الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «نوح»
«1»
في قوله سبحانه: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) استعارة، لأنّ الوقار، هاهنا، وضع الحلم مجازا يقال: رجل وقور، بمعنى حليم.
فأما حقيقة الوقار الذي هو الرزانة والثّقل، فلا يجوز أن يوصف بها القديم سبحانه، لأنها من صفات الأجسام، وإنما يجوز وصفه تعالى بالوقار، على معنى الحلم كما ذكرنا.
والمعنى أنه يؤخّر عقاب المذنبين مع الاستحقاق، إمهالا للتوبة، وإنظارا للفيئة والرجعة. لأنّ الحليم في الشاهد، اسم لمن يترك الانتقام عن قدرة، ولا يسمى غير القادر إذا ترك الانتقام حليما، للعلّة الّتي ذكرناها.
وقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) هاهنا أي لا تخافون. فكأنه سبحانه قال: ما لكم لا تخافون الله حلما؟ وإنما أخّر عقوبتكم، إمهالا لكم، وإيجابا للحجة عليكم. وإلّا فعقابه من ورائكم، وانتقامه قريب منكم.
وقد جاء في شعر العرب لفظ الرجاء، والمراد به الخوف. ولا يرد ذلك إلا وفي الكلام حرف نفي. لا يقال: فلان يرجو فلانا بمعنى يخافه، بل يقال: فلان لا يرجو فلانا. أي لا يخافه. وقال الهذلي أبو ذؤيب «2» :
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2)
. أبو ذؤيب الهذلي: تقدمت الإشارة إليه والترجمة له في الحديث عن مجازات سورة الزمر.
إذا لسعته الدّبر «2» لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل «3» أراد لم يخف لسعها.
وقال الاخر «4» :
لا ترتجي حين تلاقي الذائدا أخمسة لاقت معا أو واحدا أي لا تخاف. وقال بعض العلماء:
إنما كنوا عن الخوف بالرجاء في هذه المواضع، لأن الراجي لا يستيقن، فمعه طرف من المخافة. وقال بعضهم: الوقار هاهنا بمعنى العظمة، وسعة المقدرة. وأصل الوقار: ثبوت ما به يكون الشيء عظيما، من الحلم والعلم، اللذين يؤمن معهما الخرق والجهل.
ومن ذلك قول القائل: وقد وقر قول فلان في قلبي. أي ثبت واستقر، أو خدش وأثر.
وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) استعارة، لأن حقيقة الإنبات إنما تجري على ما تطلعه من نباتها، وتخرجه عند ازدراعها. ولمّا كان سبحانه، يخرج البريّة من مضايق الأحشاء، إلى مفاسح الهواء، ويدرجهم من الصّغر إلى الكبر، وينقلهم من الهيئات والصور كل ذلك على وجه الأرض، فقد قال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) .
وقال بعضهم، قد يجوز أن يكون المراد بذلك، خلق آدم عليه السلام من الطين، وهو أصل الخليقة. فإذا خلقه سبحانه من طين الأرض، كان نسله مخلوقين منها، لرجوعهم إلى الأصل المخلوق من طينها. فحسن أن يقول سبحانه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) أي استخرجكم من طين الأرض. و «نباتا» هاهنا، مصدر وقع مخالفا لما يوجبه بناء فعله وكان الوجه أن يكون: إنباتا. لأنّه في الظاهر مصدر أنبتكم. وقد قيل إنّ هناك فعلا محذوفا جرى المصدر عليه، فكأنه
(2) . الدبر: جماعة النحل والواحدة دبرة.
(3)
. نقل ديوان الهذليين 1: 1431 معاني القرآن 1: 286 و 2: 265.
(4)
. لم ينسب في «أساس البلاغة» لقائله. وروي في الأساس هكذا:
لا ترتجي حين تلاقي الذائدا
…
أسبعة لاقت معا أم واحدا.
تعالى قال: والله أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا. لأن أنبت يدل على نبت، من جهة أنه مضمّن به.
وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً (20) استعارة. والمراد بالبساط هاهنا: المكان الواسع المستوي. مشبّه بالبساط، وهو النمط الذي يمدّ على الاستواء، فيجلس عليه.
وقال الأصمعي «5» : وبنو تميم خاصة يقولون بساط، بفتح الباء. وقال الشاعر «6» :
ودون يد الحجّاج من أن ينالني بساط لأيدي الناعجات «7» عريض وتصيير الأرض بساطا، كتصييرها فراشا ومهادا.
وهذه الألفاظ الثلاثة ترجع إلى معنى واحد.
(5) . هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب، الراوية المشهور، وأحد علماء اللغة الأثبات. ونسب إلى جده «أصمع» وكان يتلقى الأخبار مشافهة من البوادي، ويتحف بها الخلفاء، فيكافأ عليها بأجزل الهبات. قال فيه الأخفش: ما رأينا أحدا أعلم بالشعر من الأصمعي. وقد انفرد برواية قصائد جمعها المستشرق الألمانى وليم أهلورت، وتوفي بالبصرة سنة 216.
(6)
. هو العديل بن الفرج، ولقبه العباب: والعباب اسم كلب له، فلقّب باسم كلبه. وكان هجا الحجاج بن يوسف، فطلبه، فهرب منه إلى قيصر ملك الروم، فقال أبياتا منها هذا البيت وأخباره في «الشعر والشعراء» ص 375، و «الأغاني» ج 20، و «الخزانة» ج 2.
(7)
. في «الشعر والشعراء «اليعملات» والناعجات هي النياق البيض. واليعملات: جمع يعملة، وهي الناقة المطبوعة على العمل.