الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح
وأما تعريف المطلق في الاصطلاح فإن لعلماء الأصول فيه اتجاهين دارت حولهما التعاريف المتعددة.
الاتجاه الأول: النظر إلى المطلق من حيث الدلالة على الأفراد الموجودة في الخارج1.
والثاني: النظر إليه من حيث الدلالة على الماهية التي تعد من المفهومات العقلية، وسبب هذا الاختلاف يعود إلى أمرين:
الأول: اختلافهم فيما يراد بالمطلق، هل هو الماهية المتحدة مع الأفراد وتسمى (الماهية بشرط) أي بشرط اتحادها مع أفرادها، وهذا أقرب إلى اصطلاح الأصوليين؛ لأن بحثهم في الأحكام الشرعية المتعلقة بالأفراد، أو أن المراد من المطلق الماهية المجردة، (وتسمى الماهية بدون شرط) ، وهذا الاتجاه يشبه اصطلاح المناطقة الذين يبحثون عن المفهومات العقلية.
والسبب الثاني: اختلاف العلماء فيما هو المعتبر عند الواضع:
أهي الصور المتخيلة في الذهن، أم الأفراد المحسوسة في الخارج؟ أو
1 جمع الجوامع 2/46 مع حاشية البناني.
هما معاً؟ أي الصور مع الأفراد المحسوسة في الخارج1، وحيث إن هذا الاعتبار الأخير يؤدي إلى الاشتراك، والأصل عدمه، فقد انحصرت وجهات النظر في الاعتبارين الأولين، أي: أن المعتبر عند الواضع إما الأفراد أو الصور، فأصحاب الاتجاه الأول: ومنهم الآمدي وابن الحاجب يرون أن المطلق موضوع للدلالة على الأفراد الخارجية لتبادرها من اللفظ عند إطلاقه والتبادر بدون قرينة أمارة الحقيقة.
ولهذا عرفوا المطلق بتعاريف متعددة تلتقي عند دلالته على الفرد الشائع في جنسه: إذ عرفه الآمدي بأنه: (النكرة في سياق الأثبات) 2 وبنحو منه تعريف صاحب مسلم الثبوت3، بأنه ما دل على فرد ما منتشر4.
ومعنى هذا التعريف أن المطلق اللفظ الذي يتناول فرداً غير معين، بمعنى أن ذلك الفرد المتناول بالمطلق فرد منتشر شائع في جنسه.
1 حصول المأمول من علم الأصول لمحمد صديق خان ص 7-8.
2 الأحكام للآمدي 2/162، ومختصر ابن الحاجب 2/155.
3 ومؤلفه هو: محب الدين بن عبد الشكور البهاري الهندي القاضي توفي سنة 1119هـ من كتبه (مسلم الثبوت في أصول الفقه) .
انظر الأعلام 6/169 ط 3 / 1398، والفتح المبين في طبقات الأصوليين 3/122 ط 2/ 1394هـ.
4 مسلم الثبوت 1/360.
وشيوع المدلول في جنسه يعني كونه فرداً محتملاً لأفراد كثيرة على سبيل البدل أي: أنه يمكن أن يصدق على كل فرد منها من غير أن يستغرقها أو يعين واحداً منها، فمثلاً: قولنا (رجل) لفظ يتناول شخصاً واحداً ليكن زيداً مثلاً، ولكن تناوله له ليس معناه أن ذلك الفرد متعين أن يكون مدلولاً له لا يحتمل أن يصدق على غيره، بل هو ممكن أن يصدق على عمرو بدل زيد وعلى بكر بدلهما، فتناوله لزيد أو عمرو تناول بدلي تناوبي باعتبار حقيقة شاملة لهما وهي:(الإنسان الذكر)1.
2 -
وذهب أصحاب الاتجاه الثاني وهم أكثر الأصوليين:
إلى أن المطلق موضوع للدلالة على الماهية من حيث هي، والفرد الذي يتحقق به مفهوم الماهية إنما يلزم عن طريق الضرورة؛ إذ لا وجود للماهية في الخارج بأقل من فرد من أفرادها، وهؤلاء عرفوا المطلق: بأنه اللفظ الدال على الماهية بلا قيد2.
1 ينظر شرح تعريف صاحب مسلم الثبوت للكنوي المسمى فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/361 فما بعدها.
واللكنوي هو: عبد العلي محمد بن نظام الدين الأنصاري الفقيه الحنفي الأصولي توفي سنة 1180هـ من أشهر كتبه فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، طبقات الأصوليين 3/132.
2 جمع الجوامع للسبكي 2/44.
والتوضيح على التنقيح كلاهما لصدر الشريعة ومعهما التلويح للتفتازاني 1/63.
ومعنى هذا التعريف أن المطلق هو اللفظ الذي يدل على الحقيقة من حيث هي بدون اعتبار أي قيد، من وحدة، أو شرط، أو وصف، أو زمان، أو مكان، فمثلاً: قولنا (فرس) : لفظ يدل على حقيقة وما هية هي الحيوان الصاهل، ولم يعتبر في هذا اللفظ أي قيد من القيود التي تقلل من شيوعه وانتشاره بين أفراد جنسه، حيث لم يوصف بوصف ما، كما لم يشترط فيه أن يكون في زمان أو مكان ما، أو غير ذلك من القيود التي تحد من انتشاره وتضيق من دائرة انطباقه على أفراد جنسه.
وقد أيد كل فريق رأيه بأدلة نذكر منها ما يلي:
أ - فمن أدلة1 الفريق الأول ما يلي:
1 -
قالوا: إن القول بأن المطلق موضوع للدلالة على الأفراد هو الموافق لأسلوب العرب ومتعارفهم؛ لأن المطلق عندهم عبارة عن النكرة في سياق الإثبات.
2 -
إن تعريف المطلق بما يدل على الأفراد هو الأوفق بأسلوب الأصوليين، لأن بحثهم في أحكام المكلفين، والتكليف إنما يتعلق بالأفراد دون المفهومات.
3 -
قالوا: إن القول بأن المطلق موضوع للماهية ينافيه اتفاق
1 حاشية البناني على جمع الجوامع 2/46، تيسير التحرير 2/34.
الفريقين على أن من أمثلته (رقبة) في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1؛ إذ لا شك أنها فرد محسوس في الخارج2.
4 -
ومن أدلتهم أيضاً: أن القائل بأن المطلق موضوع للماهية يلزمه القول بأن وجودها وتعلق الأحكام بها إنما يكون باعتبار اتحادها مع أفرادها، وليس كذلك القول بأن المطلق موضوع للدلالة على الفرد الشائع؛ فإنه لا يترتب عليه هذا المحظور؛ إذ يمكن توجيه الخطاب إليه أصالة بدون لوازم.
ب - ومن أدلة الفريق الثاني3:
1 -
أن الأصل في الوضع أن يكون للصور المتخلية في الذهن، بدليل أننا لو رأينا شبحاً بعيداً ولم نميزه، فلا نزال نطلق عليه الأسماء المختلفة حسبما نتصوره في أذهاننا.
2 -
أن اللفظ ظاهر الدلالة على الحقيقة، بدليل تسميته بالمطلق المقابل للمقيد، أما الأفراد فلا يمكن ادعاء الإطلاق فيها، لأنها حينما توجد تقارنها القيود المختلفة، إذ لا بد أن تكون في زمان ما ومكان ما
1 سورة المجادلة آية: 4.
2 تسهيل الوصول إلى علم الأصول للمحلاوي ص: 16.
3 حاشية البناني مع جمع الجوامع 2/46، وتيسير التحرير لأمير الحاج 2/34.
ومتصفه بصفة ما1.
3 -
قالوا: إن تعريف المطلق بما يدل على الماهية فيه التفريق بين المطلق والنكرة وهذا مما ينبغي مراعاته عند تعريفهما.
والظاهر أنه ليس هناك فرق جوهري بين التعريفين، لقيامه على أمور اعتبارية، فحيث اعتبرت الحقيقة مجردة عن القيود سميت مطلقاً واسم جنس كما سيأتي.
وإذا أخذت متحدة مع الأفراد سميت نكرة، وسيأتي لهذا البحث مزيد من التوضيح في الفرق بين المطلق والنكرة عند من يرى الفرق بينهما، وعلى ضوء ما سبق فمن الممكن تعريف المطلق بما يجمع الأمرين جميعاً.
فيقال: المطلق هو اللفظ المتناول لواحد غير معين باعتبار حقيقة شاملة لجنسه2.
شرح التعريف:
1 -
اللفظ المتناول: يراد بالتناول - هنا - التناول البدلي، وهو أن
1 بدائع الفوائد لابن قيم الجوزية 4/204، ط إدارة الطباعة المنيرية ط أولى الناشر دار الكتاب العربي- بيروت.
2 روضة الناظر مع شرحها 2/191 ط المطبعة السلفية 1342هـ بمصر، موسوعة الفقه الإسلامية 10/5-8 إصدار المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- القاهرة 1398هـ.
يكون اللفظ صالحاً للدلالة على أفراد كثيرة غير محصورة وغير معينة من ذات اللفظ، ولكن مفهومه يتحقق بواحد منها، أي واحد كان. مثل قولنا:(أكرم رجلاً) : المتناول لجميع رجال الدنيا بدون تعيين، ولكن مفهومه يصدق بإكرامك واحداً منهم أيا كان هو، وبهذا القيد يخرج عن حد المطلق العام؛ لأنه يتناول أفراداً كثيرة دفعة واحدة.
2 -
لواحد غير معين: الوحدة - هنا - أعم من الوحدة الحقيقية فيشمل التعريف الجمع والمثنى إذا كانا نكرتين، وبهذا القيد تخرج المعارف لما فيها من التعيين وأسماء العدد لدلالتها على أكثر من واحد، والمقيد لأن فيه بعض التعيين.
3 -
باعتبار حقيقة شاملة لجنسه: يعني أن تناول اللفظ المطلق منظور فيه إلى مفهوم مشترك بين الأفراد، وهذا المفهوم يسمى حقيقة، وبهذا القيد يخرج المشترك؛ لأنه وإن تناول أكثر من واحد لا بحسب الحقيقة، بل بحسب الوضع.