الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد
لما كان حمل المطلق على المقيد عند كل من الجمهور والحنفية يعتمد على نوع من تأويل اللفظ وصرفه عن ظاهره المتبادر منه، فقد احتاط كل فريق لمذهبه، واشترط شروطاً لا بد من توفرها، عند إرادة حمل المطلق على المقيد.
حيث أفرد الجمهور لهذه الشروط مبحثاً خاصاً في كتبهم، ومن ذلك الشوكاني في كتابه إرشاد الفحول1 وغيره من الذين كتبوا على طريقة الجمهور حديثاً2.
وأما الحنفية فما اطلعت عليه من كتبهم - لم أعثر فيه على مبحث خاص بحمل المطلق على المقيد، ولا على مبحث مستقل بشروط الحمل3، ولعل ذلك يعود إلى أن حمل المطلق على المقيد عند الحنفية من قبيل تعارض الأدلة كما تقدم - فاكتفوا بذكر شروط التعارض في باب تعارض الأدلة، ولم يخصوا حمل المطلق على المقيد وشروط الحمل بمبحث
1 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 166.
2 أثر القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء د. مصطفى الخن ص: 246-247.
3 المنفي هو تخصيص الحنفية مبحثاً لشروط حمل المطلق على المقيد.
خاص خشية التكرار - للمباحث المتشابهة، لكن هذا لا يمنع من أخذ شروط حمل المطلق على المقيد عند الحنفية من تعريفهم لمعنى الحمل، ومن مناقشتهم للجمهور في المسائل التي خالفوهم فيها ومن تعليلاتهم للمسائل التي قالوا فيها بحمل المطلق على المقيد وما كان من تلك الشروط مخالفاًَ لما اشترطه جمهور الأصوليين، فإن السبب فيه يعود إلى أمرين:
أولهما: الخلاف في شروط التعارض 1.
حيث يشترط الحنفية لتحقق التعارض شروطاً كثيرة، - والجمهور يخالفونهم في بعض تلك الشروط، كالمساواة2 بين المتعارضين وسيأتي
1 الخلاف في شروط التعارض راجع إلى الخلاف في معناه، وقد مضى ما يطلق عليه التعارض بالمعنى العام والخاص.
2 بقي من الشروط التي هي محل خلاف بين العلماء ما يلي:
أ- كون الدليلين المتعارضين لا يمكن الجمع بينهما.
ب- كون الدليلين المتعارضين لا يمكن الترجيح بينهما.
جـ- كون الدليلين المتعارضين غير قطعيين، لأن القطعيات لا تتعارض في نظر بعض الأصوليين.
د- أن تتوفر في الديلين المتعارضين شروط التناقض عند المناطقة، والتي يسمونها بالوحدات الثمانية، وهي وحدة الموضوع أي: المحمول أو المحكوم عليه، ووحدة المحكوم به، ووحدة الزمان والمكان، والشرط- والإضافة، والجزء، والكل، والقوة، والفعل، فإذا تخلفت وحدة من هذه الوحدات بين القضيتين المتعارضتين لم يوجد التناقض بينهما، فلو قلت:(زيد في الدار) ، وزيد ليس في الدار، وأردت بالأول أمس، وبالثاني الآن، لم يتناقض كلامك، لاختلاف وحدة الزمان بين القضيتين.
هـ- واشترط بعض الحنفية -بالإضافة إلى ما سبق أن يمكن النسخ بين المتعارضين إذا علم التاريخ، وذلك ليخرج التعارض بين القياس وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه لا يمكن النسخ بين القياسين، ولا بين أقوال الصحابة.
أصول السرخسي، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 3/197، والتعارض والترجيح ص: 255، وص:45.
لهذه المسألة توضيح أكثر في الشروط المختلف فيها:
وثانيهما: الخلاف في مفهوم النسخ 1 وشروط تحققه، ذلك أن
1 النسخ: لغة: إزالة الشيء ورفعه، ومنه نسخت الريح الأثر، إذا رفعته وأزالته، أو هو رفع الشيء وإثبات غيره مكانه (مقايس اللغة لابن فارس 5/424.
وقيل: النسخ النقل والتحويل، ومنه نسخت ما في الكتاب إذا نقلته وحولت صورة ما فيه إلى مكان آخر، وهل هو حقيقة في تلك المعاني الثلاثة أو هو حقيقة في بعضها ومجاز في غيره؟ ذلك محل خلاف بين العلماء يراجع لمعرفته الاعتبار في الناسخ والمنسوخ للحازمي ط حيدر آباد سنة 1319. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2/53، ومناهل العرفان (عيسى الحلبي) وروضة الناظر ص: 36-37، وفتح المنان في نسخ القرآن للشيخ حسن العريض ص: 12، ط الخانجي، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 448، ورسالة التعارض لزميلنا أبي بكر عبد الله دكوري ص: 392، الموجودة بالدراسات العليا بالجامعة الإسلامية عام 1399.
وأما النسخ اصطلاحاً: فأقرب تعريف له أن يقال: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي: وإنما كان هذا التعريف أقرب من غيره لكونه واضحاً بسيطاً لا غموض فيه ولا تعقيد، كما أنه مأخوذ مباشرة من المعنى اللغوي، علاوة على سلامته من كثير من الاعتراضات، رسالة التعارض والترجيح لأبي بكر ص:392.
وقيل: هو بيان انتهاء الحكم الشرعي بدليل شرعي، وهو للحنفية ولهذا الاختلاف في معنى النسخ صلة بالخلاف الآتي في مبحث الزيادة على النص، أما شروط تحققه فيراجع فيها نظرية النسخ د. شعبان إسماعيل ص:122-123، والناسخ والمنسوخ لابن حزم على هامش الجلالين ص: 98-99 ط الاستقامة ومناهل العرفان 2/76، وإرشاد الفحول ص:186.
مسائل المطلق والمقيد دائرة في نظر الحنفية بين بابي التعارض والنسخ، فما قالوا فيه بالحمل يرجع إلى تعارض المطلق مع المقيد، ثم يرجح جانب المقيد لامتيازه على المطلق بالوصف الذي لا يستقل بالحجية لو انفرد، وما لم يقولوا فيه بالحمل؛ فإنه يعود إلى باب النسخ، أو تخلف شرط المعارضة فيبقى المطلق على إطلاقه كما هو الأصل.
والآن نذكر الشروط التي هي محل اتفاق لدى أكثر الأصوليين، وأغلبها مأخوذ من إرشاد الفحول للشوكاني، ثم نتبع ذلك بالشروط المختلف فيها لنرى الفرق بينهما:
أ - الشروط المتفق عليها عند أكثر الأصوليين:
اشترط جمهور الأصوليين لحمل المطلق على المقيد عدة شروط منها:
أولاً: أن يكون المقيد من باب الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين ومقتضى هذا الشرط أنه إذا كان المراد بحمل المطلق على المقيد إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فإن حمل المطلق على المقيد والحالة هذه لا يصح مثل: إيجاب غسل الأعضاء الأربعة1 في الوضوء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} 2 مع الاقتصار على عضوين في التيمم لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم} 3 لأن الإجماع منعقد كما يقول الشوكاني: "على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء، حتى يلزم التيمم في الأعضاء الأربعة، وذلك لما يقتضيه حمل المطلق على المقيد والحالة هذه من إثبات حكم لم يذكر في أحد الموضعين، وهو (وجوب مسح الرؤوس والأرجل) في
1 ينظر هذا التعبير في إرشاد الفحول ص: 166، والبحر المحيط 3/425، وفي قواطع الأدلة 1/489 فإنه أوضح.
2 سورة المائدة آية: 6.
3 سورة المائدة آية: 6.
التيمم، وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات، لكن نقل الماوردي1 كما يقول الشوكاني عن ابن خيران2 من الشافعية: إن المطلق يحمل على المقيد في الذات، أي: في إثبات أصل الحكم، ثم قال الشوكاني: وهذا باطل3 - يعني حمل المطلق على المقيد في الذات: وذكر ابن اللحام4 الحنبلي أن ظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد حمل المطلق على المقيد في الأصل، كما يحمل عليه في الوصف، بدليل أنهم حكوا في كفارة القتل في
1 الماوردي هو: علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي، ولد سنة 364هـ وهو من العلماء الباحثين ويعتبر من أقضى قضاة عصره، توفي سنة 450هـ، ومن مؤلفاته الأحكام السلطانية، والحاوي، والإقناع فيي الفقه، ودلائل النبوة في الحديث.
انظر: الفتح المبين 1/240، وطبقات الشافعية للسبكي 3/303، والأعلام للزركلي 5/166.
2 ابن خيران: هو أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي الشافعي، أحد أركان المذهب الشافعي، كان إماماً زاهداً ورعاً تقياً توفي سنة 320هـ. طبقات الشافعية الكبرى 3/271.
3 إرشاد الفحول ص: 166.
4 ابن اللحام هو: علاء الدين علي بن عباس الحنبلي الفقيه الأصولي المعروف بابن اللحام، ولد سنة 752هـ واشتغل بالتدريس والإفتاء والقضاء بدمشق.
انظر المدخل إلى مذهب أحمد لابن بدران ص: 236 ط المنيرية بمصر، وترجمته في مقدمة القواعد الأصولية تحقيق محمد حامد الفقي.
وجوب الإطعام روايتين - الوجوب إلحاقاً لكفارة القتل بكفارة الظهار، كما حكوا روايتين في اشتراط وصف الإيمان في كفارة الظهار.
والاشتراط إلحاقاً لكفارة الظهار بكفارة القتل، فدل هذا من كلامهم.. على أنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأصل والوصف1، لكن الظاهر أن إلحاق الإطعام في كفارة القتل بالإطعام في كفارة الظهار ليس هو من باب حمل المطلق على المقيد؛ لأن كفارة القتل خطأ لا توصف بالإطلاق، من حيث أنه لم يرد فيها نص بالتكفير بالإطعام، وليس كل حكم يسكت عنه الشارع يكون مطلقاً، بل لا بد في الإطلاق من ثبوت ذات أولاً، ثم تقيد بأحد الأوصاف الواردة عليها، أو تبقى على إطلاقها، وكفارة القتل ليست من هذا القبيل، وبناء على ذلك يكون الراجح أن حمل المطلق على المقيد إنما يجري في الوصف دون الأصل، لما يلزم من جريانه في الأصل من إثبات حكم لم يشرع، كما ظهر ذلك من انعقاد الإجماع على عدم إلحاق التيمم بالوضوء في بقية الأعضاء2.
ثانياً: أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد، كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية، وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها
1 القواعد لابن اللحام ص: 284.
2 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 155.
من العقود.
والعدالة شرط في الجميع، وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله تعالى:{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 1 وإطلاق بقية المواريث عن ذلك القيد فإن ما أطلق من المواريث يكون مقيداً بكونه بعد تنفيذ الوصية وقضاء الدين، وأما إذا كان المطلق دائراً بين قيدين متضادين نظر في سبب الحكم، فإن كان السبب الذي شرع لأجله الحكم مختلفاً لم يحمل المطلق على أحدهما إلا بدليل2، وسيأتي مزيد من الإيضاح في مطلب تعدد القيد.
الشرط الثالث: أن يكون المطلق والمقيد في سياق الإثبات، أما إذا كان في سياق النفي أو النهي، فإن المطلق لا يحمل على المقيد والحالة هذه مثال ذلك في النهي، أن يقال:(إذا جنيتهم فلا تكفروا بالعتق) ويقال في موضع آخر: (إذا جنيتم فلا تكفروا بعتق كافر)، ومثاله في النفي أن يقال في موضع:(لا يجزئ عتق مكاتب) ويقال في موضع آخر: (لا يجزئ عتق
1 الآية من سورة النساء ونصها: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} . النساء آية: 12.
2 إرشاد الفحول ص: 166.
مكاتب كافر) ؛ فإن المطلق والمقيد في هذين المثالين قد وردا في سياق النهي في المثال الأول، ووردا في المثال الثاني في سياق النفي، ومن ثم فلا يحمل المطلق على المقيد فيهما؛ بل يجب إجراء المطلق على إطلاقه في المنع من العتق فلا يعتق في المثالين لا كافر ولا مؤمن لما يترتب على العتق من الإخلال باللفظ المطلق وهو غير سائغ، ضرورة عموم النكرة المنفية1، وقد ذكر هذا الشرط الآمدي2 وابن الحاجب3، وقالا: لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما لعدم التعذر، ومرادهما أنه يلزم من نفي
1 المرجع السابق ص: 166، والأحكام للآمدي 2/163، والمعتمد لأبي الحسن 1/313، ومختصر ابن الحاجب 2/156، والفروق للقرافي 1/192.
2 الآمدي هو: علي بن محمد بن سالم التغلبي ولد سنة 551هـ، وهو أصولي باحث، من مؤلفاته: الأحكام في أصول الأحكام، وهو من أجل ما كتب في علم الأصول، وله مختصر منتهى السول، اختصره من الأحكام، توفي رحمه الله سنة 630هـ.
انظر: الأعلام للزركلي 5/153، والفتح المبين في طبقات الأصوليين للمراغي 2/57، ووفيات الأعيان 3/293 ط دار صادر سنة 1397هـ بيروت.
3 ابن الحاجب هو: جمال الدين عثمان بن عمر بن أبي بكر من كبار العلماء، ولد سنة 570هـ، ثم برع في العلوم وأتقنها، وخاصة علوم العربية والقراءات والأصول، من أشهر مؤلفاته: منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل، وجامع الأمهات في الفقه، والأمالي في النحو، توفي رحمه الله سنة 646هـ.
طبقات الأصوليين 2/65-66، والأعلام 4/374.
المطلق نفي المقيد، فيمكن الجمع بينهما بأن لا يعتق في المثال المذكور لا مؤمنة ولا كافرة1.
وهذا القول منهما عند التحقيق توقف عن الحكم الذي أفاده المطلق والمقيد، وطلب الدليل من خارج محل النزاع وتسميتهما له جمعاً فيه تسامح إلا إن كانا يقصدان بالجمع هنا المعنى العام، فلا بأس، لكن كان ينبغي عليهما أن ينبها إلى ذلك.
ولهذا نازع في دعوى العمل بهما هنا شارح مسلم الثبوت وقال: (إن العمل بهما في هذه الحال غير ممكن، فلا بد من القول بحمل المطلق على المقيد أو النسخ على رأيه)2.
1 القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام الحنبلي ص: 284.
2 انظر تعليل ذلك في مسلم الثبوت 1/362 حيث يقول: (لأن النهي عن المطلق من جهة الانتشار يستدعي الكف عن واحد من أفراده ويتحقق الامتثال بإتيان المقيد والكف عن واحد مما عداه.
والنهي عن المقيد يستدعي أن لا يأتي بواحد من أفراده إن كانت وأن لا يأتي به إن لم تكن له أفراد كثيرة، ففي الإتيان به أو جميع أفراده مأثم، وحينئذ لا يمكن العمل بهما، فلا بد من الحمل أو النسخ كما في المثبتين، فلا بدّ من إدارة العموم؛ فليس من هذا الباب فالأولى أن يراد بالمطلق ما لا يكون فيه قيد، وإن كان عاماً، وبالمقيد ما فيه قيد فلا يضر كونه عاماً.
قلت: وهكذا ترى أن الخلاف في التسمية أما حمل أحد اللفظين على الآخر أو نسخه به فمحل اتفاق.
لكن فخر الدين الرازي1 صرح بأنه لا فرق في حمل المطلق على المقيد بين الأمر والنهي، فإن قال لا تعتق مكاتباً، ثم قال: لا تعتق مكاتباً كافراً، فإنا نحمل الأول على الثاني، ويكون المنهي عنه هو إعتاق المكاتب الكافر دون غيره2.
قال الزركشي3: قد يقال: إنه لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي، وما ذكروه من المثال: إنما هو من قبيل إفراد بعض مدلول العام، وفيه خلاف، فلا وجه لذكره هنا.
قلت: ذكر ابن اللحام أن ذلك مسلم فيما إذا كان فرد العام لا
1 الرازي هو: فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن التميمي البكري ولد عام 544هـ، وكان إماماً مفسراً وأوحد زمانه في المعقول والمنقول له عدة مؤلفات منها مفاتح الغيب في التفسير، والمحصول في الأصول، توفي سنة 606هـ.
الأعلام 7/203، وطبقات الأصوليين 2/47 ط 2 1394.
2 التمهيد للأسنوي ص: 278، والفروق للقرافي ص: 192، وشرح المحلى على جمع الجوامع 2/43 مع حاشية البناني، وتنقيح الفصول ص: 268، ومسلم الثبوت 1/362.
3 الزركشي هو: محمد بن بهادر بن عبد الله التركي المصري، الزركشي صنعة له، لقب ببدر الدين ولد عام 745هـ بمصر، وهو فقيه شافعي أصولي محدث، من مؤلفاته: البحر المحيط في الأصول، مخطوط، وتشنيف المسامع بجمع الجوامع في الأصول أيضاً، توفي رحمه الله سنة 794هـ طبقات الأصوليين 2/209، الأعلام 3/933.
مفهوم له كاللقب1 أما إذا كان له مفهوم معتبر، فالقائل بأن المفهوم حجة يخصصه به، وعندئذ يكون الخلاف في التسمية فقط، لا في العمل؛ لأن القائلَ بالمفهوم يخصص به العام، ولكن لا يسميه تقييداً ضرورة عموم النكرة في سياق النفي أو النهي.
قال الشوكاني: الحق عدم حمل المطلق على المقيد في النفي والنهي2، والذي يبدو لي أن المسألة ليست على إطلاقها، بل لا بد من التفصيل، فإذا كان النفي نصاً3 في الحكم، فإن الراجح عدم حمل المطلق على المقيَّد، كما هو مذهب أكثر الأصوليين: بمعنى أن الحكم الذي وردت عليه أداة نفي موضوعة للتنصيص على نفي الحكم لا يحمل فيه المطلق على المقيد بطريق التقييد المصطلح عليه لدى الأصوليين، وإن كان
1 يراد باللقب هنا الاسم الجامد: سواء كان علماً مثل زيد، أو كنية مثل أبو بكر أو لقباً كزين العابدين: وبالجملة خلاف المشتق، لأن المشتق إذا رتب الحكم عليه يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق بخلاف اللقب، فإنه لا دلالة له على علة الحكم بوجه من الوجوه.
2 إرشاد الفحول ص: 165.
3 يكون النفي نصاً: إذا ورد بطريق (لا) النافية للجنس: وما المزيدة بعدها (من) كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3] أي: لا أحد خالق بحق إلا ربنا تعالى، ونحو هذه الأدوات التي هي موضوعة في اللغة للتنصيص على النفي، ويكون النفي ظاهراً: إذا ورد بطريق (لا) العاملة عمل ليس ونحوهما كالمثال الذي ذكر سيبويه.
لا مانع من تخصيص الحكم المنفي باعتباره عاماً1، وأما إذا كان النفي ظاهراً فالأمر محتمل؛ لأن النفي كما سيأتي لنفي الجنس نصاً يأتي لنفي الوحدة، بدليل ما نقل عن سيبويه2 من قول العرب: لا رجل في الدار، بل رجلان، فأتى النفي لغير الجنس، والنفي إذا كان ظاهراً يجوز صرفه بالدليل كما في المثال السابق ونحوه3.
الشرط الرابع لحمل المطلق على المقيد: أن لا يكون الحكم في جانب الإباحة، قال أبو البركات4: (وإذا كانا إباحتين فهما في معنى
1 الفروق 1/191-192، وبدائع الفوائد لابن القيم 3/249.
2 سيبويه: لقب اشتهر به عمرو بن قنبر الحارثي بالولاء، إمام أهل البصرة في النحو، المولود عام 148هـ والمتوفي سنة 180هـ، وأعظم مؤلفاته كتابه في النحو المعروف (بالكتاب) عند النحويين.
انظر: الأعلام 5/252، وطبقات النحويين واللغويين ص: 66-74 لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي ط أولى سنة 1373هـ بمصر م محمد سامي أمين الجانجي، وسير أعلام النبلاء للذهبي 8/311 ط أولى 1401هـ مؤسسة الرسالة.
3 مسلم الثبوت 1/361، وشرح تنقيح الفصول ص:182.
4 أبو البركات بن تيمية هو: مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني، الفقيه الحنبلي الإمام المقرئ المحدث المفسر الأصولي النحوي، ولد سنة 590هـ له عدة مؤلفات منها: المحرر في الفقه والمنتقى من أحاديث الأحكام ومسودة في أصول الفقه، توفي رحمه الله سنة 652.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/249، ط دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت، وطبقات الأصوليين 2/68 ط 2 1394 محمد أمين صبيح وشركاه بيروت.
النهيين، وكذلك إذا كانا كراهتين، أي: أنهما في معنى النهيين لفظاً ومعنى، فلا يحمل المطلق على المقيد في جانب الإباحة؛ لأنه لا تعارض بينهما والحمل إنما يكون عند التعارض.
ونقل الشوكاني عن ابن دقيق العيد1 أن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة وعلل ذلك بعدم وجود تعارض بينهما أيضاً2، وقد تقدم الخلاف في حكم النهي ومن قال: بأنه يمكن الجمع بينهما في النفي والنهي، وذلك بالكف عنهما، وما ورد عليه من الاعتراض3.
1 ابن دقيق العيد هو: تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري المشهور بـ (دقيق العيد) فقيه شافعي محقق، ولد سنة 625، وتلقى المذهب المالكي على أبيه، ثم تلقى المذهب الشافعي على العز بن عبد لاسلام، وبرع فيه وأتقنه، له مصنفات وشروح في فقه الأصول، وله في الحديث كتاب (الإمام) وقد اختصره في كتاب سماه الإلمام، توفي رحمه الله سنة 702هـ.
انظر: طبقات الشافعية الكبرى 9/207، رقم الترجمة (1326) ط أولى البابي الحلبي وشركاه، تحقيق محمود محمد الكناحي وعبد الفتاح محمد الحلو، وطبقات الأصوليين 2/102.
2 إرشاد الفحول ص: 166، والمسودة لآل تيمية ص:147.
3 مسلم الثبوت 1/361، والنسخ بين النفي والإثبات د. محمد محمود فرغلي ص:147.
الشرط الخامس: أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل، فإن أمكن بغيره فإنه أولى من تعطيل بعض ما دل عليه أحدهما1.
الشرط السادس: أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد، فلا يحمل المطلق على المقيد ههنا قطعاً2، لأنه يلزم من حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة أن يكون القدر الزائد مع المقيد لغواً، وهو لا يليق بكلام العقلاء فضلاً عن كلام أحكم الحاكمين.
الشرط السابع: أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل على منع حمل المطلق على المقيد فلا حمل3، والحالة هذه. ويمكن أن نمثل لذلك بالإطلاق في كفارة الظهار الوارد في قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فقد تقرر عند الجمهور حمل المطلق على المقيد في هذا المسألة، فالواجب تحرير رقبة مؤمنة في كفارة الظهار، قياساً لها على كفارة القتل الخطأ، كما يأتي بيان ذلك، ولكن لو فرض أنه ورد نص آخر في كفارة الظهار يفيد إجزاء
1 إرشاد الفحول ص: 167، وذلك بأن يوجد الدليل الذي يعين ما دل عليه أحدهما أو ثبت نسخ أحدهما بالآخر.
2 إرشاد الفحول ص: 167، والمراد بالقدر الزائد هنا ما يعبر عنه في باب المفهوم بخلو القيد عن الفائدة إلا من مجيئه لتخصيص ما ذكر معه بالحكم.
3 إرشاد الفحول للشوكاني ص: 167.
الكافرة نحو: فتحرير رقبة مؤمنة أو كافرة، لكان ذلك دليلاً مانعاً من حمل إطلاق كفارة الظهار على تقييد كفارة القتل الخطأ، وعندئذ لا يجوز الحمل لوجود الدليل المانع.
الشرط الثامن: أن لا يستلزم حمل المطلق على المقيد تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استلزم ذلك بقي المطلق على إطلاقه، ومثال ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة في بيان ما يلبس المحرم:"من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين"1.
وقوله في عرفات: "من لم يجد نعلين فليلبس خفين" 2، فقد قيد لبس الخف بالقطع أسفل من الكعبين، وهو بالمدينة ثم أطلق لبسهما في عرفة، وكان الإطلاق متأخراً عن التقييد فقد كان الإطلاق في عرفة حيث
1 الحديث رواه البخاري ومسلم، وهو في متن البخاري 2/169، وفي فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر 4/57.
وقد أخرجه مسلم في كتاب الحج فيما يباح للمحرم، ورقم الحديث عند مسلم: 1177 من الجزء 2،234، وفي النووي على مسلم 7/75 ط المطبعة المصرية ومكتبتها.
2 المراجع السابقة، وتراجع المسألة في الكتب التالية: بداية المجتهد لابن رشد 1/326-327 ط 3 1339 البابي الحلبي، وبدائع الصنائع للكاساتي 3/1225 والمغني لابن قدامة 3/311، والقواعد الأصولين لابن اللحام الحنبلي ص286، والمسودة لآل تيمية ص: 137، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي ص:218.
حضر معه خلق كثير لم يسمعوا خطبته في المدينة - وهم في أمسِّ الحاجة إلى البيان - فلو قلنا في هذه المسألة: بأن المطلق محمول على المقيد، وأنه لا يجوز لبس الخف إلا مع القطع، لكان في ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز، ومن هنا قال الإمام أحمد1 ومن تابعه أن القطع المأمور به في المدينة منسوخ بإطلاق اللبس بدون قطع في عرفات2، وهذا الشرط وإن لم يذكره الشوكاني إلا أنه متفق عليه، لأن حمل المطلق على المقيد بيان عند الجمهور والبيان لا يحوز تأخيره عن وقت العمل، وأما على مذهب الحنفية، فلأنه عند العلم بتأخر أحدهما يكون المتأخر ناسخاً للمتقدم إذا تساوى معه في قوة الدلالة والثبوت.
1 الإمام أحمد هو: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الوائلي، ولد سنة 164 وهو إمام المذهب الحنبلي وأحد الإئمة الأربعة، وتعرض للتعذيب أيام العباسيين لامتناعه عن القول بخلق القرآن، من مؤلفاته مسنده العظيم، توفي رحمه الله سنة 241هـ.
الأعلام 1/192، والبداية والنهاية لابن كثير 10/325 ط الثالثة مكتبة المعارق بيروت، وطبقات الحنابلة للقاضي أبي يعلى 1/4، الناشر دار المعرفة بيروت.
2 بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية 3/250، والقواعد الأصولية لابن اللحام ص:284.
ب - الشروط التي هي محل خلاف:
اختلف الحنفية مع الجمهور في بعض الشروط التي يجب توفرها لحمل المطلق على المقيد، بناء على أن ذلك شرط لتعارض الأدلة، أم ليس هو بشرط فيها حيث يفهم من تعليلات الحنفية أن كل ما هو شرط في تعارض الأدلة فهو شرط لحمل المطلق على المقيد، ضرورة أن التنافي الواقع بين المطلق والمقيد نوع من التعارض الواقع بين الأدلة الشرعية، وكان أهم الشروط التي اختلف الحنفية مع الجمهور فيها ما يلي:
1 -
المساواة بين الدليلين المتعارضين:
قد ذهب إلى اشتراط المساواة بين الدليلين المتعارضين جماعة من الأصوليين ومنهم جمهور الحنفية - كالبخاري1 والفناري2
1 البخاري هو: عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري الفقيه الحنفي الأصولي الملقب بعلاء الدين، تبحر في الفقه والأصول، وعرف بتفوقه فيهما. له شرح على أصول البزدوي سماه كشف الأسرار، وهو من أهم وأعظم شروح أصول البزدوي وأكثرها فائدة وبياناً، توفي رحمه الله سنة 730هـ.
انظر: تاج التراجم في طبقات الحنفية للشيخ أبي العذل زين الدين بن قاسم بن قطلوبغا المتوفي سنة 879 ص: 35 رقم الترجمة: 103، مطبعة العاني بغداد سنة 1962م، وطبقات الأصوليين 2/! 36.
2 الفناري هو: محمد بن حمزة بن محمد شمس الدين الفناري صنعة، ولد سنة 751هـ واشتهر بعلم المنطق والأصول، وله مؤلفات كثيرة منها إيساغوجي في علم المنطق، وفصول البدائع في أصول الشرائع، وشرح الفرائض السراجيه، توفي سنة 834.
راجع: الأعلام 6/342، وطبقات الأصوليين 3/30.
والسرخسي1 وفي حكم المتساويين عند الحنفية كل دليلين وجد بينهما تعارض وكان لأحدهما مزية على الآخر بوصف تابع، مثل: تعارض خبر الواحد2 الذي يرويه عدل فقيه مع آخر يرويه عدل لم يشتهر بالفقه، ومثل: تعارض الحديث المشهور مع المتواتر3 وقد أشار إلى مذهب الحنفية هذا سعد الدين التفتازاني4 في كتابه التلويح على التوضيح لصدر الشريعة حيث قال: "إذا دل دليل على ثبوت شيء والآخر على انتفائه، فإما أن يتساويا في القوة أم لا وعلى الثاني إما أن تكون زيادة أحدهما عن الآخر
1 أصول السرخسي 2/12-13، وإرشاد الفحول ص: 274، وكشف الأسرار 3/76-77، والتعارض والترجيح بين الأدلة د. مصطفى البرزنجي 1/248.
2 خبر الواحد أو الآحاد هو: ما رواه شخص واحد أو عدد لم يبلغ مرتبة التواتر في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم واستمر على ذلك في العصرين التاليين، لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 أدلة الشرع المتعارضة للدكتور بدران أبو العينين ص: 35 الناشر مؤسسة شباب الجامعة بالإسكندرية.
4 التفتازاني هو: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد الله، من أئمة العربية والبيان والمنطق، ولد سنة 712هـ ومن مؤلفاته كتاب التلويح على التوضيح وله حاشية على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب، توفي رحمه الله سنة 793هـ.
انظر: الأعلام 8/113-114 ط 3 1398هـ، ومعجم المؤلفين للأستاذ رضا كحالة 2/206 ط 2، 1394هـ.
بما هو بمنزلة التابع أولاً، ففي الصورة الأولى: وهي (تساوي الدليلين في القوة) تعارض ولا ترجيح، وفي الصورة الثانية ويعنى بها:(إذا كان لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع) معارضة مع ترجيح1، وفي الصورة الثالثة:(وهي التي لم يتساو فيها الدليلان في القوة، ولم يكن لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع) لا معارضة ولا ترجيح، لابتنائه على التعارض المنبئ عن التماثل2، وهنا نقول: إن التساوي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أنواع:
الأول:
التساوي في الثبوت وذلك بأن يكون الدليلان المتعارضان قطعيين سنداً كالمتواترين أو ظنيين سنداً كالمشهورين والأحاديين.
فعلى أن التساوي في الثبوت شرط في التعارض، لا يتصور وجود تعارض بين الآيات القرآنية والسنة المشهورة، أو الآحادية، لعدم التساوي في الثبوت، لأن القرآن ثبت بالطريق المتواتر، والسنة المشهورة أو الأحادية ثبتت بطريق الظن.
الثاني:
التساوي في الدلالة، مثل: أن يكون الدليلان المتعارضان قطعيين
1 التلويح لسعد الدين التفاتازاني 2/103، مع التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة.
2 المرجع السابق الأخير 2/103، والتعارض والترجيح للبرزنجي 1/250.
دلالة، كالنصين أو ظنيين دلالة كالظاهرين، فعلى أن ذلك شرط لا تعارض بين النص والظاهر، ولا بين العام والخاص بناء على القول بظنية دلالة العام، لعدم تساوي الظاهر مع النص في الدلالة.
الثالث:
التساوي في العدد، وذلك بأن يكون كل من المتعارضين واحداً مع واحد، أو اثنين مع اثنين الخ، وبناء على اشتراط التساوي في العدد لا تعارض بين آيتين توافق إحداهما آية أخرى أو حديثاً أو إجماعاً ولا بين حديثين يوافق أحدهما آية، أو قياساً.
وقد ذهب جمهور الأصوليين إلى اشتراط التساوي في الثبوت والدلالة لإمكان التعارض، ومنهم أكثر أصولي الحنفية، أما التساوي في العدد فقد اشترطه الشافعية لبقاء التعارض، فيرجح عندهم الخبران على خبر واحد، وخالف في ذلك الحنفية وبعض المحدثين فذهبوا إلى عدم الترجيح بكثرة الأدلة1.
لكن يرى عامة العلماء أن التساوي في أصله ليس شرطاً في تعارض الأدلة الشرعية، وأن وجود مطلق التنافي بينها كاف للقول بالتعارض، وذلك ما يفهم من صنيع جمهور المحدثين، والمفسرين والأصوليين، وهو
1 التقرير والتحبير على التحرير 3/302، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص:250.
اختيار الكمال ابن الهمام وابن أمير الحاج1 من الحنفية2.
أضف إلى ذلك أن عمل العلماء سلفاً وخلفاً يعاضد هذا الرأي ويسانده، فقد عارضوا بين القوي والضعيف، وأطلقوا اسم التعارض على وجود مطلق التنافي الظاهري بين الآية والسنة، مشهورة كانت أو أحادية.
والأصل في الإطلاق الحقيقة3، ومن تتبع كتب الخلاف وجد من ذلك الشيء الكثير، حتى أن المشترطين المساواة بين المتعارضين عقدوا في كتبهم الأصولية أبواباً ومباحث للتوفيق بين أنواع من الأدلة، لا يتحقق فيها شرط المساواة، فدل ذلك منهم على أن المساواة ليست شرطاً في وجود التعارض، وإنما هي شرط لبقاء المعارضة وعدم اندفاعها، يوضح ذلك أيضاً أن المذهب المختار دخول الدليل الراجح والمرجوح في باب
1 ابن أمير الحاج هو: محمد بن محمد بن الحسن المعروف بابن أمير الحاج الحلبي الملقب بشمس الدين الفقيه الحنفي الأصولي، اشتهر أمره بحلب، وكان صدراً من صدور علماء الحنفية، صنف التصانيف الكثيرة، وأخذ عنه الأكابر وافتخروا بالانتساب إليه، ومن مؤلفاته: شرح التحرير في الأصول، وحلية المحلى في الفقه، توفي رحمه الله بحلب سنة 879.
الأعلام 3/979، والفتح 3/47.
2 التقرير والتحبير 3/302، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي ص:250.
3 التوضيح على التنقيح كلاهما لصدر الشريعة مع حاشية التلويح 2/103، وأصول الحامي ص: 77، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص:251.
التعارض، والقول باشتراط المساواة ينافي ذلك إلا على نوع من التسامح، كما أن القول باشتراط المساواة يحصر1 الترجيح على صورة واحدة كما هو مذهب الحنفية.
1 نشير بذلك إلى نقل التفتازاني وغيره لمذهب الحنفية السابق في التعارض وخلاصته أن التعارض له صورتان فقط عند الأحناف.
الأولى: تعارض بدون ترجيح، ويتحقق بين كل دليلين ثبت تساويهما في السند والدلالة، والتخلص من هذا النوع من نوعي التعارض إما بنسخ المتقدم منها إذا علم التاريخ أو بسقوطهما، وطلب الدليل من غيرهما، ولا يمكن أن يدفع هذا النوع من التعارض، بطريق الترجيح لفقدان شرطه، وهو زيادة أحد الدليلين عن الآخر بما هو بمنزلة التابع.
تنبيه وملاحظة: القول بسقوط الدليلين وطلب الحجة من غيرهما، مفروض فرضاً في المسألة؛ لأنه لم يوجد في الواقع دليلان لا يمكن الجمع بينهما بالطرق الثلاث التي هي الجمع والترجيح والنسخ.
الصورة الثانية للتعارض عند الحنفية، تعارض مع ترجيح:
وتحقق هذه الصورة في كل دليلين ثبت تساويهما في الذات (الحجية) . وكان لأحدهما فضل على الآخر بما هو بمنزلة التابع، كصفة الشهرة في الحديث المشهور الذي يرجح بها على حديث الآحاد، ومثل الفقه في الراوي العدل الذي يرجح به حديثه على حديث راوٍ آخر عدل غير فقيه.
وبقي صورة ثالثة للأدلة عند الحنفية ليس فيها تعارض ولا ترجيح وذلك عندما تنعدم المساواة بين الدليلين، وتتخلف صفة الترجيح، والعمل في هذه الحالة يكون بتقديم الدليل الأقوى وترك الدليل الضعيف.
والأحسن من ذلك أن يحمل القول بالاشتراط على المساواة في الحجية فقط، فيؤول الأمر إلى الاتفاق، أو يحمل التعارض على معناه الخاص عند المشترطين للمساواة ويكون مقصودهم بالتعارض التناقض والتضاد، ويحمل القول بعدم الاشتراط على المعنى العام للتعارض، أو نقول: إن المساواة شرط لبقاء المعارضة لا في وجودها كما قال الشافعية قبل قليل.
الشرط الثاني:
أن لا يعلم تأخر أحد الدليلين المتعارضين عن الآخر، وهذا الشرط في الحقيقة مرتبط بالشرط السابق، كثمرة له، وهدف من أهدافه؛ ذلك أن الحنفية عندما اشترطوا المساواة بين المتعارضين أرادوا أن يُضَمِّنُوا ذلك أمرين:
أولهما:
تضييق دائرة التعارض بين الأدلة في أقل صورة ممكنة كما سبق حصر ذلك في صورتين فقط.
ثانيهما:
القول بنسخ المتقدم من الدليلين المتعارضين بالمتأخر منهما إذا تساويا في قوة الثبوت والدلالة، ومن هنا كان بدهياً أن يشترط الحنفية هذا الشرط في حمل المطلق على المقيد، وقد وجد ذلك منهم فعلاً حيث قالوا: (إذا علم تأخر المطلق أو المقيد كان المتأخر منهما ناسخاً، بشرط أن
تتوفر في الدليلين بقية شروط النسخ) 1، ولذا خالف الحنفية طردَ هذه القاعدة، بحجة أن الدليل - وإن كان متأخراً - لا يصلح ناسخاً، كخبر الآحاد والقياس2.
2 -
ويرى جمهور الأصوليين أن مجرد العلم بتأخر أحد الدليلين ليس كافياً للقول بالنسخ وإن تساوى الدليلان في قوة السند والدلالة؛ لأن حمل المطلق على المقيد من قبيل البيان، والبيان يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة - كما هو الحال في غالب أحكام الشرع، ثم ناقش الجمهور الحنفية فيما استدلوا به على الاشتراط، وكان من الأدلة التي استدل بها الحنفية ما يلي:
1 مسلم الثبوت 2/189.
2 القياس: لغة التقدير والتسوية، يقال: قاس الثوب بالمتر، إذا قدره به، وفلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه في المرتبة.
واصطلاحاً: إلحاق واقعة شرعية لم ينص على حكمها بواقعة شرعية نص على حكمها، لوجود علة تجمع بين الواقعتين، مثل إلحاق الأرز بالقمح في تحريم البيع مع التفاضل، لعلة الربا، وهي كونهما من المدخرات أو المطعومات، أو المقوتات، وجه المخالفة تظهر عند من أطلق القاعدة بدون شرط المساواة بين الدليلين، وقد مر بنا أن اشتراط المساواة قال به بعض الحنفية، أما المحققون منهم فهم مع الجمهور في عدم الاشتراط، وحينئذ فإطلاق القول بأن الدليلين المتعارضين إذا علم التأريخ بينهما يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، ليس على إطلاقه عند من يشترط التساوي بين الدليلين لتعارض الأدلة.
أ - قالوا: إن القول بنسخ المتقدم من الدليلين المتعارضين إذا علم التاريخ بينهما يتفق، وقاعدة دفع التعارض بين الأدلة والتي هي عند الحنفية تقديم النسخ أولاً: ثم الترجيح ثانياً، ثم الجمع؛ فإذا لم يمكن الجمع سقط الاستدلال بالدليلين، وطلب الحكم من غيرهما.
وقد نوقش هذا الاستدلال من قبل الجمهور، حيث قالوا: إن القول بتقديم النسخ في دفع التعارض بين الأدلة إذا علم تأخر أحد الدليلين وإن قال به أكثر أصولي الحنفية، إلا أنه خلاف الأولى، لأن القاعدة التي يكاد أن يجمع عليها العلماء في دفع التعارض بين الأدلة المتعارضة هي: تقديم الجمع ثم الترجيح ثم النسخ إذا علم التاريخ، والسبب في تقديم الجمع على غيره، أن التوفيق بين الأدلة المتعارضة بواسطته يجعل التعارض كأن لم يكن، إذ يحمل كل من الدليلين على حال تخالف الأخرى، ومن القواعد المقررة في الأصول، أن الأصل في الأدلة الأعمال، فإذا أمكن فلا يجوز العدول عنه إلى غيره، لأن أعمال الدليلين ولو من وجه خير من أهمالهما معاً، كما هو الحال في القول بسقوط الاستدلال بهما، وخير من أعمال أحدهما وسقوط الآخر بالكلية كما هو الحال في القول بترجيح أحدهما على الآخر أو نسخه به، وفي القول بحمل المطلق على المقيد عن طريق بيانه بواسطته، جمع بين الدليلين فكان أولى من القول بالنسخ أو الترجيح.
ب - واستدل الحنفية أيضاً:
بأن المطلق والمقيد من الألفاظ المعلومة المعنى، فيجب على المكلف اعتقاد معناهما والعمل بهما حين سماعهما من الشارع، فإذا كان الشارع يريد من المكلف غير المعنى المعلوم من اللفظ عند إطلاقه، ولم يُنَصِّبْ على مراده دليلاً حين نزول المطلق فقد أوقع المطلق في محظور وهو اعتقاد غير المراد من اللفظ، وذلك لا يجوز إلَاّ على القول بالتكليف بالمحال1، فكان تأخر المطلق أو المقيد قرينة صارفة عن هذا المحظور، ودليلاً على أن الشارع أراد من المكلف اعتقاد المعنى الظاهر من اللفظ عند نزوله ثم نسخ ذلك بالدليل المتأخر2، وقد نوقش هذا الدليل من قبل الجمهور من عدة أوجه:
1 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/343، وأصول الفقه للخضري بك ص: 216-220، وبيان النصوص الشرعية للدكتور بدران ص:148.
2 وواضح من هذا الدليل أن الحنفية يريدون بالنسخ هنا نسخ اعتقاد الظاهر دون العمل، فإذا سلم لهم الجمهور بذلك كان دليلهم وجيهاً، ولكن الجمهور لا يكتفون بهذا القدر للقول بالنسخ، وبهذا يعلم جوهر الخلاف في المسألة، فمن يسمي رفع اعتقاد الظاهر نسخاً يحكم بنسخ الدليل المتقدم متى علم تأخر الدليل المعارض له، ومن لا يكتفي في النسخ بمجرد العلم بتأخر الدليل المعارض، ولا يرى رفع الظاهر الذي لم يتأخر عن وقت العمل نسخاً لا يحكم بالنسخ بين النصين بمجرد العلم بتأخر أحدهما حتى يكون ذلك مستلزماً لتأخير البيان عن وقت الحاجة، فإذا استلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة كان ذلك نسخاً عند الجمهور أيضاً.
الوجه الأول:
إن القول بأن المطلق معلوم المعنى فيجب على المكلف اعتقاد معناه والعمل به حين سماعه من الشارع في حيز المنع.
وذلك لأن المطلق ظاهر في الإطلاق، كظهور العام في العموم، فيجوز صرفه عن الظاهر بالدليل، وفي هذا الصدد يقول الغزالي1: إن في قوله - تعالى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ليس هو نصاً في إجزاء الكافرة، بل هو عام يعتقد عمومه مع تجويز قيام الدليل على خصوصه، أما أن يعتقد عمومه (قطعاً) فهذا خطأ في اللغة"2.
1 الغزالي: هو محمد بن محمد بن أحمد، الملقب بحجة الإسلام زين الدين الطوسي وكنيته أبو حامد، فقيه شافعي ولد سنة (450) ، وجمع شتات العلم في المنقول والمعقول، واشتهر بالتصوف للسائلين إلى الطريق المستقيم، من مؤلفاته المشهورة: إحياء علوم الدين، والمستصفى في علم الأصول، توفي رحمه الله سنة 505هـ.
راجع: الإعلام 7/247، والفتح المبين في طبقات الأصوليين2/8،ط 2،1394هـ.
2 كتبت كلمة (قطعاً) هنا لورودها في موضع آخر ص: 188، وخوفاً من أن يتوهم متوهم أن في الكلام اضطراباً حيث يقول: (بل هو عام يعتقد عمومه، ثم يقول: أما أن يعتقد عمومه فهذا خطأ في اللغة.
المنخول للغزالي ص: 180، والمستصفى مع مسلم الثبوت 2/186.
ووجه الاضطراب يدون كلمة (قطعاً) بين قوله: (بل هو عام يعتقد عمومه، ثم يقول: أما أن يعتقد عمومه فهذا خطأ في اللغة فبكلمة (قطعاً) يزول التناقض.
وقد فسر الغزالي مراده بالاعتقاد هنا فقال: هو أن يأتي بالبحث الممكن عن المخصص أي: (المقيد) إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع، ويحس من نفسه بالعجز يقيناً فيكون العجز عن العثور عن الدليل المقيد في حقه يقيناً، وانتفاء الدليل في نفسه مظنوناً، وقال في موضع آخر جواباً عن هذه الشبهة، "قلنا: الجهل من جهة المكلف إن اعتقد عموم المطلق جزماً، بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم، وهو محتمل للخصوص، وعلى المكلف أن يطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه؛ لأن المكلف إن اعتقد أنه عام قطعاً، أو خاص قطعاً أو لا عام ولا خص، أو هو عام وخاص معاً فكل ذلك جهل، فإذا بطل الكل لم يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص1 اهـ
الوجه الثاني:
أن قولكم: ولم ينصب عليه دليلاً حين نزول المطلق في حيز المنع
1 المستصفى ص: 316، ثم يقول الغزالي بعد هذا الكلام: وبهذا يظهر بطلان مذهب أبي حنيفة رحمه الله حيث قال: قوله –تعالى-: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يعتقد عمومه قطعاً، حتى يكون إخراج الكافرة من اللفظ نسخاً وقوله -تعالى-:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يجب اعتقاد إجزائه قطعاً حتى يكون اشتراط الطهارة بدليل آخر نسخاً وهو خطأ، بل يعتقده ظاهراً محتملاً، أو يتوقف عن القطع والجزم نفياً وإثباتاً؛ فإنه ليس بقاطع. المستصفى ص:361.
أيضاً لأن القرينة موجودة، وهي إما كون المطلق ظاهراً في الإطلاق في عرف أهل اللغة، أو هي ما سبق من قول الجمهور:"ما من علم إلا وقد خص منه البعض، والمطلق عام على سبيل البدل"، فيكون صرفه عن ظاهره من قبيل العرف الشرعي كما سبق في العام.
الوجه الثالث:
أن العلم بتأخر الدليل لا يكفي للقول بالنسخ؛ لأن النسخ لا يثبت مع الاحتمال، بل لا بد فيه مع العلم بتأخير أحد الدليلين من دليل آخر يعين الناسخ والمنسوخ، كأن ينقل أحد الصحابة رضي الله عنهم ذلك نقلاً صحيحاً وصريحاً لا مجال للاحتمال فيه، أو يكون اللفظ المتأخر فيه ما يدل على نسخ المتقدم - كقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" 1، وكل ذلك خلاف المفروض في المسألة.
الوجه الرابع:
إن ما ادعوه من محظور موجود في النسخ، حيث يعتقد المكلف أن الحكم الذي أفاده الدليل المنسوخ على الدوام؛ لأن الأصل في الأحكام البقاء، فإذا ورد الناسخ تبين أن ما اعتقده من دوام الحكم واستمراره غير
1 الحديث رواه: مسلم في صحيحه 3/65، والإمام أحمد 2/441 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 3/223، رقم الحديث 772.
لتقف على من خرجه، وطرق رواياته.
مراد للشارع، ومع ذلك فتأخير الناسخ مجمع عليه فما هو جوابكم عن هذا المحظور، فهو جواب لنا عن تأخير بيان المراد من اللفظ المطلق أو المقيد.
الوجه الخامس:
إن القول بتكليف المحال1 قال به بعض العلماء، وما ادعوه من عدم فائدة التكليف بالمحال غير مسلم؛ لأن فائدته حينئذ تكون (ابتلاء المكلف واختباره) هل يعزم على فعل ما أمر به فيكون من جملة المطيعين لربهم المنقادين لأحكامه، أو يمتنع عن العزم على الإتيان بما هو في مقدوره بحجة عدم القدرة على تنفيذ الفعل؛ فيكون قد أوقع نفسه في عداد المكابرين لنصوص الشرع الطالبين لأحكامه عللاً وأغراضاً، وفي ذلك معارضة
1 الأولى في الجواب أن يقال: التكليف على قدر الاستطاعة كما قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} .
والذي في وسع المكلف هو اعتقاد اللفظ على عمومه، حتى يرد ما يخصصه أو يقيده، وهذا القدر لا بأس في تسمية تغيره نسخاً على القول بجواز النسخ قبل العمل، وإن كان ذلك لا يسمى نسخاً اصطلاحاً، لعدم تحقق ثبوته بدليل شرعي، والنسخ إنما هو رفع الحكم الثابت بدليل شرعي، مع أن قول الحنفية هذا ينافي قولهم في جواز النسخ قبل العمل حيث يرى أكثرهم منعه.
أصول الفقه للخضري ص: 257، ومع القرآن د. شعبان محمد إسماعيل ص 472-477، وإرشاد الفحول للشوكاني ص:187.
صريحة لقوله - تعالى -: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1.
الشرط الثالث: من الشروط المختلف فيها:
أن لا يكون الإطلاق والتقييد داخلين على سبب الحكم.
1 -
وقد ذهب جمهور الحنفية إلى أن ذلك شرط في حمل المطلق على المقيد.
وحجتهم في ذلك: أن حمل المطلق على المقيد لا يلزم بدون وجود التنافي بين الإطلاق والتقييد، ومع جريان الإطلاق والتقييد في سبب الحكم، لا يوجد التنافي؛ لأن الشيء الواحد يجوز أن يكون له أسباب متعددة يثبت بكل واحد منها على سبيل البدل، مثل: ثبوت الملك للمال، فإنه شيء واحد له أسباب كثيرة يثبت بها على سبيل البدل، كالبيع والميراث والهبة والوصية.
2 -
ويرى جمهور الأصوليين أن ذلك ليس شرطاً في حمل المطلق على المقيد، بل يكفي للقول بحمل المطلق على المقيد اتحادهما في الحكم.
وحجة الجمهور: أن الحكم متى كان متحداً بين المطلق والمقيد والحادثة موضوع الحكم واحدة؛ فإن الإطلاق والتقييد عندئذ يكونان قد دخلا على شيء واحد، والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد للتنافي بينهما، ودفعاً لذلك التنافي يحمل المطلق على المقيد،
1 سورة الأنبياء آية: 21.
وإن كان السبب مختلفاً، وسيأتي لهذه المسألة مزيد من الإيضاح في الحال الخامسة من أحوال المطلق والمقيد الآتية.