الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصلاة
1 - بابُ مواقِيتِ الصّلاة
101 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"الزَّوال: أَي: زَوال الشمس، ويبيّن ذلك باخضرار الجدار إلى جهة الشّرق، يعرفه كلُّ ذي عيْنَيْن".
قال الفقير إلى عفو ربّه: ويعرف زوال الشّمس بزيادة الظّلَ بعد تناهي قصره، وتحول الشمس عن خط الْمُسامَتَه، بحدوث الظل بعد عدمِه، فتضبط ما زالت عليه الشمس من الظل، ثم تنظر الزيادة عليه، فإذا بلغت قدر الشاخص؛ فقدِ انْتَهى وقتُ الطهر.
102 -
قال الْمصَنِّف (2):
"وهو أَوّل وقت العصر؛ أَي: صَيْرورة ظِله مثْلَه.
قال ابن القيّم: وأنهم كانوا يصلونها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يذهب أحدهم إلى العوالي قَدْرَ أربعة أميال والشمسُ مرتفعة.
(1)(1/ 224).
(2)
(1/ 225 - 227).
وقال أنس: صلى بنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم العصر، فأتاه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! إنا نريد أن ننحر جزورًا، وإنا نحبّ أن تحضرها، قال:"نعم"، فانطلق وانطلقنا معه، فوجد الجزور لم تُنحر، فنحرت، ثم قطعت، ثم طبخ منها، ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس، ومحال أن يكون هذا بعْدَ المِثْلَين.
وفي "صحيح مسلم" عنه: "وقت صلاة الطهر ما لم يحضر العصر"، ولا معارض لهذه السنن في الصحة ولا في الصراحة والبيان، فردَّتْ بالمجمل من قوله صلى الله عليه وسلم: "ومَثَلُ أهل الكتاب قبلكم بهمثل رجل استأجر أجيرًا، فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟
…
"إلخ.
وياللهِ العَجَبُ! أيُ دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة؟! وإنّما يدل على أن من صلاة العصر إلى غروب الشّمس أقصر من نصف النّهار إلى وقت العصر، وهذا لا ريب فيه، انتهى.
(وآخره) أي: آخر وقت العصر؛ صيرورة ظله مثيله.
قال الشافعي: "آخر الوقت المختار للعصر أن يكون ظل كل شيء مثيله.
وقيل: إلى أن تصفَرَّ الشمسُ، وآخر وقت الضرورة مغيبُ الشّمس" كذا في "المُسوى".
وفي "الحُجة البالغة": وكثير من الأحاديث يدلُّ على أن آخر وقت العصر أن تتغير الشمس، وهو الذي أطبق عليه الفقهاء، فلعل المثلين بيان لآخر الوقت المختار والذي يستحب فيه، أو نقول: لعل الشرع نظر -أولًا- إلى المقصود من اشتقاق العصر، أن يكون الفصلُ بين كل صلاتين نحوًا من ربع النهار، فجعل الأمَدَ الآخِرَ بلوغ الظل إلى المثلين، ثم ظهر من حوائجهم وأشغالهم ما يوجب الحكم بزيادة الأمد.
وأيضًا معرفة ذلك الحد تحتاج إلى ضرب من التأمل وحفظ الفيء الأصلي ورصده.
وإنما ينبغي أَنْ يخاطب الناس في مثل ذلك بما هو محسوس ظاهر، فنفث الله -تعالى- في رَوْعِه صلى الله عليه وسلم أَنْ يجْعَل الأَمد تغير قرص الشمس، أَو ضوئها، والله تعالى أَعلم".
قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن عبد البر: "وقد أَجمع العلماء على أَنّ مَن صلى العصر والشمس بيضاءُ نقية لمْ تدخُلْها صفرة؛ فقد صلاها في وقتها المختار"(1).
"وأَصرح حديث في تحديد وقتِها؛ حديث جبرائيل: "أنه صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الأَول، وظِل الرجُل مثْلَه، وفي اليوم الثاني: وظِل الرجُل مِثْلَيه"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلاة ما بَيْنَ هذيْن الوقتين"، وهذا مذهب جماهير العلماء، ومن صلاها في ذلك الوقت فقد صلاها في وقتِها، ثم يدخل وقت الضرورة.
قال أبو العباس: وهو الصحيح الذي تدل عليه الأَحاديث المدَنية.
وقال: نقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أَن الوقت للصلوات الخمس وقتُ اختيار وهو خمسة، ووقت ضرورة وهو ثلاثة" (2).
ويعني رحمه الله بالثلاثة: الفجر -وقتَ الإسفِرار جدًّا-، والعصر -وقت الإصفرار إلى الغروب-، والعِشاءَ -منتصف الليل إلى طلوع الفجر-.
103 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"ما دامتِ الشمس بيضاءَ نقيّةً؛ فإذا اصفرت؛ خرج وقت العصر؛ لِمَا ورد في ذلك من الأَحاديث؛ منها: حديث ابن عمرٍو، قال: قال
(1)"التمهيد"(8/ 76).
(2)
"الإحكام" للعلامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 152).
(3)
(1/ 227).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وقت صلاة الطهر ما لم يحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثَوْرُ الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس".
أَخرجه مسلم، وأَحمد، والنسائي، وأَبو داود.
قال الفقير إلى عفو ربه: قال أَبو العباس: "وليس في المواقيت حديث أَصح منه"(1).
104 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"وآخره ذَهابُ الشفق الأَحمر: جميع كتب اللغة مصرحة بهذا، وجميع أَشعار العرب ومَنَ بعْدَهم، فمن زعم أن الشفق في لسان أهل اللغة -أو لسان أهل الشرع- يُطْلَق على البياض فعليه الدليلُ، ولا دليلَ.
ولو فُرض وجُود ما يدل على ذلك فلا يُنكر نُدورُه، كما لا يُنْكر أن الشائع في "لسان العرب" وأهل الشرع إطلاقُهُ على الحُمرة، والحمل على الأعم الأغلب هو الواجب، ولا يُحمل على النّادر، فليس ها هنا ما يُسَوِّغ اختلافَ المذاهب".
قال الفقير إلى عفو ربه: ثبت عن ابن عمر أنه قال: "الشَّفق: الْحُمْرَة". أَخرجه البيهقي (3)، وابن المنذر (4) من طريق أَبي مصعب الزهْرِي، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به.
وقد جاء مرفوعًا ولا يصحُّ.
(1)"الإحكام" للعلَّامة عبد الرحمن بن قاسم (1/ 155).
(2)
(1/ 228 - 229).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 373).
(4)
"الأوسط"(2/ 339).
105 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"وآخرُه طلُوعُ الشمس، ومما ينبغي أَن يعلم: أن الله عز وجل لم يُكَلِّف عباده في تعريف أوقات الصلوات بما يَشُق عليهم ويتعسر، فالدين يُسر والشريعة سمحة سهلة، بل جعل صلى الله عليه وسلم للأوقات علاماتٍ حِسيةً يعرفها كل أحد، فقال في الفجر: طلوع النور الذي هو من أوائل أجزاء التهار يعرفه كل أحد، وقال في الطهر: "إذا دحضت الشمس"، إذا زالت الشمس، وقال في العصر: "والشمس بيضاء نقية"، وقال في المغرب: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا"، وقال في العشاء: مَنْ قَدَّرَ وَقْتَ صَلاته بأنّه كان يصليها وقت غروب الهلال ليلة ثالث الشهر، وورد التقدير بالشفق، وورد التقدير بثلث الليل وبنصفه، فهذه العلامات لا تلتبس إلا على أَكْمَه".
قال الفقير إلى عفو ربه:
(فائدة): ما بَين العِشاءَيْن ثُمُنُ الليل، وما بين طلوعِ الفجر وطلوع الشمس سبْعُه، ووقت الفجر يتابع الليل، فيكون في الشتاء أطوَلَ، والعشاء بالعكس.
106 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"والنَّظر في النجوم -وإن كنت لا أظن ثبوت ذلك- هو النظرُ الذي يكون في الشمس والقمَرِ والظلة المُقْتَرِنة بالنجوم، والمراد أنه يستدلّ على دخول وقت كذا بكون النجم في مكان كذا، ما يكون مثل ذلك في الشمس والقمر، لا أنه النَّظرُ المفضي إلى الاشتغال بعلم النجوم -المؤدي إلى الوقوع في مضايقَ عن الشريعة بمعزلٍ-؛ فإن هذا علم نهى عنه الشارع، وحَذرَ عن إتيان صاحبه، حتى جعل ذلك كفرًا، فكيف يجعل طريقًا إلى أمر من أمور الشريعة ومُهِم من مُهِماتها؟!
فمن ظن أن شيئًا من علم الشريعة محتاج إلى علم النجوم المصطلح
(1)(1/ 231).
(2)
(1/ 232).
عليه؛ فهو إما جاهل لا يدري بالشريعة، أو مغالط قد مالت نفسه إلى ما نهى عنه الشارع، وأراد أن يدفع عن نفسه القالَةَ، فاعتل بأنّه لم يتعلق بمعرفة ذلك إلا لكونه قد تعلقت به معرفة أوقات الصلوات، وكثيرًا ما نسمعه -من المشتغلين بذلك- يُدلي بهذه الحجة الباطلة، فيُصَدْقُه من لم يَثْبتْ قدَمُه في علم الشريعة المطهرة.
ومن أعظم المروجات بهذه البلية ما وقع من جماعة من المشتغلين بعلم الفقه من تعداد النجوم وتقدير المنازل، والاستكثار من ذلك بما لا طائل تحته، إلا تأنيس النجمين، فإنا لله وأنا إليه راجعون!
وحال الكلام: أن هذه تكاليف موجهة، كلف الله -تعالى- بها عباده، وعين أوقاتها تعيينًا يعرفه العالم والجاهل، والقروي والبدوي، والحُرُّ والعبد، والذكر والأنثى على حدّ سواء، اشترك فيه كل هؤلاء، لا يحتاج معه إلى شيء آخر.
أمع الصُّبْح للنُّجوم تجَل
…
أم مَعَ الشَّمْس للظلام بَقاءُ
قال صاحب "سُبُل السلام": التوقيت في الأيام والشهور والسنوات بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة، فلا يُمكن عالمٌ من علماء الدّنيا أنْ يدَّعي أن ذلك كان في عصره صلى الله عليه وسلم، حين أخرج كتب الفلاسفة وعرَّبها، ومنها المنطق والنجوم؛ فإنه علم أولئك اتذين قال الله -تعالى- فيهم:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ، فأقل أحوال المُقرّين على حساب المنازل القمرية أنهم مبتدعون، وكل بدعة ضلالة.
ولقد عظمت هذه البدعة في الحرمين الشريفين، فإنهم في مكة المكرمة لا يعتمدون إلا على ذلك ولهم فيه أنواع مؤلفات مثل "الربعُ المجيب" ونحوه؛ يدرسونه يقرءونه ويعتمدونه، وهو من العلم الّذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"علم لا ينفع وجهل لا يضر".
وهو في علم أهل الكتاب، فإن أعيادهم ونحوها تدور على حساب سَيْر الشمس، ولعله دخل على المسلمين من علم اليونان وأهل الكتاب،
ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أنزل الله -تعالى- عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} ، وكان أهل بيته وأصحابه رضي الله عنهم على ذلك؛ لا يعرفون منازل الزيادة والنقصان، ولا ما يجعله المتأخرون هو الميزان، ولا شيئًا من هذه الأُمور التي صار ذلك التكليف الموقت يدور عليها".
قال الفقير إلى عفو ربه: قال العلامّة المحققُ أَحمد شاكر رحمه الله: "يَظْهَرُ أَن صاحبَ "سبُل السلام" -وِمِنْ بَعْدِه الشارِحُ- لم يعرفا الفرْقَ بين علم النجوم المنهيّ عنه -وهو دعوى معرفةِ الغيب بحسابها وما إلى ذلك-، وبين علم الفَلك، والميقاتِ، وتقديرِ منازلِ الشمسَ، والقمرِ، والنجوم، وهي من العلَوم الصّحيحةِ الثابتةِ ببراهينَ قطعيّةٍ؛ مبنيةٍ على الحساب الصحيح، وبه يُعلمُ الكسوفُ، والخسوفُ، ومواقيتُ الصلاة، والشهورُ، وغيرُ ذلك.
حقيقةً؛ لم يكن في عصره صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الخلفاء الراشدين؛ ولكنَّا لا نسمِّيه بدعةً؛ لأَن كلَّ عِلْم مُسْتَحْدَث ينفع النَّاس؛ يجب تعلُمه على بعض أفراد المسلمين؛ ليكون قوةً لهم تَرْقَى بها الأُمة الإسلامية، وإنما البدعةُ ما يستحْدِثُه النّاس في أَنواع العبادات فقط، وما كان في غير العبادات ولم يخالف قواعد الشريعة؛ فليس بدعةً -أَصلًا- والله المُوَفق" (1).
107 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"ومَن نام عن صلاته أَوْ سها عنها؛ فوقتُها حين يذكُرُها؛ أَي: وقتُ القضاء إذا ذكر، وقد دلت على ذلك الأَحاديث الصّحيحة؛ كحديث أنس عند البخاري ومسلم وغيرهما، وحديث أبي هريرة عند مسلم وغيره.
وقد ورد هذا المعنى من غير وجه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ".
(1)"التعليقات الرضية"(1/ 234).
(2)
(1/ 235).
قلت: وعلى هذا أَهل العلم، وقاسوا الْمُفَوِّت قصدًا على النائم، كذا في "الْمُسَوى".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: وحجتُهم في إلحاق الْمُفَوتِ قصدًا على النائم: ما رواه مسلم (1) عن أَبى ذَرٍّ، قال: قال لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم:"كيف أَنت إذا كانت عليك أُمراء؛ يؤَخرون الصلاة عن وقتِها -أَوْ يُمِيتون الصّلاة عن وقتِها-؟! "، قال: قلت: فما تأْمُرُني؟ قال: "صل الصلاة لِوَقْتِها، فإنْ أَدْرَكتَها مَعَهم؛ فصلِّ؛ فإنها لك نافلة".
108 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"وأَدركَ مِنَ الصلاة رَكْعَةً؛ فقد أَدركَها -أَي: الصلاة-؛ لِمَا وردَ في ذلك من الأَحاديث الضحيحة، كحديث أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أدرَكَ منَ الصبحِ ركعةً قبلَ أن تطلعَ الشمسُ؛ فقد أدرَكَ الصبحَ، ومن أدركَ منَ العصر ركعة قبل أن تغرُبَ الشّمسُ؛ فقد أدركَ العصرَ"؛ وهو في "الصّحيحين" وغيرهما.
ونحو ذلك حديث عائشة عند "مسلم" وغيره، وقد ثبت من حديث أبي هريرة في "الصحيحين" وغيرهما بلفظ:"من أدركَ ركعةً من الصلاةِ فقد أدركَ الصلاةَ"، وهذا يشمل جميع الصَّلوات لا يَخُصُّ شيئًا منها.
قلت: هذا الحديث يحتمل وجوهًا: أحَدُها من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت؛ فالجميع أداء وإلا فقضاء، وهو الأصح عند الشافعية.
وقال أَبو حنيفة بذلك في العصر خاصة.
قال الفقير إلى عفو ربه: هذه من المسائل الدقيقة التي قد تَخْفَى حتى على بعض أَهل العلم؛ وجه ذلك:
(1) في "الصحيح"(1465).
(2)
(1/ 236).
ما رواه ابن أَبي شيبة (1): حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أَيّوب، عن محمد بن سيرين، عن بعض بني أَبي بكرة:"أَن أبا بكرة نام في دالية لهم، فظَنَنا أنه قد صلى العصر، فاستيقظ عند غروب الشمس، قال: فانتظر حتى غابتِ الشمس، ثم صلى".
وبما رواه أَيضًا (2): حدثنا أَبو خالدِ الأَحمرُ، عن سعد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن عبد الملك بن كعب، عن أَبيه، قال:"نمت عند الفجر حتّى طَلَع قَرن الشمس؛ ونحن حارفون في مال لنَا، فملت إلى شربة من النخل أتوضّأُ، قال: فَبَصَر بي أَبي فقال: ما شأْنُك؟ قلت. أُصلي؛ قد توضأت، فدعَاني، فأَجلسني إلى جنبه، فلمَّا أَن تعلت الشمس وابيضت وأَتيت المسجد؛ فضربني قبل أَن أَقوم إلى الصلاة، قال: تنْسَى؟! صل الآن".
فهذا الأَثران يدلان على أَنّه إذا استيقظ وهُو يرى الشمس غَرُبت -أَو كادت تغْرُب-؛ فإنه يُمْسِكُ ولا يُصلّي ولو كان فرضًا، وبهذا يُخَصُّ عمومُ قولِه صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ أَدرك مِنَ العصر رَكْعَةً قبل أَن تَغْرُب الشّمسُ؛ فقد أَدرك العصر"؛ أَي: فيما عدا هذه الضورةِ الواردةِ في هذين الأَثرَيْن الثابتين.
109 -
قال الْمصَنِّف (3):
"وثانيها: مَن أَدرك من الْمَعذُورِين من الوقت ما يَسَعُ ركعة من الصلاة؛ فقد وجبت عليه تلك الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة وقول للشافعي.
وثالثها: أن الجماعة تدرك بركعة، وهو وجه للشافعية.
(1)"المصنف"(1/ 413).
(2)
"المصنف"(1/ 413).
(3)
(1/ 237).
وقال أَبو حنيفة: لو أَدرك التشهد كان مُدرِكًا للجماعة، كذا في "الْمُسَوى".
قال الفقير إلى عفو ربه: الآثارُ الثابتةُ مِنْ عَمَل الصحابة؛ تدل على أَنهم يَرَوْنَ أَن الصلاة لا تُدركُ إلا بِرَكْعَة فما زاد، فقد ثبت عن غير واحد مِنهم ذلك؛ منهم:
1 -
ابن عمر، قال:"إذا أَدركَ الرجلُ يوم الجُمُعَة رَكعَةً؛ صلى إليها أُخرى، وإن وجدَهم جلوسًا صلى أَربعًا": أَخرجه عبد الرزاق (1)، عن معمر، عن أَيوب، عن نافع، عن ابن عمر به.
2 -
عن أَنس، قال. "إنْ أَدركَهم جلوسًا؛ صلَّى أَربعًا". أَخرجه ابن أَبي شيبة (2)، قال. حدَّثنا عبدة، عن سعيد، عن قَتادَة، عن أَنس به.
3 -
ابن مسعود، قال:"مَن أَدرك الركعة؛ فقد أَدرك الجُمُعة، ومَن لم يدركِ الْجُمُعَةَ؛ فَلْيُصل أَربعًا": أَخرجه عبد الرزاق (3)، وابن أَبي شيبة (4)، وابن الْمُنذر (5) من طريق أَبي إسحاق عن أَبي الأَحوص، عن ابن مسعود به.
وأَخرجه ابن أَبي شيبة (6): حدثنا هشيم، عن حجاج، عن أَبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، قال:"مَن لم يدركِ الركوع يومَ الْجُمُعة؛ فليصل أَربعًا".
4 -
عمران بن حُصين، قال: "جاء رجل إلى عمران بن الحصين، فقال: رجلٌ قد فاتَتْه الجُمعة كم يُصلي؟ قال عمران: ولِمَ تَفُوتُه الْجُمُعَةُ؟! فلمّا ولى الرجلُ، قال عمران: أَمَا إنه لو فاتَتْنِي الْجُمُعَةُ صليت
(1)"المصنف"(3/ 235).
(2)
"المصنف"(2/ 130).
(3)
"المصنف"(3/ 235).
(4)
"المصنف"(2/ 128).
(5)
"الأوسط"(4/ 101).
(6)
"المصنف"(2/ 129).
أَربعًا": أَخرجه عبد الرزاق (1) أَخبرنا معمر عن يحيى بن أَبي كَثير، عن أَبي نضرة به.
110 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"وقد رد ابن القيم على من قال بكونها خلاف الأُصول، وردَّه بالمتشابه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقتَ طلوع الشمس أَتَمَّ ردٍّ -في "إعلام الْمُوَقعين"-؛ فليرجِعْ إليه".
قال الفقير إلى عفو ربه؛ قال ابن القيم: "رَدَّ السنة الصحيحةَ الصريحةَ الْمُحْكَمَةَ: في أَن مَنْ أَدركَ رَكْعَةً مِنَ الصبح قبل أَنْ تطلُع الشمس؛ فقد أَدرك الصُّبح، بكونها خلاف الأُصول، وبالمُتشابِه من نَهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقتَ طلوع الشمس.
قالوا: والعام -عندنا- يعارضُ الخاصَّ، فقد تعارض حاظِر ومُبيح، فقدمنا الحاظر احتياطًا؛ فإنه يوجب عليه إعادةَ الصلاة، وحديث الإتمام يجوز له الْمُضِيُّ فيها، وإذا تعارضا صِرنا إلى النصّ الذي يوجب الإعادةَ لتتيقن براءَة الذمة.
فيقال: لا ريب أَن قولَه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَدرك رَكعة من العصر قبل أَن تغرب الشمس؛ فلْيُتِم صلاتَه، ومَن أَدرك رَكعة من الصبح قبل أَنْ تطلع الشمس؛ فلْيُتِم صلاتَه" هو حديث واحد، قاله صلى الله عليه وسلم في وقت واحد، وقد وجبت طاعته في شطره، فتجب طاعته في الشطر الآخر، وهو مُحكم خاص لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، لا يحتمل غيره البتة، وحديث النهي عن الصلاة في أَوقات النهي عامٌّ مُجمل، قد خص منه عصر يومه بالإجماع، وخص منه قضاء الفائتة والْمَنسية بالنص، وخص منه ذوات الأَسباب بالسنة كما قضى النبي صلى الله عليه وسلم سُنة الظهر بعد العصر، وأَقر من قضى سنة الفجر بعد صلاة الفجر، وقد أَعلمه أَنها سنة الفجر، وأَمر من صلى في رَحلِه ثم جاء مسجدَ
(1)"المصنف"(3/ 236).
(2)
(1/ 237).
جماعة؛ أَن يصلِّيَ مَعَهم، وتكون له نافلة، وقاله في صلاة الفجر وهي سبب الحديث.
وأَمر الداخل -والإمامُ يخطب- أَن يصليَ (تحية المسجد) قبل أَن يجلس، وأَيضًا؛ فإن الأَمر بإتمام الصلاة وقد طَلَعَتِ الشمسُ؛ فيها أَمرٌ بإتمامِ لا بابتداء، والنهيَ عن الصلاة في ذلك الوقت نهي عنِ ابتدائها لا عنِ استِدامتها؛ فإنه لم يقل: لا تُتِموا الصلاة في ذلك الوقت، وإنما يقال: لا تصلوا، وأَين أحكام الابتداء من الدوام، وقد فرق النصُّ والإجماع والقِياس بينَهما" (1).
111 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"يُصلون كغيرهم من غير تأْخير؛ وجهه: أنهم داخلون في الخطاب المشتمل على تعيين الأوقات وبيان أوّلها وآخرها، ولم يأت ما يدل على أنهم خارجون عنها، وأن صلاتهم لا تجزئ إلا في آخر الوقت".
قال الفقير إلى عفو ربه: انظر النكتة (89).
112 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"وروي استثناءُ نصف النهار يوم الجمعة".
قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا ما دلت عليه آثار الصحابة؛ منهم:
1 -
أَبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، قال عبد الله بن سيدان السلمي: "شهدت الجُمُعة مع أَبي بكرٍ الصِّدِّيقِ؛ فكانت خطبتُه وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدنا مع عمر؛ فكانت خطبتُه وصلاتُه إلى أَن أَقول: انتصَف النهار، ثم شهدنا مَعَ عثمان فكانت خطبتُه وصلاته إلى أَنْ أَقول:
(1)"إعلام الموقعين"(2/ 362).
(2)
(1/ 239).
(3)
(1/ 241).
زال النهار، فما رأَيت أَحدًا عاب ذلك ولا أَنكرَه".
أَخرجه بن أَبي شَيبة (1): حدثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج الكلابي، عن عبد الله بن سيدان السلمي به.
وهذا إسنادٌ رجالُه ثقات سوى عبدِ الله بن سيدان السلمي، قال الحافظ:"تابعي كبير؛ إلا أنه غير معروف العدالة"(2).
2 -
ابن مسعود رضي الله عنه، قال عبد الله بن سلمة:"صلى بنا عبد الله الجمعة ضحًى، وقال: خشيت عليكم الحَر".
أَخرجه ابن أَبي شيبة (3): حدثنا غندر، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد الله بن سلمة به.
وهذا إسناذ رجالُه ثقات، سوى عبدِ الله بن سلمة، قال الحافظ:"صدوق تغير حِفظُه"(*).
3 -
علي بن أَبي طالب رضي الله عنه، فقد روى ابن أَبي شيبة (4): حدثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل بن سميع، عن أَبي رزين، قال:"كنّا نصلي مع على الجُمُعَةَ، فأَحيانًا نجد فيئًا، وأَحيانًا لا نجِدُه"، وهذا إسنادٌ صحيح.
4 -
عمَّار بن ياسر رضي الله عنهما، فقد روى ابن أَبي شيبة (5): حدثنا عبد الرحمن بن محمدٍ المحاربي، عن إسماعيل بن سميع، عن بلال العبسي:"أَن عمارًا صلى بالناس الْجُمُعَةَ والنّاس فريقان؛ بعضُهم يقول: زالتِ الشمس، وبعضُهم يقول: لم تَزُل"، وهذا سند صحيح.
(1)"المصنف"(1/ 444).
(2)
"الفتح"(2/ 321).
(3)
"المصنف"(1/ 445).
(*) الأقرب أنه ضعيف يعتبر به إذا لم ينفرد. والله أعلم.
(4)
"المصنف"(1/ 445).
(5)
(1/ 445).
113 -
قال الْمُصَنف (1):
"واستنبط جوازها في الأَوقات الثلاثة في المسجد الحرام؛ من حديث: "يا بني عبدِ مَناف! مَن وَلي منكم من أَمر الناس شيئًا؛ فلا يَمْنَعَن أَحدًا طاف بهذا البيت وصلى أَيةَ ساعة شاء؛ من ليل أَو نهار".
قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا خاص بالركعتين بعد الطواف، لا مطلَق النفل، وبهذا جاءت الآثار عن الصحابة:
1 -
فقد روى مالك (2) عن أَبي الزبير المَكي، قال: رأَيت عبد الله ابن عباس يطوف بعد صلاة العصر، ثم يدخل حجرتَه؛ فلا أَدري ما يصنَع.
2 -
وروى البخاري (3) عن عروة، عن، عائشة:"أَنّ ناسًا طافوا بالبيت بعد صلاة الصبح، ثم قعدوا إلى المذكر حتى إذا طلعت الشمس قاموا يصلون، فقالت عائشة: قعدوا حتى إذا كانت الساعة التي تكره فيها الصلاة قاموا يصلّون".
3 -
وروى ابن أبي شيبة (4) حدثنا ابن فضيل عن عبد الملك عن عطاء عن عائشة، أنها قالت:"إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو بعد العصر فطف، وأخر الصلاة حتى تغيب الشمس وحتّى تطلع، فصل لكل أسبوع ركعتين".
4 -
وروى عبد الرزاق (5) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "قدم أبو سعيد الخدري حاجًّا أو معتمرًا، فطاف بالبيت بعد الصبح، فقلت: انظروا كيف يضع، فلما فرغ من سبعة قعد، فلما طلعت الشمس صلى ركعتين".
(1)(1/ 241).
(2)
(1/ 369).
(3)
في "صحيحه"(1628).
(4)
"المصنف"(3/ 182).
(5)
"المصنف"(5/ 36).
114 -
قال المصنف (1):
وأقول: الأحاديث في النهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وبعد صلاة العصر قد صحت بلا ريب، وهي عمومات قابلة للتخصيص بما هو أخص منها مطلقًا، لا بما هو أعمّ منها من وجه، وأخص منها من وجه، كأحاديث الأمر بصلاة تحية المسجد؛ فإنه من باب تعارض العمومَين، والواجب المصير إلى الترجيح، فإن أمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب العمل به، وإن لم يمكن؛ وجب المصير إلى الترجيح بأمور خارجة؛ فإنْ تعذر من جميع الوجوه؛ فالتخيير أو الاطراح في مادة".
قال الفقير إلى عفو ربّه: قال شيخ الإسلام: "فإن قيل: أحاديث النّهي عامة فنحن نحملها على عمومها إلا ما خصه الدليل، فما علمنا أنه مخصوص المجيء نص خاص فيه خصصناها به، وإلا أبقيناها على العموم.
قيل: هذا إنّما يستقيم أن لو كان هذا العلم المخصوص لم يعارضه عمومات محفوظة أقوى منه، وأنه لما خصّ منه صور علم اختصاصها بما يوجب الفرق، فلو ثبت أنه عام خص منه صور لمعنى منتف من غيرها بقى ما سوى ذلك على العموم، فكيف وعمومه منتف! وقد عارضه أحاديث خاصة وعامة عمومًا محفوظًا، وما خص منه لم يختص بوصف يوجب استثناءه دون غيره، بل غيره مشارك له في الوصف الموجب لتخصيصه، أو أولى منه بالتخصيص، وحاجة المسلمين العامة إلى تحية المسجد أعظم منها إلى ركعتي الطواف، فإنّه يمكن تأخير الطواف، بخلاف تحية المسجد، فإنَّها لا تمكن، ثم الرجل إذا دخل وقت نهي، إن جلس ولم يصل، كان مخالفًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مفوتًا هذه المصلحة، إن لم يكن آثمًا بالمعصية، وإن بقي قائمًا أو امتنع من دخول المسجد، فهذا شر عظيم، ومن الناس من يصلي سنة الفجر في
(1)(1/ 241).