الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس لغة التنزيل في سورة «المؤمنون»
«1»
1-
وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) .
والسلالة: الخلاصة لأنّها تسلّ من بين الكدر، و «فعالة» : بناء للقلّة، ولبقايا الأشياء كالقلامة، والقمامة، والصّبابة، والخشارة، وغير ذلك.
2-
وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) .
والقرار المكين، أي: المستقر، ذو المكانة، والمراد به الرّحم.
والمكين فعيل اشتق من «المكان» ، وهذا يفيد أن العربية اشتقت الكثير من الأسماء الدالة على المعاني، أو على الذوات من الاسم، وهو «المكان» .
3-
وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها [الآية 21] .
أقول: أنظر: الآية: 66، من سورة النحل.
4-
وقال تعالى: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا [الآية 27] .
وقوله تعالى: «بأعيننا» ، أي بحفظنا وكلاءتنا.
أقول: وما زال شيء من هذا التعبير في اللغة السائرة في العراق.
والذي أراه أن «العين» ، في هذا الاستعمال تفيد الحفظ والمساعدة.
ولعلّ من «العين» ، وهي عضو البصر في الأصل، أخذت العربية «العون» بمعنى المساعدة، ولمّا كان لكلمة «العين» معنى مجازي، وهو
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي، مؤسسة الرسالة، بيروت، غير مؤرّخ.
الحفظ والرعاية، فقد حوّلت هذه اللفظة من الياء إلى الواو لهذا الغرض.
وكنا قد أشرنا إلى شيء من هذا في مادة «غيث» ، وكيف صارت «غوثا» .
وقوله تعالى: وَوَحْيِنا، أي:
نأمرك كيف تصنع ونعلمك.
5-
وقال تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [الآية 27] .
قالوا: التنوّر: وجه الأرض.
6-
وقال تعالى: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) .
أقول: ذكر النحاة أن بعد هيهات اسم يرتفع بها هو الفاعل، ومن شواهدهم:
فهيهات هيهات العقيق وأهله وهيهات خلّ بالعقيق نواصله وقال الزجاج في الآية: البعد لما توعدون.
وهذا التفسير في قول الزجّاج، يشعرنا أنهم حاروا في اللام، لأن الآية لم ترفع الاسم الظاهر، بل وليها الاسم مجرورا باللام.
7-
وقال تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) .
أقول: باعتبار الفعل الأول، تسبق، كانت الكلمة مؤنثة، وهي مؤنثة لفظا، وباعتبار الفعل اللاحق لها، كانت الكلمة جمعا مذكّرا، وذلك مراعاة للمعنى.
8-
وقال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [الآية 44] .
«تترى» على «فعلى» ، والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة.
وقرئ: (تترّى) بالتنوين.
أقول: والتاء بدل من الواو، والأصل وترى. ولعلّ الكلمة من الجموع التي أميت واحدها، فهو «وتير» ، مثل جريح وجرحى. ولكنّ «وتير» لم يرد في العربية، فهو مما أهمل وأنسي.
9-
وقال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [الآية 46] .
والمراد ب «عالين» أنهم متكبّرون.
أقول: والذي رشّح هذا المعنى المراد: أن في الآية الكريمة قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا. والذي يقال في عربيتنا المعاصرة: «أنهم متعالون» ، أي: متكبّرون.
10-
وقال تعالى: فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [الآية 47] .
أقول: البشر واحد وجمع، فكونه مفردا هو في قوله تعالى:
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران: 47] .
وفي آيات أخرى.
وأما كونه جمعا، فكما في قوله تعالى:
قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا [إبراهيم: 10] .
وفي آيات أخرى.
فأما الآية التي وقفنا عليها من هذه السورة، الآية 47، فدلالتها على المفرد، ومن أجل ذلك بني الكلام على التثنية.
ولا بد من الوقوف، من معنى كلمة «بشر» ، على شيء يدلّ في ظاهره على الإنسان، رجلا كان أو امرأة، فأقول:
لو استقرينا قدرا من الآيات التي وردت فيها كلمة «بشر» ، ومنها:
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [إبراهيم: 11] .
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ [الحجر: 33] .
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34)[الأنبياء] .
وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) .
أقول: لو استقرينا هذا القدر من آيات أخرى، لوقفنا على ما يحملنا على أن نقول: إن دلالة كلمة «بشر» على الكائن الهالك، الذي من شأنه أن يفنى ويموت.
ألا يحق لنا أن نقف على شيء من مادة «بشر» ، فنجد «البشرة» وهي ظاهر جلد الإنسان التي مصيرها الفناء، وهي قبل أن تفنى يصيبها التلف، وهي تتفسّخ بعد الموت! أليس هذا هو الفناء والهلاك؟
أقول: ومن هنا كان لي أن أذهب إلى أن «البشر» هو الفاني.
11-
وقال تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) .
والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته فوجه من جعله مفعولا، أنه مدرك بالعين لظهوره، من عانه: إذا أدركه بعينه، ووجه من جعله
فعيلا أنه نفّاع بظهوره وجريه، من الماعون، وهو المنفعة. وأرى: أن «معين» من «العين» ، والميم زائدة على نحو المبيع والمدين وغيرهما، وذلك لأن دلالة «العين» على الماء معروفة، فالعين عين الماء في إحدى دلالاتها الكثيرة، ومنها قالوا: عانت البئر عينا، أي: كدر ماؤها.
وعان الماء والدمع يعين عينا وعينانا: جرى وسال.
12-
وقال تعالى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) .
و «الغمرة» : الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا، لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم.
أقول: والغمر: الماء الكثير.
والغمرة أيضا: الشدّة، وغمرات الهمّ والموت أي شدّتهما.
والمغمور من الرجال: الذي ليس بمشهور.
والغامر من الأرض خلاف العامر.
وهكذا يذهب المعنى في مادة «غمر» .
13-
وقال تعالى: فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) . أي: تدبرون، وتستأخرون، وترجعون القهقرى مكذّبين.
أقول: وهذه الآية أورثت العربية قول القائل: فلان نكص على عقبيه، بهذا المعنى، والعبارة ما زالت جارية في عربية العصر.
14-
وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ [الآية 70] .
الجنّة: الجنون وهو المصدر.
وتأتي «الجنّة» بمعنى «الجنون» في آيات أخرى منها:
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الأعراف: 184] .
كما تأتي بمعنى «الجن» كقوله تعالى:
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)[هود] .
وقوله سبحانه: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)[الناس] .
أقول: الجنّ أصل المادة اللغوية، والجنّ عالم خفيّ، جاء ذكره وشيء من أمره في آيات كثيرة وعلى رأس الجنّ إبليس اللعين الذي يغوي الناس، كما جاء في التنزيل العزيز.
ولما كان «الجن» ، وهو جمهرة هذه المخلوقات قد خفي عن النظر، ولا يبصره الناس، أفادت العربية من هذه المادة، مواد كثيرة، تدلّ جميعها على الخفاء والتستّر، فجاء الفعل «جن» بمعنى أخفى وستر، ومن أجل ذلك قيل: جنّ عليه الليل، أي: أخفاه وستره.
ومن هذا الأمر، قيل للمخلوق بعد النطفة والمضغة والعلقة في بطن الأم، «جنينا» ، وذلك لخفائه أيضا.
ومن هذا قيل للقلب «جنان» بفتح الجيم، لأنه مستور.
وقيل: للدّرع، يستر به المحارب صدره، جنّة ومجنّ.
ثم اتسع الأمر أكثر من ذلك، فقيل لفاقد العقل «مجنون» ، أو به جنون أو جنّة، وذلك من تصوّر العرب أن «الجنّ» أغوته وأفقدته العقل.
والفعل مبنيّ للمفعول «جنّ» .
وبعد، فهذه المادة وجدت في غير العربية من اللغات السامية ولكن تلك اللغات، لم تتصرف في هذه المادة على النحو البديع، الذي ورد في العربية، وهذا شيء من عبقرية هذه اللغة.
15-
وقال تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [الآية 72] .
وقرئ: خراجا فخراج، وخرجا فخرج
…
والخرج ما يخرجه الرجل إلى الإمام من زكاة الأرض، وإلى كلّ عامل من أجرته وجعله.
وقيل: الخرج ما تبرّعت به، والخراج ما لزمك أداؤه.
والوجه أن الخرج أخصّ من الخراج، كقولك: خراج القرية، وخرج الكردة، وزيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءة من قرأ:
«خرجا فخراج ربك» «1» .
أقول: وهذا شيء من تصرّف المعربين بمادة هذه اللغة فقد أفادوا من مادة «خرج» الدالة على الخروج ضد الدخول، في وضع هذه المصطلحات الفنية.
16-
وقال تعالى:
(1) . الزمخشري: الكشّاف 3: 196.
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) .
وقوله تعالى: مُبْلِسُونَ (77) أي:
متحّيرون يائسون.
أقول: لعل الفعل «أبلس» ، ومادة «بلس» أيضا ذات علاقة ب «إبليس» ! 17- وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ [الآية 78] .
أقول: لم يرد السمع إلّا مفردا، وهو مقترن ب «الأبصار» جمعا، في جميع آي القرآن، ما عدا قوله تعالى:
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) .
وهذا ما لاحظناه وليس لنا أن نتكلم فيه، ولكلام الله أسرار وفوائد كثيرة.
18-
وقال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ [الآية 96] .
وقوله تعالى: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أي: الحسنى إرادة التفضيل، ومن أجل ذلك لا يتحقّق إحكام المعنى، لو يقال: ادفع بالحسنة السيئة.
19-
وقال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ.
أريد ب «الموازين» الأعمال الصالحات، والاستعارة جميلة، فثقل الموازين يدل على سعة العمل الصالح، ووزنه وقيمته. وبعكسه من كان خفيف الموزون من العمل الصالح، وقد كنا عرضنا لشيء من هذا في آية سابقة.