المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف - المطلق والمقيد

[حمد بن حمدي الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما

- ‌الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح

- ‌المبحث الثالث تعريف المقيد اصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة

- ‌المبحث الثالث المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد

- ‌المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية

- ‌المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد

- ‌الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد

- ‌الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل

- ‌المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها

- ‌المطلب الأول: في محل الإتفاق

- ‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف

- ‌المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد

- ‌الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه

- ‌المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها

- ‌المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد

- ‌المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة

- ‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص

- ‌الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف

- ‌المبحث الثاني في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات:

- ‌المبحث الثالث: في مسائل متفرقة

- ‌الباب الثالث: في مقيدات المطلق

- ‌الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها

- ‌الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة

- ‌المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها

- ‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف

‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف

1 -

التقييد بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره:

لقد ذكر الأصوليون أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريراته من مخصصات العام، كما ذكر بعض شراح الكتب المتأخرون أن ذلك من مقيدات المطلق1.

ولكن يبدو لي أن فعل الرسول وتقريره لا يصلحان لتقييد المطلق لعدم تصور التقييد بهما، ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أعتق رقبة مؤمنة في ظهار لم يكن ذلك دليلاً على تقييد الرقبة المطلقة في قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} ، لأنه صلى الله عليه وسلم بفعله هذا يكون ممتثلاً للأمر المطلق؛ إذ إن الرقبة المؤمنة إحدى الرقاب المدلول عليها بقوله - تعالى -:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ؛ فلا يكون ذلك تقييداً.

وكذا لو أعتق أحد رقبة مؤمنة في كفارة الظهار، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك لا يكون التقرير دليلاً على تقييد الرقبة المطلقة في آية الظهار، وهذا بخلاف التخصيص بفعله صلى الله عليه وسلم، فإنه متصور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أن يفعل فعلاً مما نهى عنه بلفظ عام أو يترك فعلاً قد وجب بأمر عام، فيكون ذلك تخصيصاً لما تناوله النهي أو الأمر من أفراد العام.

1 غاية الوصول ص: 82، وشرح المحلى على جمع الجوامع مع حاشية البناني 2/49، وشرح الكوكب المنير للفتوحي الحنبلي ص:214.

ص: 483

وليس التقييد كذلك، لما سبق أن بينا من الفرق بين العموم الشمولي والعموم البدلي التناوبي، الذي يتناول كل فرد فرد على سبيل البدل، ويتحقق مدلوله بواحد غير معين.

وما ذكره بعض شراح الكتب المتأخرين من أن أفعال الرسول وتقريراته تكون مقيدة للمطلق، إنما كان ذلك منهم إجراء للتقييد مجرى التخصيص، ولا يسلم لهم ذلك بإطلاق؛ لأن الفرق قائم بين ما يجري فيه التخصيص وما يجري فيه التقييد، كما ذكرنا ذلك في الفروق بين المطلق والعام.

نعم، قد يقال: إن لنا في رسول الله أسوة حسنة، فيلزمنا أن نقتدي به، فيما فعل، والجواب أن ذلك مسلم، ولكن غاية ما يدل عليه الأمر حينئذ أن يكون فعل ذلك هو الأولى والأفضل، ولكن لا يوجب تقييد المطلق

والله أعلم.

ص: 484

2 -

تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الآحاد:

سلف أنه لا خلاف في تقييد الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة كل منها بالآخر، كما لا خلاف في تقييد مطلق الكتاب والسنة بالإجماع، وكذلك تقييدهما بخبر الواحد المحفوف بالقرائن المقوية له.

ولكن محل النزاع بين الأصوليين في تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الواحد المجرد عن القرائن.

حيث اختلفت وجهات النظر في حكم التقييد به لمطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة إلى عدة أقوال أهمها ما يلي:

القول الأول:

ذهب الحنفية جرياً على قاعدتهم في أن دلالة المطلق قطعية إلى أن خبر الآحاد لا يقيد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة أو المشهورة ما لم يقيد المطلق فيها قبله بدليل مقطوع به، وحكي هذا القول عن أبي حنيفة نفسه1.

1 التعارض والترجيح للبرزنجي ص: 573، وأصول السرخسي 1/142، وكشف الأسرار 1/294، وتيسير التحرير 3/12/13، وفواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 1/349.

وهذا هو السبب في منع الحنفية التقييد بخبر الواحد في هذه المسألة، لا لأن الزيادة على النص نسخ، ونسخ نص من الكتاب والسنة والمتواترة لا يجوز بخبر الواحد، وذلك لأن من شرط المقيد عندهم أن يكون مقارناً للنص المطلق، كما اشترطوا ذلك في المخصص والنسخ لا يكون إلا بمتراخ عن النص المنسوخ، والمسألة هنا مفروضة على الإطلاق، فكان هذا التوجيه هو المناسب.

ص: 485

واستدلوا على ذلك:

بأن المطلق من الكتاب والسنة المتواترة قطعي الدلالة والثبوت؛ لأن المعنى الموضوع له اللفظ يفيده قطعاً عندهم، وخبر الواحد، وإن كان قطعي الدلالة إلا أنه ظني الثبوت، أي: أن خبر الواحد دون مطلق الكتاب والسنة المتواترة في قوة الثبوت؛ فلا يقوى على معارضة ما هو مقطوع به، وذلك أن التقييد عند الأحناف بطريق المعارضة، والظني لا يعارض القطعي؛ لأن من شرط التعارض تساوي الدليلين في الرتبة، وحيث لم يستو خبر الآحاد مع مطلق الكتاب والسنة المتواترة فلا معارضة بينهما، بل يقدم العمل بالأقوى، وهو الدليل المقطوع به1.

ويجاب عن هذا الدليل، بأن المقطوع به في المطلق من الكتاب والسنة المتواترة، إنما هو أصل الحكم، كإعتاق الرقبة في نحو:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولسنا نرفع بالتقييد هذا الأصل، وإنما نقيد شيوعه المحتمل، فهو ظني بهذا الاعتبار وإن كان قطعي الثبوت.

وخبر الواحد وإن كان ظني الثبوت إلا أنه قد يكون قطعي الدلالة،

1 المراجع المتقدمة.

ص: 486

وبهذا تحصل المساواة بينهما؛ لأن كلا منهما فيه جهة قوة وجهة ضعف، فيتعارضان في الظاهر، ولدفع هذا التعارض يحمل المطلق على المقيد؛ لأن فيه جمعاً بين الدليلين، وأيضاً فإن في العمل بالمقيد خروجاً عن العهدة بيقين، وليس كذلك العمل بالمطلق كما سبق بيان ذلك1، أضف إلى ذلك أن دلالة المطلق على جميع محاله ليست محل اتفاق، بل هي ظنية على رأي الجمهور، فالدليل غير مسلم به.

2 -

القول الثاني:

المنع مطلقاً، أي سواء قيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة، قبل خبر الواحد أم لم يقيدا، وإليه ذهب بعض الحنابلة والمتكلمين وبعض الفقهاء2.

واستدل هذا الفريق بأدلة منها:

1 -

قالوا: أجمع الصحابة رضي الله عنهم على عدم التخصيص بخير الواحد لعام القرآن والسنة المتواترة، بدليل أن عمر3 رضي الله عنه

1 راجع العقد المنظوم في الخصوص والعموم لوحة 236، ومباحث التخصيص للدكتور عمر ص: 305-310، 316، وفواتح الرحموت 1/349-350، والمسودة لآل تيمية ص: 119، وإرشاد الفحول ص: 158، والعدة لأبي يعلى 2/568، والواضح لابن عقيل 1/102 مخطوط، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص: 572-573.

2 التعارض والترجيح للبرزنجي ص: 573.

3 هو: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عبد بن كعب القرشي العدوي أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين مشهور، وجم المناقب اشتهر بعدله في رعيته، استشهد في الحجة سنة ثلاث وعشرين ودامت خلافته رضي الله عنه عشر سنوات ونصف. تقريب التهذيب ص: 253، وكانت ولادته سنة 40 قبل الهجرة.

انظر: الأعلام 5/203-204، وأسد الغابة 4/52-78.

ص: 487

قد رد خبر فاطمة بنت قيس1 الذي روته عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة" 2، حين طلقها زوجها فبت طلاقها المخصص لعموم قوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} 3 وقال في رده لخبرها: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري أحفظت أن نسيت؟ ولم ينكر ذلك عليه أحد فكان إجماعاً4، والتقييد

1 هي: فاطمة بنت قيس بن خالد الفهري أخت الضحاك، صحابية مشهورة وكانت من المهاجرات الأوائل، روى عنها الجماعة رضي الله عنها. تقريب التهذيب ص:471.

2 رواه الجماعة إلا البخاري بدون قصة عمر رضي الله عنه، ومع القصة رواه النسائي وأحمد. راجع التلخيص الحبير 2/333، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 6/338.

3 العقد المنظوم ص: 237، ومسلم الثبوت 1/350-351، والتعارض والترجيح ص:574.

4 مباحث التخصيص ص: 307، 308، 312، وشرح مختصر ابن الحاجب2/150.

ص: 488

يجري مجرى التخصيص.

وأجيب عن هذا الدليل بأوجه منها:

أولاً: قالوا: إن انعقاد الإجماع غير مسلم لعدم توفر النقل له.

ثانياً: على فرض التسليم بسكوت الصحابة عليه، فليس فيه ما يفيد إثبات المدعى؛ لأن الكلام في خبر الآحاد الصحيح المتحققة فيه شروط القبول، ورد عمر رضي الله عنه لخبر فاطمة بنت قيس ليس من هذا القبيل؛ لأن عدم فبول عمر لخبرها يدل على اتهامه لها بالغفلة وعدم الضبط، بدليل قوله "أحفظت أم نسيت"، بل ظاهر الحديث يدل على عدم مدعاهم؛ لأن ظاهره عدم الرد لو لم تكن متهمة في حفظها.

واستدلوا ثانياً:

بأن المتواتر مقطوع به وخبر الآحاد مظنون، والمظنون يترك بالمقطوع لعدم مقاومة المظنون للمقطوع والمتروك لا يخص به فلا يجوز تخصيص المتواتر بخبر الواحد1.

ويناقش هذا الاستدلال:

أولاً: بعدم التسليم بالتفاوت بين خبر الواحد والمتواتر من الكتاب والسنة وذلك أن كلا منهما مقطوع به من جهة ومظنون به من جهة

1 العقد المنظوم في الخصوص والعموم للقرافي لوحة 237، والمستصفى 2/ 115، ومباحث التخصيص ص: 308، والتعارض والترجيح بين الأدلة للبرزنجي 1/575.

ص: 489

أخرى.. فمطلق الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به متناً ومظنون دلالة وخبر الواحد بالعكس فتساويا، كما أنهما متساويان في وجوب العمل بكل منهما، أما المتواتر فبالاتفاق، وأما خبر الواحد فللأدلة القاطعة على وجوب العمل به، فمتى صدق القلب بصدق الراوي وجب العمل بخبره سواء كان متن الحديث متواتراً أم غير متواتر، فلا فرق بين المتواتر والآحاد في وجوب العمل.

وثانياً:

أن ترك المظنون بالمقطوع غير مسلم به على الإطلاق، بل قد يترك أحياناً المقطوع بالمظنون أيضاً، فالبراءة الأصلية متيقنة ومع ذلك فيجوز تركها بخبر الواحد بالاتفاق.

وثالثاً:

أن تقييد خبر الواحد لمطلق الكتاب والسنة ليس فيه ترك لهما بالكلية بل ذلك من قبيل الجمع بين الأدلة المتعارضة وبيان المحتمل بالدليل الظني جائز.

ومن أدلة هذا الفريق أيضاً:

قياس عدم التقييد بخبر الواحد على عدم النسخ به، حيث قالوا: لو جاز تقييد الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد، لجاز النسخ به لهما، لأن النسخ تخصيص في الأزمان، والتقييد تخصيص في الأعيان، لكن النسخ به باطل فكذلك التقييد.

ص: 490

ويجاب عن ذلك:

بالفرق بين النسخ والتقييد، فالنسخ رفع، والتقييد بيان، والرفع أصعب من البيان، فيحتاط في رفع الحكم ما لا يحتاط في بيانه؛ فلا يلزم من عدم جواز النسخ بخبر الواحد عدم جواز التقييد به، ولا من جواز التقييد جواز النسخ1، والله أعلم.

القول الثالث:

ذهب القاضي أبو بكر من الشافعية إلى التوقف.

واستدل على ذلك: بأن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة وخبر الآحاد قد ثبت حجيته قطعاً، وهما متساويان أيضاً في الدلالة، لأن المطلق من الكتاب والسنة المتواترة قطعي الثبوت وظني الدلالة أحياناً، وخبر الواحد ظني الثبوت وقطعي الدلالة أحياناً، فيمكن أن يقع التعارض بينهما، وعند تعارض المتساويين يجب التوقف لعدم جواز الترجيح بدون مرجح.

ويجاب عن ذلك:

بمنع الترجيح بدون مرجح؛ لأن الأصل في الأدلة الإعمال، وما دام الإعمال ممكناً، فلا يصار إلى الإهمال، وهنا الإعمال ممكن؛ لأن حمل

1 المراجع السابقة، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص:576.

ص: 491

المطلق على المقيد فيه جمع بين الدليلين، فكان أولى1 للأدلة التي ذكرنا فيها تقديم حمل المطلق على المقيد.

القول الرابع:

جواز التقييد بخبر الآحاد مطلقاً، أي: سواء قيد المطلق قبل تقييده بخبر الواحد بدليل مقطوع به أو لم يقيد، وإليه ذهب جمهور الأصوليين، من مالكية وشافعية وحنابلة وظاهرية وكذلك المحدثون2.

واستدلوا على ذلك بأدلة أهمها ما يلي:

1 -

قالوا: إن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة أو خبر الآحاد الصحيح دليل واجب الأتباع باتفاق أطراف النزاع في هذا الموضوع، فيجب اتباعه، ويجب أيضاً دفع ما يتصور من التعارض بينهما، لأن مطلق الكتاب والسنة يجوزان الإتيان بأي فرد كان من الأفراد الصالحة لتناول المطلق والمقيد يوجب الإتيان بالفرد الذي وجد فيه القيد، ولا يمكن العمل بكل منهما، لعدم جواز اجتماع النفي والإثبات في حكم واحد، ولا ترك كل منهما؛ لأنه يؤدي إلى خلو المسألة من الحكم، ولا

1 مسلم الثبوت 1/351، ومباحث التخصيص 305-316، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص: 233، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص:576.

2 شرح المحلى على جمع الجوامع 2/27-28، وغاية الوصول ص: 79، ومباحث التخصيص ص: 305، والأحكام للآمدي 2/301، وشرح الأسنوي على المنهاج 2/120-123.

ص: 492

يمكن العمل بأحدهما بدون مرجح، فلم يبق إلا الجمع بينهما بقدر الإمكان، ثم إن عملت بالمطلق يلزم إلغاء القيد في المقيد وهذا لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون القيد عبثاً وبدون فائدة.

وإن حملنا المطلق على المقيد نكون قد عملنا بالدليلين معاً، وهذا هو معنى التقييد فيتعين المصير إليه1.

2 -

واستدلوا أيضاً:

فقالوا: إن كلا من مطلق الكتاب والسنة المتواترة وخبر الآحاد قطعي من جهة، وظني من جهة ثانية، فالمطلق المتواتر قطعي من جهة السند وظني من جهة الدلالة، ومقيد خبر الآحاد الخاص، ظني من جهة السند وقطعي من جهة الدلالة فيتعادلان ويتعارضان، ثم يجمع بينهما بالتقييد2 لتعيين المصير إليه كما سبق في الدليل الأول.

ومن أدلتهم أيضاً على هذه المسألة:

3 -

قالوا: إن إجماع الصحابة قائم على جواز تخصيص عموم الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد.

1 شرح الأسنوي 2/120-123، والعقد المنظوم لوحة 236، ومباحث التخصيص 305-306.

2 المرجع الأخير وشرح الأسنوي 2/122، ومسلم الثبوت 1/350، والتعارض والترجيح ص:577.

ص: 493

والدليل على ذلك تخصيص الصحابة رضي الله عنهم عموم قوله - تعالى -: {اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} بحديث عبد الرحمن بن عوف1 عن النبي صلى الله عليه وسلم "سنوا بهم أي المجوس - سنة أهل الكتاب"2 حيث تقتضي الآية الكريمة قتل جميع المشركين، ويقتضي هذا الحديث جواز الإبقاء على المجوس وأخذ الجزية منهم فيتعارضان، وقد جمع الصحابة رضي الله عنهم بتخصيص عموم الآية الكريمة بالخبر، وقالوا: إن الآية يراد بها قتال الكفار من غير المجوس3، ونقل هذا التخصيص عنهم ولم ينكره أحد فكان إجماعاً منهم على جواز تخصيص العموم بخبر الواحد، والتقييد له حكم التخصيص، كما سلف ذلك.

1 هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري القرشي يتصل في كلاب بشجرة نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ولد بمكة سنة 44 هـ، وهو أحد المبشرين بالجنة، وأحد الستة من أصحاب الشورى ومن السابقين إلى الإسلام، والمهاجرين إلى الحبشة والمدينة، كان تاجراً كثير المال، سخياً تصدق لأجل راية من رايات الإسلام بأكثر من 100 ألف درهم، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم (عبد الرحمن بن عوف أمين في السماء، أمين في الأرض) ، توفي سنة 32هـ بالمدينة.

راجع: الإصابة 2/416-417، والإعلام 4/95، وطبقات الأصوليين 1/66-68.

2 رواه البخاري انظر صحيح البخاري مع القسطلاني 5/233، ومنتقى الأخبار مع نيل الأوطار 8/58، ومفتاح كنوز السنة 111.

3 العقد المنظوم لوحة 234.

ص: 494

وقد اعترض الحنفية على هذا الدليل:

فقالوا: إن التخصيص بخبر الواحد في المثال المذكور في حيز المنع؛ لأن المخصص فيه هو الإجماع، وعلى فرض أن المخصص هو الخبر المذكور لا نسلم كونه خبر آحاد، بل هو مشهور بدليل اتفاقهم على العمل به، ومن ثم يكون نسخاً لا تخصيصاً، والنسخ بالخبر المشهور جائز عندنا.

ودفع هذا الاعتراض:

بأنه لا فرق بين المشهور وخبر الآحاد عند أكثر العلماء، فكل منهما من قبيل الآحاد، وعلى فرض أن المثال من قبيل النسخ، فإذا جاز النسخ بخبر الآحاد، وهو أقوى في الاحتياط من التخصيص والتقييد فمن باب أولى أن يجوز التقييد به ويكون حينئذ بياناً لا تبديلاً1.

الترجيح:

بعد عرض أقوال العلماء حول التقييد بخبر الواحد، ومناقشة أدلتهم السابقة، يبدو أن ما ذهب إليه الجمهور من جواز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بمقيد أخبار الآحاد هو الأرجح، وذلك لقوة أدلتهم وعدم وجود ما يصلح معارضاً لها.

1 الأحكام للآمدي 2/310، ومباحث التخصيص للدكتور عمر ص: 310-113، والتعارض والترجيح للبرزنجي ص:579.

ص: 495

3 -

تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالقياس:

إن تقييد الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، وبخبر الواحد كما تقدم من المباحث الهامة التي اختلفت فيها المذاهب وتجلي فيها مقدار الرأي في الفقه الإسلامي.

وحيث إن القياس وخبر الواحد يستويان في أن كلا منهما دليل ظني فالحكم في تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، كالحكم في تقييدهما بخبر الآحاد المتقدم، والأقوال هي الأقوال والأدلة هي الأدلة، إلا أننا نذكر هنا المذاهب إجمالاً ومن قال بها، ثم نتبع ذلك بما نراه راجحاً حسب المناقشة التي سبقت بخبر الواحد.

فالمذهب الأول:

جواز التقييد بالقياس لمطلق الكتاب والسنة المتواترة وبه قال الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد1.

1 الأحكام للآمدي 2/109، ومسلم الثبوت 1/357-360، والمستصفى 2/128، وشرح الكوكب المنير ص: 209، والمسودة لآل تيمية ص: 119، وهذه الرواية لأحمد قال بها أكثر أصحابه.

وهنا نشير إلى أن جواز التقييد لمطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس قد حكاه الآمدي والغزالي والقرافي وصاحب مسلم الثبوت مذهباً للأئمة الأربعة بما فيها أبو حنيفة، وكذلك ذكر السرخسي في أصوله 1/133، جواز التخصيص بالقياس عن أكثر الحنفية، العدة لأبي يعلى 2/563، ولكن الشيخ بخيت المطيعي في حاشيته على سلم الوصول 2/463 ذكر أن القول عن أبي حنيفة مقيد بما إذا خصص بما يجعله محتملاً قبل القياس.

يراجع في تحيقيق مذهب الحنفية تيسير التحرير 1/321-326، وأصول السرخسي 1/133-134، وفواتح الرحموت 1/357-360.

ص: 496

والمذهب الثاني:

منع التقييد بالقياس مطلقاً، وبه قال طائفة من المعتزلة كالجبائي1 وبعض الفقهاء2.

لأن القياس فرع النصوص، ولا يقدم الفرع على الأصل عند التعارض3.

ويجاب عن هذا بأن النص الذي يقيد بالقياس غير النص الذي هو أصل للقياس فلا منافاة4.

1 الجبائي هو: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي المعتزلي، ولد سنة 235هـ ويعتبر رئيس علماء الكلام في عصره، توفي سنة 303هـ. الإعلام 7/136.

2 المستصفى 2/122، والآمدي 2/109، والمعتمد 2/153، والتحرير 1/322، والعدة لأبي يعلى 2/568، والمسودة لآل تيمية ص: 119، وهذا الوجه الآخر في مذهب أحمد روضة الناظر:130.

3 أصول الآحكام للآمدي 2/337، والمدخل إلى علم أصول الفقه المعروف الدواليبي ص:227.

4 العدة لأبي يعلى 2/568.

ص: 497

المذهب الثالث:

التوقف في تقييد المطلق من الكتاب والسنة المتواترة بالقياس، وبه قال القاضي أبو بكر والجويني من الشافعية1 قياساً على عدم جواز تخصيص العام به عندهما.

القول الرابع:

التفصيل على النحو الآتي:

أ - ذهب الحنفية إلى أن القياس لا يقيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة ما لم يسبق تقييدهما بدليل قاطع، فإذا سبق تقييدهما بدليل قاطع فإن القياس حينئذ يصلح أن يكون مقيداً لهما2.

وحجتهم في ذلك أن مطلق الكتاب والسنة المتواترة مقطوع به ثبوتاً ودلالة، لأن الحنفية يرون أن كل لفظ وضع لمعنى فهو دليل قاطع عليه قبل صرفه عن ذلك، والقياس ظني فلا يعارض القطعي، فإذا قيد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بدليل قاطع أصبحا محتملين، فيجوز تقييدهما عندئذ بالقياس3.

ب - وذهب جماعة من الأصوليين منهم الآمدي وابن الحاجب إلى

1 الآمدي 2/337، ومختصر ابن الحاجب 2/153، وتنقيح الفصول ص:203.

2 العدة لأبي يعلى 2/564، والأحكام للآمدي 2/313، وجمع الجوامع مع حاشية البناني 2/30، ومسلم الثبوت 1/357.

3 المرجع السابق الأخير 1/357، والأحكام للآمدي 2/109، أو 2/337.

ص: 498

تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة بالقياس إذا كانت علته منصوصة كما قالوا بذلك في تخصيص العام1.

جـ - وذهب جماعة أخرى ومنهم ابن سريج من الشافعية وبعض الحنابلة كالطوفي إلى جواز التقييد بالقياس الجلي دون الخفي2.

وهذا المذهب الأخير يلتقي في النتيجة مع المذهب الذي قبله؛ لأن القياس المنصوص على علته والقياس الجلي، ومفهوم الموافقة كما سبق شيء واحد.

وإنما الاختلاف في التعبير والاصطلاح، وهذا لا تأثير له على التحقيق.

1 المرجع الأخير 2/337، ومسلم الثبوت 1/357، والمستصفى 2/132، والبلبل للطوفي ص: 109، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف ص:228.

2 إرشاد الفحول ص: 159.

ص: 499

4 -

التقييد بالعرف:

العرف لغة: المعروف وسمي بذلك لأن النفوس تسكن إليه1.

واصطلاحاً: ما استقرت عليه نفوس الناس، وتلقته طباعهم السليمة بالقبول وصار عندهم شائعاً، في جميع البلاد أو بعضها قولاً كان أو فعلاً2.

وينقسم إلى:

عُرْفٌ عام: وهو ما تعارفه الناس جميعاً، كدخول الحمَّام دون تحديد كمية المياه المستهلكة، ودون تقدير مدة المكث فيه.

وإلى عُرْفٍ خاص: وهو ما تعارف عليه جماعةٌ من الناس، كالعرف التِّجاري أو الزراعي، وهذا القسم ليس له قوة النوع الأول، ولكنه مما تختلف فيه الفتوى والأحكام في المجال التطبيقي.

وعلى كل حال فالعرف إما صحيح وهو ما لا يتصادم مع

1 مقاييس اللغة لابن فارس 4/281، ولسان العرب لابن منظور 11/141 مادة عرف.

2 التعريفات للجرجاني 130، والعرف والعادة في رأي الفقهاء للأستاذ أحمد أبو سنة ص: 8، ومجموعة رسائل ابن عابدين 2/114، وأصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله التركي 551، ومصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص:145.

ص: 500

الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية، وإما فاسد وهو ما يتعارض مع تلك الأصول.

والعرف الذي هو مجال بحثنا إنما هو العرف الصحيح المنقسم إلى قولي وفعلي، وأما العرف الفاسد فهو ساقط لا اعتداد به.

فالعُرْف القولي:

أن تجري عادة قوم على استعمال لفظٍ أو جملة استعمالاً شائعاً مطرداً أو غالباً في معنى غير المعنى الذي وضع له اللفظ أصلاً، بحيث يتبادر ذلك المعنى المتعارف عليه عند سماعه، دون قرينة1، مثل تعارف الناس إطلاق لفظ (الولد) على الذكر دون الأنثى مع أنه موضوع لكليهما وتعارفهم إطلاق لفظ (الدابة) على ذوات الأربع مع أنه في أصل الوضع اسم لكل ما يدب على الأرض.

ومعنى تقييد المطلق بهذا النوع من العرف أنه إذا ورد لفظ الدابة مثلاً: في نص شرعي فهل يحمل على المعنى اللغوي، وهو كل ما يدب على الأرض، أو على ذوات الأربع التي جرت العادة بإطلاقه عليها؟

اتفق الأصوليون على أن العرف القولي يقضى به على النص العام فيخصصه، وعلى النص الشرعي المطلق، فيقيده بشرط أن يكون ذلك

1 التقرير والتحبير 1/282، والفروق للقرافي 1/171، وأصول مذهب الإمام أحمد ص:525.

ص: 501

العرف مقارناً لنزول النص أو سابقاً عليه واستمر حتى نزوله1 حتى ادعى المالكية الإجماع على ذلك2.

يقول القرافي: "القاعدة أن من له عرف وعادة في لفظ، إنما يحمل لفظه على عرفه، فإذا كان المتكلم هو المشرع حملنا لفظه على عرفه وخصصنا لفظه في ذلك العرف إن اقتضى العرف تخصيصاً وبالجملة دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة؛ لأن العرف ناسخ للغة والناسخ مقدم على المنسوخ"3.

وأما العُرْفُ العَمَلي:

فهو ما تعارف عليه الناس في أفعالهم دون أقوالهم، مثل: تعارف الناس البيع بالمعاطاة من غير صيغة، وتعارفهم على أن الزوجة لا تزف إلى زوجها إلا بعد أن تقبض جزءاً من مهرها4.

وهذا النوع من العرف اختلف العلماء في تقييد المطلق به

1 المناهج الأصولية ص: 591.

2 مسلم الثبوت 1/345، ومالك لأبي زهرة ص:249.

3 تنقيح الفصول لقرافي ص: 211، والمدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف ص:234.

والواقع: أن المخصص أو المقيد في هذه الأمثلة ليس مستنده العرف وحده، بل إقرار الصحابة وقولهم في المسألة أي الإجماع عليها، أو جريان العرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره له، كل ذلك دليل يعتمد عليه في المسألة لا مطلق العرف.

4 الفروق للقرافي 1/188، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص:93.

ص: 502

كاختلافهم في تخصيص العام بذلك.

فذهب الحنفية والمالكية إلى أنه لا فرق بين العرف القولي والعملي فكلاهما يخصص العام ويقيد المطلق1، وخالفهم في ذلك الشافعية والحنابلة فقالوا: إن العرف العملي لا يقوى على تقييد المطلق قياساً على عدم التخصيص به للعام2 عندهما.

واحتج من قال بجواز التقييد بالعرف العملي، فقال: إذا أطلق لفظ طعام وكان عادة الناس تناول طعام معين كالبر مثلاً، فإن الذي يتبادر إلى الذهن انصراف ذلك اللفظ المطلق إلى ما تعارفه الناس وهو البر، فيتقيد به اللفظ المطلق كما في العرف القولي3.

وأجيب عن ذلك:

بأن العادة الفعلية إنما هي مطردة في تناول طعام مخصوص لا في تقييد اسم الطعام، وبذلك الطعام المخصوص، فلا يكون التناول الفعلي قاضياً على ما اقتضاه اللفظ في أصل وضعه، بخلاف العادة القولية،4 لكن

1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/70، وتيسير التحرير 1/317، ومسلم الثبوت 1:345، والمناهج الأصولية لفتحي الدريني ص:591.

2 المناهج الأصولية لفتحي الدريني ص: 591.

3 المعتمد لأبي الحسين 1/301، والأحكام للآمدي 2/334، وإرشاد الفحول ص:161.

4 تيسير التحرير 1/317.

ص: 503

مع هذا قد تابع الحنفية بعض الشافعية والحنابلة فأجازوا تقييد المطلق بالعرف العملي، وإن لم يخصصوا العام به، فلو قيل اشتر لحماً، والعادة تناول لحم الضأن لم يفهم سواه، لأن لحماً مطلقاً في هذا القول، وقد حمل على المقيد بقرينة ميلهم إلى المعتاد، وليس في ذلك ترك للمطلق1، بل حكي الاتفاق على التقييد بالعرف العملي بعض الباحثين في الأصول حديثاً2، وقصر الخلاف على التخصيص وحده لهذا المعنى وهو عدم الإخلال بالمطلق.

1 الأحكام للآمدي 2/334.

2 المناهج الأصولية ص: 519.

ص: 504

5 -

التقييد بمذهب الصحابي 1:

اختلف الأصوليون في سياق هذه المسألة، فبعضهم جعلها خاصة بمذهب الراوي وحده، وبعضهم جعلها شاملة للراوي وغيره من الصحابة، كما ألحق بعضهم تفسيرهما بما يقيد النص المطلق2.

وصورة ذلك:

أن يرد لفظ مطلق في دليل شرعي كأمره صلى الله عليه وسلم: من وطئ في رمضان أن يعتق رقبة3، ثم يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم سواء كان الراوي أو غيره: يلزم من وطئ في نهار رمضان أن يعتق رقبة مؤمنة، فهل تقيد الرقبة المطلقة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً بالقيد الوارد في قول الصحابي؟

وقبل أن نذكر أقوال العلماء في هذه المسألة

نشير إلى أن الخلاف فيهما مبني على الخلاف في حجية قول الصحابي، فمن يرى أنه حجة قيد به، ومن لا يرى حجيته لم يقيد به، ومن يشترط في ذلك انتشار قوله بين الصحابة وأن لا يعرف له مخالف قيد به بهذا الشرط، وأيضاً فإن محل

1 الصحابي من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، ويضاف هنا إمكان روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم.

2 تيسير التحرير 1/326، ومسلم الثبوت 1/355.

3 إرشاد الفحول ص: 162، وتنقيح الفصول 219.

ص: 505

الخلاف في قول الصحابي الذي يحتمل الاجتهاد أما إذا كان قوله مما ليس للرأي فيه مجال فهو في حكم المرفوع فيقيد به، إذا عرفنا ذلك فنقول:

اختلف الأصوليون في حكم التقييد بمذهب الصحابي على قولين:

الأول:

لا يجوز التقييد بمذهب الصحابي

وهو قول الجمهور1.

وحجتهم في ذلك أن الحجة إنما هي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ورد فيه اللفظ مطلقاً، وأما مذهب الصحابي فليس بحجة؛ لأن مذهبه قد يكون مجرد اجتهاد منه، يحتمل الخطأ والصواب، فلا يقضى به على النص المطلق، بل يبقى المطلق على إطلاقه حتى يرد ما يقيده2.

أما قول الصحابي فلا يصح مقيداً.

القول الثاني:

جواز التقييد بمذهب الصحابي نص عليه أحمد3 وهو مذهب الحنفية4.

1 إرشاد الفحول ص: 161.

2 تنقيح الفصول للقرافي ص: 219، والمرجع الأول ص: 161، ومسلم الثبوت 1/ 355، والمدخل إلى علم أصول الفقه ص: 234، والمستصفى 2/112، وغاية الوصول للأنصاري ص: 80، والأحكام للآمدي 2/109.

3 روضة الناظر ص: 129، وشرح الكوكب المنير ص:208.

4 تيسير التحرير 1/326، ومسلم الثبوت 1/355.

ص: 506

واستدلوا على ذلك فقالوا: إن عمل الصحابي أو فتواه بما يخالف اللفظ المطلق دليل على اطلاعه على ما يقيد ذلك المطلق، لأن الصحابي العدل العالم لا يترك العمل بالمطلق إلا وقد اطلع على دليل يمكن التقييد به1.

وإذا كان هو الراوي، وخالف ما رواه دل ذلك على أنه اطلع على قرائن حالية أو مقالية توجب تقييد ذلك المطلق2.

وقد اشترط بعض3 الأصوليين لجواز التقييد بمذهب الصحابي أن يكون ما ذهب إليه منتشراً وأن لا يعرف له مخالف4، وإن كان غير الراوي للحديث اشترط فيه أن يكون عالماً بالنص المطلق5، وهذا الشرط الأخير وجيه، أما الأول فخارج عن محل النزاع؛ لأنه يرجع إلى إجماع سكوتي حينئذ.

1 إرشاد الفحول ص: 162، وتنقيح الفصول ص:219.

2 تنقيح الفصول ص: 219.

3 الشيرازي وانظر اللمع ص: 21.

4 المرجع السابق وإرشاد الفحول ص: 161.

5 المسودة لآل تيمية ص: 127.

ص: 507

6 -

حكم التقييد بذكر بعض جزئيات المطلق:

وصورته: أن يرد اللفظ مطلقاً في نص شرعي نحو: إذا حلفت (فأعتق رقبة) ثم يذكر في نص آخر جزئياً من جزئيات المطلق نحو: "إذا حلفت فأعتق رقبة مؤمنة أو أعتق زيداً".

وذكرنا هذين المثالين لأن الجزئيَّ إما أن يكون صفة كما في المثال الأول، أو لقباً كما في المثال الثاني.

فهل يقيد النص المطلق في المثال السابق بجزئيه في المثال الثاني أو لا يقيد؟

إذا كان جزئيُّ المطلق لقباً؛ فإنه لا يتقيد به؛ لأن اللقب لا مفهوم له، وإذا كان الجزئي صفة، نحو أعتق رقبة مؤمنة، بعد قوله:"أعتق رقبة" فإن المطلق يتقيد به؛ لأن الجزئي هنا صفة ومفهوم الوصف حجة يقيد بها على الصحيح كما تقدم.

وقد وهم من أطلق القول بعدم جواز تقييد المطلق بذكر بعض جزئياته بناء منه على أن ذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه1.

لأن الصحيح في ذلك التفصيل، فإذا كان جزئيُّ المطلق لقباً لم يتقيد به المطلق؛ لأنه عندئذ يكون بدلاً والبدل لا يقيد المطلق كما تقدم.

1 حاشية البناني على جمع الجوامع 2/50.

ص: 508

أما إذا كان جزئيُّ المطلق صفةً، وكان لها مفهوم، فإن المطلق يقيد به بالشروط السابقة في حجية مفهوم المخالفة.

وهنا نشير إلى أن إطلاق القول بأن ذكر فرد من أفراد العام لا يخصصه محمول على الغالب، وإلا فإن فرد العام قد يكون صفة فيخصص العام عند القائلين بحجية المفهوم المخالف، كما لو قيل: إذا حلفت فلا تُكَفِّر بالعبد ثم قيل: إذا حلفت فكفر بالعبد المؤمن؛ فإنه يخصص العام السابق عند من يرى حجية المفهوم المخالف1.

1 غاية الوصول ص: 82، وحاشية العطار على جمع الجوامع 2/85.

ص: 509

الخاتمة

خاتمة المطاف

بعد هذه الرحلة الشاقة في أثناء العمل فيها الممتعة بما تحقق منها: التي طوفت من خلالها على مباحث المطلق والمقيد وحرصت فيها على استكمال جوانب الموضوع واستقصاء مسائله بقدر الطاقة.

فإني أحمد الله على أن وفقني لإكمال الموضوع واجتياز مباحثه، فإن كان الصواب حليفي فأشكر الله على ذلك، وإن كان غير ذلك فالكمال لله وحده، وحسبي أن بذلت جهدي ولكل مجتهد نصيب.

ولقد رأيت أنه من المناسب وأنا أختتم هذا الموضوع أن أشير إلى أهم القواعد والنتائج التي توصلت إليها من خلال معايشتي الطويلة لهذا البحث، آملاً أن يكون الاطلاع على تلك النتائج سبيلاً سهلاً لمن أراد الوقوف على مضمون هذا البحث المتواضع، ومن أهم تلك النتائج ما يلي:

1 -

إن معرفة اللغة العربية وتنوع أساليبها، واختلاف دلالة اللفظ الواحد فيها ضرورية لكل باحث في علوم الشريعة، وخاصة الباحثين عن استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة.

2 -

إن كل ميزة تمتاز بها اللغة العربية فالقرآن أولى بها لنزوله بلسان عربي مبين، وكذا كل ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول فهو عربي مبين؛ لأنه أفصح من نطق بالضاد.

ص: 513

3 -

إن اللفظ من حيث دلالته على المعنى الموضوع له ينقسم إلى عام وخاص، ذلك أن اللفظ إذا وضع وضعاً واحداً ليدل على استغراق الأفراد الداخلة تحته دفعة واحدة بلا حصر فهو العام.

وإذا كان موضوعاً ليدل على معنى واحد على الانفراد سواء كان بالشخص أو النوع أو الجنس، أو كان موضوعاً لكثير محصور فهو الخاص، وهذا التقسيم هو الأولى بالاتباع لسهولته وتبادره وعدم الاعتراض عليه.

4 -

الأصل أن يفسر القرآن والسنة باللغة التي وردا بها، ما لم يكن هناك عرف خاص لصاحب الشرع؛ فإن كان للشرع عرف خاص فتفسير اللفظ على مقتضاه أولى.

5 -

إن الخلاف في تحديد ماهية اللفظ أو تصنيفه في دائرة العموم أو الخصوص يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام الثابتة لكل من العام والخاص. ومن هنا كانت عناية علماء الأصول بوضع المناهج والخطط التي بواسطتها يمكن التوصل إلى تصنيف اللفظ إلى عام وخاص، ومن ثم أجراء أحكام العموم والخصوص عليه ضرورة حتمية لما يترتب على ذلك من استخراج الأحكام من أدلتها ورد الفروع إلى أصولها.

6 -

إن العموم من المعاني التي تدعو إليها حاجة التخاطب، ولهذا

ص: 514

كان من المتفق عليه أن للعموم صيغاً في اللغة وإن كان تحديد تلك الصيغ محل خلاف.

7 -

أولى تعريف للعام عند جمهور الأصوليين أنه (كلمة تستغرق الصالح لها بلا حصر) ، وعند الحنفية (لفظ ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى.

8 -

إن الاختلاف في تحديد ماهية العموم أدى إلا الاختلاف في تحديد صيغ العام، فمن يشترط في تحقيق ماهية العام الاستغراق، لا بد في الألفاظ الدالة عليه أن تكو مستغرقة بوضعها اللغوي أو العرف الشرعي ومن لا يرى ذلك شرطاً يكفي عنده للحكم على عموم اللفظ أن ينتظم جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى، ومن هنا اختلفت الأحكام المترتبة على عموم اللفظ تبعاً للاختلاف في تحديد ماهيته.

9 -

إن الاختلاف في اشتراط الاستغراق وعدمه في مفهوم العام أدى إلى الاختلاف في العام الذي خص منه البعض، هل يصح التمسك به على سبيل الحقيقة أو لا؟ فمن يرى الاستغراق شرطاً لتحقيق ماهية العام يرى أن العام الذي خص منه البعض مجاز، لأن اللفظ موضوع للاستغراق وبعد التخصيص لم يبق اللفظ مستغرقاً ومن يكتفي بانتظام اللفظ جمعاً من المسميات لفظاً أو معنى يصح عنده التمسك بالعام

ص: 515

المخصوص ما دام الباقي من الأفراد يصح إطلاق اسم الجمع عليها.

10 -

اللفظ المشترك، وهو الموضوع لمعنيين فأكثر بأوضاع متعددة لا يخرج عن تقسيم اللفظ إلى العام والخاص؛ لأن المشترك مبني على حسب الصيغة التي يرد بها، فهو عام إذا ورد بصيغة عامة، وخاص إذا كانت صيغته صيغة الخصوص. وكذا الجمع المنكر لا يخرج عن ذلك التقسيم سواء اشترط في العام الاستغراق أو لم يشترط، لكن الذي يترجح عندي أن الجمع المنكر غير عام لعدم قبوله أحكام العام الاستغراقي.

11 -

إن الجمعَ المنكر من المطلق، لأنه لا فرق بين رجل ورجال إلا في كون ما صدق عليه رجل كل فرد فرد، وما صدق عليه رجال كل جماعة جماعة، وذلك لا أثر له في الإطلاق والتقييد، والمطلق مندرج تحت الخاص على القول الراجح، فيكون الجمع المنكر من الخاص، (وليس بعام) .

12 -

يتكرر لفظ الوضع في مباحث الأصول، والمراد به جعل اللفظ دليلاً على المعنى، بحيث إذا سمع العالم بالوضع ذلك اللفظ، فهم منه المعنى بدون واسطة، وهذا هو المقصود بالتبادر لغة.

13 -

إذا كانت دلالة اللفظ لا تحتمل غير المعنى الموضوع له تسمى

ص: 516

قطعية، وإن احتملت غيره فهي ظنية.

14 -

إن الوقوف على نوع دلالة اللفظ يساعد على التنسيق بين أحكام الألفاظ عند التعارض.

15 -

الاتفاق على وصف دلالة الخاص بالقطعية، وعلى احتماله للمجاز واقع لكن القطع له معنيان، خاص وعام.

فالقطع بالمعنى الخاص: أن لا يحتمل اللفظ غير المعنى الذي وضع له أصلاً سواء كان عدم الاحتمال ناشئاً من دليل آخر انضم إلى أصل وضع اللفظ كالتأبيد مثلاً، أم كان اللفظ في أصل وضعه لا يحتمل غير المعنى الموضوع له.

والقطع بالمعنى العام: هو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل، وعلى هذا إذا كان الاحتمال ناشئاً عن دليل فهو لا يسلب عن دلالة اللفظ الوصف بالقطعية بمعناها الأعم، بدليل أن الاتفاق واقع على إطلاق قطعي لدلالة على الخاص مع احتماله المجاز، مع أن القطع بالمعنى الخاص ينافي احتمال اللفظ المجاز، فدل هذا على أن القطع في دلالة الخاص بالمعنى الأعم، وهو عدم الاحتمال الناشئ عن دليل.

16 -

إن الخلاف في احتمال الخاص للبيان لفظي؛ لأن النفي والإثبات لم يتواردا على محل واحد، فالذي يرى احتمال الخاص للبيان ينظر إليه بعد الاستعمال وطريان الإجمال عليه

ص: 517

بسبب كثرة المعاني التي استعمل فيها أو بسبب قلة الاستعمال في المعنى الموضوع له اللفظ مما يجعله غير مألوف لدى أكثر أهل اللغة، والذي يرى أنه لا يحتمل البيان ينظر إليه باعتبار أصل المعنى، وحال الواضع عندما أراد أن يجعل اللفظ دليلاً على المعنى، ولا شك أن دلالة الخاص بالنسبة للواضع قطعية.

17 -

إن دلالة العام المجرد عن القرائن على أصل المعنى قطعية، وعلى كل فرد من أفراد العام محل خلاف. فالجمهور يرون أن دلالة العام المطلق على كل فرد ظنية، لكثرة تخصيص العموم في الشرع حتى أصبح قولهم:(ما من عام لا وقد خص منه البعض) مثلاً. ويرى الحنفية أن دلالة العام المجرد عن القرائن كدلالة الخاص لاشتراكهما في الطريق الذي ثبتا به وهو الوضع.

18 -

لما كانت دلالة العام على أفراده ظنية عند الجمهور قالوا: إن العام لا يعمل به قبل البحث عن المخصص.

19 -

تخصيص العام عند الجمهور بيان أن المراد من اللفظ العام بعض أفراده، أو هو قصر العام على بعض أفراده بدليل. وعند الحنفية يراد به قصر العام على بعض أفراده بالدليل المستقل بالدلالة عن لفظ العام، والمقارن له في نزوله

ص: 518

والمساوي له في قوة الثبوت والدلالة.

20 -

الاتفاق على احتمال العام للتخصيص وعلى أن دلالته على الباقي بعد تخصيصه بالدليل المساوي له في القوة ظنية واقع، وذلك، لأن الدليل المخصص قد يكون معللاً بعلة، فيحتمل وجودها في بعض الأفراد الباقية بعد التخصيص، ومع الاحتمال لا يثبت القطع، أما إذا كان المخصص غير قابل للتعليل كدليل النسخ أو كان إخراج بعض أفراد العام بدليل متصل وغير مستقل بتمام الفائدة عن اللفظ العام، (كالاستثناء والصفة) ، فإن الحنفية يرون أن إخراج بعض أفراد العام في مثل هذه الحال لا يسلب عن دلالة العام صفة القطعية، لعدم قبول دليل النسخ للتعليل، ولأن الاستثناء ونحوه هو والعام كلام واحد لا يستقل أحدهما عن الآخر بتمام الفائدة.

21 -

إن الاختلاف في قطعية دلالة العام وفي مفهوم التخصيص عند الفريقين قد أدى إلى الخلاف في مخصصات العام، فمن يرى أن دلالة العام قطعية يشترط في الدليل المخصص للعام ابتداءً أن يكون مساوياً له في قوة الثبوت والدلالة، ومن يرى أن دلالة العام المجرد ظنية لا يشترط في الدليل المخصص مساواته للعام، لأن التخصيص من قبيل البيان والمبين لا

ص: 519

يشترط فيه مساواته للمبين، ومن ثم كان خبر الآحاد والقياس لا يخصصان عام القرآن والسنة المتواترة أو المشهورة عند الحنفية إلا إذا سبق تخصيص العموم فيهما بدليل مقطوع به.

22 -

اللفظ الخاص ينقسم باعتبار الصيغة التي يرد بها إلى الأمر والنهي وباعتبار الحالة التي تلابسه إلى المطلق والمقيد.

23 -

أولى تعريف للأمر اصطلاحاً: أنه القول الدال بالذات على طلب الفعل على جهة الاستعلاء.

24 -

صيغ الأمر: هي الألفاظ الموضوعة للدلالة على طلب الفعل على وجه الحتم واللزوم سواء كانت الدلالة مستفادة من قبل اللغة أو الشرع.

25 -

الأمر المجرد عن القرائن: يدل على وجوب الفعل، لتبادر الوجوب لغة، ولأدلة أخرى شرعية.

26 -

النهي في الاصطلاح: القول الدال بالذات على طلب الكف عن الفعل على جهة الاستعلاء.

27 -

صيغ النهي: هي الألفاظ الموضوعة للدلالة على طلب الكف عن الفعل على وجه الحتم واللزوم، سواء كانت الدلالة على ذلك من جهة اللغة أو الشرع.

28 -

النهي المجرد عن القرائن يدل على وجوب ترك المنهي عنه لغة

ص: 520

وشرعاً.

29 -

إن الاختلاف في وجود الماهيات في خارج الذهن أدى إلى الخلاف في تعريف المطلق اصطلاحاً. فهو عند المناطقة وأكثر الأصوليين ما يدل على الماهية بلا قيد، وعند علماء اللغة ما دل على شائع في جنسه، أو هو النكرة في سياق الإثبات، فالنكرة أعم من المطلق، ويساويها ما لم تقيد أو يدخل عليها ما يفيد عمومها.

30 -

يوصف المطلق بالشيوع، لأن موارده غير منحصره فعمومه بدلي -تناوبي ويوصف العام بالاستغراق، فعمومه شمولي.

31 -

أن العموم في المطلق من ناحية الصفات، وفي العام من ناحية الأفراد.

32 -

المقيد هو اللفظ الدال على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه، أو اللفظ الدال على الماهية مع قيد من قيودها.

33 -

توصف الأفعال والأسماء الشخصية بالإطلاق والتقييد باعتبار الأحوال التي تعرض لها، وعلى ذلك فوصف الاطلاق والتقييد غير مختص بالألفاظ المفردة كما يوهم ذلك صنيع الأصوليين.

34 -

الإطلاق والتقييد لهما معنيان خاص وعام. فالمطلق بالمعنى الخاص: اللفظ الدال على شائع في جنسه أو هو ما يدل على

ص: 521

الماهية بدون قيد. والمطلق بالمعنى العام: اللفظ المجرد عن القيود سواء كان له معنى شائع أو لا، وعلى هذا الاصطلاح ليس هناك واسطة بين المطلق والمقيد، بل اللفظ الموضوع للدلالة على المعنى إما أن يكون مطلقاً أو مقيداً.

35 -

المطلق والمقيد من أقسام الخاص على القول الراجح، لكن لما كانت للمطلق موارد غير منحصرة يتحقق مفهومه في واحد منها على سبيل البدل، أشبه العام، ولهذا كانت دلالة المطلق عند جمهور الأصوليين ظنية، ويرى الحنفية أن دلالة المطلق قطعية كالعام عندهم.

36 -

يعمل بالمطلق على إطلاقه حتى يوجد الدليل الذي يقيده، ويعمل بالمقيد مع قيده حتى يدل الدليل على أن ما ذكر معه من قيد لا مفهوم له في تشريع الحكم.

37 -

كل ما قيل في معنى تخصيص العام ونوع دلالته وشروط مخصصه، فهو جار في تقييد المطلق عند الفريقين.

38 -

حمل المطلق على المقيد بيان عند الجمهور، وعند الحنفية يختلف بحسب ورود المقيد ومساواته للمطلق، فهو بيان عند محققي الحنفية كما يقول الجمهور إذا وردا معاً أو جهل التاريخ، ونسخ إذا علم تأخر أحدهما عن الآخر وكانا مستويين في القوة، وترجيح أو تقديم للعمل بالمقيد على

ص: 522

العمل بالمطلق إذا كانت المسألة محل احتياط.

39 -

سبب حمل المطلق على المقيد عند الجمهور العرف اللغوي والشرعي بالإضافة إلى وجود مطلق التنافي الذي يزول بحمل المطلق على المقيد. وعند الأحناف دخول التنافي بين المطلق والمقيد في باب تعارض الأدلة.

40 -

الاختلاف في مفهوم التعارض وشروط تحققه ومحله من الأدلة وكيفية دفعه عنها من أعم الأسباب في الخلاف في حمل المطلق على المقيد في بعض الصور.

41 -

لا يحمل المطلق على المقيد عند الفريقين إلا إذا توفرت فيه شروط خاصة من أهمها الاتحاد في الحكم المثبت وكونه من باب الواجب وأن يكون الإطلاق والتقييد من حيث الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين، وبالجملة فكل ما هو شرط في تعارض الأدلة، فهو شرط في حمل المطلق على المقيد، عند الحنفية.

42 -

إذا اتحد المطلق والمقيد في الحكم واختلفا في السبب، حمل المطلق على المقيد قياساً عند الجمهور، ولا يحمل عند الحنفية، وكذلك الحكم إذا اتحدا في الحكم والحادثة وكان الإطلاق والتقييد واردين على السبب، لأن الأسباب لا تزاحم بينها في نظر الأحناف.

ص: 523

43 -

إذا ورد مقيدان متنافيان على مطلق واحد حمل على الأقيس منهما، وإلا بقي المطلق على إطلاقه.

44 -

إذا تعارض المطلق والمقيد فإما أن يعلم تاريخ النزول بينهما أو يجهل، وفي حال العلم بذلك إما أن يعلما أنهم وردا معا أو يعلم تأخر المطلق وتقدم المقيد أو العكس، فهذه أربعة أحوال يحمل فيها المطلق على المقيد عن الجمهور بطريق البيان ما لم يستلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة، فإن استلزم حملُ المطلق على المقيد تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة كان المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، وعند محققي الحنفية يحمل المطلق على المقيد بطريق البيان في حالتين فقط، وهما إذا وردا معاً أو جهل التاريخ بينهما وفيما عدا ذلك يكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم إذا تساوى معه في الثبوت والدلالة.

45 -

الاختلاف في نوع دلالة المطلق وفي معنى حمله على المقيد أدى إلى الاختلاف في الصور التي يحمل فيها المطلق على المقيد، وفي مقيدات المطلق فالذي يرى أن دلالته قطعية يحكم بالتعارض بينه وبين المقيد وينسخ المتقدم منهما بالمتأخر، ومن ثم لم ير الحنفية نسخ مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة بخبر الآحاد أو القياس؛ لأنهما من قبيل الظني والظني لا يعارض القطعي.

ص: 524

46 -

الاختلاف في حجية مفهوم المخالفة من أهم الأسباب التي أدت إلى وجود التعارض وعدمه في بعض أحوال المطلق والمقيد.

47 -

الاتفاق على حجية مفهوم المخالفة في المصنفات العلمية وأقوال الناس ومصطلحات الفقهاء واقع، حتى شاع لدى الحنفية قولهم:(مفاهيم الكتب حجة) وفي خطابات الشرع خلاف.

48 -

يرى جمهور العلماء فيما عدا مفهوم اللقب - أن مفهوم المخالفة بجميع أنواعه حجة شرعية يعمل به فيما يثبت بطريق الظن، بشروط أهمها ألا يعارضه ما هو أقوى منه، وألا يكون للقيد فائدة أخرى غير تشريع الحكم، ويرى الحنفية أن مفهوم المخالفة بجميع أنواعه ليس حجة شرعية في خطابات الشرع، وحكم المحل المسكوت عنه باق على العدم الأصلي، وهو براءة الذمة من التكاليف حتى يرد ما يشغلها.

49 -

اشتهر بين الأصوليين الخلاف في الزيادة على النص هل هو نسخ أو بيان، وقد اتضح لي (بعد تحرير محل النزاع) أن الخلاف في هذه المسألة قليل الأثر على الفروع الفقهية، لأنه يعود إلى جواز النسخ قبل العمل، وهذا النوع من النسخ قليل الوقوع، وما كان من الأحكام قليل الوقوع لا يصح

ص: 525

التفريع عليه، فكان لا بد للفروع المنسوب الاختلاف فيها إلى هذه القاعدة من سبب آخر غير الزيادة، وقد توصل الباحثون في هذه المسألة إلى أن الخلاف في تلك الفروع يعود إلى الاختلاف في شروط العمل بخبر الواحد عند الجمهور والحنفية، حيث يشترط الحنفية للعمل به شروطاً من أهمها ألا يعارضه ما هو أقوى منه.

50 -

إن مقيدات المطلق منها متصل وهو ما لا يستقل عن اللفظ المطلق بتمام الفائدة، ومنها منفصل، وهو ما يستقل عن اللفظ المطلق بتمام الفائدة.

51 -

لا يجوز تقييد المطلق بالاستثناء؛ لأن الاستثناء معيار العموم.

52 -

لا يجوز تقييد المطلق ببدل البعض، ولا الحال إلا إذا كان صاحبها نكرة.

53 -

يجوز تقييد المطلق بالشرط والصفة والغاية، والظرف والجار والمجرور والتمييز والمفعول لأجله والمفعول معه وذلك إذا كان الإطلاق والتقييد في جانب الأفعال.

54 -

إن الصفة إذا وردت بعد جمل، وإن جاز رجوعها إلى جميع الجمل أو الأخيرة فقط، إلا أن الظاهر رجوعها إلى جميع الجمل وعدم اختصاصها بالأخيرة.

55 -

إن الشرط في تعقبه للجمل حكمه حكم الصفة وكذا الغاية

ص: 526

تشترك معهما في هذا الحكم.

56 -

يجوز تقييد مطلق الكتاب والسنة المتواترة والمشهورة، كل منهما بالآخر، كما يجوز تقييد ذلك بالإجماع والقياس وخير الواحد والعرف ومذهب الصحابي، وذكر بعض جزئيات المطلق الذي له مفهوم مخالف.

57 -

لا يتصور تقييد مطلق الكتاب والسنة بفعل الرسول وتقريره لعدم منافاة ذلك لمدلول المطلق.

ص: 527