الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فقد كنت أتساءل عن الأسباب التي جعلت بعض العلماء يكونون محلّ ثقة وقبول عند كافة أهل العلم على اختلاف مذاهبهم؛ وأتعجّب من قلّتهم وكثرة الفقهاء والّذين لا يكادون يعرفون إلا من خلال كتب التراجم مع صلاحهم واستقامتهم وربما جهادهم فتبينّت لي الأسباب التالية:
أولًا: التجرّد لله تبارك وتعالى وهذا أخص من الإخلاص في العبادة.
الثاني: التجرد في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: تعظيم آثار الصحابة رضي الله عنهم قولًا وعملًا في فهم الكتاب والسنة.
الرابع: الاطلاع الواسع على السنن النبوية والقدرة على معرفة صحيحها من سقيمها.
الخامس: المعرفة التامة بآثار الصحابة وفتاواهم وقرنها بالحديث النبوي لمعرفة المراد منه.
السادس: العلم بقواعد الشريعة ومقاصدها.
السابع: الإلمام بأقوال أهل العلم على اختلاف مذاهبهم.
الثامن: القدرة على التوفيق بين ما يظن فيه التعارض عند غيرهم.
التاسع: معرفة الناس على اختلاف طبائعهم.
وإليك بعض الأسباب التفصيلية التي ذكرها شيخ الإسلام وكانت سببًا في الإعراض عن النصوص والآثار:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"قلت: لفظ المجمل والمطلق والعام كان في اصطلاح الأئمّة -كالشافعي، وأحمد وأبي عبيد، وإسحاق وغيرهم- سواء؛ لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم منه، كما فسره به بعض المتأخرين وأخطأ في ذلك.
بل المجمل ما لا يكفي -وحده- في العمل به، وإن كان ظاهره حقًّا، كما في قوله -تعالى-:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهذه الآية ظاهرها ومعناها مفهوم، ليست ممّا لا يفهم المراد به؛ بل نفس ما دلت عليه لا يكفي وحده في العمل، فإنّ المأمور به صدقة تكون مطهّرة مزكية لهم، وهذا إنما يعرف ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال أحمد: "يحذر المتكلّم في الفقه هذين الأصلين: -المجمل والقياس-"، وقال:"أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل، والقياس" يريد بذلك أن لا يحكم بما يدلّ عليه العام والمطلق، قبل النظر فيما يخصه ويقيده، ولا يعمل بالقياس قبل النظر في دلالة النصوص؛ هل تدفعه؟ فإن أكثر خطأ الناس تمسكهم بما يظنونه من دلالة اللفظ والقياس، فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثًا يطمئن القلب إليه، وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك وهذا هو واقع المتمسكين بالظواهر والأقيسة؛ ولهذا جعل الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طريق أهل البدع؛ وله في ذلك مصنف كبير وكذلك التمسك بالأقيسة مع الإعراض عن
النصوص والآثار، طريق أهل البدع؛ ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولًا فاسدًا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان" (1).
ثمَّ إن ابن القيم رحمه الله بيّن في "أعلام الموقعين" أخطاء أهل الظاهر:
فيقول: "فنفاة القياس لما سدُّوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح -وهو من الميزان والقسط الّذي أنزله الله- احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحملوها فوق الحاجة ووسّعوهما أكثر ممّا يسعانه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس، أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه، ولكن أخطأوا من أربعة أوجه:
أحدهما: رد القياس الصحيح، ولا سيّما المنصوص على علّته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقف عاقل في أنّ قول النبي صلى الله عليه وسلم لما لعن عبد الله حمارًا على كثرة شربه للخمر:"لا تلعنه؛ فإنّه يحب الله ورسوله" بمنزلة قوله: "لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله"، وفي أن قوله:"إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنَّها رجس" بمنزلة قوله: "ينهيانكم عن كل رجس"، وفي أن قوله -تعالى-:{إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} نهى عن كل رجس، وفي أنّ قوله في الهر:"ليست بنجس؛ إنّها من الطوّافين عليكم والطوافات" بمنزلة قوله: "كل ما هو من الطوّافين عليكم والطوافات؛ فإنَه ليس بنجس، ولا يستريب أحد في أنّ من قال لغيره: "لا
(1)"مجموع الفتاوى"(7/ 391، 392).
تأكل من هذا الطعام؛ فإنّه مسموم" نهى له عن كل طعام كذلك، وإذ قال: "لا تشرب هذا الشراب فإنّه مسكر"، نهى له عن كل مسكر، و"لا تتزوّج هذه المرأة؛ فإنها فاجرة" وأمثال ذلك.
الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دلّ عليه النّص ولم يفهموا دلالته عليه وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرّد ظاهر اللفظ، دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ضربًا ولا سبًّا ولا إهانة غير لفظة أف، فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان.
الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه؛ لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علمًا بالعدم.
الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحّة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحّة شرط أو عقدٍ أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأنَّ الأصل في العقود والشروط الصحة إلَّا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ومعلوم أنَّه لا حرام إلَّا ما حرّمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلَّا ما أثم الله ورسوله به فاعله، كما أنَّه لا واجب إلَّا ما أوجبه الله، ولا حرام إلَّا ما حرّمه الله، ولا دين إلَّا ما شرعه، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم وبين أخطاء أصحاب الرأي والقياس فقال: "وأمَّا أصحاب الرأي والقياس: فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها؛ وغلاتهم على أنها لم تف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس، وقالوا بقياس الشبه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أنّ الشارع علّقها بها، واستنبطوا عللًا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن
عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا: فتارة يقدّمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس، فكان خطأهم من خمسة أوجه: أحدها ظنّهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.
الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.
الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان هو العدل فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام.
الرابع: اعتبارهم عللًا وأوصافًا لم يعلم اعتبار الشَّارع لها وإلغاؤهم عللًا وأوصافًا اعتبرها الشَّارع -كما تقدَّم بيانه-.
الخامس: تناقضهم في نفس القياس -كما تقدَّم أيضًا-" (1).
ثمَّ قال في بيان فضل الصحابة في العلم على من بعدهم: "هذا فيما انفردوا به عنّا، أمَّا المدارك التي شاركناهم فيها -من دلالات الألفاظ والأقيسة-؛ فلا ريب أنهم كانوا أبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا، وأقلَّ تكلفًا، وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفّق له نحن، لما خصهم الله -تعالى- به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلّة المعارض أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرّب -تعالى-، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصولين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلّا أمران:
أحدهما: قال الله -تعالى- كذا، وقال رسوله كذا ..
(1)"أعلام الموقعين"(1/ 349).
والثاني: معناه كذا وكذا وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمّة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما وأما المتأخرون فقواهم تفرقة، وهممهم متشعّبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النصوص، وإن كان لهم همم تسافر إليها وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلّت من السير في غيرها، وأوهن قواهم مواصلة السرى في سواها.
والمقصود أنّ الصحابة أغناهم الله -تعالى- عن ذلك كلّه، فاجتمعت قواهم على تينك المقدّمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفاتها، وصحتها وقوة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون وقلّة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب فمنهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فيعزلها من الدين والعلم والله المستعان (1).
ولعلّ انتساب كثير من أهل العلم إلى المذاهب الأربعة ومذهب أهل الظّاهر ساعد في ضعف الأخذ بآثار الصحابة والعناية بها كالعناية بالحديث النبوي رواية ودراية وقد أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله (2).
ولا يعني هذا أن أتباع الأئمة جانبوا الصواب في معرفة الأحكام فأصول مذاهبهم معتمدة على الحديث والأثر، وبهذا كان ينادي الأئمة فما كان من تقريراتهم على منهاج الأئمة فهو الحق وبهذا حصل اتفاق الأتباع؛ لأنَّ المشكاة واحدة وما كان سوى ذلك فهو مكمن الخلاف بين الأتباع وبهذا يتبين أن أعلم الناس بالحديث والأثر سندًا ومتنًا أسعد بالصواب في كافة أبواب العلم.
(1)"إعلام الموقعين"(4/ 148، 149، 150).
(2)
"انظر الإعلام"(2/ 226).
وقد رغبت وحرصت على إحياء هذا المنهاج من خلال مذاكرة أهل العلم الكبار أمثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ المحدّث ناصر الدين الألباني -رحمهما الله- وغيرهما من أهل العلم ومن خلال الدروس والدورات العلمية فحصل -بفضل الله تبارك وتعالى اهتمام من طلبة العلم وعودة إلى فقه السلف الصالح، ثم إني رأيت من المناسب تطبيق هذا المنهاج عن طريق التعليق على أحد الكتب الفقهيّة فاخترت "الروضة الندية" للعلامة صديق حسن خان رحمه الله لأمور منها:
1 -
لعنايته بالحديث.
2 -
ولأنّه يتدارس كثيرًا في عدد من أقطار العالم الإسلامي.
3 -
ولأنه أيضًا لا يعني كثيرًا بآثار الصحابة ولا يرى أنّها حجّة في الأحكام سيرًا على أصول الظاهريّة ولعلّ هذا التأصيل تسبب في ظهور بعض الآراء الفقية الغريبة والتي لا سند لها من فقه السلف الصالح.
ومنهجي في الاستدراك على "الروضة" هو في ما يلي:
1 -
دراسة وتحقيق الأحاديث والآثار دراسة علمية.
2 -
العناية بفقه الصحابة ونقل ما أجده ثابتًا عنهم في كل مسألة.
3 -
نقل أجود ما أجد من كلام أهل العلم الذين عرفوا بالعناية بالأحاديث والآثار في تعقب المصنف.
4 -
دراسة تقريرات أهل العلم ومن ثم مناقشتها.
5 -
لا تخرج التقريرات التي أسوقها مرجحًا لها عمّا في المذاهب المعروفة أو قال بها أحد الأئمّة وله سلف من الصحابة.
وقد رأيت أن أقتصر على العبادات على أن يكون التعليق الواسع على مورد المؤلّف في كتابه وهو "نيل الأوطار" للعلامة الشوكاني -يسّر الله البدء به وإتمامه- وسمّيت هذا الكتاب "النكت العليّة على الروضة الندية"، ولا
يفوتني في الختام أن أشكر تلميذىِ الوفي خلف بن سعود الدهيم، والَّذي قام بتوثيق العزو من مصادره جزاه الله خيرًا، والله أسأل أن يجعله كتابًا مباركًا على من كتبه وقرأه وسمعه وأن يجعله حجة لي لا علي إنّه نعم المولى ونعم النصير.
وصلَّى الله وبارك على نبينا محمَّد وآله وصحبه.
وكتبه
الفقير إلى عفو ربه
أبو عبد الرحمن عبد الله بن صالح بن عبد العزيز العُبيلان
المدينة النبوية
22 محرم / 1422 هـ