الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن المعاني المجازية في سورة «المؤمنون»
«1»
في قوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) استعارة. لأن حقيقة السلالة هي أن تسلّ الشيء من الشيء. فكأن آدم (ع) ، لمّا خلق من أديم الأرض، كان كأنّه انسلّ منها، واستخرج من سرّها. وقد صار ذلك عبارة عن محصن الشيء ومصاصه «2» ، وصفوته ولبابه. ليس أن هناك شيئا، استلّ من شيء على الحقيقة. وقد تسمّى النطفة سلالة على هذا المعنى. ويسمى ولد الرّجل سلالة أيضا، على مثل ذلك.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) استعارة. لأن المراد بالطرائق هاهنا السماوات السبع، مشبّهة بطرائق النّعل، وواحدتها: طريقة. وقد يجمع أيضا على طريق. فهي قطع الجلود يجعل بعضها فوق بعض وينتظم بالخرز. ويقال: طارقت النعل. من ذلك.
وفي قوله سبحانه: اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 27] استعارة.
والقول فيها كالقول في: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: 39]«3» ، على حدّ سواء.
فكأنه سبحانه قال: واصنع الفلك
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
(2)
. المصاص من الشيء: خالصه. يقال: فلان مصاص قومه. إذا كان أخلصهم نسبا. انظر القاموس المحيط واللسان.
(3)
. قد تقدّم الكلام عن هذه الآية في سورة طه.
بحيث نرعاك ونحفظك، ونمنع منك من يريدك.
أو يكون المعنى: واصنع الفلك بأعين أوليائنا من الملائكة، والمؤمنين، فإنّا نمنعك بهم، ونشدّك بمعاضدتهم، فلا يصل إليك من أرادك، ولا تبلغك مرامي من كادك.
وفي قوله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) استعارة.
والمراد بها، والله أعلم، أنه عاجلهم بالاستئصال والهلاك، فطاحوا كما يطيح الغثاء، إذا سال به السيل.
والغثاء: ما حملت السيول في ممرّها من أضغاث النبات، وهشيم الأوراق، وما يجري مجرى ذلك. فكأنّ أولئك القوم هلكوا، ولم يحسّ لهم أثر، كما لا يحسّ أثر ما طاح به السيل، من هذه الأشياء المذكورة.
والعرب يعبّرون عن هلاك القوم بقولهم: قد سال بهم السيل. فيجوز أن يكون قوله سبحانه: فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً، كناية عن الهلاك، كما كنوا بقولهم: سال بهم السيل عن الهلاك. والمعنى: فجعلناهم كالغثاء الطافح في سرعة انجفاله «1» ، وهو ان فقدانه.
وفي قوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) استعارة.
والنطق لا يوصف به، إلّا من يتكلم بالة.
وكان قاضي القضاة «2» أبو الحسن يجيب بذلك من يسأله: هل يجوز أن يوصف القديم تعالى بأنه ناطق، كما يوصف بأنه يتكلّم؟ فمنع من ذلك، وقال: ما قدّمت ذكره. فوصف سبحانه القرآن بالنطق، مبالغة في وصفه بإظهار البيان. وإعلان البرهان، وتشبيها باللسان الناطق، في الإبانة عن ضميره، والكشف عن مستوره.
وفي قوله سبحانه: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا [الآية 63] استعارة.
والمراد بها، أنّ القوم الذين قال سبحانه فيهم، أمام هذه الآية، هم الموصوفون بقوله تعالى: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا أي في حيرة تغمرها، وغمّة تسترها. والغمر جمع غمرة.
وهو ما وقع الإنسان فيه من أمر
(1) . الانجفال: الهرب في إسراع.
(2)
. تقدمت ترجمتنا له عند الكلام في مجازات سورة الكهف.
مذهل، وخطب جلل، مشبه بغمرات الماء التي تغمر الواقع فيها، وتأخذ بكظم «1» المغمور بها.
وفي قوله سبحانه: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [الآية 71] استعارة. والمراد بها: ولو كان الحق موافقا لأهوائهم، لعاد كلّ إلى ضلاله، وأوقع كلّ في بطله، لأن الحق يدعو إلى المصالح والمحاسن والأهواء تدعو إلى المفاسد والمقابح. فلو اتبع الحقّ قائد الهوى لشمل الفساد، وعمّ الاختلاط، وخفضت أعلام الهداية، ورفع منار الغواية.
وفي قوله سبحانه: وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) استعارة على أحد التأويلين، وهو أن يكون معنى الموازين هاهنا المعادلة بين الأعمال بالحق.
(1) . الكظم بفتح الكاف والظاء: مخرج النفس. جمعه أكظام وكظام.