبق أن حمل المطلق على المقيد مفروض عند عدم وجود الدليل الذي يعين المراد.
الأمر الثاني: إذا اقتضت الضرورة حمل المطلق على المقيد، كما لو قال المظاهر لآخر "أعتق عني رقبة"، ثم قال:"لا تملكني إلا مؤمنة"؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة، لأن النهي عن تمليك غير المؤمنة يستلزم نفي إعتاقها عنه، وذلك يوجب تقييد الرقبة بالإيمان ضرورة1، إذا لا إعتاق بدون ملك، وقد نهاه عن تمليكه غير المؤمنة.
الحال الثالثة: أن يختلف المطلق والمقيد حكماً ويتحدا سبباً.
ومن أمثلتهما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2، مع قوله تعالى في شأن التيمم: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ
1 الأحكام للآمدي 3/4، وشرح البدخشي على منهاج العقول 2/142، وتيسير التحرير 1/330، ومسلم الثبوت مع شرحه 1/361، والتوضيح لصدر الشريعة 1/63.
2 سورة المائدة آية: 6.
عَفُوًّا غَفُورًا} 1.
فقد ورد لفظ الأيدي مقيداً في الآية الأولى بكونها إلى المرافق، وورد في الآية الثانية مطلقاً عن ذلك القيد والحكم فيهما مختلف، إذ هو في الآية الأولى الأمر بغسل الأيدي2، وفي الآية الثانية الأمر بمسحها.
1 سورة النساء آية: 43.
2 اللفظ الواحد قد يُوصف بالإطلاق والعموم من جهتين فيثبت له كل من أحكام الإطلاق والعموم من جهته، كلفظ الأيدي في الآيتين، فإنه مطلق من جهة مقدار اليد عام في أفرادها، وإنما كان مطلقاً؛ لأن الشارع أطلق اليد في مواضع مع إرادة جميعها إلى المنكب تارة وبعضها تارة أخرى.
نشر البنود على مراقي السعود سيدي عبد الله العلوي 1/268.
وذكر بعض أصحاب الأصول أن تمثيل الأصوليين للإطلاق بهذه الآية غير واضح، لاحتمال أن تكون الآية عامة مجملة؛ لأن المراد من اليد قد يكون إلى الكوعين أو المرفقين أو الكتف، فلا يمكن العمل بها إلا بعد ورود البيان.
وهذا هو الفرق بين المطلق والمجمل، أن المطلق يمكن العمل به، ويمتثل بأي فرد من أفراده أما المجمل فلا يمكن العمل به إلا بعد البيان. منهاج العقول للبيضاوي مع شرحه للأسنوي والبدخشي 2/146-147.
قلت: إن أريد بالإطلاق معناه العام أو حملت الأيدي على حقيقتها فلا إشكال في التمثيل بالآيتين المذكورتين.
وإن أريد بالمطلق المعنى المصطلح عليه وهو الفرد الشائع، فالقول بالإجمال أظهر، إلا أن يكون هناك عرف خاص للشارع في لفظ اليد، فإن كان للشارع عرف في اليد فالمعول عليه؛ لأنه أولى.
وأما السبب: فهو متحد فيهما، لأنه في الآيتين القيام إلى الصلاة أو إرادتها، وفي مثل هذه الحال وأمثالها اتفق العلماء دون خلاف يعتد به على أن المطلق لا يحمل على المقيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه إلا إذا قيده دليل آخر، ويبقى المقيد على تقييده ما لم يرد دليل غير المطلق يدل على عدم اعتبار القيد الذي وجد معه وإلغائه1، وممن نقل هذا الاتفاق من المحققين الآمدي2، وابن الحاجب3، وعلاء الدين المرداوي4،
1 الأحكام للآمدي 3/4، وشرح البدخشي على منهاج العقول للبيضاوي 2/142، وتيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/320، ومسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 1/361، والتوضيخ على التلويح 1/93، وأصول السرخسي 1/270، وكشف الأسرار 2/287، والتمهيد لأبي الخطاب الحنبلي لوحة: 69 مخطوط، وشرح الطوفي على مختصر الروضة 2/161 مخطوط بمكتبة الحرم المكي.
2 الأحكام 3/ 4.
3 مختصر المنتهى بشرح العضد 2/155.
4 التحرير للمرداوي مخطوط ص: 94.
والمرداوي هو: علاء الدين علي بن سليمان بن أحمد المرداوي فقيه حنبلي أصولي، ولد سنة 817 ببلده مردا، وإليها ينسب ثم غادرها إلى الخليل فدمشق، وبها تلقى العلوم وبرع في كثير من الفنون، وإليه انتهت رئاسة المذهب الحنبلي، من أشهر مؤلفاته: الإنصاف في الفقه الحنبلي، والتنقيح المشبع في الفقه أيضاً، وتحرير المنقول في الأصول، توفي رحمه الله بدمشق سنة 885هـ.
انظر: الأعلام 5/104، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/153.
والشوكاني1.
ولم يفرق الأصوليون بين حال الاتحاد في السبب وحال اختلافه، بل جعلوا مناط منع الحمل هو الاختلاف في الحكم، فمتى كان الحكم مختلفاً، امتنع الحمل سواء اتحد السبب كما في هذه الحالة أو اختلف كما في الحال السابقة.
ولعل أدلة الأصوليين على عدم حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة هي الأدلة التي استدلوا بها على منع الحمل في حال اختلاف الحكم والسبب، من عدم وجود التنافي بين المطلق والمقيد، لاختلاف الحكم فيهما، والحمل إنما يكون عند وجود التنافي2، ولأن فائدة الحمل هي التخلص من تعدد الحكم وتعارضه، وإذا كان الحكم مختلفاً بالنص كما في هذه الحالة انتفت تلك الفائدة، وامتنع الحمل3، أضف إلى ذلك أن منع السبب الواحد للمتنافيين مشروط بكونه في وقت واحد وحالة واحدة، أما عند اختلاف الحالات كما هنا فلا مانع من ذلك، لأن السبب وإن
1 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 166.
2 روضة الناظر لابن قدامة ص: 137، ومنهاج العقول مع شرحيه 2/140-142.
3 شرح مختصر الروضة للطوفي 2/262.
اتحد في ذاته إلا أنه يختلف باعتبار حالته.
لكن هذا الحال كما سبقت الإشارة إليها في شروط الحمل خالف في عدم حمل المطلق على المقيد فيها بعض الأصوليين، حيث نقل القرافي عن كثير من الشافعية القول بحمل المطلق على المقيد لاتحاد السبب بينهما وإن اختلف الحكم1.
وجعل ابن السبكي2 وشارحه المحلي3 هذه الحال من الأحوال المختلف في حكمها، وذكر فيها الخلاف الجاري في حال اتحاد الحكم
1 تنقيح الفصول للقرافي ص: 266، شرح منهاج العقول للأسنوي 2/140.
2 ابن السبكي هو: قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي الباحث المؤرخ، فقيه أصولي، ولد سنة 727هـ، بالقاهرة ثم انتقل إلى دمشق وسكنها وتوفي بها سنة 771هـ بمرض الطاعون، له مؤلفات كثيرة منها: جمع الجوامع في الأصول، والأشباه والنظائر، وطبقات الشافعية الكبرى.
ينظر في ترجمته: طبقات الأصوليين 1/284، والأعلام 4/325 ط 3 سنة 1398، وشذرات الذهب 6/221، طبع المكتب التجاري للطباعة والنشر بيروت.
3 المحلى هو: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم، المحلى الشافعي الأصولي المفسر، ولد بالقاهرة سنة 791 وبها توفي سنة 864، من كتبه: تفسير الجلالين، ثم أتمه الجلال السيوطي، وشرح المنهاج في فقه الشافعية، وشرح جمع الجوامع، وشرح الورقات في الأصول.
انظر: الأعلام 6/230، وطبقات الأصوليين 3/40، وشذرات الذهب في أعيان من ذهب 7/303.
واختلاف السبب1 الآتية، والذي يبدو لي أن مذهب الجمهور الذي يقتضي عدم حمل المطلق على المقيد حال اتحاد السبب واختلاف الحكم هو المختار، إذ لا تعارض بين النصين إذا اختلف الحكم فيهما بالنص، لإمكان العمل بكل منهما في الموضع الذي ورد فيه، وليس في ذلك أيّ منافاة.
الملاحظة الأخرى:
أن هذه القاعدة - أعني عدم حمل المطلق على المقيد عند اختلاف الحكم - وإن كانت تقتضي بقاء الأيدي في التيمم على إطلاقها، فإن ذلك الإطلاق إنما هو بالنسبة إلى آية الوضوء، نظراً لاختلاف الحكم فيهما، أما تقييد الأيدي بأدلة أخرى غير آية الوضوء، فإن القاعدة لا تمعنه؛ لأن حمل المطلق على المقيد قائم على فرض انتفاء وجود الدليل من خارج النص المطلق أو المقيد، ولهذا فإن المذاهب المتفقة على منع تقييد الأيدي بالمرافق في آية التيمم حملاً لها على المقيد في آية الوضوء، قد قيد بعضهم2 الأيدي
1 جمع الجوامع مع شرح المحلى وحاشية البناني 2/51، وأصول الفقه للدكتور محمد مدكور ص:210.
2 المالكية والحنابلة انظر: المغني 1/179، ومختصر خليل بشرح الخرشي 1/191 ط دار الفكر، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/240، ط إحياء التراث العربي بيروت.
في التيمم بالكفين، وذلك لما صح عنده من السنة، وهو ما رواه عمار بن ياسر1 رضي الله عنه قال:"أجنبت فتمعكت في الصعيد وصليت، ثم ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما كان يكفيك هكذا، وضرب النبي بكفيه الأرض، ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه"2، وقيدها البعض الآخر بالمرفقين3، وذلك لما صح عنده من السنة، وهو ما رواه ابن عمر عن جابر رضي الله عنهما من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين"4، فكل من الفريقين
1 هو: عمار بن ياسر بن عامر بن مالك العنسي أبو اليقظان مولى بني مخزوم، صحابي جليل مشهورمن السابقين الأولين إلى الإسلام، بدري قتل بصفين مع علي رضي الله عنه سنة 37هـ. تقريب التهذيب لابن حجر ص:250.
2 متفق عليه، رواه البخاري في باب التيمم للوجه والكفين 1/93، دار إحياء التراث العربي، ومسلم في باب التيمم 1/280، رقم الحديث 110 دار إحياء التراث العربي، والنووي على مسلم 4/56-61، وينظر فتح الباري 1/443 باب التيمم للوجه واليدين وهل ينفسخ فيهما.
3 الحنفية والشافعية وينظر في ذلك الهداية مع فتح القدير 1/86 ط أولى الباب الحلبي 1389هـ، والأحكام لابن دقيق العيد 1/438 ط دار الكتب العلمية بيروت، والنووي على مسلم 4/56.
4 روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك 1/178، مع التلخيص للذهبي ط دار الفكر، وقال: لا أعلم أحداً أسنده عن عبيد الله غير علي بن ظبيان وهو صدوق، وقال الحاكم: صحيح برواية جابر، وأخرجه البيهقي 1/122، ثم قال: ولكن ذكر في الخانية بعد ذكر طرق الحديثين السابقين في كيفية التيمم - يعني- (حديث عمار وحديث ابن عمر) إن الاحتياط يقتضي مسح الوجه ومسح اليدين إلى المرفقين خروجاً من الخلاف، والله أعلم.
وفي سبل السلام 1/96 قال بعد ذكر الحديث: رواه الدارقطني وصحح الأئمة وقفه على ابن عمر، وفي بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر مع تعليق محمد حامد ص: 260، رقم الحديث 139-140-141، قال بعد ذكر حديث عمار: أصح ما روي في التيمم حديث عمار الذي كان يفتي به بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فليس الذراعان من أعضاء التيمم، وقياسه على الوضوء في هذا باطل.
وقال الحافظ: الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهم وحديث عمار، وحديث أبي الجهم ورد بذكر اليدين مجملاً، وأما حديث عمار فورد بلفظ الكفين في الصحيحين ا. هـ.
وبهذا جزم البخاري في الصحيح فقال: باب التيمم للوجه والكفين فأتى بصيغة الجزم مع أن الخلاف فيه مشهور لقوة دليله، ثم قال: محمد حامد الفقي بعد ذكر حديث ابن عمر: وللاجتهاد فيه مسرح، فلا يصلح معارضاً لحديث عمار الصريح في عدم دخول اليدين إلى المرفقين في التيمم.
يراجع للزيادة: نصب الراية 1/150-151، وإرواء الغليل للألباني شرح منار السبيل 1/186، والنووي على مسلم 4/56-61، المطبعة المصرية ومكتبتها، والأحكام لابن دقيق العيد 1/438.
قيد إطلاق آية التيمم بما صح عنده من السنة، لا بآية الوضوء، ذلك أن وضع آية التيمم مع السنة الشريفة يختلف عن وضعها مع آية الوضوء، إذ
إنها مع آية الوضوء تدخل في حال اختلاف الحكم واتحاد السبب المتفق لدى جمهور العلماء على عدم حمل المطلق على المقيد فيها، وأما مع السنة المذكورة فهي تدخل ضمن حال اتحاد الحكم والسبب المتفق على حمل المطلق على المقيد فيها، ذلك أن آية التيمم الكريمة وحديث عمار أو حديث ابن عمر قد اتحد فيها السبب وهو القيام إلى الصلاة أو إرادتها، واتحد فيهما الحكم أيضاً وهو وجوب المسح1.
1 تفسير الطبري 8/414، والمغني لابن قدامة 1/244-245، والمبسوط للسرخسي 1/107، والذخيرة للقرافي 1/353، والدسوقي على حاشية الدردير 1/155، وبداية المجتهد لابن رشد 1/68-69، وأسباب اختلاف الفقهاء د. مصطفى الزلمي ص:128.