الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع لكل سؤال جواب في سورة «النمل»
«1»
إن قيل: ما الحكمة في تنكير الكتاب في قوله تعالى وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) .
قلنا: الحكمة في التفخيم والتعظيم كقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)[القمر] .
فإن قيل: العطف يقتضى المغايرة، فلم عطف الكتاب المبين على القرآن، والمراد به القرآن؟
قلنا: قيل إن المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ، فعلى هذا لا إشكال وعلى القول الاخر، فتقول العطف يقتضي المغايرة مطلقا إما لفظا وإما معنى، بدليل قول الشاعر: فألفى قولها كذبا ومينا وقولهم: جاءني الفقيه والظريف والمغايرة لفظا أمر ثابت.
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [الآية 4] .
وقال تعالى في موضع آخر: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال:
48] .
قلنا: تزيين الله تعالى لهم الأعمال بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم، وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء والغرور والنميمة، فصحّت الإضافتان.
فإن قيل: لم قيل هنا سَآتِيكُمْ [الآية 7] وقيل في سورة طه: لَعَلِّي آتِيكُمْ
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، غير مؤرّخ.
[طه: 10] وأحدهما قطع، والاخر ترجّ، والقصة واحدة؟
قلنا: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [الآية 8] مع أنه لم يكن في النار أحد، بل لم يكن المرئي نارا، وإنما كان نورا في قول الجمهور، وقيل كان نارا ثم انقلب نورا؟
قلنا: قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهما: معناه قدّس من ناداه من النار وهو الله عز وجل، لا على معنى أن الله تعالى يحل في شيء، بل على معنى أنه أسمعه النداء من النار في زعمه. الثاني: أن «من» زائدة والتقدير بورك في النار وفيمن حولها، وهو موسى (ع) والملائكة. الثالث:
أن معناه بورك من في طلب النار وهو موسى (ع) .
فإن قيل: إنما يقال بارك الله على كذا، ولا يقال بارك الله كذا؟ قلنا: قال الفراء: العرب تقول باركه الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد، ومنه قوله تعالى: وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ [الصافات: 113] . ولفظ التحيات: وبارك على محمد وعلى آل محمد.
فإن قيل: ما وجه الاستثناء في قوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [الآية 10] .
قلنا: فيه وجوه: أحدها أنه استثناء منقطع بمعنى لكن. الثاني: أنه استثناء متصل، كذا قاله الحسن وقتادة ومقاتل رحمهم الله، ومعناه: إلا من ظلم منهم بارتكاب الصغيرة كآدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف وموسى وغير هم صلوات الله وسلامه عليهم، فإنه يخاف ممّا فعل مع علمه أني غفور رحيم، فيكون تقدير الكلام:«إلا من ظلم منهم فإنه يخاف فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم» .
ولهذا قال بعضهم: إن هنا وقفا على قوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وابتداء الكلام الثاني محذوف كما قدرنا.
والثالث: أن «إلّا» بمعنى «ولا» ، كما في قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة:
150] أي «ولا الذين ظلموا منهم» .
الرابع: أن تقديره: أني لا يخاف لدي المرسلون ولا غير المرسلين إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [الآية 11] .
فإن قيل: لم قال سليمان (ع) كما ورد في التنزيل عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا [الآية 16] بنون العظمة، وهو من كلام المتكبّرين؟
قلنا: لم يرد به نون العظمة، وإنما أراد به نون الجمع وعنى نفسه وأباه.
الثاني: أنه كان ملكا مع كونه نبيّا فراعى سياسة الملك، وتكلم بكلام الملوك.
فإن قيل: كيف حلّ له تعذيب الهدهد، حتى قال كما ورد في التنزيل لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً [الآية 21] .
قلنا: لعل ذلك أبيح له خاصّة، كما خصّ بفهم منطق الطير، وتسخيره له، وغير ذلك.
فإن قيل: كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان (ع) حتى قال ولها عرش عظيم؟
قلنا: أولا: يجوز أنه استصغر حالها بالنسبة الى حال سليمان، فاستعظم لها ذلك العرش. ثانيا: أنه يجوز أن لا يكون لسليمان مثله، وإن عظمت مملكته في كل شيء، كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون للملك مثله. فإن قيل: لم ورد على لسان الهدهد قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الآية 23] مع قول سليمان صلوات الله وسلامه عليه كما ورد في التنزيل وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الآية 16] . فكأنه سوى بينهما؟
قلنا: بينهما فرق وهو أن الهدهد أراد به، وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا لأنه عطف على الملك، وسليمان أراد به وأوتينا من كل شيء من أسباب الدين والدنيا، ويؤيّد ذلك عطفه على المعجزة، وهي منطق الطير.
فإن قيل: كيف سوّى الهدهد بين عرشها وعرش الله تعالى في الوصف بالعظم، في قوله تعالى: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) ورَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) ؟
قلنا: بين الوصفين بون عظيم لأنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله تعالى بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض وما بينهما.
فإن قيل: قوله تعالى: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) .
إذا تولّى عنهم، فكيف يعلم جوابهم؟
قلنا: أوّلا: معناه ثم تولّ عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ماذا يرجعون. ثانيا: أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره: فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم.
فإن قيل: كيف استجاز سليمان (ع) تقديم اسمه في الكتاب على اسم الله تعالى، حتّى كتب فيه، كما ورد في التنزيل: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) .
قلنا: لأنه أدرك أنها لا تعرف الله تعالى وتعرف سليمان، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى إذا كان أول ما يقع نظرها عليه، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى.
وقيل: إن اسم سليمان كان على عنوانه، واسم الله تعالى كان في أول طيّه.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكون آصف، وهو كاتب سليمان (ع) ووزيره، وليس بنبيّ يقدر على ما لا يقدر عليه النبيّ، وهو إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلنا: يجوز أن يخصّ غير الرسول بكرامة لا يشاركه فيها الرسول، كما خصّت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة، وزكريا عليه السلام لم يرزق منها وكما أن سليمان صلوات الله عليه خرج مع قومه يستسقون فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تستسقي، فقال لقومه:
ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم، ولم يلزم من ذلك فضلها على سليمان.
وقد نقل أن النبي (ص) كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين والأنصار: ادعوا لنا بالنصرة، فإن الله تعالى ينصرنا بدعائكم. ولم يكونوا أفضل منه (ص)، مع أن كرامة التابع من جملة كرامات المتبوع. قالوا: والعلم الذي كان عنده هو اسم الله الأعظم، فدعا به فأجيب في الحال، وهو عند أكثر العلماء، كما قال البندنيجي، اسم الله، ثم قيل هو يا حيّ يا قيوم، وقيل يا ذا الجلال والإكرام، وقيل يا الله يا رحمن، وقيل يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت فمن أخلص النيّة، ودعا بهذه الكلمات مع استجماع شرائط الدعاء المعروفة فإنه يجاب لا محالة.
فإن قيل: لم قالت كما ورد في التنزيل أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)
وهي إنّما أسلمت بعده على يده لا معه، لأنه كان مسلما قبلها؟
قلنا: إنما عدلت عن تلك العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة، فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له، بإسلامها على يده، وإن كان الواقع كذلك.
فإن قيل: كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟
قلنا: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا جمعوا بين البيانين، ثم قالوا: ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ [الآية 49] يعنون ما شهدناه وحده كانوا صادقين، لأنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله.
فإن قيل: لم قال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [الآية 65] ونحن نعلم الجنة والنار وأحوال القيامة، وكلّها غيب؟
قلنا: معناه لا يعلم الغيب بلا دليل إلا الله، أو بلا معلم إلا الله سبحانه، أو جميع الغيب إلا الله جلّ وعلا. وقيل معناه: لا يعلم ضمائر السماوات والأرض إلا الله.
فإن قيل قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 66] أو «أدرك» على اختلاف القراءتين، هل مرجع الضمير فيه وفي ما قبله واحد أم لا؟
وكيف مطابقة الإضراب لما قبله، ومطابقته لما بعده من الإضرابين؟
وكيف وصفوا بنفي الشعور ثم بكمال العلم، ثم بالشك، ثم بالعمى؟
قلنا: مرجع الضمير في قوله تعالى:
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ [الآية 66] هو الكفّار فقط، وفيما قبله جميع من في السماوات والأرض، وقوله تعالى:
بَلِ ادَّارَكَ معناه بل تتابع وتلا حق واجتمع كقوله تعالى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً [الأعراف: 38] وأصله تدارك، فأدغم التاء في الدال، وقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ معناه بل كمل وانتهى. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد ما جهلوه في الدنيا علموه في الاخرة. وقال السعدي: يريد اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا. وقال مقاتل: يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها [الآية 66]
معناه بل هم اليوم في شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) جمع عم وهو أعمى القلب. ومطابقة الإضراب الأول لما قبله، أن الذين لا يشعرون وقت البعث، لما كانوا فريقين: فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة، وهم المؤمنون وفريق منهم لا يعلمون وقته، لإنكارهم أصل وجوده. أفرد الفريق الثاني بالذكر بقوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [الآية 66] تأكيدا لنفي علمهم في الدنيا، كأنه تعالى قال: بل فريق منهم لا يعلمون شيئا من أمر البعث في الدنيا أصلا، ثم أضرب عن الإخبار بتتابع علمهم، وتلاحقه بحقيقة البعث في الاخرة، إلى الإخبار عن شكهم في الدنيا في أمر البعث والساعة، مع قيام الأدلّة الشرعية على وجودها لا محالة وأمّا وصفهم بنفي الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك، ثم بالعمى، فلا تناقض فيه، لاختلاف الأزمنة، أو لاختلاف متعلّقات تلك الأمور الأربعة، وهي الشعور والعلم والشك والعمى.
فإن قيل: قضاء الله تعالى وحكمه واحد، فما معنى قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ [الآية 78] وهو بمنزلة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ [الآية 78] بقضائه أو يحكم بينهم بحكمه.
قلنا معناه بما يحكم به وهو عدله المعروف المألوف، لأنه لا يقضي إلا بالحق والعدل، فسمى المحكوم به حكما. وقيل معناه بحكمته، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمته، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة.
فإن قيل: لم قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 86] ولم تراع المقابلة بقوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [الآية 86] فيه؟
قلنا: روعيت المقابلة المعنوية دون اللفظية، لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه، وقد سبق ما يشبه هذا في قوله تعالى:
وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً [الآية 59] .
فإن قيل: لم قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) مع أن في ذلك علامات على وحدانية الله تعالى لجميع العقلاء؟
قلنا: إنّما خصّهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بها دون غير هم.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ [الآية 87] ولم يقل فيفزع، وهو أظهر مناسبة؟
قلنا: أراد بذلك الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على الثبوت والتحقّق قطعا.
فإن قيل: لم قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) أي صاغرين أذلاء بعد البعث، مع أن النبيّين والصّدّيقين والشهداء يأتونه عزيزين مكرمين؟
قلنا: المراد به صغار العبودية والرّق وذلّهما لا ذلّ الذنوب والمعاصي، وذلك يعم الخلق كلهم ونظيره قوله تعالى إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93)[مريم] .