المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامن عشر: العرب والرومان - المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام - جـ ٣

[جواد علي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌الفصل السابع عشر: العرب واليونان

- ‌الفصل الثامن عشر: العرب والرومان

- ‌الفصل التاسع عشر: الدولة المعينية

- ‌مدخل

- ‌ملوك معين:

- ‌حكومات عدن:

- ‌مملكة كمنه:

- ‌حكومة معين:

- ‌نقود معينية:

- ‌الحياة الدينية:

- ‌مدن معين:

- ‌قوائم بأسماء حكام معين:

- ‌قائمة "البرايت

- ‌قائمة "ريكمنس

- ‌الفصل العشرون: مملكة حضر موت

- ‌مدخل

- ‌قبائل حضرمية:

- ‌مدن ومواقع حضرمية:

- ‌قائمة هومل:

- ‌قائمة "فلبي

- ‌قائمة "البرايت

- ‌الفصل الحادي والعشرون: حكومة قتبان

- ‌مدخل

- ‌حكام قتبان:

- ‌كتابات وحوادث قتبانية:

- ‌قبائل وأسر قتبانية:

- ‌مدن قتبان:

- ‌قوائم بأسماء حكام قتبان

- ‌مدخل

- ‌قائمة "كليمانت هوار

- ‌قائمة "فلبي

- ‌قائمة "ألبرايت

- ‌الفصل الثاني والعشرون: مملكتا ديدان ولحيان

- ‌الفصل الثالث والعشرون: السبئيون

- ‌مدخل

- ‌المكربون

- ‌مدخل

- ‌مدن سبأ:

- ‌قوائم بأسماء المكربين

- ‌مدخل

- ‌قائمة "هومل

- ‌قائمة "رودو كناكس

- ‌قائمة "فلبي

- ‌قائمة ريمكنس

- ‌الفصل الرابع والعشرون: ملوك سبأ

- ‌مدخل

- ‌قوائم بأسماء ملوك سبأ:

- ‌قائمة "هومل

- ‌قائمة "كليمان هوار

- ‌قائمة "فلبي

- ‌قائمة "ريكمنس

- ‌فهرس: الجزء الثالث:

الفصل: ‌الفصل الثامن عشر: العرب والرومان

‌الفصل الثامن عشر: العرب والرومان

انتهز حكام "رومة" فرصة ضعف خلفاء الإسكندر، وانحلال المملكة العظيمة التى كونها ذلك الفاتح، فاستولوا على مقاطعة "مقدونية" Macedonia وعلى جزر اليونان وآسيا الصغرى وبلاد الشأم وإفريقيا وفي ضمنها مصر، فأصبحوا بذلك كما كان شأن البطالمة على اتصال بالعرب مباشر1. وبهذا الاتصال بدأت علاقات العرب بالرومان.

وقد كان العرب يقيمون في لبنان وفي سورية قبل الميلاد بزمن طويل، وقد اشتغل قسم منهم بالزراعة وتحولوا إلى مزارعين مستوطنين، وتولى قسم منهم حماية الطرق وحراسة القوافل ولا سيما القوافل التي تجتاز طريق الشأم -تدمر- العراق، وقد أشير إلى العرب "السكونيين" أي سكان الخيام Arabes Skynitai الذين كانوا ينزلون البوادي وهم من الأعراب الشماليين2.

استطاع "بومبيوس" Pompeius القائد والقيصر أن يضم بلاد الشأم إلى الأملاك التي استولت عليها رومة، ويجعلها مقاطعة من المقاطعات الرومانية، فكان من نتيجة ذلك اتصال الرومان بالعرب، وبالأعراب الذين كانوا قوة لا يستهان بها على أطراف الشأم، وقد وجد الرومانيون بعد استيلائهم على الشأم ما شجعهم

1 The Historians History of The World، Vol.، VI، London 1908، P.، 3

2 pliny، Nat. His،، VI، 142، Straoo، XVI، 749، 755:Plutarchos: Lucullus; 21; Arabia ; S. 23

ص: 38

على الزحف إلى فلسطين، انتهازًا لفرصة النزاع الداخلي الذي كان بين "هركانوس الثاني Hyrkanus ll وأخيه "أرسطو بولس الثاني" AristobulusII وكان "هيركانوس" قد ذهب إلى "الحارث" Aretas ملك العرب، أي النبط، فارًا من أخيه، ليحميه وليساعده مقابل تنازله عن بعض الأرضين وعن المدن الاثنتي عشرة التي كان "الإسكندر ينايس" Alexander Jennaeus "104- 78 ق. م" قد استولى عليها1 كما ذكرت من قبل، فرأى الرومان في هذه الفوضى فرصة مواتية للتوسع نحو الجنوب.

وقبل أن يجتاز "سكورس" Scaurus بجيوشه حدود أرض "يهوذا" وصلت إليه رسل "أرسطوبولس" Aristobulus تطلب منه مساعدة صاحبهم وتمكينه من أخيه، كما وصلت إليه رسل "هيركانوس" Hyrkanus لترجو منه معاونته لصاحبهم، ومساعدته على شقيقه فتعهد كل طرف من الطرفين بتقديم ما قدمه الآخر، ووافق "سكورس" على تأييد "أرسطوبولس" فكتب إلى "الحارث" ملك العرب، يخيره بين البقاء في القدس والدفاع عنها وعداوة الرومان وبين تركها وترك الدفاع عنها وصداقة القائد، فرأى "الحارث" Aretas الارتحال عنها، وفي أثناء ارتداده حصلت مناوشات بين أتباع الأخوين قرب الأردن، كان النجاح فيها حليف "أرسطوبولس"2.

وفي سنة "64 ق، م" شخص "بومبيوس" نفسه إلى سورية للإشراف على إخضاع جميع أجزائها، وقد طلب منه الأخوان أن يتدخل في حل هذا النزاع، وأن يكون حكمًا بينهما، وقدما له هدايا ثمينة حملته على التفكير في احتلال فلسطين وقد حضرا إلى مقره، وأظهرا له من الضعف والضعة ما دعاه إلى الإسراع في إرسال حملة إلى أرض Aretas ملك العرب، الذي قاوم مقاومة عنيفة، وبعد هذه الحملة احتل القدس وأرض يهوذا وسائر فلسطين، وأمر بإلحاقها بالمقاطعة الرومانية السورية، ونصب عليها "سكورس" حاكمًا، وانتزع من يهوذا مدنًا وقرى ألحقها بهذه المقاطعة، أما مملكة "يهوذا" الصغيرة، فقد أصبحت، من عملها هذا، في حماية الإمبراطورية الرومانية، وأخذ "أرسطوبولس"

1 "103 - 76 ق. م" Dubnow 11 s 154

2 Bubnow ll S 176 F

ص: 39

وأكثر جنوده أسرى، نقلوا إلى "رومة"، وسير بهم في موكب الأسرى الذين جيء بهم من الشرق، للاحتفال بالانتصار العظيم الذي انتصره "بومبيوس"، وذلك في عام "61 ق، م "1.

وعقد "سكورس" الحاكم الروماني اتفاقية مع "الحارث"، حسمًا للنزاع وحدًا لتحرشات العرب بحدود الإمبراطورية، وافق بموجبها "ملك العرب"، أي العرب النبط، على المحافظة على الأمن، وعلى التعاون مع الرومان في هذا الشأن، وقد عثر على نقد ضرب في أيامه، وجدت عليه صورة رمزية تشير إلى هذا الاتفاق2.

وقد ساعد العرب "كاسيوس" Cassius في حوالي السنة "53 ق. م" وساعدوا "كراسوس" Crassus، وذلك في حروبهما مع "الفرث""البارثيين"3 Parther.

وقد عين "يوليوس قيصر" Julius Caesar في حوالي سنة "47 ق، م""انتيباتر" Antipater بمنصب Procurator على اليهودية، وهو من أصل "أدومي"، والأدوميون عرب في رأي كثير من العلماء، وهو والد الملك "هيرود الكبير" Herod ملك اليهود، ومؤسس أسرة معروفة في تأريخ اليهود4، كما عين رجلًا اسمه Cypros وهو عربي من أسرة كبيرة5.

وقد استندت سياسة الرومان ثم سياسة الروم، من بعدهم إلى قاعدة الاستفادة من العرب في حماية المواضع التي يصعب على الرومان أو الروم حمايتها والدفاع عنها، وبذلك مثل تخوم الصحاري، وفي صد هجمات الأعراب المعادين أو الذين يدينون بالولاء للفرس، وفي مهاجمتهم أيضًا ومهاجمة حلفاء أولئك الأعراب المعادين لهم وهم الفرس.

وفي أيام "بومبيوس""بومبي" كان أحد سادات القبائل العربية متحكمًا في البادية المتاخمة لبلاد الشأم، وقد ذكر "سترابون" أن اسمه هو Alchaidamos

1 Dubnow، 11، S.، 18

2 Murry، P.، 101

3 Arabian، S.، 23

4 Die Araber، 1، S. 301، W. Smith، A Dictionnary of The Bible.، Vol. 1; 488; 791.

5 A Dictionnary، I، P. 791

ص: 40

وجعله ملكًا على قبيلة دعاها باسم1 Rhanmbaei وقد كان حلفاء الرومان ثم انقض عليهم وعبر إلى العراق، وذلك لإهانة لحقته من الحاكم الروماني أو من القواد الرومان، ويظهر أنه اجتاز الفرات في سنة "46 ق. م" والتجأ إلى "البارثيين"، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه كان في السنة "53" قبل الميلاد فيما بين النهرين، وأنه كان يقوم بغارات على حدود الشأم. ويظهر أنه ترك البارثيين بعد ذلك وعاد إلى خلفائه الرومان وقد نعته "ديوكاسيوس" Dio Cassius بالتذبذب وبالانتهازية، وقال عنه إنه كان يتنقل دائمًا إلى الجانب القوي2.

وكان "الخديموس" وقد استولى على مدينة "أريتوسه" Arethusa وهي مدينة "الرستن"، وجعلها مقرًّا لحكمه، وتقع على نهر "الميماس" وهو نهر "العاصي"، ويسمى بـ ORONTES عند الكتبة اليونان والرومان3. ولا ندري اليوم متى دخلت في حكمه، ويظهر أن حكمه دام طويلًا إذ كان لا يزال في الحكم في الفترة الواقعة فيما بين السنة "46" والسنة "43" قبل الميلاد4.

وذكر أنه كان لهذا الملك ولد اسمه "أيامبليخوس" lamblichos = Jamlichus وكان عاملًا على شعب Emesener وقصد "سترابو" بشعب "ايميسنر" الناس الساكنين في أطراف المدينة، أي أطراف مدينة Emesa: Emessa، وهي حمص5.

وقد ساعد "ايامبيليخوس""المتوفى سنة 31 ق، م"، حكام "رومة" ضد "البارثيين""البرث""الفرث" Parther فقدم لهم مساعدات مهمة ولا سيما بالنسبة إلى "أوكتافيوس أغسطس"6 Octavianus Augustus.

وقد ساعد الملك "اكبروس""أكبر" Acbarus الذي حكم "حمص" بعد

1 Strabo، 16، 753، Die Araber، 1، S.، 179

2 Dio Cassius، 40، 20، 1، f.، Die Araber، 1، S.; 180

3 Ency.، 11، P.، 309

4 Die Araber، 1، S.، 356

5 Die Araber، 1، S.، 144

6 Arabian، S.، 23

ص: 41

هذا الملك بأمد، الرومان أيضًا في كفاحهم للبارثيين، وذلك سنة "49" بعد الميلاد1. ولم يكن لهؤلاء الملوك من خيار في سياستهم سوى الانحياز إلى الرومان؛ لأنهم كانوا أقوياء، وقد هيمنوا على بلاد الشأم.

ولا نعرف في الوقت الحاضر شيئًا عن الملك "الخديموس"، ولا عن قبيلته Rhambaei، أما عن اسم الملك فيظهر أنه محرف عن أصل عربي هو "الخدم" أو "جديمة" أو "خضم" أو "الخضم"2 وهي من الأسماء المعروفة التي ترد في كتب أهل الأخبار3. أو "الخطيم" وهو اسم معروف أيضًا، ورد في أسماء العرب4، أو اسمًا عربيًّا آخر ابتدأ بـ "ألـ" أداة التعريف.

وأما عن اسم Rhambaei، فيظهر أنه محرف عن تسمية عربية هي:"رحبة" أو "رحاب" أو ما شاكل ذلك5، وترد لفظة "رحبة" كثيرًا في العربية اسم موضع من المواضع، فلعل هذه القبيلة كانت تقيم في موضع اسمه "رحبة" فعرفت به.

ويظهر من هذا الخبر أن القبيلة المذكورة كانت في جملة القبائل العربية التي كانت قد زحفت قبل الميلاد إلى بلاد الشأم، واستوطنت في أطراف "حمص"، وتقدمت بعضها فنزلت في أماكن أبعد من هذا المكان إلى الشمال، حيث المراعي والكلأ والماء، وكانت كلما وجدت ضعفًا في الحكومات الحاكمة لبلاد الشأم، انتهزت فرصته فتقدمت إلى مواضع أخرى في الشمال، حيث يكون الخصب والماء.

وأنقذ العرب "يوليوس قيصر" Julius Caesar من المأزق الحرج الذي وقع فيه، وهو يهم بالقبض على ناصية الحال في الإسكندرية عام "47 ق، م" وإذ أرسل الملك "مالك" Malchu، وهو "مالك الأول بن عبادة"، نجدة مهمة، ساعدته على إنقاذه من الوضع الحرج الذي كان فيه6. كما أنجدوا

1 Arabian، S.، 23

2 Sarre und Herzfeld، Arch. Reise، 1، S. 119، 11، 105، Die Araber; 1; S. 150; M. Udzbarskl، Epyememris، 3، 164

3 الاشتقاق "227"

4 الاشتقاق "167"

5 Sarre und Herzfeld، Arch. Reise، 1، S. 119، 11، 105

6 Muryy، P.، 102

ص: 42

"هيركانوس" الذي فر من القدس إلى "بطرا" حينما ظهرت أمام العاصمة طلائع الفرثيين1.

ولما استولى "أغسطس" على مصر، وجعلها تابعة لحكم قياصرة "رومة"، أمر بإصلاح ما كان قد فسد بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة التي حدثت في أيام البطالسة، فأصلحت الطرق، وطهرت القناة وعني بالتجارة البحرية وبمياه البحر الأحمر التي غصت بلصوص البحر. وأوعز إلى حاكم مصر "أوليوس غالوس" Aelius Gallus بغزو جزيرة العرب، للاستيلاء عليها وعلى ثروتها العظيمة التي اشتهرت بها من الاتجار بالمر واللبان والبخور والأفاويه، وللقضاء أيضًا على لصوص البحر الذين كانوا يحتمون بسواحل الحجاز واليمن، وللهيمة على البحر. وقد أمر بوضع حراس على ظهر السفن التي تجتاز البحر الأحمر، لحمايتها، من أولئك اللصوص2.

لم تكن الأوضاع في القرن الأول حسنة في "مصر"، فقد كان حكم البطالمة حكمًا ضعيفًا هزيلًا، ألهاهم عن التجارة البحرية وعن الاهتمام بالبحار، فقل عدد السفن الذاهبة إلى المحيط الهندي، وتزايد عدد لصوص البحر، كما أن الصراع الذي كان في "رومة" على الحكم أثر في مستوى مشترياتها من مصر، وقد أثر ذلك بالطبع في الوضع الاقتصادي في مصر، وفي مستوى الأسعار ولا سيما في "الإسكندرية""بورصة" العالم في ذلك العهد، لذلك أحدث فتح "يوليوس قيصر" لمصر تغييرًا في الأوضاع هناك نراه بارزًا في هذا "المشروع" الضخم الذي أراد "أوغسطس""31 ق. م - 14 ب، م" القيام به، وهو الاستيلاء على جزيرة العرب وضمان مصالح "رومة" في ذلك الجزء من العالم، وجعل البحر الأحمر بحرًا رومانيًّا.

ولو تم ذلك "المشروع" على نحو ما حلم به "أغسطس" كان حكم "رومة" الفعلي قد بلغ العربية الجنوبية، وربما سواحل إفريقيا أيضًا إلا أن سوء تقدير الرومان له، واستهانتهم بطبيعة جزيرة العرب، وعدم إدخالهم في حسابهم قساوة الطبيعة هناك، وعدم تمكن الجيوش النظامية من المحاربة فيها وتحمل العطش والحرارة الشديدة، كل هذه الأمور أدت إلى خيبته منذ اللحظة

1 Dubnow، 11، s. 250

2 O'Leary، P. 74، Pliny، 11، p. 415، 6، 101

ص: 43

التي شرع فيها في تنفيذه، فكانت انتكاسة شديدة في هيبة "رومة" وفي مشاريعها التي رسمتها وأرادت تنفيذها في جزيرة العرب.

وقد وصل إلينا وصف تلك الحملة لكاتب جغرافي شهير أسهم فيها في رأي بعض الباحثين، فحصل على معارفه عن العرب وعن بلادهم من مشاهداته أيضًا فضلًا عن سمعه، وأعني به "سترابون" الذي قال في مطلع وصفه للحملة التي قام بها الرومان على بلاد العرب، بقيادة "أوليوس غالوس"، أشياء كثيرة عن خصائص تلك البلاد، لقد أرسله "أغسطس قيصر" للبحث عن الشعوب والأماكن التي فيها، وعن حدود بلاد الحبش، وأرض Troglodytes المقابلة لبلاد العرب، والأقسام المجاروة من الخليج العربي التي يفصلها عن العرب مضيق ضيق، لعقد معاهدات معها أو احتلالها، لقد سمع أنها غنية جدًّا؛ لأنها تقايض التوابل بالذهب والفضة والأحجار الكريمة؟ وأنها لا تحتاج إلى استيراد الأشياء من الخارج. فأراد إما أن يكون منهم أصدقاء أغنياء، وأما أن يحتل بلد أعداء أغنياء1. فهذه هي الأغراض التي توخاها قيصر "رومة" من توجيه حملته إلى جزيرة العرب في القرن الأول للميلاد، و"رومة" جائعة نهمة تريد المزيد من تجارة البحار الجنوبية بالمجان أو بأرخص الأسعار.

وقد وضع القيصر آماله في تحقيق هذا المشروع على النبط الذين كانت تربطهم بالرومان معاهدة تحالف منذ احتل الرومان بلاد الشأم، ومن جملتها فلسطين، فأصبحوا بذلك على اتصال بالنبط، وكان ملكهم إذ ذاك "عبادة الثاني ObadasII"

28-

9 ق. م" وقد وعد الرومانيين خيرًا، وعدهم بتقديم كل المساعدات لهم، وبإرسال المرشدين إليهم لإرشادهم إلى أهدافهم، وبتقديم الرجال لشد أزر الرومانيين، وبوضع وزيره المدعو Syllaeaus تحت تصرفهم ليكون لهم دليلًا ومستشارًا2.

وبعد إعداد الحملة وتهيئة السفن التي كان ينبغي أن تنقل رجالها وعدتهم عشرة آلاف جندي، جمعوا من مصر من المصريين والرومانيين ومن لفيف غيرهم، أركبوها من ميناء على الساحل المصري للبحر الأحمر، لتتجه بهم إلى ميناء "لويكة

1 Strabo، XVI، 22، vol. III، P. 209، Pliny; 6; Dio Casslusi 53; 3-8; Die Araber; 11; S. 49

2 لعله تحريف "صالح".

ص: 44

كومة" حيث ينضم إليهم نبط وغيرهم، ثم يتجهون برًّا إلى اليمن، إلا أن الحملة لم تكن منظمة منسقة مدروسة دراسة دقيقة إذ تحطم عدد كبير من سفنها في أثناء محاولة قطعها البحر من الجانب المصري إلى الساحل العربي المقابل له، لعدم ملاءمتها لمثل هذه المهمة التي أوكلت إليها، وبعد مشقات وأهوال وصلت السفن السالمة بعد خمسة عشر يومًا إلى "لويكة كرمة"، تحمل على ظهرها جنودًا منهوكين من قطع البحر على سفن لم تكن ملائمة لمثل هذا النقل، وقد عزا "سترابون" هذه الخسارة التي لحقت برجال الحملة إلى "صالح" Syllaeus الذي غش -على زعمه- القائد، فأعمله بتعذر الوصول من البر، لعدم وجود عدد كاف من الجمال، ولعدم وجود طرق برية صالحة لمرور هذا الجيش1.

والذي أراد بذلك إضعاف الرومان وإذلالهم، وإضعاف القبائل ليكون سيد الموقف فيدبر الأمور بنفسه، ويكون السيد المتصرف وحده في الأمور2.

ولما وصل "أوليوس غالوس" بجيشه إلى ميناء "لويكة كومة"، كان المرض قد فتك به، لأسباب عديدة منها فساد الماء والطعام، وسوء الغذاء فاضطر إلى قضاء الصيف والشتاء فيه، حتى استراح الجيش وتعافى من المرض الذي ابتلي به.

ويظهر أن الرومان كانوا قد هيمنوا على هذا الميناء أمدًا، أو احتلوه إذ ورد في الأخبار أنهم وضعوا فيه حامية رومانية Centurio، لحماية السفن من لصوص البحر. ولحماية الطرق البرية من قطاع الطرق واللصوص في البر. كما أنهم أنشئوا لهم فيه دائرة لجباية المكس من السفن والتجار، وقد تقاضوا ما مقداره "25%" من أثمان البضائع التي تدخل الميناء3.

وميناء "لويكة كومة"، ميناء النبط الأعظم، منه تنقل البضائع الواردة بطريق البحر إلى "بطرا""بترا" PETRA ومنها إلى موضع "رينوكولورا" RHINOCOLURA في "فينيقية" على مقربة من مصر، ثم إلى الشعوب الأخرى.

1 Strabo، XVI، IV، 23، J. Plrenne، Le Royaume، Sud-Arabe de Qataban et sa Datation، (1961) ، 93-124

2 Strabo، XVI، IV، 24

3 Sprenger، Alte Georgr.، S.، 28

ص: 45

ومنه أيضًا إلى سواحل مصر على البحر الأحمر حيث تنقلها القوافل إلى نهر النيل، ثم إلى الإسكندرية1. فهو ميناء مهم لتصدير التجارات، واستيرادها في أرض النبط.

وميناء Leulke Kome "لويكة كومة" هو "الحوراء" أو "ينبع" على ساحل الحجاز، وقد كان من الموانئ المهمة في تلك الأيام2. وسوف أتحدث عنه في موضع آخر من هذا الكتاب.

وقد ظن "أوليوس غالوس"، أنه سيلاقي من العرب مقاومة شديدة في البحر، لذلك قرر بناء أسطول قوي يتألف من ثمانين سفينة كبيرة محاربة ومن عدد من السفن الخفيفة، وشرع بإعداده في ميناء "قفط""قفطس" بـ Kleopatris على قناة النيل القديمة، ولما تبين له من الاستخبارات، أن العرب لم يكونوا يملكون أسطولًا، وأنهم لا يستطيعون مقاومة الرومان، أسرع فنقل جيشه على ظهر "130" سفينة نقل إلى ميناء "لويكة كومة" وكان في هذا الجيش الذي بلغ عدده عشرة آلاف محارب، ألف من النبط و "500" من اليهود3.

وفي ميناء "لويكة كومة" تجمع جيش الحملة، ومنه تقدم "أوليوس غالوس" نحو اليمن، فدخل أولًا أرضًا لم يذكر "سترابون" اسمها، وإنما ذكر أنها كانت أرض ملك يدعى Aretas أي "الحارث" وكان من ذوي قرابة "عبادة" Obadas ملك النبط، وقد استقبل الرومان استقبالًا حسنًا، ورحب بهم، ومنها سار في أرض وعرة قليلة الزرع والأشجار مدة ثلاثين يومًا إلى أرض مأهولة بالأعراب تدعى "أرارين""عرارين" Ararene، عليها ملك اسمه Sabos قطعها "غالوس" في خمسين يومًا حتى بلغ مدينة تدعى "نجراني" NEGRANI، ومنطقة خصبة مزروعة آمنة، هرب ملكها، وأخذ الرومان مدينته، وبعد مسيرة ستة أيام عنها بلغ نهرًا جرت عنده معركة خسر فيها المهاجرون عشرة آلاف رجل. أما الرومان فلم يخسروا غير رجلين، ومرد ذلك في زعم "سترابون" إلى تفوق الرومان في أساليب القتال وفي عدد الحرب التي لديهم،

1 Strabo، XVI، 24

2 Arabien، S.، 4، 29، 44

3 Araber، II، S، 49. F

ص: 46

في حين تعوز أصحاب الأرض المالكين الخبرة في القتال، والتمرين في استعمال ما عندهم من أسلحة تتألف من السهام والرماح والسيوف وآلات القذف والفئوس ذوات الرأسين.

وأعقب هذه المعركة سقوط مدينة "أسقه" Asca، التي سلمها الملك، ومدينة "اترله" ATHRULA التي سلمت من غير مقاومة، فوضع فيها حامية، واشتغل بجمع الحبوب والثمر. ثم توجه إلى مدينة Marsybae= Marsiaba، مدينة الـ Rhammanitae الخاضعين للملك llassarus وقد حاصرها ستة أيام ثم دخلها، غير أنه تركها لقلة المياه فيها1. وعلم من الأسرى أنها تبعد مسيرة يومين فقط عن أرض التوابل، وكان هذا الموضع آخر ما بلغة الرومان في الجنوب2. وقد قطع الجيش الطريق بين "لويكة كومة" ومدينة Marsiaba في أشهر أما في عودته، فقد قطعها في مدة أقل من هذه المدة بكثير، فبلغ مدينة Negrana في تسعة أيام، وهناك نشبت معركة بين الرومان والعرب، وغادرها "أوليوس غالوس"، فبلغ بعد مسيرة أحد عشر يومًا موضعًا يعرف بـ"الآبار السبع" لوجود آبار فيه. ثم قطع بادية فوصل إلى موضع Chaalla وموضع آخر يدعى Malothas يقع على نهر، وقطع بادية أخرى، قليلة المياه وانتهى إلى قرية3 Egra من قرى أرض "عبادة" Obadas وتقع على ساحل البحر. وقد قطع هذه المسافة كلها في ستين يومًا، ومن مدينة Egra = negra عاد "أوليوس غالوس" برجاله إلى مصر، فبلغ "ميوس هورمس" Myus Hormus في أحد عشر يومًا، وسار بمن بقي من رجال هذه الحملة على قيد الحياة، من هذه المدينة على ساحل مصر الشرقي إلى مدينة "قفط" Captus = Koptus ومنها إلى الإسكندرية4.

نرى من خير "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس" أن أول موضع نزل فيه الجيش الروماني في بلاد العرب، وهو فرضة "لويكة كومة" ففي هذه

1 Strabo، XVI، IV، 24، "Marsiaba"، Sfclzze، n، S.; 48

2 Strabo، XVI، IV، 24

3 وقرأها بعضهم "نيرا" nera و Egra وغير ذلك لاختلاف النسخ. راجع:

و Strabo، vol، III، P. 212، "Bohn's classical Library"، note "I، Glaser: Skizze: 11، S. 48، Pliny، VI، 159-162

4 Srtabo، XVI، IV، 24، Die Araber، 1، 97

ص: 47

الفرضة أنزل الجيش، وفيها استراح، ومنها اتجه في سيره لتحقيق الغاية التي من أجلها جاء، وأما الميناء الذي أبحرت منه هذه الحملة المخفقة، فكان ميناء "أكرا" Egra أو "نيكرا" NEGRA "نيرا" Nera NERACOME NeGra KOME بحسب اختلاف القراءات. ويرى "فورستر أن Nera أو Negra هي "ينبع" الفرضة الشهيرة وفيها عيون عذاب غزيرة1، وهو الميناء الثاني في الحجاز في الزمن الحاضر، وميناء "المدينة"2، ويرى أن كلمة "نيرا" اليونانية تعني "ينبع" في العربية، ولذلك يعني Nera Kome في العربية "مدينة ينبع" وأن Nera Kome التي أبحر منها اليونان هي ينبع، لا مكان آخر في رأي هذا الباحث3، وأما "كلاسر" فلم يتأكد من موضع Egra، أما "شبرنكر" فيرى أنه "عويند" الواقع على خط عرض "27" درجة وخمس ثوان4، وأما "فلبي" فيرى احتمال كونه "مدائن صالح"5 وهو رأي يتعارض مع قول "سترابون" أن Egra هي في أرض "عبادة" وعلى ساحل البحر. ومنها أبحر رجال الحملة إلى مصر6.

ويذهب البعض أن قرية Egra هي "الحجر" وهي بعيدة بعض البعد عن ساحل البحر. ويرى أنها كانت متصلة بميناء عرف باسمها أيضًا، كما أن ميناء "مدين" عرف باسمها أيضًا، ويرى أنه "الوجه" في الوقت الحاضر7.

وبزعم "سترابون" أن الإصابات التي أصابت الرومانيين، إنما هي من الأمراض والأوبئة ومشقات الطرق، أما من المعارك فلم يتكبدوا فيها إلا سبع إصابات8. وفي زعم "سترابون" المذكور مبالغات ولا شك، إذ كيف يعقل عدم تكبد الرومان خسارة ما، مهما قيل في تنظيم الجيش وحسن تدريبه؟ وقد أشار في كلامه على إحدى المعارك، والتي هاجم فيها العرب والرومان، إلى

1 البلدان "8/ 526"، فؤاد حمزه "ص 46، 72، 73، 95" ومواضع أخرى.

2 حافظ وهبة "ص 16 ومواضع أخرى".

3 Forster، II، P.، 293

4 Glaser، Sklzze، II، B.، 63

5 Philby، Backround، P.، 101

6 Strabo، HI، P.، 213

7 Die Araber، 1، 97، W. W. Tarn، in: Journal Egypt. Archeol. 15، 1929، 17

8 Strabo، XVI، IV، 24، Vol.، m، P.، 213

ص: 48

أنهم تكبدوا عشرة آلاف قتيل على حين خسر الرومان قتيلين اثنين فقط1، وفي هذا القول وحده ما فيه من مبالغة ظاهرة.

لم يذكر "سترابون" -وهذا أمر يؤسف عليه جدًّا- من أسماء المواضع التي مر بها الرومان، أو من أسماء القبائل التي اتصلوا بها، أو اصطدموا بها، غير ما ذكرت، وهو شيء قليل جدًّا، لا يتناسب أبدًا مع أهمية تلك الحملة التي قضت أشهرًا في بلاد العرب، خاصة إذا ما تذكرنا أن الرجل كان سائحًا وكاتبًا وجغرافيًّا ومؤرخًا، وكان صديقًا لقائد الحملة، ومدافعًا عنه، وقد كان نفسه من المشاركين في الحملة، في رأي بعض الباحثين2. وما ذكره في الجملة عن بلاد العرب، ويدل على أن معارفه عن جزيرة العرب محدودة، وقد استقاها من كتب من تقدمه من المؤلفين أو من السياح والملاحين والتجار من غير تدقيق أو نقد، وأعتقد أن أقدامه لم تطأ أرضًا في جزيرة العرب، وليس هنالك من شاهد يثبت اشتراكه في هذه الحملة، ولست أعتقد أن لدى القائلين باشتراكه فيها دليلًا قويًّا يثبت ذلك الرأي. ولعله نقل ما قصه عن الحملة من تقرير قدمه إليه صديقه "أوليوس غالوس" أو أحد الذين اشتركوا فيها.

وترتب على قلة أسماء المواضع التي ذكرها "سترابون" في خبر هذه الحملة صعوبة إدراك الطرق التي سار عليها "أوليوس غالوس" إلى موضع وصوله Marsiaba، وهو آخر ما وصل إليه، ثم الطرق التي سلكها في رجوعه حتى موضع إبحاره إلى مصر، وأبرز اسم بين هذه الأسماء التي ذكرها "سترابون":

Negrani = Negrana أي "نجران" في رأي أكثر الباحثين3.

وبين "لويكة كومة" و "نجران" مواضع كثيرة، وأرضون واسعة، لم يذكرها "سترابون"، وكل ما ذكره هو أن الجيش دخل بعد تركه ميناء "لويكة كومة" أرض ملك يعرف بـ"الحارث" Aretas ثم أرضًا يقطنها الأعراب، وهي صحراوية في الأكثر، تعرف باسم "أراربن"4 Ararene،

1 Strabo، XVI، IV، 24، Glaser، SMzze، 11، s.; 50

2 O'Leary، p. 75

3 Glaser، Skizze، n، 48، O'Leary، P. 78; Beltrage; a 31

4 Strabo، XVI، IV، 24، VOL.، m، P.، 212

ص: 49

وقد ذهب "الحارث" إلى ربه، وذهب معه "سترابون" فأي أرض قصدها صاحب خبر هذه الحملة التي تعود إلى "الحارث"؟ وأي أرض هي Ararene؟ لقد ورد في الكتب الإسلامية اسم قبيلة تعرف بـ "بني الحارث بن كعب"، وذكرها الهمداني وذكر مواضعها1، وتقع شمال "نجران" إلى وادي تثليث، ويرى "كلاسر" أنها الأرض التي قصدها "سترابون" وإن "الحارث" Aretas هو "الحارث بن كعب"، وهو كناية عن جد هؤلاء الذين أصبحوا في الإسلام يسمون "بني الحارث بن كعب"2.

وأرى أن Aretas هو اسم ملك كان يحكم منطقة نزل فيها الرومان، وأنه رجل كان حقًّا من ذوي قرابة "عبادة" ملك النبط، وأن الرومان عرفوا اسمه ولم يعرفوا اسم أرضه الواسعة فنسبوها إليه، فقالوا: أرض Aretas كما يقول العوام في العراق عن نجد والمملكة السعودية، "أرض ابن مسعود" أو "قيعان ابن مسعود"3 أو كما يقولون حتى اليوم لأرض قبيلة من القبائل "أرض فلان" ويذكرون اسمه، لاشتهاره ولقوة شخصيته.

وقد ذهب "كسكل" إلى أن المراد بأرض Aretas "الحارث" مملكة لحيان، وقد كانت هذه المملكة لا تزال -على رأيه- قائمة في هذا العهد، فجاء إليها الرومان وذهبوا منها نحو الجنوب في اتجاه اليمن، غير أن بعض الباحثين يعارضون رأيه هذا؛ لأنهم يرون أن مملكة لحيان لم تكن قائمة موجودة في هذا الوقت، أي في حوالي السنة "25 ق. م"4.

ويرى "كلاسر" أن Ararene، هي "عراعران""عراعرين"، وهو موضع ذكره "الهمداني" في كلامه على "سروم" من ديار جنب قبل "القرحاء"5 وأن Sabus هو تحريف "شعب" أي قبيلة، وإما النهر. الذي نشبت عنده معركة قتل فيها على زعم "سترابون" عشرة آلاف قتيل، فهو "غيل الخارد" في الجوف6. وعلى هذا يكون الروماني قد دخل الجوف وسار إلى مدن Nescus

الصفة "ص 116".

2 Glaser، Skizze، II، S،، 52

3 ينطقون القاف، "كاف" أعجمية ك.

4 Die Araber، I، S. 96، Caskel، Liyan، S. II. f

5 الصفة "ص 115".

6 GLaser، skizze، II، II s، 55، 61

ص: 50

Aska= Asca= Nesca، وهي "نشق" المعينية القديمة. و Atroula و1 Marsiaba Athrulla، والجوف هو موطن المعينيين فلما غلبهم السبئيون على أمرهم، أصبحت السيادة عليه لسبأ قبل مدة طويلة من وصول الرومان إليه، ويظهر أن السبئيين كانوا يتصورون أن الرومان يسلكون الطريق التي هي إلى الغرب. فلما سمعوا أنهم سلكوا طريقًا تقع إلى الشرق، أسرعوا إلى الجوف، لمنعهم من الزحف إلى العاصمة، ويرى "كلاسر" أن الرومان سلكوا في مسيرهم إلى اليمن طريقًا تقع على حافات "السراة" الشرقية، وذلك ليتجنبوا الاحتكاك بالقبائل الساكنة على الطريق التجارية التي تسلكها القوافل التجارية2. ويعارض رأي "شبرنكر" الذي يذهب إلى أنهم سلكوا طريق وادي إضم إلى المدينة "ومنها إلى نجد فالفلج" ومنه إلى نجران3، أما "فورستر"، فيرى أن الرومان بعد أن نزلوا "لويكة كومة"، وهي في نظره "الحوراء" سلكوا طريق "يثرب" ثم اتجهوا إلى "القصيم" حيث دخلوا قلب نجد، ثم عقبوا بعد ذلك الطريق المؤدية إلى اليمن، فساروا في اتجاه نجران، ومنها دخلوا اليمن، فاصطدموا باليمانيين على نحو ما قصه علينا "سترابون" و"بلينيوس"4. ولما عادوا سلكوا طريقًا أخرى أقصر. وفرت عليهم بعض الزمن، مروا بنجران، ومنها إلى "الآبار السبع""العيون السبع" وهي "الحصبة"، وهو موضع يقع على مسافة "150" ميلًا إلى الغرب من نجران، ومنه إلى موضع Chaala، وهو "خولان" في بلد "خولان" ومنه إلى Malotha، وهو مدينة تقع على نهر وادي "ضنكان"5 ويرى أن Malotha هي "تبالة" ومن "تبالة" إلى "ينبع" حيث أبحر من بقي حيًّا من الرومان إلى مصر6.

وذكر "سترابون" أن موضع "الآبار السبع" إنما دعي بهذا الاسم لوجود

1 Die Aratoer، II، S، 50

2 Glaser، SHzze، H، B.، 62

3 Glaser، Skisae، H، S. 54

4 IbId،II، S، 50،Forster،n،P..303

5 وهو واد في أسافل السراة يصب في البحر. وهو من مخاليف اليمن، البلدان "5/ 442".

6 Forster. n، PP.. 328

ص: 51

آبار فيه1. ومن الصعب جدًّا في الزمن الحاضر البت في موضع هذا المكان، أما "فلبي"، فيرى أنه أرض "خيبر" التي اشتهرت بكثرة مياهها، أو موضع "بيشة" وأما Makothas و Chaalla فيرى "فلبي" أنها موضعان غير معروفين، ويصعب تعيينهما في الزمن الحاضر2 وتفصل بين "الآبار السبع" و Chaala صحراء و Chaala قرية تليها قرية أخرى هي Malothas وتقع على نهر3.

ويرى "كلاسر" احتمال كون Chaalla، موضع "كهالة" أو موضع ما يدعى، بـ"حوالة" وهو -في نظره- موضع Achoali في تأريخ "بلينيوس"4 وأما Malothas، القرية التي تقع على نهر، فيرى أن من الصعب تعيين موضعها، ولكنها تقع على وادي "بيشة" على كل حال5. و"كهالة" موضع من المواضع المعروفة في اليمن، وبه مياه6 ولا يمكن أن يكون المكان الذي قصده "سترابون"؛ لأن ذلك المكان بعيد عن "الآبار السبع" وتقع "الآبار السبع" على مسيرة أحد عشر يومًا عن Negrana أي "نجران" فيقع مكان Chaalla إذن شمال "الآبار السبع" أي أبعد منه عن "نجران" فهو إذن من الأماكن التي يجب البحث عنها في الحجاز.

وسجل خير حملة "أوليوس غالوس" على اليمن باختصار رجل آخر مات بعد "سترابون""المتوفى عام 24 ب. م" بمد قصيرة، وهو "بلينيوس" المتوفى سنة "79 ب. م"7، وقد أشار في مطلع حديثه عن الحملة إلى أن "أوليوس غالوس" كان الروماني الوحيد الذي أدخل محاربي "رومة" جزيرة العرب، وقد خرب مدنًا، ولم يرد ذكرها في كتب من تقدمه من المؤلفين

1 Strabo، m، P.، 212

2 PhUby، Backrouaa، P.، 101

3 Strabo، HI، P.، 212

4 Glaser، Sklzze، II، S.، 63

5 Ibid،

6 الصفة "ص188، 201" البكري، معجم "482:، "طبعة وستنفلد".

7 H. Rackham، Pliny، Natural History، Vol.،I،P.،VII،" ""Leob Classical Library"

ص: 52

ولذلك ذكرها، وهي: Negrana و1Nestus و Nesca و2MAGUSUS و3Caminacus و4Labaetia و5Mariba التي يبلغ طول محيطها ستة، أميال و Caripta، وهي أبعد موضع بلغه "غالوس"6. أما "ديوكاسيوس" Dio Cassi، فيرى أن مدينة Adula هي آخر موضع بلغه الرومان7.

و Negrana، هي نجران كما ذكرت سابقًا، أما Asca و NESCA و Neska فمدينة "نشق" وتعرف اليوم بـ"البيضاء"8 وأما Magusum = Magusa فيرى "كلاسر" أنها قريبة من "مجزر"، وهو موضع يقع جنوب "البيضاء" أو "مجزع"، أو "مجزأة" 9، وأما "كروهمن" Grohmann فيرى أنها قرية "مجزرة" المعروفة حتى هذا اليوم، وهي في موضع ذي مياه، وقد كان مأهولًا وما زال. لذلك رأى أنه ذلك المكان الذي قصده "بلينيوس"10.

وأما Caminacum، فهو قريب من "كمنة""كمنهو" الواردة في المسند، و"كمنا" في الزمن الحاضر11، ويقع شرق "البيضاء" وشمال شرقي "مجزر"12، وأما Caripeta فيرى "كلاسر" أن هذه التسمية قريبة من "خربة" العربية، وأن "بلينيوس" الذي أوردها إنما أراد إحدى المدن، التى كانت خربة في ذلك العهد13، ويذهب "فلبي" إلى الرأي أيضًا، ويرى

احتمال كون Caripeta موضع "خربة سعود" وذهب بعض آخر إلى

1 "tAmnestrums"، "sNestrum"، "Nestum"، Skizze، n، S.، 56، 61; "Nestum"; Pliny; n، P.، 458

2 "Masugum"، Magusum"، Glaser، Sklzze، II، S.، 56، 61

3 Pliny، n.، P.، 458، "Caminacum"، Glaser، Sklzze، II; B.; 56; 61. 4 "Labecias"، "Labetia"، "Labaetiam"، Glaser، Sklzze، II، S.، 56; 61; Pliny; II; t P.; 458

5 "Maribara"، "Mariva"، Skizze، S. 56، 61، Pliny، II; P. 458

6 Pliny، H، P.، 458. f.، Bk. VI، 160

7 Glaser، Skizze، n، 8.، 56

8 Glaser، Skizze، II، S.، 61، Beltrage، S.، 31

9 Glaser، Skizze، II، 61، Beitrage S. 31

10 Beitrage، S.، 15

11 الصفة "167"

12 Glaser، Skizze، II، 61، Beitrage، 8. 31

13 Glaser، Skizze، S.، 58

ص: 53

إنها موضع "حريب" ويسمى بـ"أساحل" في "رغوان"1.

ويرى "شبرنكر" أن Labetia أو Labecia إنما هي "لقبق". أما "كلاسر"، فيرى أنها "لوق"، وهو موضع خربة في "شحاط" عند جبل "قدم" على مسيرة ساعتين من شمال شرقي معين، أو قاع "لبة" غرب البيضاء2، وأن Nestum هي "نسم"3، أو "وادي وسط"، الواقع بين الحب والجوف، أو "وادي وسطر"4 أو "نشان""نشن"، المدينة المعينية القديمة5، أن Marsiaba، أو Mariva، إنما هي Mariba لدى "سترابو" أي "مأرب" في رأي بعض الباحثين، أما "كلاسر" فيرى أن الرومان لم يتمكنوا من الوصول إلى مأرب، وأن MARSIABA، أو MARIVA أو MARIABA، لا يقصد بها مأرب عاصمة سبأ، وإنما هي موضع آخر في الجوف6، فلو كانت هي عاصمة سبأ، لما ذكر "سترابون" أنها عاصمة شعب يعرف باسم Rhamanitae كما يحكمه ملك، يسمى llasaros وفي ذلك دليل عى أنها مأرب أخرى، لا مأرب السبئيين7.

و llasaros من الأسماء العربية، ولا شك، وقد صحف على ما يظهر، فصار بهذا الشكل. والظاهر أنه "الشرح""اليشرح" في الأصل، وقد رأينا أن عددًا من ملوك العرب، الجنوبيين عرفوا باسم "الشرح"، وقد يكون سيد قبيلة من القبائل الكبيرة، اسمها Rhamanitae على حد قول "سترابون".

ولسنا نعلم على وجه التحقيق من هم Rhamanitae الذين كان يحكمهم "الشرح" وقد رأى "فلبي" احتمال كونهم "ردمان" أو "ريمان"8.

وإذا أخذنا بهذا الرأي، وجب القول إن Marsiaba هي مدينة أخرى، لا "مأرب" عاصمة سبأ كما ذهب "فلبي" إلى ذلك و "ردمان" من الأسماء المشهورة

1 Philby، Sheba's P. 10، BeltrSge، S.31

2 Glaser، Skizze، II، S. 61، Beltrfige، S.31

3 الصفة "167"

4 Glaser، Skizze، n، S.، 62

5 Beltrfige، s. 31

6 Glaser، Skizze، s.، 58

7 Glaser، Skizze، s.، 62

8 Phily، Background، P،98

ص: 54

المعروفة. وقد ورد في الحديث: "أملوك ردمان"، أي مقاولها1، وقد ورد اسم "ردمان" في مواضع عديدة في كتاب "صفة جزيرة العرب"2. كما أن "ريمان" من الأماكن الشهيرة كذلك وهو مخلاف باليمن وقصر3. وأما "كلاسر" فقد سبق أن ذكر جملة أسماء تحتمل في رأيه أن تكون لها علاقة باسم هذه القبيلة، وهو يرى أيضًا احتمال كون الاسم Rambanitae بدلًا من Rhamanitae، وأما الأسماء التي ذكرها، فهي:"رغوان"، و"رابن""رأبان""ربان" و "رحبة""رحابة"، و"ريمان" و "غيمان" و"ردمان"4، أما "رابان""ربان" و "ردمان"، في أسماء القبائل أيضًا، ويرى أن موضع "ردمان" هو إلى الجنوب من الأماكن التي بلغها الرومان، ولذلك استبعد اسم "ردمان" من هذه الأسماء، ثم استبعد كذلك "غيمان" و "ريمان"

و"رحبة" أيضًا"، فلم يبق لديه من هذه الأسماء إلا "رغوان" و "رابن" "رابان". أما موضع "رغوان" فيرى أن مكانه ملائم تمام الملاءمة، إلا أنه لم يثبت عنده أنه اسم قبيلة، فرجح اسم "رأبان" عليه، وهو اسم قبيلة ورد في نصوص المسند، ورد مثلًا في نص5: "Glaser 302" ويعود إلى أيام "ملوك سبأ" وكانوا من المعاصرين لمملكة "سمعي"، ويرى أن الرأبانيين كانوا قد حافظوا على استقلالهم، فكانت لهم مملكة في أيام "أوليوس غالوس" والظاهر، أنها حلت محل "سمعي" غير أن هذا لا يعني أنها كانت مملكة بالمعنى المفهوم، بل كانت مشيخة أو إمارة يتمتع ساداتها بلقب "ملك"، وكانت تابعة لمملكة "سبأ وذي ريدان"6.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن llasaros هو "الشرح يخضب" وكان إذ ذاك في نزاع وصراع مع "ذي ريدان" أي الحميريين الذين كانوا قد ظهروا للوجود، وأخذوا ينازعون الأسرة السبئية الحكم منذ حوالي سنة "100 ق. م" وذلك في عاصمتهم "ظفار"، ومن مقرهم في حصن "ريدان" فكان غزو

1 منتجات "ص 76" البلدان "4/ 244".

2 الصفة "55، 80، 93، 94، 95، 102، 103، 107، 109، 135".

3 البلدان "4/ 351"، الصفة "71، 75، 100، 125، 224".

4 Glaser، Skizze، H، S.، 59

5 Glaser، Skizze، II، S.، 59

6 Glaser، Skizze، II، S.، 60

ص: 55

"أوليوس غالوس" لليمن في وقت ملائم جدًّا للرومان، ولكن ظروفًا أخرى عاكستهم فاضطرتهم إلى التراجع والعودة فتمكن بذلك "الشرح" من التغلب على خصومه1.

وقد ذهب "فون وزمن" إلى أن مدينة Marsaiba / Marsiaba هي "مأرب"، وقد حرفت وتحولت من Marsaiba، حتى صارت على الشكل المذكور، وقد ذكر "سترابون" أن "أوليوس غالوس" حاصرها مدة ستة أيام، ثم رفع الحصار عنها لقلة مياه الشرب، واضطر بذلك إلى التراجع2.

وأما شعب Rhamanitai / Ramanitai فإنه "ريمان" وريمان قبيلة عربية ورد اسمها في عدد من كتابات المسند، ويرى "فون وزمن" أن الرومان أخطئوا في اسم الشعب؛ وذلك لأن قيلًا من أقيال هذه القبيلة كان هو المدافع عن "مأرب" في ذلك الزمن وقد سمعوا باسمه، فظنوا أن ريمان اسم أهل مأرب، ولذلك جعلوا "مرسيابة" عاصمته وصيروا llassaros ملكًا من ملوكهم من جراء وقوعهم في هذا الوهم3.

وذهبت "بيرين" Pirenne إلى أن Marsiaba والصور الأخرى للكلمة، إنما حدث من تحريف وقع في اليونانية، وأن الأصل "مأرب سبأ"، فحرفها اليونان إلى Marsiabe وقد استدلت على صحة رأيها بما ورد في المؤلفات العربية "من مأرب سبأ"4.

وقد ذكر "بطلميوس" شعبًا سماه Rabanitai أو Arabanitai تمتد مواضعه إلى جبل Klimax أي الجبل المدرج، والظاهر أنه يقصد سلسلة "السراة" التي يعمل الناس فيها مدرجات لغرس الكروم، وغيرها، وذكر بعدهم شعبًا آخر هو Masnitai يرى "كلاسر" إنه"مأذن"، ويسكنون في أعالي "الحارد" أي في جوار "رأبان"، وهو يطابق قول "بطلميوس" وواقع الحال5.

1 BeitrSge، S. 33

2 Beitrage، B.، 32

3 Beltr≥، S.، 34

4 Die Araber، n، S.، 50، Le Royaume Sud Arabe de Qataban et sa Datatlon، 1961، 112.

5 Glaser، Skizze، II، S.، 60

ص: 56

وقد وردت جملة كتابات ذكرت اسم "ريمان" منها كتابة من أيام "الشرح يحضب"، وقد تبين من تلك الكتابات أن "آل ريمان" كانوا من الأسر المعروفة في هذا العهد، ومنهم من تولى مناصب دينية وحكومية، ولذلك رأى بعض الباحثين أنهم هم Rhamanitae الذين ذكرهم "سترابون" ويرون أن سترابو إنما سمى مدينة Marsiaba أي "مأرب" بمدينة الـ Rhamanitae؛ لأن الذي حارب الرومان وقاتلهم ودافع عن المدينة قائد "ريماني"، أي من "ريمان" فظن "سترابو" أنها مدينة من مدنه فنسبها إليه1.

ومن طريق "صراوح" تراجع "أوليوس غالوس"، على طريق "أترلة" Athrulla إلى "نجران" سالكًا وادي مذاب، ثم "وادي دماج"2. أما "الآبار السبع" التي ذكرها "سترابون" فتقع، في رأي "كلاسر"، في "عسير" وأما موضع "Chaalla"، فهو "كهالة" أو "حوالة" ومنه إلى Malothas الواقع على نهر، لعله "وادي بيشة"، إلى موضع قفر، أوصلهم إلى تهامة عسير فالحجاز فمدينة Egra حيث أبحر منها إلى مصر3. وما ذكرته آنفًا عن تشخيص هذه المواضع التي ذكرها "سترابون" أو "بلينيوس" أو "ديو كاسيوس"، إنما هو مجرد آراء وحوس، لعدم وجود كتابات أو أدلة لدينا ترشدنا إلى تعيين تلك المسميات على وجه مقنع صحيح.

وقد ذهب "ديو كاسيوس" Dio Cassius إلى أن مدينة Athrula / Athulula / Athoula كانت آخر موضع بلغته جيوش "أوليوس غالوس" في العربية الجنوبية، وهو يخالف بذلك "بلينيوس" الذي ذكر أن مدينة CARIPETA/ هي آخر المواضع التي بلغها جيش الرومان، ومدينة ATHRULA/ ATHLOULA/ ATHLULA. هي مدينة "يثل" على رأي بعض الباحثين الذين يرون أن الروم حرفوا الاسم العربي حتى صيروه على الشكل المذكور ليستقيم لذلك مع لسانهم4.

ولم ترد في النصوص العربية الجنوبية إشارة ما إلى غزو قام به الروم أو غيرهم لبلاد العرب، وقد تساءل "كلاسر" عن سبب سكوت المساند وعدم إشارتها

1 Philby، CH 322، 432، 512، Rep. Epig. 2742، 2743، Bettrage; S.; 34

2 الصفة "82، 83، 114"

3 Glaser، Skizze II، S.، 63

4 Beitrage، S.، 32، Die Araber، II، S.، 50

ص: 57

إلى حملة "أوليوس غالوس"، هذه الحملة المهمة التي لا بد أنها قد تركت أثرًا بعيدًا في نفوس السبئيين وغيرهم من القبائل الساكنة في اليمن والحجاز، ورأي احتمال كون المراد من حملة "ذشامت""ذشمت" الواردة في النص Halevy 535 الرومان المسيطرين على الشأم، وجملة "ذيمنت" السبئيين1. وعلى ذلك يكون هذا النص كما يقول قد تعرض لخبر الحرب التي نشبت بين الرومان والسبئيين أما أنا فأستبعد جدًّا هذا الرأي، بل هذا الاحتمال وأري أن الجواب عن هذا السؤال هو أننا لم نعثر حتى الآن على جميع المساند، فنذهب إلى أمثال هذه الفرضيات، وما عثرنا عليه هو شيء يسير بالقياس إلى ما قد يعثر عليه في المستقبل، ولا سيما إذا ما علمنا أن هذه المساند إنما عثر عليها على ظاهر الأرض، وأن العلماء لم يقوموا بحفريات علمية في أعماق الأرض، ولنا وطيد الأمل بالعثور على كتابات كثيرة مطمورة تحت الأنقاض، قد تأتي لنا بوثائق خطيرة عن تأريخ العرب الجنوبيين، وقد تضع بين أيدينا أصول مكاتبات ومعاهدات ووثائق على جانب كبير من الأهمية، كما يحدث في سائر الحفريات والتنقيبات، وإذ لم يقم العلماء حتى الآن بحفريات علمية على نطاق واسع، فلا داعي إذن لإثارة سؤال في الزمن الحاضر كهذا السؤال.

لقد ظن "هاليفي" أن الحظ سيسعده في أثناء سفره إلى اليمن، فيظفره بآثار تشير إلى تلك الحملة الرومانية المخففة، غير أن الحظ لم يحالفه، ولم يكتب له التوفيق. كذلك لم يكن الحظ حليفًا لـ "فلبي" ولا لغيره من السائحين2.

فلم يستطع أحد منهم حتى الآن الاهتداء إلى كتابة عربية أو أعجمية أو أثر يشير إلى تلك الحملة المشئومة حملة الرومان، للاستيلاء على العربية السعيدة على أرض الطيب واللبان والمر والبخور.

وأشار "سترابون" إلى أن أرض الطيب والبخور، تتألف من أربعة أقسام، هي: Minaei أي معين، ومدينتهم الكبرى هي: Carna أو Carnan و Sabaea وهم سبأ وعاصمتهم هي: Mariaba و Chattabanae وهو "قتبان" وعاصمتهم Tamna وتقع بلادهم على ساحل البحر العربي،

1 Glaser، Skizze، II، S. 65

2 Phillby، Background، P. 32

ص: 58

و Chatramotita، وهم حضرموت وعاصمتهم Sabata، وهم أبعد هذه الشعوب إلى الشرق1. وقد نقل "سترابون" كلامه من "ايراتوستينس" الذي عاش قبله كما هو معلوم2، فهو يتحدث إذن عن الحكومات الكبرى التى حكمت العربية الجنوبية، وعن الشعوب التي وصل علمها إلى مسامع اليونان والرومان.

وتطرق "سترابون" بشيء من الإيجاز إلى الناحية الاجتماعية التي كانت عليها اليمن في ذلك العهد، فذكر أن الحياة كانت طبقات لكل طبقة واجب ووظيفة، وراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء. فهناك طبقة المحاربين ووظيفتهم الدفاع عن الطبقات الأخرى، وطبقة المزارعين وشغلهم تهيئة القوت والطعام لإعاشة سائر الشعب، وطبقة ثالثة وظيفتها التجارة، والتجارة لا تنتقل من أسرة إلى أخرى، وعلى كل فرد أن يمارس حرفة أبيه3. وذكر أشياء أخرى يظهر أن طبيعة أكثرها من نوع قصص التجار والسياح، لا يعتمد على التدقيق والتمحيص.

ويظهر أن تلك الانتكاسة لم تؤثر في خطة "أغسطس" في السيطرة على البحار، إذ نرى "سترابون" المعاصر لهذا القيصر، يشير إلى أن الرومان كانوا يرسلون سفنًا إلى الهند، لم يتعودا إرسال أمثال عددها فيما مضى، كما عثر على نقود رومانية في الهند، وأقيم في ساحل "مالابار" معبد كرس باسم ذلك القيصر، مما يدل على وجود جالية رومانية فيه4. ويظهر أن أسطول الرومان كان قويًّا وقد استعمل سفنًا كبيرة، وضع فيها محاربين من رماة السهام ومن المقاتلين المدربين، بذلك تمكن من الوصول إلى الهند ومن الرجوع منها بانتظام وبحرية.

لم تصل إلينا أخبار مفصلة عن مشروعات الرومان في جزيرة العرب بعد هذه الحملة، والظاهر أنهم غيروا خططهم السياسية، وكيفوها تكييفًا جديدًا، يوائم التطور الذي حدث في الموضع العالمي في القرن الأول للميلاد، ويناسب الدروس التي تعلموها من حملتهم المخفقة المذكورة. فلم يفكروا في فتح عسكري مباشر

1 Strabo، III، P. 190، 213

2 Strabo، III، P. 189

3 Strabo، III، P. 213

4 العرب والملاحة "ص75".

ص: 59

لجزيرة العرب يكون متجهًا من الشمال للجنوب، مخترقًا الطرق البرية، بل رأوا تقوية أسطولهم في البحر الأحمر، وتحسين علاقاتهم السياسية بالإمارات العربية وبسادات القبائل، للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية، وتوجيه أنظارهم نحو ساحل إفريقيا وحكومة الحبشة، فعقدوا اتفاقيات صداقة ومودة مع حكام "أكسوم"، وكونوا حلفًا معهم، وبذلك أخذوا يضغطون منذ ذلك العهد على السبئيين.

ويحدثنا صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" أن الرومان عقدوا معاهدة تحالف مع ملك "ظفار"، وهو ملك1Homeritae، وتدل هذه الإشارة الغامضة على وجود صلات بين الرومان وبين رئيس حمير في هذا العهد. وفي هذا التحالف ما فيه من شرح للعلاقات السياسية الجديدة التي حدثت بين الرومان والعربية الجنوبية، ومن محاولات الرومان، ثم البيزنظيين من بعدهم، التدخل في شئون البلاد العربية الجنوبية بأسلوب جديد.

ولا ندري متى احتل ميناء "عدن" الذي يسمونه Eudamon = Emporion والذي دعاه "بلينيوس" Athene = Athenae= Athaene إذ يحدثنا مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" أن "القيصر" Kaisar استولى عليه في زمن غير بعيد عن زمانه ودمره، وقد تصور بعضهم أن ذلك وقع في أيام "كلوديوس""41 - 54م" أو قبلها بقليل3. ولعل لمساعدات "الأكسوميين" لحكام "رومة" فضلًا في هذا الاحتلال4. ولا بد أن يكون هذا الاستيلاء قد حدث من البحر. إذ لا يعقل وقوعه من البر، فقد كان البر في أيدي السبئيين والقبائل العربية الأخرى. وقد رأينا قبل قليل إخفاق الرومان في الاستيلاء على اليمن، ورجوعهم عنها خائبين. ولأهمية "عدن" من جميع الوجوه نستطيع أن نتصور أنهم قد حصلوا على فوائد عظيمة من هذا الاحتلال الذي لا نعرف منتهاه وخاتمته، وكيف حدثت تلك النهاية.

ويرى بعض الباحثين أن استيلاء الرومان على "عدن" كان بعد حملة

1 Houranl، P.، 32

2 Stuhimann، a، 12، Parola del Passato، 9 (1954) ، 401، Araber; I; S.; 43

3 Araber، I، S.، 43

4 Stuhlmann، S.، 12

ص: 60

"أوليوس غالوس" على اليمن، وربما بعد الميلاد بقليل، وذلك بعد إخفاق تلك المحاولة الرامية إلى بلوغ المحيط الهندي من البر والاستيلاء على العربية الجنوبية، تعويضًا عن تلك الخطة الخائبة، فنجح الرومان في الاستيلاء على الميناء من البحر، وذلك في حوالي السنة "24" بعد الميلاد، وهو زمن غير بعيد عن حملة "أوليوس غالوس"1.

وقد ذهب "مومسن" Mommsen، إلى أن الاستيلاء على عدن كان قد وقع في أيام "كايوس قيصر" Caius Caesar، إذ ورد في الأخبار أن أسطوله في البحر الأحمر، كان قد استولى على جزء صغير من بلاد العرب، فيحتمل على رأي "مومسن" أن يكون المكان الذي استولى عليه هو عدن، ويحتمل على رأيه أيضًا أن يكون هذا الاحتلال قد وقع قليل من هذا الوقت. بينما ذهب آخرون إلى أنه وقع في أيام "كلوديوس" Claudius، أو "نيرون""نيرو"2Nero.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن القيصر المقصود هو "كركلا""كركلا" Caraculla؛ وذلك لأنه كان قد هاجم العرب الـ"سكينيته" Scenites في أثناء الحروب الثانية التي أعلنها القيصر "سبتيميوس سويروس" Septimius Severus على "البارثيين" Parthians، "197- 199م" وذهب بعض آخر إلى أن في خبر مؤلف كتاب:"الطواف حول البحر الأريتري" بعض الوهم في تثبيت لفظة "قيصر" Kaiser؛ وذلك لأن العادة لم تكن قد جرت في ذلك الوقت بتلقيب ملوك "رومة" بلقب "قيصر" لذلك رأى أن في الكلمة تحريفًا، وإنها قد تعني شيئًا آخر. وقد يكون تحريف Elisar أو liaisar أي "الأشعر"، وهم ELISAROI عند "بطلميوس"3. ويرى من يذهب إلى أن المراد بـ Kaiser "اليزر" Elisar أي "الأشعر" "اشعرن"، أن الاستيلاء على ميناء "عدن" وتخريبه كان بعد إخراج الحبشة عن العربية الجنوبية، وأن أرض "الأشعريين" غير بعيدة عن عدن، لذلك فلا تستبعد مهاجمتهم لعدن

1 Sanger، The Arabian Peninsula، P.، 170

2 J. Oliver، Thomson، History ol Ancient Geography، Cambridge، 1948، P.، 296

3 F. Altbeim، Geschichte der Hunnen، V، 1962، 8. 13، Die Araber; S. 42; Le Mus6on; 1964; 3-4. 480

ص: 61

في وقت غير بعيد عن أيام مؤلف الكتاب، وأن المؤلف ذكرهم، ولكن تحريفًا وقع في الاسم فحوله إلى1Kaiser.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن لفظة Kaiser هي كلمة llisaro أو llasar المذكورة في خبر "سترابون" عن حملة "أوليوس غالوس"، وقصد بها "الشرح يحضب" وهو يرى أن ميناء "عدن" قد خرب في أبان حروب "الشرح يحضب" مع قتبان وحضرموت، وأن مؤلف ذلك الكتاب أراد "الشرح" llasar ثم حرف النساخ اللفظة حتى صارت2Kaiser.

وقد صار في إمكان السفن الرومانية بعد الاستيلاء على عدن الاستراحة فيها والإقلاع منها إلى الهند وإلى السواحل الإفريقية والعودة إليها، وقد وضع الرومان فيها حامية رومانية لضمان سلامة الرومان في هذه المنطقة، كما وضعوا سفنًا تحمل رماة من الرومان لمقاومة لصوص البحر من التحرش بالسفن، وقد كان أولئك اللصوص يملئون البحار3.

وفي عدن عند الـCrater "الكريتر" صهريج كبير لخزن الماء، من عهد ما قبل الميلاد على رأي بعض الباحثين، يتسع لزهاء عشرين مليون "غالون" من الماء، تأتي إليه من الأمطار، يظهر أنه استعمل في ذلك العهد لتموين هذا الميناء المهم بماء الشرب، لعدم وجود موارد كافية من الماء، تسد حاجة أهله به4.

وقد حصل ميناء "عدن" على شهرة بعيدة منذ هذا الزمن، وظل محافظًا عليها وعلى أهميته حتى اليوم، ولا ندري متى اضطر الرومان إلى ترك هذا الميناء، على وجه صحيح مضبوط، ولكن الذي نعرفه أن الرومان، ثم الروم من بعدهم، بقوا يقيمون وزنًا له، ويهتمون بشأنه؛ لأنه كان أسهل طريق لهم توصلهم إلى سواحل إفريقيا والهند والعربية الجنوبية، ولذلك كانت فيه دائمًا جالية كبيرة من أصحاب السفن والتجار، ولعل هذا الاهتمام هو الذي حمل القيصر "قسطنطين

1 Le Mus6on، 1964، 3-4، P.، 481

2 Beltrage، S.، 88

3 Sanger، P. 170

4 Banger، the Arabian Peninsula، P. 208

ص: 62

الثاني" على إرسال بعثة نصرانية تبشيرية إلى عدن، بلغتها سنة 356 للميلاد1. ويفهم من كلام مؤلف "كتاب الطواف حول البحر الأريتري" أن ميناء عدن Eudaimon Arabia كان الموضع الذي تقصده السفن القادمة من مصر ومن الهند، ففيه تفرغ حمولات تلك السفن لتنقل منها إلى مصر أو إلى الهند2. فميناء عدن كان ذا شأن خطير في التجارة العالمية إذ ذاك، وكان الموضع الذي تتبادل فيه السفن الحمولات.

وعرف ميناء عدن بـ Arabia Emporion عند "بطلميوس"3. وكان "أورانيوس" Uranius أول من سماه بـ "ادنه" Adana أي "عدن" وذلك كما جاء في كتاب "اصطيفانوس البيزنطي" الذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد4. وذكر اسم Adane في أخبار تنصر الحميريين في أيام القيصر "قسطنطين الثاني""337- 361م"5 وقد سمي ميناء عدن بـ Athana عند "بلينيوس"6 وبـ Adana، وعند "فيلوستورجيوس"7 Philostorgius وكان قد خرب وتعطل أيام حملة "أوليوس غالوس"، فحل ميناء Muza على البحر الأحمر محله، ولكنه مع ذلك لم يفقد منزلته، وعادت إليه مكانته بعد مدة قصيرة من هذه الكارثة8.

وقد ذكر "بليني" بعد اسم "عدن" Athana= Athenae اسم قبائل جعل أرضها على مقربة من "عدن" فذكر اسم Chorranitae = Caunaravi و 9Chani = Cesani وفي هذه الأرضين، وجدت كما يفهم من أخبار "بليني" وغيره، مدن يونانية، سكنها يونان، منها: Arethusa و Larisa و Chalcis وهي مدن خربتها ودمرتها الحروب10.

1 Sanger، P. 203

2 Beltrage، B. 88

3 Beltrage، 8. 89

4 Beitr≥، S. 89

5 Phllostorg.، Hist. Eccles.، m، 5، Beitrftge، S. 89

6 Pliny، 6، 28، 32

7 PhUosotorglus. H. EccL، 3، 4، CLearly، P. 108

8 O'Leary، P. 96

9 Pliny، 6، 28، 32

10 Araber، I، s. 120

ص: 63

ويظن بعض الباحثين أن المدن اليونانية التي أشير إليها، والتي ذكر "بليني" أنها خربت ودمرت بالحروب، هي من المستوطنات التي أنشأها وأقامها "البطالمة" على السواحل العربية، لإيواء السفن اليونانية والتجار والجنود الذين زرعوا في هذه الأماكن لحماية تجارة البطالمة والسيطرة منها على السواحل العربية وعلى البحار1. فلما ضغف أمر البطالمة، هاجمت القبائل العربية هذه المواضع واستولت عليها، فخربت تلك المدن، أو غلب عليها العرب، وتبدلت أسماؤها إذ تحولت إلى أسماء عربية.

وميناء Qena "قنا" الذي يقع على المحيط الهندي، كان أيضًا من الموانئ المعروفة التي يقصدها التجار في هذا الزمن فتصل إليه السفن للامتياز وللخروج منه إلى الهند، وشهرته هذه قديمة، ويغلب على الظن أنه ميناء "كنة" الذي ذكر مع "عدن" في سفر "حزقيال"؛ لأن القرائن تدل على أنه هو المقصود من الآية في هذا السفر:"حران وكنة وعدن تجار شبا وآشور وكلمد تجارك"2.

وقد ذكره "بلينيوس" في جملة الموانئ المقصودة التي كانت السفن الرومانية تصل إليها وهي قادمة من ميناء Berenice بمصر. وهذه الموانئ هي: Muza أي "موزع" عند "مخا" و Ocelis عند باب المندب، و Cane "قنا" الميناء الذي نتكلم عنه3.

وذكر مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأريتري" هذا الميناء أيضًا، كما ذكر ميناء Mousa= Muza وعدن و Ocelis = Okylis وقد ذكر أن هذا الميناء الأخير كان قرية. أما ميناء "قنا""كنا""كانه" Kany = KANA "كان" فكان في أرض الملك Eleazoz أي "العزيلط" ملك حضرموت، وذكر أن في مقابل هذا الميناء جزيرتين تسمى إحداهما جزيرة الطيور Ogneun، وتسمى الأخرى جزيرة "القباب"، والجزيرة الأولى هي جزيرة "سيخا" في الزمن الحاضر، وأما الثانية فهي جزيرة "براقة"4، وذكر

1 15، "1929"، II Araber، I، S.، 121، W.W. Tarn، Journ. Egypt. Arch

2 BeltrSge، S. 88

3 Beltrage، S. 89

4 Beitrfige، S. 90

ص: 64

مؤلف الكتاب المذكور أن اللبان والمر وبقية الأفاويه تحمل من منابتها إلى ميناء Kany وقد تحمل على وسائل النقل المائية المصنوعة من قرب منفوخة بالهواء، مشدودة إلى جذوع أو أخشاب بحبال تربط بينها، لتوصل تلك المواد الثمينة إلى الميناء المذكور، ثم توزع من هذا الميناء على التجار أو ترسل في السفن إلى الأسواق العالمية، كما ذكر أن السفن تذهب من هذا الميناء إلى الهند وإلى الخليج وتذهب منه إلى موانئ الساحل الإفريقي كذلك1.

وبعد أن كون "تراجان" ما يسمى بـ "المقاطعة العربية""الكورة العربية" Provencia Arabaea في سنة "105م" أو "106م" أحدث تغييرات مهمة في الإدارة وفي طرق المواصلات وأصول الجباية، فأنشأ طريقًا مهمة من "أيلة" على رأس خليج العقبة مارة بالبتراء فبصرى إلى "دمشق"، وصارت "بصرى" محطة مهمة جدًّا للقوافل القادمة من اليمن والحجاز، وأصلح القناة القديمة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وقوي الأسطول الروماني، وأمده بسفن أحدث وأقوى من السفن القديمة، وذلك لمقاومة لصوص البحر وللسير بحرية في البحر الأحمر، ولاحتكار التجارة البحرية التي هي مصدر كل غنى وثراء2.

ولا تزال آثار الطريق الرومانية باقية تشاهد حتى اليوم، تشهد بأهمية الطريق وبحسن هندستها بالنسبة إلى ذلك الزمن، وهي تمر بمدن وقرى عديدة وتربط بينها: منها "أم الجمال"، وهو موضع مهم كان ذا أهمية خاصة في العهد الروماني، وفي أيام النبط، حيث عثر فيه على كتابات نبطية عديدة، وموضع "خربة سمرا" وهو موضع اشتهر في العهد الروماني وفي العهد البيزنطي الذي تلاه، وقد عثر فيه على آثار رومانية وبيزنطية ونبطية، ويظهر من مخازن المياه ومن آثار الآبار التي عثر عليها في هذا الموضع أنه كان مركزًا من مراكز تجمع القوافل التجارية، وموضعًا من مواضع تربية الماشية3.

وقد اكتسحت فتوحات "تراجان" مناطق واسعة من الشرق الأدنى، ويقال إنه وصل إلى جنوب العراق، وإنه دخل مدينة "كاراكس""كركس" Charax وإنه نظر سفينة قاصدة الهند، فتحسر وتنهد؛ لأنه بلغ من العمر

1 Beltrflge، S. 90

2 Basoor، N'um، 85،1943، PP.، 3، 6

3 Basoor، Num. 85،1942، PP.، 6

ص: 65

مبلغًا لا يسعفه على ركوب تلك السفينة واستنشاق هواء ذلك البحر، وقد غبط الإسكندر الذي سبقه إلى هذا المكان بمئات من السنين، وكان أصغر منه سنًّا، فبلغ مبلغًا لم يصل إليه ملك هذا الإمبراطور1.

وقد كان على مقربة من "الرها" Edessa سيد قبيلة عربية اسمه "معنو" Ma'nu أي "معن" وكان يحكم العرب المجاورين. ولما طلب القيصر "تراجان" حضوره إليه لمكالمته لم يلب طلبه بالرغم من علامات الود التي أظهرها له. ذلك؛ لأن القيصر كان يشك في نياته، فخاف أن يقبض عليه، وتراجع إلى مواضع بعيدة، فاستولى الرومان على "سنجار" Singara وكانت تابعة له. وقد نزل العرب فيها واختلطوا بسكانها الأصليين2.

لقد كان البخور رأس بضائع العالم الثمينة المطلوبة في ذلك العهد، كان سعره يساوي سعر الذهب والبترول في هذه الأيام. ولم يكن يشتريه لغلائه هذا إلا رجال الدين، لاستعماله في الشعائر الدينية التي تستنزف القسم الأكبر منه، والملوك والأثرياء، وذلك لحرقه في المناسبات الدينية وفي اجتماعاتهم. ونجد المؤرخ الكاتب "بلينيوس" يشتكي من تبذير "نيرون" عاهل "رومة""54- 68م" من إسرافه في حرق البخور واللبان لإجراء شعائر جنازة زوجه المتوفاة، فقد كلف حرق تلك المادة الضرورية في مثل هذه المناسبات خزينة ثمنًا باهظًا لارتفاع أسعارها في ذلك الزمن3.

وآخر ما يقال عن تدخل الرومان في شئون جزيرة العرب، هو أن القيصر "سبتيموس سفيروس" Septimus Severus، أرسل حملة عسكرية في سنة "201م" توغلت في "العربية السعيدة"، غير أن معارفنا عنها قليلة، فلا نعلم إلى أين وصلت وكيف انتهت4. ولعلها كانت قد تقدمت من "المقاطعة العربية" وهي المقاطعة الجديدة التي أوجدها الإمبراطور "تراجان" على حطام مملكة النبط. وكان الذي قاد الحملة العسكرية على "العربية السعيدة" Eudaimon Arabia ابن القيصر "سبتيموس سفيروس"5، وقد اشتهر فيها،

1 العرب والملاحة "ص49".

2 Die Araber، I، S. 313

3 العرب والملاحة "ص75"

4 Stuhlmann، S. 12

5 Die Araber I، S. 44

ص: 66

غير أن معارفنا عنها لا تزال قليلة، وقد وردت أخبار هذه الحملة في موارد لم تشر إلى اسم القيصر الذي أمر بتجريد تلك الحملة على "العربية السعيدة"، إذ اكتفت بذكر لفظة "قيصر" ويظهر منها أن جيوش القيصر أنزلت خسائر فادحة أولًا بالعرب الساكنين في البادية وقد دعتهم تلك الموارد بـ Skenitae أي "سكان الخيام" ويراد بهم الأعراب، ثم سارت تلك الجيوش حتى بلغت "العربية السعيدة"، وذلك في السنة "196- 198ب. م"، ولا نعلم إلى أي مدى وصل إليه القيصر أو ابنه في هذه الغزوات1.

وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن "كره كالا" Caracalla الذي خلف والده "سبتيميوس سفيروس" Septimus Severus في الحكم، هو الذي قاد الجيش الروماني الذي زحف على العرب الساكنين في أعالي "العربية السعيدة" Arabia Eudaimon كما يسميها "بطلميوس"، وأنه في ذلك العهد كانت حروب "سبتيميوس" مع "البارثين" Parthians "197- 199م"2 ويرون أن الرومان لم يتوغلوا بعيدًا في جزيرة العرب، وربما كان أقصى ما بلغوه ديار ثمود3.

وفي كتاب "بحث في القضاء والقدر" Dialog Uber das Atom وهو المسمى أيضًا بـ"كتاب قوانين البلاد" Buch der Gesetze der Lander لـ"برد يصان" Bardesanes الذي عاش فيما بين السنة 154 والسنة222 للميلاد إشارة إلي أن الروم لما استولوا على العربية Arabia من عهد غير بعيد عن أيامه، أبطلوا قوانين أهلها البرابرة4. ويقصد بالبرابرة الأعراب على ما يظهر. ويظهر أنه قصد بذلك الحملة الرومانية المذكورة5، وفي تأريخ الإمبراطورية الرومانية أسماء رجال يرى بعض المؤرخين أنهم كانوا من أصل عربي، من هؤلاء "يوليا دومنا" lulia Domina و"يوليا ميا" Julia Maesa و "ايلاكيل"

1 Die Araber، I، S.، 44، II، 8.، 62، Miller، In Cambridge

Ancient History، 12، (1939) ، 9، 16

2 F. Altheim، Geschlchte der Hunnen، V، 1962، 8.، 13

Die Araber، I، &، 42

3 Le Museon، 1904، 3-4، PP. 480

4 W. Cureton، Splclleglum Syrlacum، 1956، 30

5 Die Araber، I، 43

ص: 67

Elagabal "218- 222م"، و "يوليا مامية" Julia Mammaea و "سيفيروس الكسندر" Severus Alexander "222- 235م" وكانوا في رأيهم من أسرة دينية عربية. أما "فليب" Philippus "244- 249م" الذي تولى عرش "رومة"، فقد عرف بـ"فليب العربي" وقد برز نفر من أسرة "الزباء" ملكة تدمر، ونالوا مراكز ممتازة في الإمبراطورية الرومانية1.

وقد سعى القيصر "سفيروس الكسندر""سويروس الكسندر" للوصول إلى الخليج، وذلك في حروبه مع الفرس سنة "232م" وقد تمكنت بعض قواته الزاحفة عن طريق نهر الفرات من بلوغ "البطائح"، ولكنها جوبهت بمقاومة عنيفة من الفرس، حتى اضطرت إلى العودة من حيث أتت، ولم تتمكن من تحقيق هدفها المنشود2.

وحاول "فيليب العربي philipus Arabus جاهدًا الوصول إلى الهند والسيطرة على الخليج، غير أن الحظ لم يكن في جانبه في حروبه مع الفرس، واضطر إلى ترك ذلك المشروع الخطير3.

وقد انتهز الأعراب فرصة الكارثة التي نزلت بالقيصر "فاليريان" Valerianus "253- 260م"، بتغلب الفرس عليه، فأخذوا يهاجمون الخطوط الرومانية الدفاعية، ويباغتون مدنها، بغزوهم لها، مما حمل من جاء بعده من حكام "رومة" على تقوية الحصون وإعادة ترميم استحكاماتها، ومن هذه مدينة Adraha، وهي "درعه""درعا""الدرعة". لتصمد أمام غارات الأعراب التي تكاثرت عليها4.

وقد كون الرومان كتائب من الجنود العرب ألفوها لحماية الطرق وللدفاع عن حدودهم الطويلة المتصلة بالبوادي، وهي حدود يصعب على الجيوش النظامية حمايتها، ولذلك عمدوا إلى تكوين هذه الكتائب. ونجد في الكتابات "الصفوية" كتابات دونها أصحابها يذكرون فيها فرحهم وحمدهم لآلهتهم؛ لأنها ساعدتهم في فرارهم من الخدمة في الجيش الروماني، ورجوعهم إلى أهلهم سالمين، بعد

1 Die Araber، I، 8.، 4

2 Die Araber، n، S.، 63، Herodlan، 6، 5، 2; 9-10

3 "Philip" The Arabians Porphyr.، V، Plot.، 3: Die Araber، n، S.، 83

4 Die Araber، n، 8.، 251

ص: 68

أن قتل غيرهم في أثناء فرارهم على أيدي من كان يتعقبهم من عساكر الروم أو البيزنطيين لإجبارهم على الرجوع إلى ثكناتهم، والظاهر أن كثيرًا من هؤلاء كانوا من الجنود المرتزقة أو المسخرة التي أكرهت على الخدمة في الجيش. فنجد في إحدى الكتابات أن رجلًا اسمه "حنين بن حنين بن أياس" اتخذ سنة فراره من "نمارة السلطان"، مبدأ أرخ به، دلالة على أهمية تلك المناسبة بالنسبة إلى حياته، وذكر أنه شاد قبرًا على مرقد أخته "وبنى هرجم""وبنى الرجم"، والرجم القبر، والظاهر أن "السلطان"، أي "سلطان" الروم تعبير عن حكومة كانت قد أقامت مركزًا أو حامية أو معسكرًا "نمارة"، وكان حنين أحد من كان في ذلك المعسكر ففر منه، وفرح لنجاته بنفسه، وتعبير "السلطان" من التعابير العربية القديمة التي لا تزال حية حتى اليوم1.

ونجد رجلًا اسمه "مغير بن محلم"، يؤرخ بسنة هرب رجل اسمه "جر""جور" من "قصر نقات""قصر نفأت" والظاهر أن "قصر نقأت" كان ثكنة من ثكنات الروم، وقد حشد فيها جمع من العرب لأداء الخدمة العسكرية للسلطات الرومانية، ففر منها "جور". وفي هذه السنة جاء "مغير" إلى قبور جماعة ذكر أسماءهم قتلوا فوضع رجمًا أي حجارة فوق قبورهم تعبيرًا عن تكريمه لذكراهم. وقد وردت في النص جملة "طر هسموي"، أي "طير السماء". وقد ذهب "ليتمان" E. LITTMANN إلى احتمال كون "طير" اسم رجل، وهو "هسموي" بمعنى "السماوي"، أي أنه نسبة إلى بادية السماوة، أو اسم موضع "سمه""سامه" يقع جنوب شرقي "بصرى"2.

ونجد شخصًا اسمه "تيم ايل" يذكر في كتابة له هذه الجملة "ونفر من رم"، أي "ونفر من الروم"، و"نفر" بمعنى "فر" في الصفوية3.

ولم يذكر "تيم ايل" سبب فراره من الروم ولعله، كان من الكتائب العربية، ففر منها طلبًا للحرية والراحة والمعيشة مع الأهل، أو أنه كان قد غزا حدود الروم، فقبض عليه وسجن ففر من سجنه، ونجد رجلًا آخر يذكر أنه "نفر

1 Enno Litimann. Safitic Inscrtpttons، Leyden، 1943، P. 140

وسيكون رمزه: safitic

2 safitic، P. 167

راجع الجملة الأخيرة من النص "87" المنشور في كتاب p. 19 Safitlc

ص: 69

من الروم" وذلك في سنة ثلاث، ويقصد بسنة ثلاث. مرور ثلاث سنوات على تأريخ احتلال الرومان لبلاده، وقد وقع ذلك في السنة "105" أو "106" للميلاد، أي في عهد تكوين المقاطعة العربية وسقوط "بصرى" في أيدي الرومان على نحو ما ذكرت. فتكون إذن سنة هربه مساوية لسنة "108" أو "109" بعد الميلاد1.

وقد عبر شخص آخر عن هربه من الروم ورجوعه إلى أهله ناجيًا سالمًا بعبارة "ونجى من رم"، أي "ونجا من الروم"2. فيظهر أنه كان أيضًا في أيدي الرومان لسبب نجهله فاهتبل الفرص، وهرب منهم، ونجا بنفسه، حيث وصل إلى منزل جده، وأقام عنده يرعى ماعزًا له3. وأما "سواد بن يسلم"، فقد كان يشعر أن الرومان كانوا يراقبونه ويتعقبون آثاره لسبب لم يذكره، وقد عبر عن ذلك بقوله "وخرص ال روم" أي "وخرَّص الروم" بمعنى أنه راوغهم وخلص منهم، ولم يذكر سبب مراقبة الرومان له فلعله كان قد أغار على أرض الروم، أي الأرضين المحتلة الخاضعة لهم ليغنم منها شيئًا فتعقبه حرسهم، ولكنه راوغهم "وخرص" منهم ونجا4.

وقد ازعجت القبائل الرومان بغارتها على الأرضين التي استولوا عليها وأخضعوها لحكمهم، فأوجد الرومان جيشًا مرتزقًا، من أهل البلاد التي تحكموا في أمرها، وضعوه تحت إمرة جماعة من الضباط الرومان، وجعلوا واجبه حماية الحدود والدفاع عنها، وأقاموا له ثكنات على طول تلك الحدود، ورد أسماء بعضها في الكتابات الصفوية وغيرها، ومع ذلك كانت القبائل تهتبل الفرص، فتهاجم الحدود وتتوغل في الأرضين الخاضعة للرومان لتستولي على ما تجده أمامها من مال وحيوان، ثم تعود مسرعة إلى مضاربها في البادية حيث يصعب على الرومان محاربتها هناك.

كانت الإسكندرية منذ تأسيسها إلى الفتح الإسلامي، المنبع الذي أمد رجال السياسة والحرب والعلم بما احتاجوا إليه من علم بلاد الشرق وإفريقيا. فيها تجمع التجار أصحاب المال يبحثون عن البضاعة وعن منشئها وأسعارها في المنشأ

1 E.Lttmann. Safitlc p 21

2 النص رقم "128" من المرجع المذكور.

3 المصدر نفسه "ص 34".

4 راجع النص "709" من هذا المصدر.

ص: 70

وفي كيفية الحصول عليها بأسهل السبل وبأرخص الأسعار، منهم من ذهب بنفسه إلى مواطن البضاعة وإلى الأسواق الرئيسية المجهزة، فتمون منها ما احتاج إليه، ومنهم من تسقط أخبارها من تجار الإسكندرية أو التجار الوطنيين الوافدين على الإسكندرية، أو من رجال السفن. وفي الإسكندرية كانت في الغالب نهاية مطاف ربابنة السفن الذين خبروا البحر وعركوه، ووقفوا على أحوال البلاد الغريبة العجيبة: علم إفريقيا وآسيا، ومن أفواههم تلقف التجار والعلماء أخبار البحار وما وراءها من أرضين، وفي مكتبتها ودوائرها الرسمية حفظت تقارير قادة الأساطيل والجواسيس الذين كانوا يتجسسون الأخبار عن أحوال حكومات وشعوب تلك البلاد، وهي تقارير لا بد أن تكون على غاية من الخطورة والأهمية عند خلفاء الإسكندر ثم الرومان فالبيزنطيين، ويحدثنا "أغاثر شيدس""أغاثر خيدس" الذي عاش في الإسكندرية في حوالي "110 ق. م" أنه أخذ علمه بأحوال البحر الأحمر من أفواه أناس قاموا هم أنفسهم بأسفار إلى البحر الأحمر وإلى ما وراءه، كما أخذه من وثائق ملكية وسجلات كانت محفوطة، سمح له، بالوقوف عليها، وفي جملتها تقرير "أرسطون""أرستون"، وهو أحد رجال البحر اللذين كلفهم "بطلميوس الثاني" أو "بطلميوس" آخر كشف البحر الأحمر، فلما أنجز عمله وخبر أمر الساحل العربي للبحر، قدم تقريره المذكور. فحفظ في جملة الوثائق الخطيرة المهمة في خزانة وثائق الإسكندرية ومن هذا المنبع أخذ بقية الكتاب، ومنهم من قام نفسه بركوب البحر وبأسفار في الشرق، ثم عاد إليها ليضع ما حصل عليه في كتاب.

والخلاصة أن هذه التطورات والأحداث السياسية والعسكرية التي وجهت أنظار الغرب منذ أيام "الإسكندر الأكبر" نحو الشرق، قد أدت إلى نزول اليونان والرومان بأنفسهم إلى البحار الدافئة لمنافسة العرب في تجارتهم، وفي بحارهم وفي البحار الأخرى، فبنوا سفنًا أقوى وأكبر وأوسع، وأخذوا يقومون أنفسهم بالتدريج ويحتلون الموانئ المهمة أو يقيمون لهم قواعد عسكرية على السواحل لحماية خطوط مواصلاتهم البحرية، وبذلك أصابوا التجارة العربية إصابة مباشرة وأنزلوا بها ضررًا بالغًا، إذ أخذو يشترون منتجات البلاد الحارة من مواضع انتاجها، وصاروا يزاحمون السفن العربية التي لم تتمكن من تطوير نفسها تطويرًا يناسب الزمن وروح العصر، فتغلبت سفن الروم والرومان عليها كما تغلب

ص: 71

البرتغاليون فيما بعد ثم من جاء بعدهم من الغربيين على السفن العربية في عصور الاستكشاف، واضطر التجار العرب إلى اعتزال البحر والانسحاب منه تدريجيًّا والاكتفاء بشحن ما يحصلون عليه بطرق البر، إلى أسواق تفرض ضرائب مرتفعة على التجار والتجارات. وقد أدى هذ االتطور إلى أضعاف مركز العرب الجنوبيين أضعافًا كبيرًا، وإلى إلحاق الأذى بثرائهم، وصار الروم والرومان يتدخلون في شئون العربية الجنوبية تدخلًا مباشرًا أو غير مباشر بتحريض الجيش والقبائل العربية على حكومات العربية الجنوبية على نحو ما سنراه مفصلًا فيما بعد.

ص: 72