الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «النمل»
«1»
قال تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ [الآية 7] .
وقوله تعالى: آنَسْتُ، أي:
أبصرت ورأيت.
أقول: ويحسن بي أن أقف وقفة طويلة على: آنَسْتُ فأقول: هي من مادة «الأنس» .
وآنس الشيء: أحسّه. وآنس الشخص واستأنسه: رآه وأبصره.
وأنست بفلان: فرحت به.
وفي التنزيل العزيز: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً [القصص: 29] يعني أبصر.
واستأنست: استعلمت. والاستئناس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] .
قال الفراء: هذا مقدّم ومؤخّر، إنّما هو حتى تسلّموا وتستأنسوا
…
وقال الزجاج: معنى تستأنسوا تستأذنوا.
أقول: وجميع معاني «أنس» من الأفعال والمصادر تتصل ب «الأنس» الذي هو جملة هذه المعاني من الإبصار والاستعلام والفرح والاستئذان، فلا بد من أن نجد لها أصلا في أنّ الإنسان يألف أخاه الإنسان بطبعه، فإذا اتصل به وألفه استلّ منه فعلا لهذه الحالة المعنوية من مادة «إنس» ، أي: الإنسان، والإنس
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
مقابل الجن في طائفة من الآيات.
والإنس والإنسان شيء واحد، وزيادة الألف والنون لكمال صيغة جديدة.
ثم إذا وقفنا قليلا وجدنا لغة قديمة في «الإنسان» هي «إيسان» وهذه اللغة الأخيرة ذات صلة وثيقة بمادة «أيس» الذي يعني الوجود. ولم يرد هذا إلا في قول الخليل بن أحمد: أن العرب تقول جيء به من حيث «أيس، وليس» لم تستعمل «أيس» إلا في هذه الكلمة، وإنما معناها كمعنى حيث، هو في حال الكينونة والوجد مصدر «وجد» ، وقال: إنّ معنى «لا أيس» أي لا يوجد.
أقول: والذي يؤيّد هذا، ما نعرفه من أن في العبرانية من هذا شيئا هو أن إيش بمعنى رجل، ويقابله إيث في الآرامية.
ولنرجع إلى العربية فنجد أن كلمة «شيء» ، ومعناها معروف ليس بعيدا عن مادة «وجد» ، فالشيء موجود بطبعه وحقيقته، وكأن الأصل هو مقلوب «أيش» الذي يذكرنا ب «أيس» ، الذي يفيد الوجود والذي بقي شيء منه في مادة «ليس» ، أي «لا أيس» . وكان الفلاسفة على حق في التمسّك ب «الأيس» و «الليس» للدلالة على الوجود وعدمه.
2-
وقال تعالى: وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ [الآية 10] .
وقوله تعالى: وَلَمْ يُعَقِّبْ أي:
ولم يرجع، ويقال عقّب المقابل إذا كرّ بعد الفرار، قال:
فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا يصف قوما بالجبن وأنهم إن قيل:
هل من معقّب وراجع على عقبه للحرب؟ فما رجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب، منزلا من منازلها، أي:
لم يقدموا مرة على العدو.
أقول: وهذا من الكلم المفيد الذي كان ينبغي أن يكون له مكان في العربية المعاصرة، وذلك للحاجة إليه في أحوال مشابهة.
3-
وقال تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) .
المبصرة: الظاهرة البيّنة، جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها، لأنهم لابسوها، وكانوا منها بنظرهم وتفكيرهم فيها.
أقول: وهذا شيء من استعمالات لغة القرآن البديعة، التي تأتي بغير المألوف من إسناد الأفعال، وذلك يحقّق فوائد في إدراك المعاني وتصويرها، على نحو لم يلتفت إليه أهل النظر.
4-
وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ [الآية 18] .
أقول جاء الفعل «يحطم» في هذه الآية فعلا ثلاثيا.
ومثله ما جاء في قوله تعالى:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)[القصص] .
والفعل «قبح» في قوله تعالى مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) ثلاثي أيضا.
أقول: والفعلان في العربية المعاصرة مزيدان بالتضعيف ولا نعرف صيغة الثلاثي فيهما فيقال: حطم القيد وحطّم الزّجاج، على الحقيقة وحطّم الأحوال، وفلان محطّم أي: متعب مريض، على سبيل المجاز.
ومثله يقال: قبّحه الله في الدعاء عليه. 5- وقال تعالى: وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [الآية 19] .
أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي: كفّني عن الأشياء إلّا عن شكر نعمتك، وكفّني عما يباعدني عنك.
أقول: وهذا من الأفعال ذات المعاني المفيدة.
6-
وقال تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [الآية 36] .
حذفت الياء من قوله تعالى:
أَتُمِدُّونَنِ وحقها أن تثبت لأنها ضمير في موضع المفعول به، والاكتفاء بالكسرة من خط المصحف.
والاكتفاء بالكسرة ربما كان للاهتمام بالكلمة التالية، وهي بِمالٍ، فكأن قصر المد والاكتفاء بكسر النون يغري السماع، ويدفعه إلى الاهتمام بالكلمة اللاحقة.
7-
وقال تعالى: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها [الآية 37] .
وقوله تعالى: لا قِبَلَ أي: لا طاقة.
أقول: لم يعرف أهل عصرنا المصدر «قبل» ، وقد استعاضوا منه المصدر الصناعي «القابلية» بمعنى
الطاقة فهم يقولون: فلان يملك قابليات نادرة.
ولا بد من الإشارة إلى أن «القابلية» عند أهل العلوم تعني درجة القبول لعمل من الأعمال كقولهم: قابلية هذه الأرض لامتصاص الماء.
8-
وقال تعالى: وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) .
«والصاغرون» جمع صاغر وهو الذليل.
والصّغار: أن يقعوا في الأسر والاستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
أقول: وقد فرّقت العربية في الأبنية باختلاف المعاني، فالمصدر صغر للدلالة على صغر الجسم طولا وعرضا. والصّغار كما أشرنا، والفعل فيهما صغر.
9-
وقال تعالى: قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) .
وقوله تعالى: نَكِّرُوا، أي:
اجعلوه متنكرا متغيّرا عن هيئته وشكله، كما يتنكّر الرجل للناس لئلا يعرفوه.
أقول: والتنكير بهذا المعنى مما نعرفه الآن في لغتنا المعاصرة، فيقال مثلا: جاء فلان متنكّرا، أي: متخفّيا مضلّلا من يراه لئلّا يعرفه.
10-
وقال تعالى: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) .
استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم: عَسى أَنْ يَكُونَ ردفكم بعضه، وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو:
دنا لكم وأزف لكم، ومعناه: وتبعكم ولحقكم، وقد عدّي ب «من» قال:
فلما ردفنا من عمير وصحبه تولّوا سراعا والمنيّة تعنق يعني دنونا من عمير أقول: ومعنى «ردف» ، في هذه الآية من كلم القرآن الذي لا نعرفه في لغتنا المعاصرة. على أن استعماله كان في موضعه في الآية، قد أدّى المعنى أحسن الأداء.
11-
وقال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) .
وقوله داخِرِينَ (87) أي: صاغرين.