الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السابع المعاني المجازية في سورة «ق»
«1»
قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) . أراد سبحانه أنه يعلم غيب الإنسان ووساوس إضماره، ونجيّ أسراره. فكأنه، باستبطانه ذلك منه، أقرب إليه من وريده. لأن العالم بخفايا قلبه، أقرب إليه من عروقه وعصبه.
وليس القرب هاهنا من جهة المسافة والمساحة، ولكن من جهة العلم والإحاطة.
وفي قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) استعارة. والمراد بسكرة الموت هاهنا:
الكرب الذي يتغشّى المحتضر عند الموت، فيفقد له تمييزه، ويفارق معه معقوله. فشبّه تعالى ذلك بالسّكرة من الشراب، إلا أنّ هذه السّكرة مؤلمة.
وقوله تعالى: بِالْحَقِّ يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جاءت بالحقّ من أمر الآخرة، حتى عرفه الإنسان اضطرارا، ورآه جهارا. والآخر أن يكون المراد بِالْحَقِّ هاهنا أي بالموت، الذي هو الحقّ.
وفي قوله سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) استعارة، والمراد بها ما يراه الإنسان عند زوال التكليف عنه، من أعلام السّاعة، وأشراط القيامة، فتزول عنه اعتراضات الشكوك، ومشتبهات الأمور، يصدّق بما كذّب، ويقرّ بما جحد، ويكون كأنّه قد نفذ
(1) . انتقي هذا المبحث من كتاب: «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي، تحقيق محمد عبد الغني حسن، دار مكتبة الحياة، بيروت، غير مؤرّخ.
بصره بعد وقوف، وأحدّ بعد كلال ونبوّ. فهذا معنى قوله سبحانه: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) .
وفي قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) استعارة:
لأن الخطاب للنار والجواب منها، في الحقيقة لا يصحان. وإنما المراد- والله أعلم- أنها في ما ظهر من امتلائها، وبان من اغتصاصها بأهلها، بمنزلة الناطقة بأنه لا مزيد فيها، ولا سعة عندها. وذلك كقول الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني
…
مهلا رويدا قد ملأت بطني
ولم يكن هناك قول من الحوض على الحقيقة، ولكن المعنى أن ما ظهر من امتلائه في تلك الحال، جار مجرى القول منه فأقام تعالى الأمر المدرك بالعين، مقام القول المسموع بالأذن.
وقيل: المعنى أنّا نقول لخزنة جهنّم هذا القول، ويكون الجواب منهم على حدّ الخطاب. ويكون ذلك من قبيل:
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف/ 82] بإسقاط المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
وذلك كقولهم: يا خيل الله اركبي.
والمراد يا رجال الله اركبي.
وعلى القول الأول، يكون مخرج هذا القول لجهنّم على طريق التقرير، لاستخراج الجواب بظاهر الحال، لا على طريق الاستفهام والاستعلام. إذ كان الله سبحانه قد علم امتلاءها قبل أن يظهر ذلك فيها. وإنما قال سبحانه هذا الكلام ليعلم الخلائق صحّة وعده، إذ يقول تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)[هود] . والوجه في قوله تعالى في الحكاية عن جهنم:
هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) بمعنى لا من مزيد فيّ. وليس ذلك على طريق طلب الزيادة، وهذا معروف في الكلام.
ومثله قوله (ص) : «وهل ترك عقيل لنا من دار؟» «1» ، أي ما ترك لنا دارا.
وفي قوله سبحانه وتعالى:
(1) . قاله عليه الصلاة والسلام حين فتح مكة. فقد مضى الزبير بن العوام برايته حتّى ركّزها عند قبة رسول الله، وكان معه أم سلمة وميمونة رضي الله عنهما، وقيل: يا رسول الله! ألا تنزل منزلك من الشعب؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل منزلا؟ وكان عقيل بن أبي طالب قد باع منزل رسول الله (ص) ومنزل إخوته. والرجال والنساء بمكّة.
فقيل: يا رسول الله! فانزل في بعض بيوت مكة في غير منازلك، فقال: لا أدخل البيوت! فلم يزل مضطربا بالحجون [وهو جبل بمكّة] لم يدخل بيتا، وكان يأتي المسجد من الحجون لكلّ صلاة. انظر الخبر في «إمتاع الأسماع» للمقريزي المؤرخ، ج 1 ص 381.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) استعارة مضى نظير لها في ما تقدّم. والمعنى أنه بالغ في الإصغاء الى الذّكرى، وأشهدها قلبه فكان كالملقي إليها سمعه، دنوّا من سماعها، وميلا الى قائلها.
والمراد بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [الآية 37] أي عقل ولبّ. ويعبّر عنهما بالقلب، لأنهما يكونان بالقلب. أو يكون المعنى: لمن كان به قلب ينتفع به.
لأنّ من القلوب مالا ينتفع به، إذا كان مائلا إلى الغيّ، ومنصرفا عن الرّشد.