الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «النمل»
«1»
قوله تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [الآية 7] ، وهذه استعارة على القلب. والمراد بها، والله أعلم، إنّي رأيت نارا فآنستني فنقل فعل الإيناس إلى نفسه على معنى: وإنّي وجدت النار مؤنسة لي، كما سبق من قولنا في تأويل قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا [الكهف: 28] أي وجدناه غافلا، على بعض الأقوال.
وقريب من ذلك قوله تعالى:
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأعراف: 51] ولم تغرّهم هي، وإنما اغتروا بها هم فلما كانت سببا للغرور، حسن أن ينسب إليها ويناط بها. وحقيقة الإيناس، هي الإحساس بالشيء من جهة يؤنس بها وما أنست به، فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.
وقوله سبحانه حاكيا عن ملكة سبأ:
ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) . وهذه استعارة. والمراد بقطع الأمر، والله أعلم، الرجوع بعد إجالة الآراء، ومخض الأقوال إلى رأي واحد يصحّ العزم على فعله، والعمل عليه دون غيره، تشبيها بالإسداء والإلحام في الثوب النسيج، ثم القطع له بعد الفراغ منه. فكأنها أجالت الرأي عند ورود ما ورد عليها من دعاء سليمان (ع) لها إلى الإيمان به،
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
والاتباع له، فميّلت «1» بين الامتناع والإجابة، والمخاشنة والملاينة. فلما قوي في نفسها أمر الملاطفة عزمت على فعله، فحسن أن يعبّر بقطع الأمر، لما أشرنا إليه.
وعلى هذا قول الرجل لصاحبه: لا أقطع أمرا دونك. أي لا أقرر العزم على شيء حتّى أفاوضك فيه، وأوافقك عليه. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن الاستعجال بفعل الأمر، تشبيها بسرعة قطع الشيء المستدق كالحبل وغيره. ومنه قولهم: صرم الأمر. أي فرغ من فعله بسرعة. والصّريمة من ذلك. وفصل الأمر أيضا قريب منه.
وقوله سبحانه: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [الآية 40] .
وهذه استعارة: لأن المراد بارتداد الطّرف هاهنا التقاء الجفنين بعد افتراقهما. وذلك أبلغ ما يوصف به في السرعة. وليس هناك على الحقيقة شيء ذهب عنه، ثمّ رجع إليه. ولكن جفن العين لمّا كان ينفتح وينطبق، أقام الانفتاح مقام الخروج، والانطباق مقام الرجوع. وقيل: في ذلك وجه آخر، وهو أنّ في مجرى عادة الناس، أن يقول القائل لغيره، إذا كان على انتظار أمر يرد عليه من جهته: أنا ممدود الطرف إليك، وشاخص البصر نحوك. فإذا كان امتداد الطرف بمعنى الانتظار مستعملا، جاز أن يجعل ارتداده عبارة عن زوال الانتظار. فكأنه قال: أنا آتيك به قبل أن تتكلّف أمر انتظار، وتعدّ الأوقات.
والقول الأول أولى بالاعتماد، وأخلق بالصواب.
وقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وهذه استعارة. لأن العمى هنا ليس يراد به فقد الجارحة المخصوصة، وإنّما يراد به التعامي عن الحق، والذهاب صفحا عن النظر والفكر، إمّا قصدا وتعمّدا، أو جهلا وعمّى.
وإنّما أجري الجهل مجرى العمى في هذا المعنى، لأن كل واحد منهما يمنع بوجوده من إدراك الشيء على ما هو به. إذ الجهل مضادّ للعلم والمعرفة، والعمى مناف للنظر والرؤية. وإنّما قال
(1) . ميّلت: أي شكّت، انظر القاموس المحيط، مادة ميل.
سبحانه: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ ولم يقل: «عنها» ، لأن المراد أنهم يشكّون فيها، ويمترون في صحّتها، فهم في عمّى منها: ولا يصلح أن يكون، في هذا الموضع، «عنها» لأنه ليس المراد ذكر عماهم عن النظر إليها، وإنما القصد ذكر عماهم بالشك فيها. وهذا من لطائف المعاني.
وقوله سبحانه: قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وهذه استعارة: لأن حقيقة الرّدف هي حمل الإنسان غيره مما يلي ظهره على مركوب.
فالمراد بقوله سبحانه: رَدِفَ لَكُمْ هاهنا، والله أعلم، أي عسى أن يكون العذاب الذي تتوقعونه قرب منكم، وهو في آثاركم ولا حق بكم.
وقد قيل أيضا إن المراد ب «ردف لكم» هو: ردفكم. فصار العذاب في الالتصاق بكم كالمرادف لكم.
والمعنى واحد.
وقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وهذه استعارة. لأن القصص كلام مخصوص، ولا يوصف به إلا الحيّ الناطق المميّز. ولكن القرآن لمّا تضمّن نبأ الأوّلين، ومصادر أمور الآخرين كان كأنّه يقصّ على من آمن به عند تلاوته له، قصص من تقدّمه.