المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف - المطلق والمقيد

[حمد بن حمدي الصاعدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد:

- ‌الباب الأول: في التعريف بالمطلق والمقيد ودلالتهما

- ‌الفصل الأول: التعريف بحقيقة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في تعريف المطلق والمقيد في اللغة

- ‌المبحث الثاني: تعريف المطلق في الاصطلاح

- ‌المبحث الثالث تعريف المقيد اصطلاحا

- ‌الفصل الثاني: في دلالة المطلق والمقيد

- ‌المبحث الأول: في الفرق بين المطلق والنكرة

- ‌المبحث الثالث المعهود الذهني بين الإطلاق والتقييد

- ‌المبحث الرابع: عروض الإطلاق والتقييد للأفعال والأسماء الشخصية

- ‌المبحث الخامس في حكم المطلق والمقيد

- ‌الباب الثاني: في حمل المطلق على المقيد

- ‌الفصل الأول: في حكم حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في المقصود بحمل المطلق على المقيد وبيان سبب الحمل

- ‌المبحث الثاني في شروط حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الثالث: في أحوال المطلق والمقيد وحكم الحمل في كل منها

- ‌المطلب الأول: في محل الإتفاق

- ‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف

- ‌المطلب الثالث: في حكم الحمل إذا تعدد القيد

- ‌الفصل الثاني: في تحرير محل النزاع في حمل المطلق على المقيد وأسبابه

- ‌المبحث الأول: في تحرير الصور المختلف فيها

- ‌المبحث الثاني: أسباب اختلاف العلماء في حمل المطلق على المقيد

- ‌المطلب الأول: اختلاف العلماء في دلالة مفهوم المخالفة

- ‌المطلب الثاني: في اختلاف العلماء في الزيادة على النص

- ‌الفصل الثالث: في أثر الخلاف في حمل المطلق على المقيد

- ‌المبحث الأول: في مسائل متعلقة بالصلاة والطهارة والطواف

- ‌المبحث الثاني في مسائل متعلقة بالحدود والكفارات:

- ‌المبحث الثالث: في مسائل متفرقة

- ‌الباب الثالث: في مقيدات المطلق

- ‌الفصل الأول: في تقسيم المقيدات وحكم المتصل منها

- ‌الفصل الثاني: في المقيدات المنفصلة

- ‌المبحث الأول: في تعريف المقيدات المنفصلة وتقسيماتها

- ‌المبحث الثاني: في المقيدات المنفصلة التي هي موضع خلاف

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف

‌المطلب الثاني: في محل الاختلاف

ونعني بمحل الاختلاف هنا أحوال المطلق والمقيد التي اختلف الأصوليون في حكم حمل المطلق على المقيد فيها، فيتضمن هذا المطلب الصور والحالات الآتية:

الحال الأولى: الاتحاد حكماً والاختلاف سبباً:

ومن أمثلة هذه الحال قوله -تعالى- في كفارة القتل الخطأ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَاّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} 1، مع قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 2.

فقد ورد لفظ الرقبة في الآية الأولى مقيداً بالإيمان، وورد في الآية الثانية مطلقاً عن ذلك القيد، والحكم فيهما واحد، وهو الأمر بتحرير رقبة، والسبب فيهما مختلف؛ إذ هو في الآية الأولى القتل الخطأ، وفي الآية

1 سورة النساء آية: 92.

2 سورة المجادلة آية: 3.

ص: 247

الثانية الظهار1 مع إرادة العود2 لما قال.

وقد اختلف علماء الأصول في حكم حمل المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها:

1-

فمن يرى أن بين المطلق والمقيَّد تعارضاً لاتحاد الحكم فيهما يقول: يدفع هذا التعارض بطريق حمل المطلق على المقيد، وهذا هو مذهب جمهور الأصوليين الذين يرون أن اتحاد الحكم يكون كافياً لوجود التعارض بينهما، ومن ثم القول بحمل المطلق على المقيد فيهما.

2-

ومن لا يرى أن بينهما تعارضاً، لاختلاف السبب فيهما يقول: بمنع حمل المطلق على المقيد هنا؛ لأن من شرط حمل المطلق على المقيد وجود التنافي بين المطلق والمقيد، ومع الاختلاف في السبب لا يتحقق التنافي فيعمل بكل من المطلق والمقيد في الموضع الذي ورد فيه، فالمطلق يعمل به على إطلاقه، والمقيد يعمل به مع قيده، حتى يرد الدليل الصارف عن ذلك من خارج اللفظ المطلق أو المقيد، وهذا هو مذهب الحنفية، لكن

1 الظهار شرعاً: تشبيه الرجل زوجته بعضو يحرم النظر إليه من أعضاء أحد محارمه.

المصباح المنير ص: 388 مادة (ظهر) .

2 العود اختلف الفقهاء فيما يراد به هنا، فقيل العزم على الوطء، وقيل: العزم على الإمساك، أو هو الإمساك نفسه، وقالت الظاهرية هو تكرار لفظ الظهار، القوانين الفقهية لابن جزئ الغرناطي المالكي ص: 268، طبعة جديدة منقحة عام 1979م دار العلم للملايين بيروت.

ص: 248

الجمهور الذين قالوا بحمل المطلق على المقيد في هذه الحال، اختلفوا في موجب الحمل ما هو؟ أهو اتحاد المطلق والمقيد في اللفظ فيكون حملاً من طريق اللغة، أم أن موجب الحمل وجود علة جامعة بين المطلق والمقيد؟ فيكون الحمل في هذه الحال وأمثالها عن طريق القياس.

وبناء على هذا التفصيل للجمهور يكون لعلماء الأصول في حكم هذه الحال ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول:

القول بمنع حمل المطلق على المقيد مطلقاً، أي: سواء أكان بطريق اللغة أم القياس، وبه قال جمهور الحنفية1 وحكي عن بعض علماء المالكية2

1 أصول السرخسي 1/268، والتوضيح مع التلويح 1/63، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/287.

2 مفتاح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 79 حيث يقول: "أما إن اختلف السبب واتحد الحكم؛ فإنه يحمل المطلق على المقيد عندنا بجامع، وقيل: بغير جامع، ولا يحمل إن لم يكن جامعاً"، وروى ابن نصر المالكي كما يقول الشوكاني:"عدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال". تنقيح الفصول للقرافي ص: 267، كما روى عنه أيضاً أنه قد روى عن مالك ما يحتمل الحمل بطريق اللغة أو القياس المسودة لآل تيمية ص: 145 والذي اختاره ابن الحاجب هو الحمل في هذه الحال بطريق القياس - مختصر ابن الحاجب 2/156، وفي مراقي السعود مع شرحها نشر البنود يقول مشيراً إلى هذه المسألة:

وحيثما اتحد واحد فلا يحمله جل العقلاوهذا يخالف ما اختاره ابن الحاجب، فليحقق ذلك ويحرر مذهب المالكية في هذه المسألة، وينظر في ذلك التمهيد للأسنوي ص: 415، والعدة لأبي يعلى 2/638.

ص: 249

والحنابلة1.

المذهب الثاني:

القول بحمل المطلق على المقيد مطلقاً، ومرادهم أنه لا يشترط فيه تحقق علة جامعة بين المطلق والمقيد، وإنما الشرط وجود مطلق ومقيد لغويين في الكتاب والسنة، وبه قال كثير من الشافعية2،

1 المسودة ص: 145، وهي رواية لأبي الحارث عن الإمام أحمد إلا أن نصها جاء في التيمم والوضوء حيث روى عنه أبو الحارث أنه قال:"التيمم ضربة للوجة والكفين"، فقيل له: أليس التيمم بدل الوضوء والوضوء إلى المرفقين، فقال: إنما قال الله تعالى: {فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ولم يقل إلى المرفقين، وقال في الوضوء إلى المرفقين، فظاهر هذا أنه لم يبن المطلق في التيمم على المقيد في الوضوء، وحمله على إطلاقه. العدة 2/638.

2 الأحكام للآمدي 3/5، وتنقيح الفصول للقرافي ص: 266، والبرهات للجويني مخطوط، نشر البرهان حديثاً بتحيق د. عبد العظيم الديب كلية جامعة قطر وطبع على نفقة أميرها 1399هـ، والمحصول للرازي مخطوط ونشر المحصول أيضاً حديثاًَ بتحقيق د. طه جابر فياض العلواني ط أولى 1399 (لجنة البحوث والتأليف والترجمة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية رقم الكتاب (213) وشرح منهاج العقول للأسنوي 2/129، والتمهيد للأسنوي 415.

ص: 250

وبعض المالكية1 والحنابلة2.

1 مفتاح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 79، والمسودة ص: 145 ويقارن برواية ابن نصر عن مالك حيث يقول: "قد روي عن مالك ما يحتمل أن يكون أراد أن المطلق يتقيد بنفس تقيد المقيد، ويحتمل أن يرد إليه قياساً المسودة ص:145.

2 المسودة لآل تيمية ص: 145، والمغني لابن قدامة 9/214، والإنصاف للمرداوي 8/22، وهذه الرواية اختارها القاضي أبو يعلى حيث يقول: "وإن كان الجنس واحداً والسبب مختلفاً كالرقبة في كفارة القتل الخطأ والظهار، فإن الرقبة جنس واحد، قيدت بالإيمان في كفارة القتل وأطلقت في كفارة الظهار، وهما سببان مختلفان فهذا على روايتين، إحداهما يبنى المطلق على المقيد من طريق اللغة، وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب، فقال: أحب إلى أن يعتق في الظهار مسلمة، واحتج من قال بذلك بقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ} ، ولم يذكر عدلاً.

ولا يجوز إلا عدل ثم قال: وظاهر هذا أنه بنى المطلق على المقيد من طريق اللغة كما بنى الإطلاق في العدالة على المقيد فيها.

انظر: الواضح لابن عقيل مخطوط والعدة 2/638، والذي يبدو أن هذا الكلام من أبي يعلى اجتهاد منه يدل على ذلك كلام المرداوي حيث يقول: بعد نسبة القول بالحمل قياساً إلى الإمام أحمد (ولا يحمل عليه لغة عند أحمد ثم قال: وعن أحمد رواية يحتمل اختارها القاضي.

التحرير للمرداوي مخطوط لوحة: 95.

ص: 251

المذهب الثالث:

القول بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس المستجمع لشروطه وأركانه، وهو قول المحققين من الشافعية1

1 الأحكام للآمدي 3/ 4، ومنتهى السول له أيضاً ص: 55، والمحصول للرازي مخطوط.

وقد صحح هذا القول الآمدي وفخر الإسلام الرازي وأتباعهما كما نقل ذلك الأسنوي في التمهيد ص: 415 حيث روى عن الآمدي أنه قال: "هو الأظهر من مذهبه أي: إن الأظهر من مذهب الشافعي الحمل بطريق القياس"، وقال الرازي:"هو القول المعتدل، وهو مذهب المحققين منا ثم قال: ولا ندعي وجوب هذا القياس، بل ندعي أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا".

المحصول للرازي مخطوط.

وقد قال الإمام الشافعي نفسه: "إذا وجبت كفارة الظهار على الرجل وهو واجد لرقبة أو ثمنها لم يجزه فيها إلا تحرير رقبة، ولا يجزئه على غير دين الإسلام، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} في القتل الخطأ، فكان شرط الله تعالى في رقبة القتل إذا كانت كفارة كالدليل، والله أعلم على أن لا يجزئ رقبة في الكفارة إلا مؤمنة، كما شرط الله سبحانه وتعالى العدل في الشهادة في موضعين، وأطلق الشهود في ثلاثة مواضع، فلما كانت شهادة كلها اكتفينا بشرط الله عز وجل فيما شرط فيه، واستدللنا على أن ما أطلق من الشهادات - إن شاء الله - على مثل معنى ما شرط، وإنما رد الله عز وجل أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين. فمن أعتق في ظهار غير مؤمنة، فلا يجزئه، وعليه أن يعود فيعتق مؤمنة.

الأم للشافعي 5/280، فحمل المطلق على المقيد قياساً هو مذهب المحققين من الشافعية، وهو الأظهر من كلام الشافعي، لأن قوله: وكان شرط الله عز وجل في رقبة القتل إذا كانت كفارة كالدليل على أنه لا يجزئه رقبة في الكفارة إلا مؤمنة، وقوله: واستدللنا على أن ما أطلق من الشهادات على مثل معنى ما شرط، ظاهر في أن الإمام الشافعي أراد الحمل من طريق القياس يؤيد هذا الفهم ما نقله الغزالي عن الشافعي حيث يقول: قال الشافعي: "إن قام دليل حمل عليه ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم، وهذا هو الطريق الصحيح"، المستصفى مطبوع مع مسلم الثبوت 2/186.

ص: 252

والمالكية1 والحنابلة2.

1 مفتاح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 79، ومختصر ابن الحاجب 2/156، وإرشاد الفحول ص: 165، وسبق التنبيه على التحقيق في مذهب المالكية حيث يقول الشوكاني نقلاً عن القاضي عبد الوهاب وأكثر المالكية ذهبوا إلى عدم الحمل.

2 المسودة لآل تيمية ص: 145، والتحرير للمرداوي ص: 95، وشرح الكوكب المنير للفتوحي ص:216.

قال المرداوي: "وإن اختلف سببهماكالرقبة في الظهار والقتل حمل المطلق عليه قياساً بجامع بينهما عند أحمد وأصحابه" التحرير لوحة: 95.

وقال ابن قدامة: "المطلق يحمل على المقيد من جهة القياس إذا وجد المعنى فيه" المغنى 8/22.

وقال أبو البركات: "فأما حمله عليه قياساً لعلة جامعة فجائز عندنا" المسودة ص: 145.

وقال الفتوحي: "يحمل المطلق على المقيد قياساً بجامع بينهما عند أحمد والشافعي رحمهما الله، وأكثر أصحابنا كتخصيص العموم بالقياس". شرح الكوكب المنير ص: 216.

ومن هذه الأقوال عن أئمة المذهب الحنبلي يظهر أن حمل المطلق على المقيد بجامع في مثل هذه الحال هو مذهب أكثر أصحاب أحمد والمحققين منهم، وأما رواية الحمل بطريق اللغة فليست أمراً قاطعاً، بل الظاهر أنه اجتهاد من أبي يعلى حيث يقول بعدها - والظاهر أنه بني من طريق اللغة.

ص: 253

أدلة المذاهب:

أولاً: أدلة القائلين بالمنع مطلقاً.

استدل القائلون بمنع حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب بعدة أدلة منها1:

1-

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 2.

ووجه الدلالة من الآية أن المطلق ساكت عن القيد وفي الرجوع إلى المقيد ليعرف منه حكم المطلق إقدام على هذا المنهي3.

1 أصول السرخسي 1/268، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/291، ومسلم الثبوت 1/365، والتوضيح مع التنقيح 1/64، والمنار مع حواشيه ص: 568، وتيسير التحرير 2/40.

2 سورة المائدة آية: 101.

3 أصول السرخسي 1/268.

ص: 254

وقالوا أيضاً: إن معنى هذه الآية هو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم"1.

وأجاب الجمهور عن ذلك بأن قالوا: لا دلالة في الآية والحديث على منع حمل المطلق على المقيد؛ لأن الآية الكريمة والحديث الشريف وردا حثاً للمسلمين على التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت السؤال، ونهياً لهم عن أن يسألوا عما ترك الرسول تفصيل حكمه، لئلا يودي سؤالهم إلى نزول تكاليف تشق عليهم وتعنتهم2، ولم يكن هناك مقيد شرعه الشارع رجعوا إليه ليعرفوا منه حكم المطلق، وإنما سألوا عن تقييد الحكم ابتداء كما في قصة الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن فريضة الحج، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس

1 رواه مسلم في صحيحه في كتاب الحج انظر مسلم مع النووي 9/100 - 101، والإمام أحمد 2/247 المكتب الإسلامي.

والبيهقي في السنن الكبرى 4/326 دار المعرفة ط أولى سنة 1352هـ.

وقال الألباني في إرواء الغليل شرح منار السبيل 1/183، رقم الحديث: 155، بعد أن أخرج الجملة الأولى منه: صحيح، وتمامه "فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

2 تفسير ابن كثير 2/105 ط دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي.

ص: 255

قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

وقد ذكر ابن كثير1 هذه الحادثة سبباً لنزول الآية السابقة2 فمثل: هذه الأسئلة هي التي ورد النهي عنها، أما الرجوع إلى المقيد ليعلم منه حكم المطلق، لما بينهما من علاقة بعد أن تم الدين وانقطع الوحي فلا يتجه إليه النهي، بل هو التفقه في الدين حسب قواعد استنباط الأحكام، وقد أمرنا الله بسؤال العلماء عما خفي علينا حُكْمُه قال -تعالى-:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 3، فهذه الآية صريحة في وجوب السؤال عما

1 ابن كثير هو: إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي، الفقيه الحافظ المؤرخ أبو الفداء عماد الدين، ولد في قرية من أعمال بصرى في الشام سنة 701هـ وانتقل إلى دمشق سنة 706، ومن كتبه: البداية والنهاية في التاريخ، وتفسير القرآن الكريم، والباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث، توفي رحمه الله سنة 774هـ.

الإعلام 2/317، طبقات الأصوليين 2/179 - 184.

2 تفسير ابن كثير 2/155.

3 سورة النحل آية: 43.

ص: 256

خفي حكمه، فلا يكون منهياً عنه، كما ادعى هذا الفريق.

واستدلوا ثانياً:

وقالوا: لو حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم واختلاف السبب للزم من ذلك أمران محظوران.

أولهما: مخالفة ما هو الأصل في المطلق والمقيد من غير حاجة، وبيان ذلك أن حمل المطلق على المقيد لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن العمل بكل منهما مستقلاً، وذلك عندما يكون بينهما تناف، ويكون العمل بكل واحد منهما على حدة مدعاة إلى التناقض، وهذه الحال بمأمن من ذلك، لأن السبب فيهما مختلف1، ومع اختلاف السبب لا يوجد التنافي والتضاد، بل قد يكون الداعي إلى الإطلاق والتقييد هو اختلاف السب فيهما2، وبناء على ذلك يكون حمل المطلق على المقيد في هذه الحال حملاً من غير حاجة، فلا يجوز لمخالفته لما هو الأصل فيهما، وهو بقاء المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده.

1 أصول السرخسي مع كشف الأسرار 1/288، والتوضيح 1/64، وتنقيح الفصول للقرافي ص:268.

2 أصول البزدوي 2/288، والتوضيح 1/64.

ص: 257

الأمر الثاني:

أن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها يؤدي إلى التضييق والحرج وكلاهما مناف للشريعة السمحة، بيان ذلك أن المطلق فيه توسعة على المكلف حيث يقتضي خروجه عن العهدة بالإتيان بالفرد الذي توفر فيه القيد أو غيره، وفي إلزامه بالفرد المقيد الذي يتضمنه حمل المطلق على المقيد تضييق وحرج، وهذا ينافي مبدأ التسامح والتيسير في الشرع، فلا يصار إليه، لقوله تعالى:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1.

وقد أجيب عن الأمر الأول:

بأن ما يقتضي حمل المطلق على المقيد متحقق وموجود في هذه الحال، وهو مطلق التنافي، ذلك أن المطلق والمقيد قد وردا في حكم واحد، والحكم الواحد لا يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد للتنافي بينهما، وهذا يستدعي جعل المقيد أصلاً يبنى عليه المطلق، ويبين بواسطته، لسكوت المطلق عن القيد، ونطق المقيد به، وهذا ما يجعل القيد ذا فائدة متوخاة.

علماً أن الجامع المقتضى للقياس الصحيح موجود في هذه المسألة، وهو في كفارة الظهار والقتل الخطأ التكفير بتحرير رقبة واجبة.

1 سورة الحج آية: 78.

ص: 258

وأما الاعتراض الثاني: وهو لزوم الحمل التضييق والحرج.

فإنما يتجه على مذهب القائلين بالحمل مطلقاً أي: لمجرد وجود مطلق ومقيد لغويين في الكتاب والسنة، وهذا الاتجاه على مذهبهم لا يضر الجمهور؛ لأن مذهب القائلين بالحمل عن طريق اللغة مردود كما سيأتي.

وأما على رأي المحققين من الجمهور الذين يقولون إن حمل المطلق على المقيد في هذه الحال موقوف على وجود الدليل؛ فلا يرد عليهم القول بأن في حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة تضييقاً بدون أمر الشارع، وذلك لما نقل الإمام الرازي عنهم: "أنهم لا يدعون وجوب الحمل في مثل هذه الحال مطلقاً، بل يقولون: إذا توفر القياس الصحيح وكانت علته ثابتة، بطريق مقطوع به -كالنص والإجماع، جاز أن يحمل المطلق على المقيد وإلَاّ فلا.

وعليه فليس هناك أي تناف بين الدليل الذي يقتضي حمل المطلق على المقيد، وقاعدة نفي الحرج عن الشرع، لأن الجمع بينهما ممكن وميسور، ذلك أن القواعد الكلية في الشريعة، غالباً ما يرد عليها التخصيص والاستثناء، فيكون دليل جواز الحمل في هذه الصورة مخصصاً لتلك القاعدة العامة".

يقول الشوكاني -مؤيداً لرأي الجمهور وراداً على القول بالحمل عن طريق اللغة: "ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل، ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال

ص: 259

البعيد، فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل"1 أي قياساً.

ثم رد الحنفية أدلة القائلين بالحمل من طريق القياس كما سيأتي.

فقالوا: إن من شروط القياس التي لا يوجد بدونها عدم معارضة نص له، وفي هذه المسألة قد عارض القياسَ النَّصُ المُطلقُ؛ فإنه يدل على إجزاء المقيد وغيره؛ فلا يجوز أن يثبت بالقياس عدم إجزاء غير المقيد لانتفاء صحة القياس2.

ودفع هذا الاعتراض: بأن معارضة القياس للنص في حيز المنع، ذلك أن المعدى هو وجوب القيد المنطوق به في كفارة القتل الخطأ، وهو الإيمان والمقيس عليه، وهو المطلق ليس نصاً في إجزاء الكافرة، بل هو ساكت عن القيد، يتناول الكفارة بوصف الإطلاق مع احتمال إرادة التقييد، فالنص في كفارة الظهار يدل على وجوب المطلق أعم من كونه في ضمن المقيد أو غيره، وليس ذلك كالتنصيص على إجزاء الكافرة، فنكون قد قسنا ما سكت عن الإيمان فيه على ما نطق فيه بالإيمان، وليس في هذا القياس معارضة للنص المطلق كما يدعى؛ لأن المطلق ساكت عن القيد، إذ هو لا يثبته ولا ينفيه3.

1 إرشاد الفحول ص: 165، والأحكام للآمدي 2/112، والتوضيح مع التلويح 1/64.

2 أصول البزدوي مع كشف الأسرار 2/291، وأصول السرخسي 1/268.

3 تيسير التحرير لابن أمير الحاج 1/3337، وكشف الأسرار على أصول البزدوي 2/87.

ص: 260

وقالوا أيضاً:

إن الحكم في هذه المسألة مما لا يعرف بالقياس بالإجماع، لأنه يرجع إلى إثبات قدر الكفارة، ذلك أن زيادة التقييد بالإيمان في حكم القدر؛ فلا يجوز إثباته بالقياس كما لا يجوز إثبات القدر به1.

والجواب عن ذلك يتم من وجهين:

الأول: إن دعوى الإجماع غير صحيحة؛ لأن مذهب الإمام أحمد بن حنبل والشافعي2 جواز جريان القياس في الكفارات والمقدرات إذا علم علة

1 المرجع السابق الأخير 2/287، قال في العدة: عن هذا الاعتراض

والجواب أن هذا ليس بقياس المنصوص على المنصوص، وإنما هو حمل المسكوت عنه على المنصوص عليه 2/646.

2 الشافعي هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف بن قصي، وكنيته أبو عبد الله، ونسبته إلى جده شافع، قيل ولد بغزة سنة 150هـ ثم ذهبت به أمه إلى مكة موطن آبائه وأجداده، حفظ القرآن في سن السابعة ثم ذهب إلى البادية وتعلم الشعر في قبيلة هذيل لشهرتها بالفصاحة والبيان.

سافر الشافعي عدة سفرات في بلدان متفرقة، وكون المذهب الشافعي أولاً في العراق، ثم لما رحل إلى مصر تغيرت عليه البيئة فرجع عن بعض المسائل التي كان يفتي فيها بالعراق، بما يخالف عادات مصر فقيل: في مذهبه في العراق المذهب القديم، وما كوّنه في مصر المذهب الجديد، له عدة مؤلفات منها: الأم في الفقه، ورسالة في الأصول وهي أول ما دون في أصول الفقه، توفي الشافعي رحمه الله سنة 204هـ. طبقات الأصوليين 1/127.

ص: 261

ذلك ولم يمنع منه مانع1، قال أبو الحسين2 البصري:"ويبعد أن تظهر في التقديرات والأعداد علة، وأما الكفارات فلا يبعد أن تظهر علتها، فيقاس عليها غيرها بتلك العلة"3. ثم إن قوله إن الوصف زيادة معنى كالقدر غير مسلم، لأن كون الوصف زيادة معنى لا يجعله كالقدر، لأن الوصف في الغالب منضبط ومعقول العلة بخلاف القدر؛ فإنه لا ينضبط في الغالب وقلما تدرك علته.

1 روضة الناظر لابن قدامة ص: 181.

2 أبو الحسين هو: محمد بن علي الطيب البصري، أحد أئمة المعتزلة ولد بالبصرة، ونشأ بها ثم رحل إلى بغداد وسكنها، وكان يشار إليه بالبنان في علمي الأصول والكلام، من تصانيفه كتاب المعتمد في الأصول وهو كتاب جليل اعتمد عليه المؤلفون بعده، توفي رحمه الله في بغداد سنة 436. طبقات الأصوليين 1/237.

3 المعتمد 2/796، وأصول السرخسي 1/245، والتمهيد لأبي الخطاب الحنبلي ص:156.

ص: 262

الوجه الثاني:

أن يقال: للحنفية: إنكم أوجبتم الكفارة على من أكل في نهار رمضان، قياساً على الواطئ فيه، وهذا يخالف قاعدتكم أنه لا يجوز أن تثبت الكفارات بالقياس، فإن قالوا: إنا لم نثبت ذلك بالقياس، وإنما أثبتناه بطريق الدلالة1 وهي ترجع إلى النص؛ لأن العلة في إيجاب الكفارة على الصائم الذي أفسد صومه في رمضان ليس الوطء، وإنما هي:"الجناية على الصوم بإفساد ركنه، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج".

وهذه العلة يفهمها كل من كان عارفاً باللغة، ولا تحتاج في

1 دلالة النص: عند الحنفية هي: الجمع بين المنصوص وغير المنصوص بالمعنى اللغوي. كشف الأسرار 1/73.

وعرفها حمد الكبيسي بأنها: دلالة النص على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة يفهمها كل عارف باللغة فهماً متبادراً لا يحتاج إلى تأمل وبحث، أنها مناط الحكم وعلته، ويقول عبد العزيز البخاري في الكشف: دلالة النص هي: فهم غير المنطوق من المنطوق بسياق الكلام ومقصوده، ويقول البزدوي:"وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا اجتهاداً، ولا استنباطاً".

كشف الأسرار 1/73، وأصول الأحكام حمد الكبيسي ص: 268، وتسمى عند الجمهور بمفهوم الموافقه، أو قياس الأولى، ونسب إلى الشافعي تسميتها بالقياس الجلي، وسيأتي الكلام علي مفهوم الموافقة في مبحث المفهوم المخالف.

حواشي المنار ص: 252، وتفسير النصوص لأديب صالح ص: 516 - 517، والتوضيح على التنقيح 1/131.

ص: 263

استخراجها إلى بحث واستنباط، فلا تكون من القياس الذي مبناه على استنباط العلة، ثم إن هذا المعنى الذي وجبت الكفارة على الصائم من أجله موجود في الأكل بلا نقصان فأوجبنا الكفارة على الآكل لتحقق المعنى الذي وجبت الكفارة لأجله فيه.

والجواب عن ذلك أن يُقال:

أولاً: لا فرق بين إثبات علة الكفارة على من أكل وشرب في نهار رمضان بطريق دلالة النص، وقول المحققين من جمهور الأصوليين الذين يقولون بجواز حمل المطلق على المقيد بالقياس الصحيح الذي ثبتت علته بطريق مقطوع به، كالنص والإجماع1، إلا في التسمية والاصطلاح، وذلك لا يضر؛ لأن دلالة النص عند الحنفية والقياس المقطوع بعلته شيء واحد عند التحقيق2.

ثانياً: سلمنا أن دلالة النص غير القياس، ولكن ذلك مشروط بنوع خاص من الدلالة، وهو ما كانت العلة فيه مقطوعاً بها، قال عبد العزيز البخاري في كشف الأسرار: "ثم إن كان المعنى المقصود معلوماً قطعاً كما

1 الأحكام للآمدي 3/ 4.

2 المنار للنسفي مع حواشيه ص: 531، والمعتمد لأبي الحسين 2/796، حيث يقول: ولا يعصمهم من ذلك أن يمنعوا من تسمية ذلك قياساً.

ص: 264

في تحريم التأفيف فالدلالة قطعية، وإن احتمل أن يكون غيره هو المقصود كما في إيجاب الكفارة على المفطر بالأكل والشرب فهي ظنية"1.

وحيث كان أهم عنصر اعتمد عليه القائلون بالفرق بين الدلالة والقياس أن العلة في دلالة النص قطعية، يفهمها كل من كان عارفاً باللغة، ولا تحتاج إلى اجتهاد واستنباط2، وفي القياس ظنية وخفية تحتاج إلى بحث واستنباط وشروط لا تتوفر إلا فيمن كان من أهل الاجتهاد.

أقول: وحيث إن العلة في مسألتنا كما يقول صاحب كشف الأسرار "ظنية" لاختلاف العلماء في فهمها، فلا تكون من قبيل الدلالة التي ترجع إلى النص لغة، وإنما هي من قبيل القياس لظنيتها واختلاف العلماء في فهمها، وبناء على ذلك يبطل قول الحنفية بأن الكفارة لا تثبت بطريق القياس، حتى ولو سلم أن دلالة النص القطعية ليست من قبيل القياس، ذلك أن مسألة إيجاب الكفارة على من أكل أو شرب في رمضان ليست من قبيل الدلالة القطعية، بل من قبيل دلالة النص الظنية، وهذه الدلالة والقياس سيان3.

1 كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/73، وتفسير النصوص لأديب صالح 1/226.

2 المعتمد لأبي الحسين البصري 2/797.

3 تفسير النصوص 1/531، 532، 540، وروضة الناظر ص: 181، ومناهج الأصوليين لفتحي الدريني 1/334 - 335.

ص: 265

وقالوا ثالثاً: إن إثبات القيد في اللفظ المطلق بالقياس زيادة على النص يلزم منها رفع ما اقتضاه المطلق، وهو في مسألتنا إجزاء المؤمنة والكافرة، فيكون نسخاً، ونسخ ما هو ثابت بطريق قطعي لا يجوز بالقياس1 وسيأتي الجواب عن ذلك في مسألة الزيادة على النص.

ومن اعتراضاتهم أيضاً:

أن قياس كفارة الظهار وكفارة اليمين على كفارة القتل الخطأ قياس مع الفارق، ووجه الفرق أن حكم القتل الخطأ وجوب التحرير والصوم على الترتيب مقتصراً عليهما، وحكم الظهار وجوب التحرير والصوم والإطعام، وهذا فيه مفارقة لحكم القتل الخطأ؛ لأنه لا مدخل للإطعام في كفارة القتل، وكذلك حكم اليمين وجوب البر، ثم الكفارة بأحد الأشياء الثلاثة، ثم صوم ثلاثة أيام وهو مفارق لحكم القتل أيضاً، ففي كل من كفارة الظهار واليمين ضرب من التيسير وليس هذا النوع من التيسير موجوداً في القتل، فلا يقاس ما فيه تخفيف على ما فيه تغليظ2.

1 المعتمد 1/113، وكشف الأسرار 2/293، والتوضيح مع التلويح 1/65.

2 كشف الأسرار على أصول البزدوي 2/292 - 293.

قال في العدة: "إن هذا ليس بزيادة، وإنما هو تخصيص، ونقصان لأن قوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائع في الجنس، مؤمنة وكافرة، سليمة ومعيبة، وقوله لا يجزئ إلا مؤمنة نقصان، فهو كما لو قال: أعط درهماً من شئت من هؤلاء العشرة، فإذا قال إلا زيداً فلا تعطه، فهذا نقصان وتخصيص كذلك هاهنا على أنها لو كانت زيادة في النص لم تكن نسخاً، وإنما هي زيادة حكم، لأن النسخ هو الإسقاط، فإن قيل: إن الخصوص إنما يرد على الأعيان المنطوق بها دون المعاني التي لم ينطبق بها، وقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} هو المنطوق به، فأما صفاتها مؤمنة أو كافرة، سليمة أو معيبة، فما تناولها اللفظ.

والجواب أن التخصيص ما دخل إلا على الأعيان، لأن قوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} شائعة في الجنس أي رقبة كانت، فإذا قلنا: إلا مؤمنة كان تخصيص الأعيان، فكأنه أخرج من هذا الشائع في جنسه عيناً موصوفة، فالتخصيص دخل على الأعيان، فهذا مثل من قال: أعط درهماً من شئت من هؤلاء العشرة إلا الفقيه منهم، فإنه قد أخرج منهم واحداً موصوفاً فكذلك ههنا، إذا قال: أعتق رقبة إلا كافرة أخرج رقبة موصوفة. العدة 2/646.

ص: 266

ثانياً: أدلة القائلين بالحمل المطلق:

استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد بطريق اللغة بأدلة منها:

1-

قالوا: إن القرآن كالكلمة الواحدة، فلا يختلف بالإطلاق والتقييد، بل يفسر بعضه بعضاً، لأنه في حكم الخطاب الواحد، وحيث كان الخطاب الواحد يترتب فيه المطلق على المقيد، بمعنى أنه إذا نص على تقييد شيء منه بقيد ما، كان ذلك تنصيصاً على تقييده به في سائر

ص: 267

الصور، كذلك المطلق والمقيد في كتاب الله، لأنه في حكم الخطاب الواحد.

يبين صحة ذلك أن الصحابة - رضوان الله عليهم - جعلوا القرآن بمنزلة الآية الواحدة، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما 1 أنه قال للخوارج2 لما احتجوا عليه بآية من القرآن قال لهم:

1 ابن عباس هو: عبد الله بن عباس بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الرواة المكثرين عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه 1660 حديثاً كان مولده قبل الهجرة بثلاث سنوات، دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين، وكان يلقب بترجمان القرآن، توفي بالطائف سنة 68هـ.

2 الخوارج: كما يقول الشهرستاني في كتاب الملل والنحل 1/114: كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفق عليه الجماعة يسمى خارجياً سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين لهم بإحسان والأئمة في كل مكان.

وكان أول ظهور هذه الفرقة الضالة في عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حرب صفين وكان من رأيهم قبول التحكيم، وقد حملوا علي بن أبي طالب على قبوله في أول الأمر قائلين:"القوم يدعوننا إلى كتاب الله، وأنت تدعونا إلى السيف"، ثم صارت بعد ذلك فرقاً شتى يجمعها القول بالتبرئ من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة، ولا يصححون المناكحات إلا على ذلك، ويكفرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقاً واجباً.

راجع في هذا الفصل في الملل والنحل والأهواء لابن حزم 1/154ط دار المعرفة سنة 1395هـ.

ص: 268

من فاتحته إلى خاتمته ومعناه يجب أن يلتزم جميع ما فيه1.

وقد أجيب عن هذا الدليل:

أن ذلك مسلم، ولكنه مشروط بوجود الدليل أما أن يكون الحمل

1 العدة للقاضي أبي يعلى 2/644 هكذا أورد الدليل القاضي وهو غير واضح، ومراد المستدل أن ابن عباس أنكر على الخوارج تمسكهم بظاهر قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلّهِ} حيث ترى الخوارج أن كل من رضي بالتحكيم أو صوبه فهو كافر لإنكاره ظاهر هذه الآية، التي تدل على أن جميع أنواع الحكم لله وحده وهؤلاء الذين رضوا بالتحكيم يجعلون أمر المسلمين إلى رأي الرجال، فكأن ابن عباس يقول لهم: إن كنتم صادقين في تمسكهم بالقرآن وحده، فاقرأوا القرآن من أوله إلى آخره، وتمسكوا به جميعاً، وستجدون فيه آيات توضح وتفسر هذه الآية، وتدل على جواز الاصلاح بين المسلمين.

وأصحاب هذا الدليل يقولون: إن ابن عباس حمل المطلق على المقيد وقال من أوله إلى آخره، فأخذوا من ذلك أن ابن عباس يرى حمل المطلق على المقيد بمجرد الورود.

ولا يسلم لهم ذلك بدليل أنه ذكر لهم بعض الأدلة المقيدة لهذه الآية، كترك الرسول صلى الله عليه وسلم كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، في صلح الحديبية، لما قال له المشركون: لا نعرف إلا رحمان اليمامة فقال: اكتب باسم محمد بن عبد الله.

ص: 269

لمجرد الورود فقط من غير حاجة إلى دليل، فغير صحيح، ثم إن هذا الدليل خارج عن محل النزاع لأن كون القرآن كالكلمة الواحدة لا يستلزم حمل المطلق على المقيد مطلقاً، لأن معنى كونه كلاماً واحداً يفسر بعضه بعضاً أنه لا يتناقض، وإلا لو أريدت الوحدة المطلقة، لورد عليه المطلق والمقيد اللذان اختلف حكمهما وسببهما وقد بينا فيما سبق اتفاق العلماء ومنهم المستدلون بهذا الدليل على عدم حمل المطلق على المقيد في تلك الحال وهي حالة لو أخذ الدليل على عمومه لاندرجت فيه ومقتضى ذلك حمل المطلق على المقيد فيها.

أضف إلى ذلك أن الإطلاق والتقييد لا ينافي وحدة الكلام؛ لأنه مبني على اختلاف تعلقات الكلام، واختلاف التعلقات لا بد منه، نظراً لاختلاف المتعلقات وعلى هذا فإن الإطلاق والتقييد لا يؤدي إلى التناقض الذي يقدح في وحدة الكلام1، ثم إن هذا الدليل لو تم، لأدى إلى نفي النسخ مطلقاً؛ لأن نفي الاختلاف عموماً يؤدي إلى نفي النسخ في ضمنه فيكون باطلاً؛ لأن وجود النسخ من المسَلَّمَات في الشريعة، والناسخ يختلف عن المنسوخ؛ فيكون هذا الدليل على عمومه غير مسلم، وخاصة

1 التمهيد للأسنوي ص: 415، والبرهان للجويني مخطوط، وإرشاد الفحول ص: 165، وأبرز القواعد المؤثرة في اختلاف الفقهاء د. عمر عبد العزيز ص: 92، القسم المقرر على السنة الأولى التمهيدية بالدراسات العليا بالجامعة عام 1389هـ.

ص: 270

إذا علمنا أن الكلام ما هو إلا الألفاظ الدالة على المعاني، ولا خفاء في تكثرها وتعددها.

وكذلك القرآن والسنة فيهما الأحكام المختلفة ففيهما المنفي والمثبت والأمر والنهي وغير ذلك ومع العلم بهذا كله فقد لا يقبل حمل خطاباته المختلفة على حكم واحد1.

واستدلوا أيضاً:

فقالوا: إن حمل المطلق على المقيد يتمشى مع سنن العرب في كلامها، حيث تطلق الحُكْمَ في موضعٍ وتقيِّدُه في موضع آخر، ومرادها بالمطلق المقيد، ويكون ذلك من جنس المحذوف الذي دل الكلام على تقديره.

قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما عند

ك راض والرأي مختلف2

1 العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى ص: 640.

2 هذا البيت نسبه سيبويه في كتابه 1/37-38 إلى قيس بن الحطيم، واستشهد به المبرد في كتابه المقتضب 3/112، ولم ينسبه لأحد، أما البغدادي في كتابه خزانة الأدب 4/283، مع تحقيق عبد السلام هارون، فقد نسبه إلى الشاعر عمرو بن امرئ القيس، ثم بين غلط من نسب البيت إلى قيس بن حطيم لقوله، وعرف من إيرادنا لهذه القصائد ما وقع من التخليط بين هذه القصائد كما فعل ابن السيد واللخمي في شرح أبيات الجمل، وتبعهما العيني والعباسي في شرح أبيات لتلخيص، فإنهم جعلوا ما نقلناه من شعر قيس بن الحطيم مطلع القصيدة ثم أورد فيها البيت الشاهد، والحال أن هذا البيت من قصيدة عمرو بن امرئ القيس.

راجع بالإضافة إلى ما سبق تعليق الأستاذ محمد عبد الخالق عظيمه على هامش مقتضب 3/113-122، والعدة في أصول الفقه 2/641 تحقيق د. أحمد بن علي سير المباركي ط ألوى سنة 1400هـ مؤسسة الرسالة بيروت.

ص: 271

ففي هذا البيت كلاماً محذوفاً في قوله: (نحن بما عندنا) وتقديره راضون1، وقد دل على هذا التقدير قوله:(وأنت بما عندك راض) .

وقول الآخر:

وما أدري إذا يممت أرضاً

أريد الخير أيهما يليني

أألخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني2

فإن في البيت الأول كلاماً محذوفاً بعد قوله: (أريد الخير) تقدير. (وأتوقى الشر) وقد أهمل الشاعر ذكره اكتفاء بدلالة التقابل عليه في قوله: (أريد الخير) في الشطر الثاني من البيت الأول، وكذلك قوله في البيت الثاني:

1 الواضح لابن عقيل مخطوط والتمهيد لأبي الخطاط لوحة: 70.

2 البيتان للشاعر الجاهلي المثقف العبدي، عائذ بن محصن.

ينظر في نسبة البيت إلى الشاعر المذكور الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/396، بتحقيق أحمد شاكر، ط ثانية دار المعارف بمصر سنة 1976م ومعاني القرآن للفراء1/231، وشرح اختيارات المفضل للخطيب التبريزي 3/1267، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص: 228، والخزانة للبغدادي 4/29 طبعة بولاق.

ص: 272

الثاني: (أم الشر) دليل آخر على تقدير المحذوف وتعينه.

ثم قالوا: إن القرآن نزل باللغة العربية موافقاً لقوانين العرب في كلامها.

وقد علمنا من كلامهم أنهم يطلقون اللفظ في موضع ويقيدونه في موضع آخر، ويكون المراد من المطلق المقيد وقد وجد هذا الأسلوب في القرآن فعلاً1، قال تعالى:{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} 2، والتقدير والحافظات فروجهن والذاكرات الله كثيراً.

وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} 3، والتقدير: وعن اليمين قعيد.

والجواب أن ذلك كله مُسَلَّم، ولكن بعد إقامة الدليل على إرادة التقييد ونصب القرينة التي تعين المحذوف، وما ذكر من الآيات القرآنية ومن الأمثلة الشرعية، قد قام الدليل على إرادة المحذوف وتعينه فيها، فهو في البيت الأول العطف حيث عطف (وأنت بما عندك راضي) على قوله، نحن بما عندنا، فدل ذلك على أن التقدير:(نحن بما عندنا راضوان) .

1 المرجع الأسبق لوحة 131، والعدة لأبي يعلى في أصول الفقه 2/640.

2 سورة الأحزاب آية: 35.

3 سورة ق آية: 17.

ص: 273

وكذلك الشأن في البيت الثاني: دل (الضمير المثنى) في قوله: (أريد الخير أيهما يليني) على أنه عائد إلى شيئين، ولم يتقدمه في اللفظ إلا شيء واحد، وهو قوله:(أريد الخير)، فدل على أن الشيء الآخر محذوف فسره في البيت الثاني بقوله:(أم الشر) ، وهذا دليل على أن المحذوف يقدر (وأتوقى الشر) كما بينا ذلك فيما سبق.

وأما الآيات: فدلالة العطف فيها صريحة وظاهرة في اعتبار وتعيين المحذوف.

وعليه فلا دلالة لهم فيها على حمل المطلق على المقيد لمجرد الورود فقط.

ثم لو سلمنا أن الأمثلة التي ذكروها ينطبق عليها تعريف المطلق والمقيد اصطلاحاً؛ فإنها تختلف عن المسألة التي نحن بصدد الحديث عنها، لأن ما ادعى فيه الإطلاق والتقييد من تلك الأمثلة الشعرية والآيات قد ورد فيه المطلق والمقيد في كلام واحد لا يستقل أحدهما عن الآخر فيه، بتمام الفائدة، بخلاف كفارة القتل الخطأ والظهار، فقد ورد كل من المطلق والمقيد في نصين يستقل أحدهما عن الآخر بتمام الفائدة، فلا يقاس ما هو مستقل بنفسه على ما ليس بمستقل في ذاته.

بقي أن نقول: إن الدليل على التقييد إما أن يكون مذكوراً في اللفظ كما في الأمثلة التي سبقت حيث دل العطف والإضمار على تقدير

ص: 274

المحذوف وتعينه، وهذا غير حاصل في كفارة الظهار والقتل، وإما أن يكون من جهة الحكم بأن يتفق الحكمان في علة التقييد، وهذا حمل عن طريق القياس، وليس كلامنا فيه الآن يؤيد ذلك ما نقل الغزالي عن الشافعي من أن الحمل في هذه الحال موقوف على الدليل، حيث ذكر الغزالي في المستصفى قول الشافعي:"إن قام دليل حمل المطلق على المقيد، ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم"1، ومفهوم ذلك أنه إذا لم يكن بينهما علاقة لا يحمل المطلق على المقيد كما لو كانا جنسين2.

قال أبو الخطاب3 الحنبلي: "وارتكاب هذا المنع"، يعني عدم حمل المطلق على المقيد لمجرد الورود (الفقه باللغة) 4، ويقول الغزالي في الرد على القول بحمل المطلق على المقيد لمجرد الورود من غير حاجة إلى دليل:

1 المستصفى 1/186.

2 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/314.

3 أبو الخطاب: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني، نسبة إلى كلوذي قرية ببغداد ولد سنة 432، وهو شيخ الحنابلة وأحد المجتهدين في مذهبهم، كان إماماً صالحاً ورعاً مع غزارة في العلم وحسن المحاضرة، تخرج به أئمة كثيرون. وله عدة مصنفات منها: التمهيد في أصول الفقه مخطوط، والهداية في الفقه، توفي رحمه الله سنة 510هـ.

انظر: طبقات الأصوليين 2/258، ومناقب الإمام أحمد ص:527.

4 التمهيد لأبي الخطاب ص: 70.

ص: 275

"وهذا تحكم محض يخالف وضع اللغة"1، إذ ليس بأن يقيد به أولى من أن لا يقيد به، وكما يجوز أن تكون المصلحة فيهما التقيد يجوز أن تكون المصلحة فيهما أيضاً أن يبقى أحدهما مطلقاً والآخر مقيداً.

ومن أدلتهم أيضاً:

أن الله سبحانه وتعالى: لما قيد الشهادة باشتراط العدالة في الشهود في الوصية والرجعة، وأطلق في مواضع أخرى، كانت العدالة شرطاً في الجميع، وإنما حملت الشهادة المطلقة على المقيدة لاشتراكهما في اسم الشهادة، فكذا يكون الحكم في كفارة الظهار مع كفارة القتل الخطأ، لأن الكل كفارة بتحرير رقبة واجبة.

وقد أجيب عن هذا الدليل:

بأن تقييد الشهادة بالعدالة في بقية المواضع، لم يكن لمجرد الاشتراك في الاسم، بل كان لدليل قام على ذلك وفيه يقول الرازي:(وإنما قيدناه بالإجماع) 2، علماً أنه قد ورد النص برد شهادة الفاسق قال الله تعالى:{إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3، فلا يقبل في الشهادة إلا عدل لهذا

1 المستصفى للغزالي ص: 185.

2 المحصول للرازي مخطوط.

3 سورة الحجرات آية: 6.

ص: 276

النص1، ثم إن المعنى في الشهادة ضبط الحقوق وحفظها من الضياع، وذلك لا يكون إلا بشهادة عدل في جميع الشهادات.

ومن أدلتهم أيضاً: الأدلة الأربعة التي ذكرناها في حال اتحاد الحكم والسبب، وهي أدلة مسلمة ولكن الحمل فيها لم يكن لمجرد الورود، بل لدليل آخر، وإذا وجد الدليل خرجت المسألة عن محل النزاع2.

ثالثاً: أدلة القائلين بالحمل قياساً:

استدل القائلون بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس بعدة أدلة منها:

1 -

ما روى عن معاوية بن الحكم السلمي3 قال: "كانت لي جارية ترعى غنماً قبل أُحُد، والجوانية4، فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون،

1 التمهيد لأبي الخطاب ص: 69.

2 الأحكام للآمدي 2/112، والتوضيح 1/64، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص:134.

3 معاوية بن الحكم السلمي صحابي نزل المدينة، روى عنه البخاري في جزء القراءة، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، والنسائي في سننه. تقريب التهذيب ص:341، سير أعلام النبلاء للذهبي.

4 موضعان بالمدينة.

ص: 277

لكني صككتها صكة، فعظم عليّ ذلك فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت له: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال لها: أين الله، قالت: في السماء، قال: من أنا، قالت: أنت رسول الله، قال:" أعتقها فإنها مؤمنة"1.

ووجه الدلالة من هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم علل جواز إعتاقها في التكفير عن لطمته إياها بأنها مؤمنة، فدل ذلك على أنه لا يجزئه في التكفير عن لطمته إلا أن تكون مؤمنة2، وإذا كان الأمر كذلك في تكفير لطمة، فمن باب أولى أن لا يجزئه في الكفارات الواجبة، كالظهار واليمين إلا رقبة مؤمنة.

1 رواه مسلم في كتاب المساجد باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته 1/381، وشرح النووي على مسلم 5/23-24 المطبعة المصرية ومكتبتها، وأبو داود 9/106-109 ط 2 سنة 1388هـ مع شرحه عون المعبود وشرح ابن قيم الجوزية الناشر محمد عبد المحسن المكتبة السلفية بالمدينة رقم الحديث 3260-3262، ونيل الأوطار 6/292 ط أخيرة البابي الحلبي، والترمذي 2/335 رقم الحديث 1215ط توزيع المكتبة السلفية مطبعة المدني.

2 وممن استدل بهذا الحديث على وجوب الحمل: ابن قدامة في المغني 8/358-360، والشنقيطي في أضواء البيان 6/547.

وينظر في ذلك: أفعال الرسول ودلالتها على الأحكام د. سليمان الأشقر ص: 23.

ص: 278

وقد اعترض الحنفية على هذا الاستدلال:

وقالوا: هذا الحديث لا يعرف تاريخ وروده، ولا يجوز أن يكون مقارناً لنزول المطلق، لأنه لو كان مقارناً له لنقله إلينا من نقل النص المطلق؛ لأن الظاهر أنه بيان للمراد من المطلق، وبيان المطلق لا يجوز تأخيره عندنا، وعندئذ فيحتمل أن يكون ورد قبل المطلق فيكون منسوخاً به، ويحتمل أن يكون متأخراً، فيكون زيادة على النص المطلق، والزيادة على النص نسخ عندنا، وهي لا تجوز بأخبار الآحاد.

وحاصل الاعتراض أنه تعارض النص المطلق مع المقيد، وجهل التأريخ بينهما فيقدم العمل بالمطلق، لأنه متواتر.

ودفع هذا الاعتراض بما يلي:

أولاً: إن منعكم جواز تأخير بيان المطلق غير مسلم، لما تقدم من جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.

ثانياً: إن قولكم: الزيادة على النص نسخ، وهي لا تجوز بأخبار الآحاد أيضاً في حيز المنع، وسيأتي لذلك مزيد من الإيضاح في مبحث الزيادة.

2 -

واستدلوا أيضاً: بأن تقييد المطلق كتخصيص العام؛ لأن المطلق عام على سبيل البدل، وتخصيص العام بالقياس جائز، فكذلك تقييد المطلق

ص: 279

يجوز به، لعدم الفرق1.

وقد اعترض هذا الدليل صدر الشريعة الحنفي، وقال: إن جواز تخصيص العام بالقياس لا يجوز عندنا إلا إذا خص العام أولاً، بدليل قطعي، والمطلق هنا لم يقيد بدليل قطعي أولاً حتى يجوز تقييده بالقياس ثانياً.

والخلاف في جواز تقييد المطلق بالقياس ابتداء، فلا يكون تقييد المطلق كتخصيص العام2 على الإطلاق.

ودفع هذا الاعتراض من قبل الجمهور، بأنه إذا جاز أن يخص بالقياس العام الذي دخله التخصيص جاز أن يخص به ما لم يدخله التخصيص؛ لأن العموم والإطلاق وإن خصا فمعناهما معقول، كما أن جواز تخصيص العام بالقياس ثانياً، إنما جاز لمنافاة ما بقي بعد التخصيص الأول، للدليل المخصص ثانياً، وهذا المعنى، وهو: المنافاة بين الدليل المخصص والعام، موجود في المطلق والعام قبل تخصيصهما، فيجب أن يكون ما دخله التخصيص وما لم يدخله في الحكم سواء3، لاشتراكهما

1 روضة الناظر لابن قدامة ص: 137، والبدخشي على المنهاج ص: 139، وشرح مختصر ابن الحاجب 2/157، والتمهيد لأبي الخطاب، والمحصول للرازي.

2 التوضيح لصدر الشريعة 1/380.

3 العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى ص: 558، تحقيق أحمد سير المباركي، والتمهيد لأبي الخطاب -مخطوط.

ص: 280

في علة التخصيص.

3 -

واستدلوا ثالثاً: فقالوا: إنه متى توفر قياس صحيح بين المطلق والمقيد وجبت التسوية بينهما في الحكم الذي يقتضيه القياس1؛ لأن القياس دليل شرعي يجب العمل بمقتضاه وبخصوص مسألتنا، فقد توفر جامع صحيح بين كفارة الظهار والقتل، وهو أن كلاً منهما يقتضي تكفيراً بعتق رقبة واجبة2، فيجب حمل الإطلاق في كفارة الظهار على التقييد في كفارة القتل الخطأ، وعندئذ فلا يجزئ إلا عتق رقبة مؤمنة في كفارة الظهار قياساً لها على كفارة القتل الخطأ3، وذلك لما يلي:

أولاً: أن في حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحال جمعاً بين الأدلة وعملاً بها جميعاً، وفي عدم الحمل إعمال لدليل واحد وترك لدليلين، وبيان ذلك: أن القياس إذا اقتضى حمل المطلق على المقيد ثم عمل بمقتضى هذا القياس، فقد عمل بالقياس والدليل المطلق والمقيد، وفي عدم الحمل ترك لمقتضى القياس وترك لمفهوم القيد، وقد علم أن إعمال الأدلة جميعاً أولى من إعمال بعضها وترك بعضها الآخر4.

1 المحصول للرازي مخطوط.

2 مفاتح الوصول إلى علم الأصول للشريف التلمساني ص: 108.

3 المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 8/585.

4 شرح الأسنوي على منهاج العقول ص: 139.

ص: 281

ثانياً: وبخصوص مسألتنا قد وجد ما يرجح العمل بالقياس، وهو أن الجميع كفارة، والعتق صدقة على العبد المعتق نفسه، ومن شروط القابض للقربات الواجبة الإيمان، كالزكاة فإنها لا تجزئ إلا بدفها لمؤمن، وهذه علة اعتبار الإيمان في كفارة القتل الخطأ، وذلك موجود بعينه في كفارة الظهار، فوجب اعتبار الإيمان فيها1.

وحيث سبقت اعتراضات الحنفية على الحمل بطريق القياس ورد الجمهور عليهم فلا داعي لذكرها مرة أخرى.

ومما يستأنس به لمذهب الجمهور قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} 2، ولا خبث أشد من الكفر، وقوله تعالى:{وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} 3.

وإعتاق الكافر ينافي الغلظة المطلوبة في هذه الآية.

الترجيح:

بعد أن عرضنا لأقوال العلماء في حكم حمل المطلق على المقيد في حال اتحاد الحكم واختلاف السبب، هناك آراء لبعض أصحاب

1 مفتاح الوصول ص: 108، وإرشاد الفحول ص: 165، حيث يقول: ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل.

2 سورة البقرة آية: 267، والمبسوط 2/7.

3 سورة التوبة آية: 73، والبحر الزخار 4/232.

ص: 282

الأصول في بيان الراجح، فهم وإن اتفقوا في الجملة على منع الحمل بطريق اللغة، إلا أنه لم يظهر لبعضهم وجه الترجيح، فتوقف وسلك بعضهم التفصيل، وإتماماً للفائدة سأذكر آراءهم فيما يلي ثم أتبعه بما أراه أقرب للصواب.

المذهب الأول:

1 -

من توقف في حكم الحمل لتقابل الأدلة، ومن هؤلاء الجويني1 من الشافعية، والطوفي من الحنابلة حيث يقول:"والبحث متقابل من الطرفين"2.

المذهب الثاني:

ما اختاره الآمدي وابن الحاجب وهو أنه يجب تقييد المطلق، إذا كان الوصف الجامع بينهما مؤثراً أي: ثابتاً بنص أو إجماع، وإن كان مستنبطاً من الحكم فلا يجوز التقييد3.

1 الجويني هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي ركن الدين الملقب بإمام الحرمين لمجاورته لهما، ولد سنة 419 وهو أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي، ومن مؤلفاته البرهان في أصول الفقه، توفي سنة 478.

راجع وفيات الأعيان 1/287، والأعلام 4/306.

2 شرح الطوفي لمختصر الروضة 2/261، مخطوط بمكتبة الحرم المكي.

3 الأحكام للآمدي 3/7.

ص: 283

المذهب الثالث:

ما رآه الغزالي: وهو أن رأيه في هذه المسألة كرأيه في تخصيص العموم بالقياس1، والمختار عنده في تخصيص العام بالقياس أن العموم يفيد ظناً، والقياس يفيد ظناً أيضاً، وقد يكون أحدهما أقوى من الآخر في نفس المجتهد فيلزمه اتباع الأقوى، والعموم تارة يضعف فلا يقوى على معارضة القياس، وتارة يقوى فيقدم على القياس، فلا يبعد أن يكون قياس أقوى وأغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف، فيقدم الأقوى2، والذي يبدو من كلام الغزالي اختيار القول بتقييد المطلق بالقياس في هذه المسألة، لأن إطلاق الرقبة ضعيف في دلالته على إجزاء الكافرة فيقدم القياس عليه.

والذي يترجح عندي هو القول بحمل المطلق على المقيد بطريق القياس الصحيح، بناء على العرض السابق لأقوال العلماء ومناقشة أدلتهم وذلك لما يلي:

1 -

إن أدلة القائلين بالحمل بطريق القياس أقوى من غيرها، ولم يأت الفريق الآخر بما يصلح أن يكون معارضاً لها.

1 المستصفى 2/186.

2 المرجع السابق 2/132.

ص: 284

2 -

إن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما، كما أن وحدة الكلام مهما قيل في شأنها فهي بمعنى تجانس الأحكام وتقاربها وعدم المنافاة بينها.

ص: 285

ب - دخول الإطلاق والتقييد على السبب:

وهذه الصورة تحتها حالة واحدة، وهي:

إذا اتحد المطلق والمقيد حكماً وسبباً وكان الإطلاق داخلاً على السبب ومن أمثلتها: ما روي عن ابن عمر1 رضي الله عنهما قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين. وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة"2.

1 ابن عمر هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي أبو عبد الرحمن ولد بعد البعثة بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة 73 آخرها أو أول التي تليها.

تقريب التهذيب ص: 182، والإصابة رقم: 4825 وقارن بعلوم الحديث ومصطلحه د. صبحي الصالح ص: 363.

2 متفق عليهما، فقد أخرجهما البخاري في باب زكاة الفظر عن الحر والمملوك 2/168، ومسلم في كتاب الزكاة 2/677 باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير رقم الحديث: 984 ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي، ونشر إحياء التراث العربي بيروت، وأحمد 2/63، كلهم عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وفيه: (من المسلمين وفي سبيل السلام 2/173 متفق عليه.

ثم ذكر الكلام الطويل حول زيادة من المسلمين، وقال: وعلى كل حال فهي زيادة من عدل فتقبل.

وفي إرواء الغليل 3/314 جمع لطرق الحديثين فصحح الأول وحَسَّنَ الثاني، لكن الثاني في إرواء الغليل ذكر بلفظ:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون" ثم قال: رواه الدارقطني والبيهقي 3/161، وجمع طرقه وقال: إنه يرتقي إلى درجة الحسن 3/319 -321، وينظر في الأم للشافعي مختصر المزني ص: 54، دار المعرفة للطباعة والنشر.

ص: 286

وورد في رواية أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر أو قال رمضان، على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير وقال: فعدل الناس بها إلى نصف صاع من بر على الصغير والكبير".

فالنص الأول والثاني وردا متحدين في الواقعة، وهي صدقة الفطر واتحد فيهما الحكم وهو وجوب صدقة الفطر، لكن سبب الحكم وهو من يمونه المزكي ورد في النص الأول مقيداً بكونه من المسلمين أي: أنه جعل سبب الوجوب رأساً يمونه المسلم، وله عليه ولاية بشرط كونه من المسلمين، بينما النص الثاني جعل السبب في وجوب الزكاة رأساً يمونه المزكي مطلقاً.

ولا خلاف بين العلماء في أن صدقة الفطر تجب على المسلم عن نفسه وعن من يلي أمره من المسلمين.

لكن الخلاف جار فيما لو وجد كافر تلزم المسلم مؤنته كرقيقه

ص: 287

مثلاً: هل تجب على المسلم صدقة الفطر عن عبده الكافر، نظراً للإطلاق الوارد في الرواية الثانية؟ أو أنها لا تجب عليه لكونه كافراً عملاً بمفهوم القيد الوارد في النص الأول، وهو قوله:(من المسلمين) .

اختلف العلماء في هذه المسألة:

1 -

فذهب الجمهور: إلى أنه لا تجب صدقة الفطر على المسلم عمن تلزمه مؤونته من غير المسلمين، نظراً للقيد الوارد في النص الأول، وهو قوله:(من المسلمين) ويحملون المطلق على المقيد في هذه الحال وأمثالها لاتحاد الحكم والواقعة فيها1.

2 -

وذهب الحنفية: إلى وجوب صدقة الفطر على الشخص المسلم عن كل من تلزم مؤونته - ولو كافراً - نظراً للإطلاق الوارد في الحديث الثاني، وقالوا: بعدم حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحالة، بل يبقى المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده لانتفاء التعارض بينهما2.

1 المغني لابن قدامة 3/56، وبداية المجتهد لابن رشد 1/214، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص: 135، والمهذب للشيرازي 1/163، وحاشية الدسوقي على الدردير 1/505، ونيل الأوطار 2/754.

2 المبسوط 3/104، وبدائع الصنائع 2/962، والهداية مع فتح القدير 2/35، وقد قال بمذهب الحنفية ابن حزم الظاهري: لأنه صح عنده إلى جانب رواية ابن عمر: (من المسلمين) رواية أبي هريرة رضي الله عنه "ليس على المسلم في فرسه وعبده صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق"، فعمل بهذه الرواية، لأن ما فيها زائد على ما جاء في رواية ابن عمر ولا تعارض بين الروايتين فوجبت تأدية زكاة الفطر على السيد عن رقيقه لا على الرقيق.

المحلى 6/133، وتفسير النصوص 2/205، وأجاب الجمهور عن هذه الرواية بأن قوله:(عبده) عام لأنه مضاف إلى الهاء، وقوله (من المسلمين) خاص، والخاص يقدم على العام عند التعارض، فيكون المراد عن عبده المسلم؛ لأن الرواية الخاصة فسرت الرواية العامة، والجمع بينهما ممكن، فيكون أولى من ضرب الأدلة بعضها ببعض ثم إسقاطها.

ص: 288

واستدل الجمهور: على حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة، بالأدلة الأربعة التي سبق أن استدلوا بها في حال اتحاد الحكم والسبب.

1 -

من كون المطلق ساكتاً عن القيد، والمقيد ناطقاً به، وإذا تعارض النطق والسكوت كان الناطق أولى بالقبول.

2 -

وكون الحكيم إنما يزيد في الكلام لزيادة في البيان، فكانت زيادة القيد بياناً للمراد من المطلق على التفصيل الذي سبق1.

ثم أضافوا إلى ذلك التعليل التالي:

حيث قالوا: إن الحكم متى كان واحداً والحادثة موضوعه واحدة،

1 أصول الأحكام للشيخ منصور ص: 250، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص: 135، وأبرز القواعد الأصولية المؤثرة في اختلاف الفقهاء د. محمد عبد العزيز القسم المقرر على الدراسات العليا في شعبة الأصول لعام 1389هـ ص:97-98، والأحكام للآمدي 2/112، والتوضيح لصدر الشريعة 1/64.

ص: 289

فإن الإطلاق والتقييد عندئذ يكونان قد وردا على شيء واحد، والشيء الواحد لا يجوز أن يكون مطلقاً ومقيداً في آن واحد، للتنافي بينهما.

ودفعاً لهذا التنافي الظاهري يحمل المطلق على المقيد.

ب - وأما الحنفية: فقد استدلوا على عدم حمل المطلق على المقيد هنا بأدلة منها:

1 -

إن التقييد والإطلاق وردا في سبب الحكم فأحد النصين جعل مؤونة الرأس مطلقاً، سواء كان مؤمناً أو كافراً سبباً لوجوب صدقة الفطر، والنص الآخر جعل السبب مؤونة الرأس المسلم فيكون الإطلاق والتقييد قد دخلا على السبب، ولا مزاحمة في الأسباب؛ لجواز أن يكون للحكم الواحد عدة أسباب على سبيل البدل عند المانعين من تعدد العلة أو على سبيل الاجتماع عند القائلين بتجزئتها.

مثال ذلك: ملك المال، فإنه شيء واحد وله عدة أسباب يثبت بكل منها على سبيل البدل كالإرث والهبة، والبيع والشراء، وإذا انتفت المزاحمة بين المطلق والمقيد وجب العمل بكل منهما على مقتضاه1، وقد اعترض هذا الدليل بأن المنافاة بين سببية المطلق والمقيد متصورة؛ لأن معنى كون كل منهما سبباً أن يكون سبباً تاماً في وجوب صدقة الفطر، وتمامية

1 أصول السرخسي 1/269، وكشف الأسرار 2/295.

ص: 290

السبب تقتضي عدم الحاجة إلى سبب آخر، وبناء على ذلك فلو كان المطلق سبباً تاماً في الوجوب لمنع الاحتياج إلى سببية المقيد، ولكنه لم يمنع ذلك، ومن هنا ظهرت المنافاة بين تمامية السبب المطلق مع تمامية السبب المقيد، ودفعاً لتلك المنافاة ينبغي حمل المطلق على المقيد1.

2 -

واستدلوا ثانياً:

بأن في إبقاء المطلق على إطلاقه في هذه الحال احتياطاً، ومراعاة الاحتياط في الأحكام الشرعية أحوط، ووجه الاحتياط أنه عند إبقاء المطلق على إطلاقه تجب صدقة الفطر مع السبب المطلق ومع السبب المقيد، وأما عند الحمل فلا تجب إلا مع السبب المقيد فقط ووجوب الصدقة في الحالين أقرب إلى الاحتياط من وجوبها في حال واحدة.

ويمكن أن يدفع هذه الدليل بأن ذلك مسلم لو لم يكن هناك دليل على التقييد من قبل الشارع، وأما عند وجود الدليل، وهو هنا اتحاد الحكم والحادثة ومساندة الأدلة السابقة لذلك، فلا مجال لاعتبار الاحتياط مع وجود الدليل.

3 -

ويمكن أن يستدل للحنفية بما يعتبره بعض الأصوليين مذهباً ثالثاً في المسألة، وهو أن المقيد هو الذي يحمل على المطلق في هذه الحال، غير

1 مسلم الثبوت 1/367، وأبرز القواعد المؤثرة في اختلاف الفقهاء ص:98.

ص: 291

أنهم لا يعنون به أن المقيد يراد به المطلق، إذ لو عنوا به ذلك لأدى قولهم إلى إلغاء القيد، وهو ممتنع1، بل يريدون أن سببية المقيد منتزعة من سببية المطلق، لأن المطلق سبب حقيقة، والمقيد مشتمل على السبب الحقيقي، لكون المطلق جزءاً من المقيد كما سبق فسببية المقيد جاءت من اشتماله على السب الحقيقي وهو المطلق، وإطلاق السبب على ما هو مشتمل علي السبب الحقيقي شائع، وفي ذلك يقول صاحب مسلم الثبوت:"فالحق أن يحمل ههنا المقيد على المطلق، لا بمعنى أن المراد منه ذلك، بل بمعنى أن المقيد سبب؛ لأن المطلق سبب وبينهما بون".

ثم قال شارح المسلم معللاً لذلك: إن الأول "يعني حمل المقيد على المطلق بمعنى أنه يراد منه المطلق من قبيل المجاز، وهو ذكر المقيد وإرادة المطلق، بخلاف الحمل بالمعنى الثاني، فإنه حقيقة إلا أن الحكم على المقيد لاشتماله على المطلق، ثم قال الشارح: إن ذلك كلام وجيه، ويمكن حمل كلام الحنفية عليه، فإن إطلاق السبب على ما هو مشتمل على السبب شائع، كما يقال: هذه الدعامة سبب لبقاء السقف وبناء على هذا التوجيه، فلا يكون في المسألة إلا مذهبان لأن ما ادعاه بعض أصحاب الأصول مذهباً ثالثاً هو في الحقيقة يلتقي مع مذهب الحنفية في إبقاء المطلق

1 مسلم الثبوت 1/367.

ص: 292

على إطلاقه وإن كان يختلف عنه في التعبير والتعليل".

الترجيح:

والذي نميل إليه هو حمل المطلق على المقيد دون ما حاجة إلى دليل كما في الحالة الأولى، لوجود التنافي بين النصين - المطلق والمقيد - ووجه ما اخترناه أن الزكاة بمقتضى النص المقيد لا تجب عمن يمونه المسلم إلا إذا كان مسلماً على حين يوجبها النص المطلق عن جميع من يمونهم الشخص المسلم، ولو كفاراً، وحسبنا هذا دليلاً على التنافي بين النصين أن المسلم مطالب على أحدهما بإخراج زكاة الفطر عن الكافر إذا كان يمونه، وليس مطالباً على النص الآخر بإخراج هذه الزكاة عنه1، وخاصة إذا علمنا أن أكثر ما عول عليه الحنفية في عدم حمل المطلق على المقيد هنا هو أن الإطلاق والتقييد داخلان على السبب ولا مزاحمة في الأسباب.

وهذه القاعدة لم يلتزموا بها عند التطبيق في بعض النصوص، فهم وإن كانوا قد التزموها في صدقة الفطر وأجروا المطلق على إطلاقه حتى أوجبوا صدقة الفطر على المسلم عن كل من يمونه سواء كان مسلماً أو غير مسلم، إلا أنهم خالفوها في كثير من التطبيقات ومن ذلك وجوب الزكاة في الغنم.

حيث روي في إيجاب الزكاة فيها عدد من النصوص، كان فيها

1 النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد ص: 153.

ص: 293

اختلاف في الإطلاق والتقييد، فقد جاءت النعم في بعض النصوص مطلقة عن أي قيد وجاءت في بعضها الآخر مقيدة بصفة السوم.

فمثال النص المطلق قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإبل شاة" 1، وروى "في خمس من الإبل السائمة شاة"2.

وكلتا الروايتين في الصحيح، وواضح أن الإطلاق والتقييد قد جاءا في سبب الحكم والموضوع واحد وهو الزكاة، فحمل الشافعية المطلق على المقيد، وأوجبوا الزكاة في السائمة فقط، ووافقهم على ذلك الحنفية حيث أوجبوا الزكاة في السائمة دون المعلوفة والعاملة.

وكان مقتضى قاعدتهم السابقة أن يوجبوا الزكاة في السائمة

1 هذه الرواية من حديث الصدقة في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عماله الذي رواه سالم عن أبيه. قال الألباني الحديث بطوله أخرجه أصحاب السنن: أبو دواد 2/96، باب زكاة السائمة رقم الحديث 1567، والترمذي 2/70، رقم الحديث 624، وقال عنه: حديث حسن صحيح، وأحمد 2/14، 15، كلهم من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عنه، وقال الحاكم: وتصحيحه على شرط الشيخين، وروي عن البخاري أنه قال: الحديث أرجو أن يكون محفوظاً، وسفيان بن حسين صدوق.

2 وهذه الرواية من حديث الفرائض والسنن والديات في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن الذي رواه أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده.

انظر: السنن الكبرى للبيهقي: 4/98-102، والمحلى لابن حزم 6/46، بتحقيق أحمد شاكر توزيع دار المعرفة بيروت، ونصب الراية لزيلعي 2/338-343، ط 2/1393، وفتح الباري 3/316-317.

ص: 294

والمعلوفة على حد سواء، ويعتبروا كلا منهما سبباً للحكم كما قالوا في زكاة الفطر1.

وما أجيب به عن الحنفية من أن مأخذهم إيجاب الزكاة في السائمة دون المعلوفة، لم يكن من طريق حمل المطلق على المقيد، وإنما كان بطريق النسخ، حيث يدعون أن النص المقيد جاء متأخراً عن النص المطلق، فكان ناسخاً له في غير السائمة، إنما يتم هذا جواباً لو كان الحنفية يأخذون بمفهوم الوصف الذي ورد في المقيد حتى يكون حينئذ بين النصين تعارض، ويكون المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، إذا لم يمكن الجمع وعرف التاريخ، وفي مسألتنا الجمع ممكن، والحنفية لا يقولون بمفهوم القيد؛ فلا يكون هناك تعارض بين النصين، وإذا لم يوجد التعارض امتنع النسخ2.

ثم إن جواب الحنفية السابق لا يجدي ولو سلم؛ لأن المنطوق أقوى دلالة من المفهوم فيعمل به، ويكون السبب مطلق ملك النعم3، وهكذا نرى أن الحنفية قد اتفقوا مع الشافعية في هذا الحكم، وكان المفروض لو أن الحنفية التزموا قاعدة عدم حمل المطلق على المقيد عندما يكون الإطلاق والتقييد داخلين على السبب أن يكون مذهبهم موافقاً لمذهب المالكية، وهو

1 تفسير النصوص د. أديب صالح 2/208.

2 تفسير النصوص د. أديب صالح 2/208.

3 أسباب اختلاف الفقهاء للأستاذ الحفيف ص: 136، معهد الدراسات العربية بالقاهرة.

ص: 295

وجوب الزكاة في السوائم وغيرها1، وإن كان لهم أن يجيبوا بأن الأصل عدم الزكاة. ثم جعل الرسول الزكاة في السوائم فالتزمنا بهديه صلى الله عليه وسلم2.

ومن الفروع التي خالف فيها الحنفية هذه القاعدة تحريم الدم، فقد وردت فيه آيتان الأولى تفيد أن الدم المطلق حرام لقوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 3، والثانية تفيد أن الدم المحرم هو الدم المسفوح فقط، قال تعالى:{قُل لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} 4، والإطلاق والتقييد دخلاً على السبب وهو الدم، فكان مقتضى قاعدة الحنفية أن يحرم الدم المطلق بالنص المطلق والمسفوح بالنص المقيد، ولكنهم مع الجمهور يقولون: إن المحرم من الدم هو المسفوح فقط، ولعل عذرهم في ذلك أن الدم الذي لا يمكن الاحتراز منه مثل: ما يبقى في العروق والرغوة التي تعلو اللحم عند طبخه معفو عنه بمقتضى قاعدة وضع الحرج والتيسير في الشريعة5.

1 حاشية الدسوقي على الدردير 1/432.

2 تفسير النصوص د. أديب محمد صالح 2/208.

3 سورة المائدة آية: 3.

4 سورة الأنعام آية: 145.

5 النسخ في القرآن للدكتور مصطفى زيد.

ص: 296