الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الفقير إلى عفو ربه: لم يقُم دَليلٌ من الْكِتاب والسُّنَّة والأَثَر على أَن المياهَ تَنْقَسِمُ إلى ثلاثَةِ أَقسامٍ -طَهُورٍ، وطاهِر، وَنَجس- كما يُقَررُه كثِيرٌ من الفقهاء-!
بَلِ الْحَق -كما هُو الدليلُ- أَن الْمياهَ قِسمانِ: طَهورٌ، وَنَجِسٌ.
والماءُ المستعمل؛ لا ريبَ أنه ليس بِنَجِسٍ؛ لأَن غايةَ ما فِيه: أنَّه ماءٌ طاهِرٌ؛ لاقَى أَعضاءً طاهِرَةً؛ فما الذي يُخْرِجُه عن كوْنِه طَهُورًا؟!
قال الله -تعالى-: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1)؛ فلا يَحلُّ الْعُدُولُ عَنه إلى التَّيَمُم؛ لأنه داخل في عُمومِ الآية -قطعًا-.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ"(2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الماءَ لا يَجْنُبُ"(3).
* * *
ثانِيًا: بابُ النَّجاسات
9 -
قال الْمصَنِّف (4):
"فالحق الْحَقِيقُ بالْقَبُولِ: الْحُكم بنجاسة ما ثبَتت نجاستُه بالضرورة الدينِية -وهُو بولُ الآدَمِي وغائِطُه، وأمَّا ما عداهما؛ فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته -كالروثة-؛ وجب الحكم بذلك من دون إلحاق، وإن لم يرد؛ فالبراءة الأَصلية كافيةٌ في نفي التعبّد يكون الشيء نجسًا من دون دليل؛
(1)[المائِدَة: 6].
(2)
مُتفق عليه (خ / 283)، (م / 598).
(3)
أَخرجَه أَبو داودَ (68)، والترمِذِيُّ (65)، وغيْرُهما.
(4)
(1/ 107).
فإن الأَصل في جميع الأَشياء الطهارةُ، والحكم بنجاستها حكمٌ تكليفيّ؛ تعمُّ بها البلوى، ولا يَحلُّ إلا بعد قيام الحُجة.
قال الماتن -رحمه الله تعالى-: ولا يخفى عليك أَن الأَصل في كل شيء أنَّه طاهر؛ لأَنّ القول بنجاسته يستلزم تعبُّدَ العباد بحكم من الأَحكام، والأَصل عدم ذلك، والبراءة قاضية بأَنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبتَ ثبوتًا يَنْقِلُ عن ذلك، وليس مَنْ أَثبَتَ الأَحكام المنسوبة إلى الشّرع بدون دليل بأَقَلَ إثمًا ممَّن أَبطل ما قد ثبت دليله من الأَحكام، فالكلُّ إمّا من التقوّل على الله -تعالى- بما لم يقل، أَو مِنْ إبطال ما قدْ شَرَعَه لِعبادِه بلا حُجة".
قال الفقير إلى عفو ربه: غاية ما اعتمَدُوا عليه -رحمهمُ الله تعالى-: هو قولُه صلى الله عليه وسلم: "عامَّةُ عَذاب الْقَبْرِ مِنَ البَوْلِ؛ فَتَنَزهُوا مِنَ الْبَوْلِ"(1)؛ فَظَنُّوا أَن هذا عامٌّ في جَمِيعِ الأَبوالَ!
والْحَق أنَّه ليسَ كذَلِكَ؛ فإن اللام لِتَعْريف الْعَهد، والبَولُ المعْهود: هو بولُ الآدَمي؛ فَفي حدِيثِ ابنِ عبّاسِ رضي الله عنهما: "كانَ أَحَدُهما لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ"(2)، وهذا صَريحٌ في أَن الْمُرادَ: بولُ الآدَمِي.
10 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"إلَّا الذكر الرَّضِيع؛ لحديث: "يُغسَلُ من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام": أخرجه أبو داود -رحمه الله تعالى-، والنسائيُّ -رحمه الله تعالى-، وابن ماجه، والبزار، وابن خزيمة، من حديث أبي السمح -خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصححه الحاكم.
وأَخرج أَحمد والترمذي- وحسّنه-، من حديث عليّ رضي الله عنه، أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1) أَخرَجَه الدارَقُطنِي (1/ 218)، والحاكِمُ (1/ 183)، وغَيرُهما من حديث ابنِ عباس، وإسنادُه صحيح.
(2)
متفق عليه (ح / 218)، (م / 678)، واللفظ للبخاري.
(3)
(1/ 109).
"بولُ الغلام الرَّضيعِ ينضحُ، وبولُ الجارية يُغْسَلُ".
وأَخرج -أَيضا- ابْنُ ماجه، وَأَبو داود بإسنادِ صحيح عن عليّ؛ موقوفًا.
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبَّان، والطبراني، من حديث أُمّ الفضل -لُبابة بنت الحارث-، قالت: بال الحسين بن علي في حِجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أعطني ثوبك والبس ثوبًا غيره حتى أغسله، فقال:"إنما يُنْضَحُ من بول الذكَر، ويُغْسَل من بول الأُنثى".
وثبت في "الصحيحين"، وغيرهما من حديث أم قيس بنت مِحصن: أنّها أتت بابنِ لها صغير -لم يأكل الطعام- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبال على ثوبه، فدعا بماء، فنضحه ولم يغسله.
وفي "صحيح البخاريّ" من حديث عائشةَ، قالت: أُتيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَصَبى يُحَنكُه، فَبال عليه، فأَتبَعَه الماء.
وفي "صحيح مسلم" عنها، قالت: كان يؤْتَى بالصبيان، فَيُبرك عليهم، ويحنكُهم، فأتي بصبي، فبال عليه، فدعا بماءٍ، فأَتبَعه بولَه ولم يغْسِله.
فهذا تصريح بأَنه لم يغسِلْه، فيكون إتباعُه الماءَ مجرّد النّضح، كما وقع في الحديثين الآخرين، أَو مجرّد صبّ الماء عليه من دون غسل.
وبالجُملة: فالتَّصرِيح منه صلى الله عليه وسلم بالقولِ بما هو الواجِبُ في ذلك؛ هو الأَولَى بالاتباع؛ لكَونِه كلامًا مَعَ أُمَّتِه، فلا يُعارِضُه ما وقع من فِعْلِه؛ على فَرَضِ أنّه مُخالِفٌ للقَوْل".
قال الفقير إلى عفو ربه: وَهنا لا يَظْهَرُ -مُطْلَقًا- أَدنَى تعارُض بينَ قولِه صلى الله عليه وسلم وَفعلِهِ؛ فإنّه يجِبُ حَمْلُ الْمُجمَلِ -في قولِها: "فأَتبَعَهُ الْماءَ" -علَى الْمُبَينِ- في رِوايَةِ: "وَلَمْ يَغْسِلْهُ"-؛ والْفِقه إنما يُؤخَذُ من مَجْمُوع النُّصوصِ والطُّرُقِ.
11 -
قال الْمصَنِّف (1):
"وهذا فيه مخالَفة لِما وقع في هذه الأَحاديث الصحيحة من التَّفرقة بين الغلام والجارية".
قال الفقير إلى عفو ربه: وسبب هذه المُخالَفةِ؛ عدمُ النظرِ إلى النّصوصِ الواردة في هذه الْمسأَلة، وَمِنْ ثَمَّ جَمْعُها؛ لِيَتَبَيَّنَ فِقْهُها.
وهذِه إحدَى المآخِذِ الكَبيرَةِ على بعضِ الفُقهاءِ؛ الَّذين يأْخُذون الفِقْهَ مِن نصّ واحد ويدَعُون باقِيها؛ فإن الفقه الْمُحَقَّقَ هو قدرَةُ العالِم على التَّوفِيق بين الأَدلَّة؛ كما قال -تعالى- بعد أَنْ ذَمّ أَهلَ الكتابِ بأَخذِهِمْ بعضَ العِلمِ، وَتركِهِم بعضَهُ-:{فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} (2).
12 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"وليتَ أَنّ المَشْغُوفِينَ بِمَحَبة مذاهب الأَسلافِ جَعَلُوهُ كَأَسلافِهم، فسلكوا فيما بين كلامِهِ وكلامهم طريقةَ الَإنصاف؛ ولكنَّهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأَسلافهم، فيردُّون كلامه صلى الله عليه وسلم إلى كلامِهم، فإن وافقهم فبها ونعمت، وإنْ لم يوافقهم؛ فالقول ما قالت حَذامِ.
فإنْ أَنكرتَ هذا؛ فهاتِ؛ أَبِنْ ليَ ما الَّذي اقتَضى هذه التّأوِيلاتِ المتعسفَةَ، وردّ أَحاديثَ التخصِيصِ الصَحِيحَةَ؟! مع تسليمهم أَن الخاصَّ مقدَّمٌ على العام، وأنّه يُبْنَى الْعامُّ على الخاص!
وهذا مُشْتَهِرٌ في الأُصولِ اشْتِهار النهار".
قال الفقير إلى عفو ربه: وسَبَب هذا -والله أَعلم-؛ هُو التقليد المَذْمومُ في الكِتاب والسُّنة، ودافِعُه الأَكْبَرُ هو تعظِيمُ الرِّجال؛ فمُجَرّد التَقليد لأَحدِ القائِلين بغير حجةٍ؛ لا يَسُوغُ في عَقْل ولا دِين.
(1)(1/ 109).
(2)
[النساءُ: 78].
(3)
(1/ 111 - 112).
13 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"ولُعابُ الْكلْب: قد ثبَت في "الصَّحِيحَين" وغيرهما من حديث أَبي هريرة رضي الله عنه: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إذا شرب الكلب في إناءِ أَحدِكُمْ؛ فليَغْمِسه سبعًا".
وثبت -أَيضًا- عندهما وغيرِهما مثلُه من حديث عبد الله بن مُغَفلِ؛ فدَلَّ ذلك على نَجاسَةِ لُعابِ الْكلْب -وهُو الْمُطْلوبُ هُنا-".
قال الفقير إلى عفو ربه: وَلِلعُلماءِ في حُكْم بَدَن الْكلْب وَعَرَقِهِ؛ ثَلاثةُ أَقوالٍ.
الأَوّل: أَن الكلبَ طاهِرٌ، وليس بِنَجِسٍ، حتى ريقُه، وقَرَّروا ذلك؛ بأَن الأَمر في تطهير الإناء الذي ولَغَ فيه الكَلبُ: تَعَبدِيٌّ.
الثاني: أَنّ الكلب -كُلَّهُ- نَجِسٌ؛ وإنما نُصَّ على وجوب تطهير ما وَلغَ فِيه الْكَلبُ؛ لأَنّه هو الغالب، والْبَلْوَى بِه أَعَمُّ.
الثالث: أَنَّ الرّيقَ نَجِسٌ، والبَدَنَ طاهِرٌ؛ وهذا أَسْعدُ الأَقوال بالدَّليلِ العال؛ وذلك أَن الشَّرعَ الْمُطَهَّرَ قد أَباحَ الصَّيْدَ بالْكَلْب، ومِنَ المَعلوم أنَّه لا بُد مِنْ مخالَطَتِه لصاحِبِه، فَلو كانَ بدَنُه وَعَرَقُه مِما يجِبُ اتقاؤُهُ لَبَينَه الشَّرعُ.
قال -تعالى-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (2).
فإن قِيل: فما حُكْمُ بوله؟ قِيل: قام الإجماعُ على نجاسَتِه.
14 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"والحاصل: أَن الحق ما قَضَى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ التسبيع
(1)(1/ 112).
(2)
[التَّوبة: 115].
(3)
(1/ 112 - 113).
والترتيب، وليس من شرط التعبدِ الاطلاعُ على علل الأَحكام التي تعَبَدَنا اللهُ بها -على ما هو الرَّاجح-، وقد صحّ لنا الأَمر منه صلى الله عليه وسلم بالغُسْل على الصّفة المذكورة بالأَحاديث "الصحيحة" ولم نجد عنه ما يدلُّنا على خلاف هذا الحكم، فلا يحلُّ تحويلُ الشرع المتقرّر بأَقوال علماء الأُمّة، سواءٌ كان القول المخالف منسوبًا إلى جميعهم، أَو إلى بعضهم، وقد حَفِظَ اللهُ هذه السُّنّة بأَقوالِ جماعةٍ من عُلماءِ الأُمّةِ؛ كما هو معروفٌ في كتب الخلاف؛ والفقه، وشروح السنَّة".
قال الفقير إلى عفو ربّه: فالفَضْلُ في هذا يعودُ -أوّلًا- إلى الله تبارك وتعالى، ثمَّ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ثمّ إلى أَصحابِه رضي الله عنهم، ثمّ إلى حمَلَة السُّنة والآثارِ مِنَ أَهل العلم رحمهم الله.
15 -
قال المصَنِّف (1):
"وقد قدَّمْنا كلامَ التَّيمِي في تخصيص ذلك بِرَوثِ الخَيل، والبغِال، والحَمِير".
قال الفقير إلى عفو ربه: قِياسُ الخَيلِ علَى الحَمير والبِغالِ ليسَ صوابًا؛ فإن الله -تعالى- قد أَحل أَكْلَ لُحوم الخيل -كما هُو ثابِتٌ في السُّنَّة-، وحَرَّمَ أَكْلَ لحوم الحَمِيرِ، والْبِغال؛ فَتَفَطَّنْ!
16 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"وأَما سائِرُ الدّماءِ؛ فالأَدلَةُ فيها مختلفةٌ مضْطربةٌ، والبراءَة الأَصلية مُسْتصحَبَةٌ، حتى يأتيَ الدليل الخالص عن المعارضة الرّاجحة، أَوِ المساوِيَة".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: دَمُ الإنسانِ؛ ينقَسمُ إلى ثلاثةِ أَقسامٍ:
(1)(1/ 113).
(2)
(1/ 115).
الأولُ: دمُ الْحَيض؛ وهذا نجِسٌ باتفاق الصحابَة، إلا اليَسِيرَ؛ فقد روَى ابنُ أَبي شَيْبَةَ (1): ثَنا وَكيعٌ، عن سفيانَ، عن أَبي هاشم، عن سعيد بنِ جُبير، قال:"إنْ كانَ بعضُ أُمَّهاتِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لَتَقْرُصُ الدَّمَ عن ثوبِها بِرِيقِها".
الثاني: دَمُ العِرقِ الكَثيرُ؛ ولا نِزاعَ بينَ الصحابة في نجاسته؛ وإليك ذلك:
1 -
ابن عُمر:
أ- روى ابن أَبي شَيْبة (2)، قال: حدَثنا ابن نُمَير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:
"أنَّه رأى في ثوبه دمًا؛ فَغَسَله، فبقي أَثرُه أَسودَ، ودَعَى بِمِقَصّ فَقصَّه فقَرَضَه".
2 -
ابن عباسِ: روَى ابنُ المُنذر (3)، قال: حدَثنا يحيى بن محمد: نا أَحمد بن حنبلٍ: نا أَبو عبد الصَّمد العميّ: نا سليمان عن التيْمي، عن عمَّار، عن ابنِ عباس رضي الله عنه، قال:
إذا كانَ الدَّم فاحشًا؛ فعليه الإعادة، ولو كان قليلًا فلا إعادة عليه".
ب- رَوَى ابنُ الْمُنذر (4)، قال: حدَّثنا سليمانُ بن شعيب الكَيساني: نا بشر بن بكر: نا الأوَزاعي: أَخبرني ابن شهاب: أَخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، عن أَبيه:
"أَنه كان إذا رأى في ثوبه دمًا؛ وهُو في الصّلاة؛ انْصَرف حتّى يغْسِلَه، ثمّ يُصلّي ما بقي من صلاتِه".
(1)(1/ 197) بإسناد صحيح.
(2)
(1/ 198) بإسناد صحيح.
(3)
في الأوسط (2/ 152).
(4)
في الأوسط (2/ 163) بإسناد صحيح.
جـ- روى ابن أَبي شَيْبَة (1)، قال: ثنا ابن نُمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أَنّه كان إذا احتَجَم غسَّل أَثر مَحاجِمِه".
الثالث: الدَّمُ اليسير؛ وهذا طاهرٌ، والآثار عن الصحابة متواترة في ذلك:
1 -
ابن عمر: روى ابن أَبي شيبة (2)، قال: حدَّثنا عبد الوهاب، عن التَّيْمِي، عن بكر، قال:
"رأَيتُ ابن عمر عَصَر بَثْرَةً في وجْهِه، فخرج منها شيء مِنْ دَمٍ؛ فحكَّه بينَ أصبَعَيْه، ثمّ صلى ولم يتوضأ".
2 -
أَبو هريرة: روى عبد الرَّزاق (3) عن معمر، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال:
"رأَيتُ أَبا هريرة أَدخل أُصبَعه في أَنفه، فخرَج فيها دمٌ ففته بأَصابعه، ثمّ صلى ولم يتوضأ".
3 -
عبدُ الله بن أَبي أَوفَى: روى عبد الرَّزاق (4)، عن الثوري وابنِ عُيينَة، عن عطاءِ بن السائب، قال:
"رأَيت عبد الله بن أَبي أَوفى بصَقَ دمًا، ثمّ صلّى ولم يتوضأْ".
4 -
جابر بن عبد الله: روى ابنُ أَبي شَيبة (5)، قال: حدَّثنا وكيع، قال: حدَّثنا عُبيد الله بن حبيب بنِ أَبي ثابت، عن أَبي الزُبير، عن جابر:"أنَّه أَدخل أُصبَعَه في أَنفه فَخَرجَ عليها دَمٌ؛ فمسحه بالأَرض -أَو بالتُّراب- ثمّ صلى".
(1)(1/ 47) والبيهقيُّ في "السنن الكبرى"(1/ 280) من طريق ابن نُمير به. وإسناده صحيح.
(2)
(1/ 138).
(3)
(1/ 145).
(4)
(1/ 148).
(5)
"المصنف"(1/ 128).
ولم يعارضْ ما تقدَّم -مِنْ أَن دمَ الإنسان الكثِيرَ نَجِسٌ- إلَّا أَحدُ دَليلَين؛ وهما في حالةٍ خاصة:
الأَوّل: ما ورد عن عمر رضي الله عنه، "أنَّه صلى وجُرحُه يَثْعَب دمًا"(1).
أما أَثرُ عمر: فمن المعلوم أنَّه لا يمكِنُه الصلاةُ بغير هذه الحال؛ فهذه حالة ضرورة، ونظيرُها خروجُ الدّم من المستحاضة.
الثاني: قول الحسن البصريّ: "ما زال المسلمون يصلُّون في جِراحاتِهم"(2).
وأَما أَثر الحسن؛ فإنَّه في الجهاد، ومن المعلوم أَن الله خفف أَحكام هذه العبادة بمثل هذه الحال:
فقال -تعالى-: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (3).
وقال -تعالى-: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ (239)} (4).
ثمّ إنه قال -سبحانَه- في آيةٍ أُخرى -مِنْ سورة النساء-: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (5)؛ فهذا يعني: أَن الله تبارك وتعالى رخص للمجاهِدين تركَ بعض أَركان الصلاة في حالة الضرورة، ثمَّ أَمرهم عند زوالِها بإقامة الصلاة بجميع أَركانها وشروطها.
وهكذا الحال فِيمن صلى بجراحاتِه؛ فإنّه يجب أَن يحمل على ما تقدَّم، ثمَّ إن الماءَ لا يكون متوفرًا -غالبًا- في تلك الأَحوال؛ فهو مأْمور -والحالة هذه- أَن يصلّيَ بجراحاتِه.
الثالث: حديث عباد بن بشر الذي علقه البخاري -ويذكر عن جابر-:
(1) أَخرجه الدَّارقطني (1/ 224)، وأَصلُه في "البُخاريّ"(3700).
(2)
رواه ابن أَبي شيبة (1/ 392).
(3)
[البقرة: 239].
(4)
[البقرة: 239].
(5)
[النساء: 103].
"أَن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرّقاع، فَرُمِي رجلٌ بسهم فنزَفَه الدّم، فركع وسجد، ومضى في صلاته".
قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا قد ذكره البخاري معلّقًا بصيغة التمريض (1)، ووصلَه غيره بسندٍ ضعيف (2).
ثمّ على فرض أنّه صحيح، فليس فيه حجّة؛ لأُمور:
الأوَّل: أنها قضية عَيْن لا عموم لها.
الثاني: أَن آثار الصحابة متَّفقة على خلافه.
"ومِمّن يرى نقضَ الوضوء بالدّم الخارج من غيِر السبيلين:
-الخلفاءُ الأَربعة.
- وقيل: باقِي العشرة المبشرين بالجنة.
- وابن مسعود، وابن عباس، وثوبان، وأَبو الدرداءِ، وزيدُ بن ثابت، وأَبو موسى الأَشعري، وابن عُمر" (3).
الثالث: أَن يقال: إن ذلك كان على الأَصل، وآثار الصحابة ناقلة عنه.
وقد اتفق أَهل العلم على نجاسة الدّم؛ منهم:
(1)(34 - باب من لم ير الوضوء إلَّا من المخرجين من القبل والدبر).
(2)
"وصله ابن إسحاق في "المغازي"، قال: حدّثني صدقة بن يسار، عن عقيل بن جابر، عن أَبيه؛ مطوّلًا.
وأَخرجه أَحمد، وأَبو داودَ، والدارقطني (1/ 223 - 224).
وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم؛ كلّهم من طريق ابن إسحاق؛ وشيخُه صدقة ثقة، وعَقيل -بفتح العَين- لا أَعرف راويًا عنه غير صدقة؛ ولهذا لم يجزم به المُصَنِّف؛ أَو لكونه اختصرَه؛ أَو للخلاف في ابن إسحاق" "فتح الباري" (1/ 85).
وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح أبي داود"(1/ 357 - 359 / رقم: 193 - غراس)، والله أعلم.
(3)
انظر: "المَنهل العذب المَورود"(2/ 234).
1 -
قال الإمام أَحمد "الدّم لم يختلِفِ الناس فيه، والقيح قدِ اختلف النَّاس فيه"(1).
2 -
قال ابن المُنذر: "فغَسل دم الحيض يجب؛ لأَمر النّبي صلى الله عليه وسلم بغَسله، وحكمُ سائر الدماءِ كَحكْم دم الحيض، لا فرق بين قليل ذلك وكثيره"(2).
3 -
قال ابن حزم: "واتفقوا على أَن الكثير من أَيّ دمٍ كان -حاشا دمَ السّمك وما لا يسيل دمُه- نَجِس"(3).
4 -
قال ابن عبد البَر: "وهذا إجماع من المسلمين؛ أنّ الدّم المسفوحَ رِجس نَجِس؛ إلَّا أَن المسفوح وإن كان في أَصله الجاري في اللغة؛ فإنّ المعنى فيه -في الشريعة-: الكثيرُ؛ إذِ القَليلُ لا يكون مسفوحًا، فإذا سقطت من الدّم الجاري نقطة في ثوب أَو بدن: لم يكن حكمُها حكمَ المسفوح الكثيرِ، وكان حكمُها القليلَ، ولم يُلتَفت إلى أَصلها في اللغة"(4).
5 -
قال الإمام ابن العَرَبي: "اتفق العلماء على أَنّ الدّم حرام نجس لا يؤْكل، ولا ينتفع به، وقد عيّنه الله -تعالى- ها هنا - مطلَقًا، وعينه في سورة الأَنعام مُقيدًا بالمسفوح، وحمَلَ العلماء -ها هنا - المطلقَ على المقيد؛ إجماعًا"(5).
6 -
قال ابن قُدامة: "
…
يعني: ما خرج من السبِيلَين؛ كالبول، والغائط، والمذي، والوَدي، والدّم، وغيره؛ فهذا لا نعلم في نجاسته خلافًا" (6).
(1) شرح العمدة" (1/ 105) لشيخ الإِسلام ابن تيمية.
(2)
"الأَوسط"(2/ 153).
(3)
"الإجماع"(19).
(4)
"الإجماع"(34).
(5)
"أَحكام القرآن"(1/ 53).
(6)
"المغني"(1/ 490).
7 -
قال النووي: "والحديث فيه دِلالة على أَن الدّم نجس؛ وهو بإجماع لمسلمين "(1).
8 -
قال ابن الملقن: "الدّم نجس بالإجماع إلا من شذ"(2).
9 -
قال ابن حجر: " .. لأَن جميع النّجاساتِ بمثابة الدَّم لا فرق بينه وبينها إجماعًا"(3).
أما دم الحيوان؛ فللصحابة فيه قوْلان:
الأوّل: طهارته؛ وهو ما ذَهب إليه ابن مسعود رضي الله عنه فيما روى يحيى بن الجزار، قال:"صلى ابن مسعود- وعلى بطنه فَرث، ودم من جزور نحرها -ولم يتوضأْ"(4).
الثاني: نجاستُه؛ وهو ما ذهب إليه أَبو موسى الأَشعريُّ رضي الله عنه عن ابن علية، عن حُميْد؛ فيما جاءَ عن أَبي العالية:"أَن أَبا موسى نحر جزورًا، فأَطعم أَصحابه، ثمّ قاموا يصلُّون بغير طهور، فنهاهم عن ذلك، وقال: ما أُبالي؛ مشيْتُ في فَرثِها ودَمها، ولم أَتوضأْ- أَو أَكلت من لحمها ولم أَتوضأْ؟! "(5)؛ هذا كلُّه إذا كان كثيرًا، أما القليل؛ فطاهر بالإجماع.
17 -
قال الْمُصَنِّف (6):
"وفيما عدا ذلك خلاف، وأَما المني؛ فاحتجّوا على نجاسته بأُمور:
الأوّلُ: حديث عمَّار، وقد سلف عدمُ صلاحيته للاحتجاج.
(1)"شرح مسلم"(3/ 200).
(2)
"شرح العمدة"(2/ 183).
(3)
"الفتح"(1/ 495).
(4)
أخرجه ابن أَبي شَيبة (1/ 344)، وعبدُ الرَّزاق (1/ 125) من طريق ابن سيرين، عن يحيى بن الجزّار؛ به.
(5)
أَخرجه ابن أَبي شيبة (1/ 515)، وإسناده صحيح.
(6)
(1/ 116).
والثاني: بما ورد عن جماعة من الصحابة؛ وذلك لا تقوم به الحجة؛ لأنّه لم يكن إجماعًا ولا مرفوعًا.
والثالث: بما ورد في المَذْيِ مِنَ الأَمر بغَسْل الفرج والأُنْثَيَيْنِ.
ويجابُ عنه: أنَّه إثباتٌ لنجاسة المنى بقياس؛ لأنهما متغايران، على أَنه يمكِن أَنْ يكون التغليظُ في المذْي؛ إمّا لكونه يخرج غالبًا مختلطًا بالبول؛ أَو لأَنه ليس بأَصلٍ للنّسل".
قال الفقير إلى عفو ربّه: لا يعرف عن أَحد من الصحابة أنَّه قال بنجاسة المني؛ بلِ الثابت عنِ ابن عبّاس، وسعدِ، وعائشةَ رضي الله عنهم القولُ بطهارة المنى؛ ولعلّه اختلط على الشارح رحمه الله ما ورد عنهم من آثارِ بنجاسة المَذْي، وما ورد من أَحاديثَ مرفوعة في نجاسته؛ فهي لا تخلوا:
1 -
إمّا أَنْ تكونَ صريحة وليست صحيحة؛ كحديث عمّار:
"يا عمّارُ! إنما يُغْسَل الثوب من خمس: من الغائط، والبول، والقيئ، والدّم، والمني
…
"، أَخرجه الدَّارقطني (1)، وأَبو يعلى (2)، والبيهقيُّ (3)، وقال: "هذا حديث باطل لا أَصل له".
2 -
وإمّا أَن تكون صحيحة؛ ولكنّها ليست بصريحة؛ كحديث عائشة في غَسْلِها المني من ثوبه صلى الله عليه وسلم؛ الّذي رواه البخاري ومسلم (4)؛ فإن هذا على الاختيار؛ جمعًا بين الأَدلة، واقتفاءً لفَهم الصحابة رضي الله عنهم.
18 -
قال الْمُصَنِّف (5):
"وبيْن الفريقين -القائلِين بالنجاسة والقائلين بالطّهارة -مجادلاتٌ،
(1)"السنن"(1/ 127).
(2)
"المسند"(3/ 185).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 14).
(4)
البخاري (229)، ومسلم (289).
(5)
(1/ 118).
ومناظراتٌ، واستدلالاتٌ طويلة؛ استوفيناها في حواشي "شرح العمدة". انتهى.".
قال الفقير إلى عفو ربه: انظز "بدائع الفوائد"(1)، لابن القيم رحمه الله.
19 -
قال الْمُصَنّف (2):
"وهذا الزّعم من أَبطل الباطلات؛ فالتحريم للشيء لا يدلّ على نجاسته بمطابقة؛ ولا تضمُّن، ولا التزام، فتحريم الخمر، والميتة، والدّم؛ لا يدلّ على نجاسة ذلك، وكأَن الشَّارع قد علِم وقوع مثلِ هذا الغلط لبعض أُمَّته؛ فأَرشدهم إلى ما يدفعه قائلًا: "إنما حرّم من الميتة أَكلُّها، ولو كان مجردُ تحريم شيء مستلزمًا لنجاسته؛ لكان مثلُ قوله -تعالى-:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} -إلى آخره- دليلًا على نجاسة النّساء المذكورات في الآية!! ".
قال الفقير إلى عفو ربه: للعلماء في حُكم الميْتة أَقوال ثلاثة:
الأوّل: ما ذَكَره المؤلف؛ وهو طهارتها؛ تمسكًا بالأَصل.
الثاني: نجاستها؛ وعدمُ جواز الانتفاع بشيء من أَجزائها؛ حتّى الجِلدُ لا يطهر بعد الدَّبغ.
الثالث -وهُو الحق-: نجاسة ما دلّ الدّليل على نجاسته منها؛ كاللحم، والجلد:
أما اللّحم؛ فأَمر مُجْمَع عليه، وأَما الجلد؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم:"يطهرها الماء والقَرظ"(3)؛ فدلّ على نجاسته قبل الدّبغ.
وأَمّا سائر أَجزائها -كالعظم-؛ فالأَصل فيه الطهارة.
(1)(3/ 119 - 126).
(2)
(1/ 118).
(3)
رواه أبو داود (4126) وصححه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"(رقم: 3474 - المكتب الإِسلامي).
20 -
قال الْمصَنِّف (1):
"والمسلم لا ينجس حيًّا ولا ميتًا؛ كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في "الصحيح"، وهكذا يلزم نجاسة أَعيانِ وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالاتفاق؛ كالأَنصاب، والأَزلام، وما يُسكر من النّبات والثمرات بأَصل الخِلقة.
فإن قلتَ: إذا كان التصريح بنجاسة شيءِ -أَو رِجْسِيتِه، أَوْ رِكْسِيتِه- يدلُّ على أنَّه نجِسٌ -كما قلتَ في نجاسة الرّوثة ولحم الخنزير -فكيف لم تحكمْ بنجاسة الخمر لقوله -تعالى-:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} ؟! قلتُ: لمّا وقع الخمر -ها هنا- مقترنًا بالأَنصاب والأَزلام؛ كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرّجسية إلى غير النجاسة الشرعيّة".
قال الفقير إلى عفو ربه: وآخر الآيةِ - وهي قولُه تبارك وتعالى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} -يدلُّ على صحة وصدق ما ذهب إليه رحمه الله، فالنجاسة -هنا- عملية معنوية، وليس حسّية؛ ومثله قوله -تعالى-:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (2)، وقوله -تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} (3).
وقد ذهب الجمهور إلى نجاسة الخمر، وبالغ بعضهم ونقل الإجماع! وهو اختيار شيخِ الإِسلام وتلميذِه ابنِ القيم -رحمهما الله تعالى- (4).
21 -
قال الْمصَنِّف (5):
"ثمّ ترى أَحدَهم يلعب به الشيطانُ، حتى يصيرَ ما هو فيه نوعًا من
(1)(1/ 119).
(2)
[التوبة: 28].
(3)
[التوبة: 125].
(4)
واختار العلامة الفقيه الشيخ محمَّد بن صالح العثيمين طهارته انظر "الشرح الممتع".
(5)
(1/ 122 - 123).
الجنون! فيغْسِل يده أَوْ وجهه مرّةً بعد مرة -حتّى يبلغَ العددُ إلى حدّ يَضِيقُ عنه الحصر- مع دلك شديد، وكلفة عظيمة، واستغراق للفكر، وهو يعلم بأنّ ذلك العُضوَ لم تُصبْه نجاسة مُغَلظَةٌ، ولا مخفَّفة، فلا يزال في تعب، ونصب، ومزاولة؛ لا يشك من رآه أَنّه لم يَبْق عنده من العقل بقيَّة، ثمَّ إذا فرغ من العضو الأَوّل بعد جهد جهيد؛ شرع في العُضو الثّاني، ثمّ كذلك، وكثير منهم من يَدخُلُ مَحَلَّ الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يَخرُجُ إلا بعد طلوع الشمس فما بلغ الشيطان هذا المبلغَ من أحدِ من العصاة؛ لأَنه عذب نفسه في معصية لا لَذةَ فيها للنّفس، ولا رِفعةَ للقَدر، وصار بمجرّد مجاوزة الثلاث الغُسْلات -كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن تجاوزها-: "
…
فقد أَساءَ، وتعدّى، وظَلَم"، فجمع له صلى الله عليه وسلم بين هذه الثلاثة أَنواع، ثمّ لم يقنع منه بهذا، حتّى صيرَه تاركًا للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلَّا تركُها، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابرٍ بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر تركُ الصلاة"، أخرجه مسلم، وأَحمدُ، وأَبو داود، والتّرمذي، وابن ماجه.
وأَخرج أَهل "السُّنَن" وأَحمدُ من حديث بُريدةَ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"العهدُ الذي بينَنا وبينَهمُ الصلاة، فمن تركَها؛ فقد كفر".
وأَخرج الترمذيُّ عن عبد الله بن شَقِيقِ الْعُقَيلِيِّ قال:
"كان أَصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم لا يَرَوْنَ شيئًا من الأَعمال تركُه كفر؛ غيرَ الصلاة".
فانظر كيف صار هذا الموَسْوِسُ -بنصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم -: مُسيئًا، متعديًا، ظالمًا، كافرًا؛ إنْ بلغ إلى الحدّ الذي ذكَرناه، فهذا باعتبار ما لَه عند ربه".
قال الفقير إلى عفو ربه: تارك الصلاة كسلًا فيه نِزاعٌ بينَ السَّلف والخَلَف؛ أَدناه: أَن عمله كُفرٌ.
وأَما المُوَسوِسُ؛ فلا يصحُّ أَنْ يوصفَ بالكفر، وإن تركَ الصلاةَ حتى خرجَ وقتُها؛ لأَجل التأويل والشُّبهة.
22 -
قال الْمصَنِّف (1):
"وأمَّا باعتبار ما لَه عند الخلق؛ فأَقلُّ الأَحوال أَنْ يقالَ: مجنونٌ يلعب به الشيطان؛ في مخالفة شريعة الرحمَن فـ {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ، ومع هذا؛ فهو يعذب نفسه بأشد العذاب، وكثيرًا ما يُفضي به ذلك إلى علة كبيرة تكون سببًا لهلاكه، فيلقى ربه قاتلًا لنفسه في معصية، فلا يَراحُ رائحة الجنة، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه، وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل.
فمن كان جاهلًا؛ اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها؛ فمنهم من يقول: لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو! وهو قد غسل ذلك العضو مئات!!
ومنهم من يقول: أريد أن اغسل غسلًا مشروعًا، لا تبقى شعرة ولا بشرة إلَّا وقد شملها الغسل والدّلك! فتراه يقلّب يديه ورجليه ويدلُكُ كل موضع منه في مقدار الجُثَة دلكًا فظيعًا، فيشرع بالأنملة، ثمَّ يدلك جزءًا بعد جزء، حتى يفرغ من الأصبع، ثمَّ يأخذ في الأخرى، ثمَّ كذلك؛ فلا يفرغ من غسل يده؛ إلَّا بعد مدّة طويلة، ثمَّ يلعب به الشيطان، فيشككه فيما قد غسله أنَّه لم يغسله، فيعود إليه، ثمَّ كذلك، فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه؛ إلَّا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حدّ يرحمه من رآه.
ومن كان عالِمًا؛ يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة، وأنه وسوسة شيطانية، وهو أقبح الرجلين؛ فإنّه ممن أضلَّه الله على علم، ونادى على نفسه بأنّه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه، مستغرق بعباده عدو الله إبليس، لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته، فلم يَسْتَحيِ من الله؛ فيحمله
(1)(1/ 125).
الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان، ولم يَستَحي من النّاس؛ فيردعه حياؤه عن التحدّث لعباد الله بأنّه قد اشتغل عن ربه بَطاعته للشيطان! وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا لم تَسْتَحيِ فاصنع ما شئت".
والحاصل: أن هذه المحنة قد عمّت وطمَّت؛ عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل! والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن، والنّاجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعَنْقاءُ مُغرِبة، والغراب الأبقع.
ومن أنكر هذا فليُجَرِّب نفسه، ويعمل بمثل هذا النّص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في مسح الأذى الذي يعلق بالنّعل في الأرض ثمَّ يصلي فيه، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه؟! مع أن ذلك هو المهيَعُ الذِي لا يُرجحُ المجتهد سواه، إن أنصف من نفسه فليُصَدق فعلُه قولَه، وإن كان مقلدًا فله بالأئمة الأسلاف قدوة، وهم الأقل من القائلين بذلك، وهيهات ذاك؛ فإنّ الشكوك والخيالاتِ قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها؛ لأنه وجد قومًا لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وارتكاب الفجور، فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة؛ فهم أشقى أتباعه.
اللَّهمّ أَعِذنا من نزعات الشَّيطان، وأَجرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة".
قال الفقير إلى عفو ربه: ومحصّل كلامه رحمه الله أَن للوسواس سبَبين:
أَحدُهما: ضعف العلم.
ثانِيهما: ضعف العقل.
23 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"والاستحالة مطهّرة؛ أَي: إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى
(1)(1/ 126).
كان ذلك الشيء الآخر مخالفًا للشيء الأوّؤل -لونًا، وطَعمًا، وريحًا- كاستحالة العَذِرَةِ رمادًا.
وقد أوضحت ذلك في كتابي "دليل الطالب" فليراجع، وحققه الماتن في "ويل الغمام"، و"السيل الجرار"، وغيرهما.
(لعدم وجود الوصف المحكوم عليه)؛ يعني: فَقَدْ فَقَدَ الوصفَ الذي وقع الحكم من الشَّارع بالنّجاسة عليه، وهذا هو الحق.
والخلاف في ذلك معروف".
قال الفقير إلى عفو ربه: قال ابن القيم رحمه الله:
"طهارة الخمر بالاستحالة على وَفْق القياس؛ فإنها نجسة؛ لوصف الخبث، فإذا زال الْمُوجِب زال الْمُوجَب، وهذا أَصل الشريعة في مصادرها ومواردها؛ بل وأَصل الثواب والعقاب.
وعلى هذا؛ فالقياس الصحيح تعديةُ ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت، وقد نبش النبي صلى الله عليه وسلم قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقُلِ التراب، وقد أَخبر الله -سبحانه- عن اللَّبَن أَنّه يخرج من بين فرَث ودم، وقد أَجمع المسلمون على أنّ الدّابة إذا عُلِفت بالنّجاسة ثمَّ حُبست، وعلِفَت بالطاهرات؛ حلَّ لبنُها ولحمُها، وكذلك الزرعُ والثمار إذا سُقِيَتْ بالماءِ النّجس، ثمّ سُقِيَتْ بالطاهر؛ حلّت؛ لاستحالة وصف الخبث وتبدّلِه بالطيّب، وعكس هذا؛ أَن الطّيب إذا استحال خبيثًا، صار نجسًا؛ كالماء والطعام إذا استحال بولًا وعَذِرَةَ، فكيف أثرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبِيثًا، ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبا؟! والله -تعالى- يخرج الطيِب من الخبيث، والخبيثَ من الطَّيِّب، ولا عبرة بالأَصل؛ بل بوصف الشَّيءِ في نفْسِه، ومن الممتنع بقاءُ حكم الْخَبَث، وقد زال اسمُه ووصفْه، والحكم تابع للاسم، والوصف دائر معه وجودًا وعدمًا، فالنّصوص المتناولةُ لتحريم المَيْتَة، والدّم، ولحم الخِنزير والخمر؛ لا تتناول: الزروع والثمار، والرَّماد والملح، والتراب والخلّ؛ لا لفظًا ولا معنى، ولا نصًّا ولا قياسًا.
والمُفرّقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا: الخمر نَجِست بالاستحالة؛ فطهُرت بالاستحالة.
فيقال لهم: وهكذا الدّم، والبول، والعَذِرَةُ؛ إنّما نجست بالاستحالة؛ فتطهر بالاستحالة؛ فظهر أَن القياس معَ النصوص، وإنّما مخالفةُ القياس في الأَقوال التي تخالف النصوص" (1).
24 -
قال المصَنِّف (2):
في "الْمُسَوَّى": "قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: إذا أَصاب الأَرضَ بولٌ -أَو غيرُه من النجاسة المائعة، فصبّ عليها الماء حتى غلبها؛ طهرت، والغُسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغيّر، ولكنّها لا تُطَهر".
قال الفقير إلى عفو ربه: وهذا من فقهِ الإمام الشّافعيّ رحمه الله.
قال ابن القيم رحمه الله: "قاعدة: في المسائل التّي يتعلق بها الاحتياط الواجب، وترك ما لا بأْس به؛ حذَرًا ممّا به بأْس.
ومدارُها على ثلاثِ قواعدَ:
الأُولى: في اختلاط المباح بالمحذور حسًّا.
الثانية: اشتباهُ أَحدِهما بالآخَر والتباسُه به على المكلَّف.
الثالثة: في الشكّ في الْعَيْن الواحدة؛ هل هي من قسم المباح، أَمْ من قسم المحذور؟
فأَمّا القاعدةُ الأُولى:
في اختلاط المباح بالمحذور حِسًّا؛ فهي قِسمان:
أَحدُهما: أَن يكونَ المحذورُ محرَّما لِعَينِه؛ كالدّم، والبول، والخمر، والْمَيتَة.
الثانية: أَنْ يكونَ محرَّمًا لِكَسبِه" (3).
(1)"إعلام الموقعين (1/ 486 - 487) ".
(2)
(1/ 126 - 127).
(3)
"بدائع الفوائد"(3/ 257 - 259).
قال الفقير إلى عفو ربه: وعند قولِ ابن القيم: "أَحدهما: أَن يكون المحذورُ محرَّما لعينه؛ كالدّم، والبول، والخمر، والمَيتَة" يندرج تحتها كلامُ الشافعي رحمه الله، وليس من هذا استعمالُ الماء الطاهر في الطهارة.
25 -
قال الْمُصَنف (1):
"قال الشافعي رحمه الله: "وفرقٌ بين ورود النّجاسة على الماءِ، وورود الماءِ على النّجاسة".
قال الفقير إلى عفو ربه: قَالَ الصَّنعانِي رحمه الله: "فَدَفَعَتهُ الشافعيةُ بالفرق بين ورود الماء على النّجاسة، وورودِها عليه، فقالوا: إذا وردت على الماء نجّسَتْه -كما في حديث الاستيقاظ-، وإذا ورد عليها الماء لم تضرَّه -كما في خبر بول الأَعرابي-.
وفيه بحثٌ حققناه في حواشي "شرح العمدة"، وحواشي "ضَوْء النّهار"، وحاصلُه: أَنهم حكَموا أنَّه إذا وردتِ النجاسة على الماء القليل؛ نجَّسَته، وإذا ورد عليها الماء القليل لم ينجُسْ، فجعلوا علَّة عدم تنجِيس الماءِ: الورودَ على النّجاسة، وليس كذلك؛ بلِ التَّحقيقُ: أنّه حين يرد الماءُ على النّجاسة؛ يرِدُ عليها شيئًا فشيئًا؛ حتى يفنى عينها، وتذهبَ قبل فنائه؛ فلا يأْتي آخِرُ جزءٍ من الماء الوارد على النّجاسة؛ إلا وقد طَهُر المحلّ الذي اتَّصلت به، أو بقي فيه جزءٌ منها يفنى ويتلاشى عند ملاقاة آخر جزءٍ منها يَرِدُ عليها من الماء؛ كما تَفْنَى النّجاسة وتتلاشى إذا وردت على الماء الكثير بالإجماع.
فلا فرق بين هذا وبين الماء الكثير في إفناء الكُل للنّجاسة؛ فإن الجزء الأَخير من الوارد على النّجاسة يُحِيلُ عينَها لكثرته؛ بالنسبة إلى ما بقي من النّجاسة، فالعلّة في عدم تنجِيسه بوروده عليها؛ هي كثرتُه بالنّسبة إليها لا الورودُ؛ فإنّه لا يُعقل التفرقة بين الورودين: بأَنَ أَحدَهما يُنَجّسُه دونَ الآخر" (2).
(1)(1/ 126 - 127).
(2)
"سبل السلام"(1/ 132).
26 -
قال الْمُصَنف (1):
"وعند الحنفية -رحمَهُمُ الله تعالى- الغُسالةُ نَجِسة، والأَرضُ لا تطهُرُ بصبّ الماء حتي تزولَ عنها الْغُسالة. انتهى".
قال الفقير إلى عفو ربه: استدلّوا على ذلك بقولِه صلى الله عليه وسلم لبني هاشم: "إن الله كره لكم غسالة أَيدي الناس"، رواه ابنُ سعد (2)، والجواب على هذا من وجوه:
الأَوّل: أَنّ الحديث وارد في تحريم الصَدقة، وخاصٌّ ببني هاشم.
الثاني: أَن قياس الماءِ المستعمل على الصدقة لا وجه له؛ فلا يصحُّ القياسُ في هذا الباب بالإجماع.
الثالث: أنّ قياس الماء المستعمل على الثوب المستعمل في عبادة أَولى من قياس على الصّدقة؛ إن كان العلم ضَربًا من الرّأي!؟
27 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"والماء هو الأَصل في التطهير، فلا يقُوم غيرُه مقامَه إلا بإذنِ مِنَ الشَّارع: لأنَّ كون الأصل في التطهير هو الماء، وقد وُصف بذلك في الكتاب والسنّة وصفًا مطلقًا غير مقيد، بل قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور" يرشد إلى ما ذكرنا إرشادًا تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول، فإذا ثبت عن الشَّارع أن تطهير شيء من النجاسات يكون بغير الماء -كمسح النّعل بالأرض ونحو ذلك-؛ كان الماء غير متعيّن في تطهير تلك النجاسة بخصوصها، بل نقتصر عليه هناك، ويتعين الماء فيما عداها، وهذا هو الحق.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات،
(1)(1/ 127).
(2)
في "الطبقات"(1/ 297).
(3)
(1/ 127).
وذهب أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وأبو يوسف -رحمه الله تعالى- إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر.
وَيُرَدُّ على الجمهور بما ثبت عن الشَّارع تطهيره بغير الماء إن كانوا يقولون: إنّ الماء يتعين في مثل ذلك".
قال الفقير إلى عفو ربه: ولكن عند أبي حنيفة رحمه الله: يصلّي عليها ولا يتيمّم بها، قال شيخ الإسلام رحمه الله:"والصّحيح أنَّه يصلّي عليها، ويتيمم بها، وهذا هو الصواب"(1).
28 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"وَيُرَدُّ على أَبي حنيفة -رحمه الله تعالى- ومن معه: بأَن إثبات مطَهر لم يَرِدْ عنِ الشَّارع، أَو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع".
قال الفقير إلى عفو ربه: والأَظهر هو ما ذهب إليه أَبو حنيفة واختاره شيخُ الإِسلام؛ لوجهين:
الأول: ما ثبت في "صحيح البخاري"(3)، عن ابن عمر:
"كانتِ الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد؛ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا يرُشّون شيئًا من ذلك".
ومن المعلوم: أَن النّجاسة لو كانت باقيةً لوجب غَسلُها، وهذا لا ينافي ما ثبت من: أنَّه صلى الله عليه وسلم أَمرهم أَن يصبّوا على بول الأَعرابي -الذي بال في المسجد -ذَنوبًا من ماء -كما في "الصحيحين" - (4)؛ فإن المقصود به تعجيلُ تطهير الأَرض، ويدلّ عليه -أيضًا- ما ورد عند أَبي داود (5)،
(1)"المسائل الماردينية"(ص 24).
(2)
(1/ 127).
(3)
(174).
(4)
البخاري (324)، ومسلم (284).
(5)
"السنن"(353).