الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول أهداف سورة «القلم»
«1»
سورة القلم سورة مكّيّة، وآياتها 52 آية، نزلت بعد سورة العلق. وتشير الروايات الى أنها من أوائل السور نزولا. ونلمح، من سياق السورة، أنها نزلت بعد الجهر بالدعوة الإسلامية في مكّة، حيث تعرّض النبي الأمين للاتهام بالجنون، فنزلت السورة تنفي عنه هذه التهمة، وتصف مكارم أخلاقه، وتتهدّد المكذّبين وتتوعدهم، وتذكر قصة أصحاب الجنة الذين منعوا زكاة الثمار والفاكهة، فأهلك الله جنّتهم، وكذلك يهلك كلّ كافر معاند. وتوجهت السورة الى أهل مكة بهذا الاستفهام الإنكاري: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ؟ هل يستوي المستقيم والفاجر؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) ؟ هل تطلب منهم أجرا كبيرا على تبليغ الرسالة؟ إنهم يستطيعون أداءه ولذلك يتثاقلون عن اتّباعك. ثم تذكر السورة طرفا من قصة يونس (ع) من باب التسلية والاعتبار.
وتختم السورة ببيان حقد الكافرين وحسدهم، حتّى إن عيونهم ينبعث منها شرار الحسد والغيظ، ويتّهمون النبيّ (ص) بالجنون، وما يحمل إليهم إلّا الذكر والهداية للعالمين.
مع آيات السورة
[الآية الأولى] أقسم الله، سبحانه، بالقلم والدواة والكتابة، ليدل على عظيم شأنها في نشر الرسالات والدعوات والعلم والمعرفة، وكانت
(1) . انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1979- 1984.
أول آية من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)[العلق] .
[الآيتان 2 و 3] نفى القرآن عن النبي (ص) الاتّهام الكاذب بالجنون، ثم أثبت أنّ له أجرا كاملا غير منقوص على تبليغ الرسالة.
[الآية 4] ومدحه الله، عز وجل، بحسن الخلق، فقال سبحانه وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) . لقد كان خلقه القرآن، وكان جامعا للصفات الكريمة، والقدوة الحسنة، فقد اتّصف بالفصاحة والشجاعة والكرم والحلم، والأدب والعفّة والنزاهة والأمانة، والصدق والرحمة والتسامح واللّين وحسن المعاملة.
وكان حسن الصورة، معتدل القوام، جيّاش العواطف، قويّا في دين الله، حريصا على تبليغ الرّسالة، قائدا ومعلما ومربّيا وموجها، أمينا على وحي السماء.
وكانت عظمة أخلاقه في أنّه تمثّل القرآن سلوكا وهديا وتطبيقا، فكان قرآنا متحرّكا، يجد فيه الصحابة القدوة العملية، والتطبيق الأمين للوحي، فيقتدون بخلقه وعمله وهديه وسلوكه.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)[الأحزاب] .
[الآيتان 5 و 6] فسيكشف الغد عن حقيقة النبيّ وحقيقة مكذّبيه، ويثبت:
أيّهم الممتحن بما هو فيه، وأيّهم الضالّ في ما يدّعيه، وستبصر ويبصرون غلبة الإسلام، واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر، وهيبتك في أعين الناس أجمعين، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.
[الآية 7] إنّ ربك هو الذي أوحى إليك، فهو يعلم أنك المهتدي والمكذّب بك ضالّ عن طريق الهدى وسيجازى كلّ إنسان بحسب ما يستحقّ.
[الآيتان 8 و 9] وقد ساوم الكفار النبيّ، وعرضوا عليه أن يعبدوا إلهه يوما، وأن يعبد آلهتهم يوما، فيصيب كلّ واحد بحظّه من إله الاخر، فنزل قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2)[الكافرون] .
وفي كتب السيرة أنّ الكفّار حرّضوا أبا طالب على أن يكف عنهم محمّدا، وأن ينهاه عن عيب آلهتهم، فقال
النبي (ص) لعمّه: والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه.
وقد نزل الوحي ينهاه عن طاعة المكذّبين، وينهاه عن قبول المساومة أو الحل الوسط، فإمّا إيمان أو لا إيمان: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) :
الإدهان هو اللين والمصانعة، أي ودّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم، وتتخلّى عن مهاجمتها، حتّى يتركوا خصامك وجدالك.
[الآيات 10- 13] نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة، وقيل في الأخنس بن شريق، وكلاهما كان ممّن خاصموا رسول الله (ص) ولجّوا في حربه. والآيات تصفه بتسع صفات كلّها ذميم:
1-
فهو حلّاف، كثير الحلف.
2-
مهين، لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس قوله.
3-
وهو همّاز، يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة.
4-
وهو مشّاء بنميم، يمشي بين الناس بالنميمة والفتنة والفساد.
5-
وهو منّاع للخير، بخيل ممسك وكان يمنع الناس من الإيمان، ويهدّد من يحسّ منه الاستعداد للإيمان.
6-
وهو معتد، متجاوز للحقّ والعدل ثم هو معتد على النبيّ (ص) وعلى المسلمين.
7-
وهو أثيم، كثير الآثام، لا يبالي بما ارتكب ولا بما اجترح.
8-
عتلّ بعد ذلك، جامع للصفات المذمومة، وهو فظّ غليظ جاف.
9-
زنيم، أي لصيق في قومه متّهم في نسبه، أو معروف بالشرور والآثام.
[الآيات 14- 16] تذكر هذه الآيات موقفه من دين الله، وجحوده بنعمة الله عليه فلأنّه صاحب مال وولد، إذا تلي عليه القرآن استهزأ بآياته، وسخر من الرسول (ص) وهذه وحدها تعدل كلّ ما مرّ من وصف ذميم، سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) ، أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنّا سنبيّن أمره بيانا واضحا حتّى لا يخفى على أحد، أو سنذلّه في الدنيا غاية الإذلال، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشّرّ.
[الآيات 17- 33] : هذه الآيات تتناول قصّة أصحاب الجنة، وهم قوم ورثوا عن أبيهم بستانا جميلا مثمرا يانعا، وكان أبوهم يخرج زكاة البستان، ويوزع مقدارا منه على الفقراء والمساكين، ولكنهم خالفوا أباهم ومنعوا حقّ الفقراء والمساكين، فعاقبهم الله بهلاك البستان، وكذلك يعاقب الكافرين يوم القيامة. وقد عرضتها الآيات عرضا رائعا يمثل خطوات القصة، وضعف تدبير الإنسان أمام تدبير الله الواحد الدّيّان، فلنسر مع الآيات.
[الآيتان 17- 18] : لقد استقرّ رأي أصحاب الجنّة أن يقطعوا ثمرها عند الصباح، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين، وأقسموا على هذا، وعقدوا النيّة عليه.
[الآيتان 19 و 20] : فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا، وهم نيام فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) أي كالبستان الذي صرمت ثماره أي قطعت، كأنّها مقطوعة الثمار، فقد ذهب الطائف الذي طاف عليها بثمرها كله.
[الآيات 21- 24] : فنادى بعضهم بعضا في الصباح، وانطلقوا يتحدّثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ويوصي بعضهم بعضا أن يحتجزوا الثمر كله، ويحرموا منه المساكين.
[الآية 25] : وغدوا مصمّمين على حرد «1» المساكين ومنعهم وحرمانهم، قادرين عند أنفسهم على المنع وحجب منفعتها عن المساكين.
[الآيتان 26 و 27] : فلمّا شاهدوا بستانهم ورأوه محترقا أنكروه، وشكّوا فيه وقالوا: أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه ثمّ تيقّنوا أنّه بستانهم، وقد حاق بهم الحرمان والندم.
[الآيات 28 32] : وبعد أن حدث ما حدث، ألقى كلّ منهم تبعة ما وقع على غيره، وتشاحنوا، ثمّ تركوا التلاوم، واعترفوا بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة، عسى أن يغفر الله لهم، ويعوّضهم من الجنّة الضائعة.
[الآية 33] : هكذا يكون عذاب من خالف أمر الله، وبخل بما آتاه، وأنعم به عليه، ومنع حقّ البائس الفقير وفي الاخرة عذاب أكبر من هذا العذاب،
(1) . الحرد: المنع.