المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحج 291 - قال الْمُصَنِّف (1): "أقول: الحج في اللغة: القصد، فمعنى - النكت العلمية على الروضة الندية

[عبد الله العبيلان]

الفصل: ‌ ‌الحج 291 - قال الْمُصَنِّف (1): "أقول: الحج في اللغة: القصد، فمعنى

‌الحج

291 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"أقول: الحج في اللغة: القصد، فمعنى قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}: قصد البيت، والقصد لا إجمال فيه، وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "خُذوا عنِّي مناسكَكُم"؛ فهو أمر بالاقتداء به في أفعاله وأقواله، والأمر يفيد الوجوب، فتكون المناسك الّتي بيَّنها صلى الله عليه وسلم واجبة، لا يخرج عن الوجوب منها، إلّا ما خصّه دليل".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: تقدّم أنّ النّصوص العامّة من القرآن والسُّنّة يجب أن تفهم على ضوء السُّنّة التفصيليّة؛ من أقوال وأفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضوان الله عليهم -.

292 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"وكذلك العمرة وما زاد فهو نافلة، وفي حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العُمرة كفَّارة لما بينَهُما، والحجُّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنَّة".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: الحجّ المبرور: هو الَّذي لا يخالطه شيء من المأثم.

(1)(2/ 51).

(2)

(2/ 57).

ص: 320

قال السيوطي: "وأخرج عبد بن حميد وابن جرير (1) عن علي أنّه قرأ: {وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت}، ثم قال: هي واجبة مثل الحج".

وأخرج ابن مردويه والبيهقي في "سننه" والأصبهاني في "الترغيب" عن ابن مسعود، قال:"أمرتم بإقامة أربع: أقيموا الصّلاة، وآتوا الزّكاة، وأقيموا الحجّ، والعمرة إلى البيت، والحج: الحجّ الأكبر، والعمرة: الحجّ الأصغر".

وأخرج سفيان بن عيينة، والشافعي، والبيهقي - في "سننه" - عن طاوس، قال: قيل لابن عباس: "أتأمر بالعمرة قبل الحج، والله - تعالى - يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؟ فقال ابن عباس: كيف تقرؤون: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فبأَيِّهما تبدؤون؟ قالوا: بالدَّين، قال: فهو ذاك".

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، عن ابن عباس، قال:"العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلًا"(2).

وأخرج الشافعي -في "الأم"- والبيهقي، عن ابن عباس، قال:"والله إنّها لقرينتها في كتاب الله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} "(3).

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال:"العمرة الحجّة الصغرى"(4).

وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي داود -في "المصاحف"-، عن ابن مسعود: "أنَّه قرأ {وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت} ، ثم قال: والله! لولا التحرّج

(1) في "تفسيره"(2/ 251) بإسناد ضعيف.

(2)

أخرجه الدارقطني (2/ 285) والحاكم (1/ 470) والبيهقي (5/ 351) بإسناد ضعيف كما قال الحافظ في "الفتح"(4/ 598).

(3)

علقه البخاري في "صحيحه"(1/ 537 / 26) ووصله الشافعي في "الأم"(1/ 327 / 980).

(4)

أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(1/ 334 / 1762)، وابن أبي شيبة (3 / رقم: 13657). وإسناده صحيح.

ص: 321

أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا لقلنا: إنّ العمرة واجبة مثل الحجّ" (1).

وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والحاكم -وصححه-، عن ابن عمر، قال:"العمرة واجبة؛ ليس على أحد من خلق الله إلا عليه حخة وعمرة، واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلًا"(2).

وأخرج ابن أبي شيبة، والحاكم، عن ابن سيرين:"أنّ زيد بن ثابت سئل عن العمرة قبل الحجّ؟ قال: صلاتان"، وفي لفظ:"نسكان لله عليك لا يضرّك بأيهما بدأت"(3) انتهى (4).

293 -

قال الْمُصَنِّف (5):

"وقد وقع الخلاف في المحل الّذي أهلّ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسب اختلاف الرّواة؛ فمنهم من روى أنَّه أهل من المسجد، ومنهم من روى أنَّه أهلَّ حين استقلّت به راحلته، ومنهم من روى أنَّه أهلَّ لما علا شَرَف البيداء، وقد جمع بين ذلك ابن عباس، فقال: إنَّه أهل في جميع هذه المواضع، فنقل كل راوٍ ما سمع".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: لو ثبت عن ابن عباس لكان جمعًا موفقًا؛ ولكن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن، ولا يحتجّ بحديثه إذا انفرد.

294 -

قال الْمُصَنِّف (6):

"وأمّا قول أبي ذر، فليس بحجّة على أحد، لأنّه رأي صحابي فيما

(1) أخرجه الطبري في "تفسيره"(2/ 122) وابن أبي داود في "المصاحف"(رقم: 176) والبيهقي في "السنن الكبير"(4/ 351).

وإسناده ضعيف.

(2)

أخرجه ابن خزيمة (3066) والحاكم (1/ 470) والدارقطني (2/ 285) والبيهقي (5/ 351) وجزم به البخاري معلقًا (3/ 597 - فتح).

(3)

أخرجه الحاكم (1/ 470) والبيهقي (5/ 351).

(4)

"الدُّرُّ المنثور"(1/ 502 - 504).

(5)

(2/ 60).

(6)

(2/ 62).

ص: 322

للاجتهاد فيه مسرح" في أن المتعة خاصة بحجة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وذلك أنَّه قد خالفه جمع من الصحابة.

295 -

قال الْمُصَنِّف (1):

قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "

وأمّا ما فعله هو: فإنّه صحّ عنه أنَّه قرن بين الحجّ والعمرة من بضع وعشرين رواية عن ستّة وعشرين نفسًا من أصحابه، ففعل القرآن وأمر بفعله مَن ساق الهدي، وأمر بفسخه إلى التّمتع مَن لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله؛ كأنّه رأي عين؛ وبالله التوفيق".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: لكن أبا بكر وعمر وعثمان حجّوا مفردين لعشرين عامًا، وهم أعلم بمراده صلى الله عليه وسلم، فلو فهموا منه أنّ التمتع واجب على من حجّ معه صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم؛ لما تركوا سنّته صلى الله عليه وسلم.

فقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه": حدثنا حفص، عن هشام، عن ابن سيرين، قال:"أفرد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج بعده أربعين سنة، وهم كانوا لسنته أشدّ اتباعًا، وأبو بكر وعمر عثمان". (المصنف: رقم: 14301).

وقال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، قال:"أفرد الحج أبو بكر عمر وعثمان وعلقمة والأسود".

وقال حدثنا وكيع: عن مسعر وسفيان، عن أبي حصين، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، أن أبا بكر وعمر جرَّدا. زاد سفيان: وعثمان.

وقال: حدثنا أبو معاوية، عن عبيد الله عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر:"أنه حجَّ خلافته كلها يفرد الحج".

296 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"قال في المسوى": والتحقيق في هذه المسألة: أنّ الصحابة لم

(1)(2/ 62).

(2)

(2/ 65).

ص: 323

يختلفوا في حكاية ما شاهدوه من أفعال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من أنّه أحرم من ذي الحليفة، وطاف أول ما قدم، وسعى بين الصفا والمروة، ثم خرج يوم التروية إلى منى، ثم وقف بعرفات، ثم بات بمزدلفة، ووقف بالمشعر الحرام، ثم رجع إلى منى، ورمى، ونحر، وحلق ثم طاف طواف الزيارة، ثم رمى الجمار في الأيام الثلاثة، وإئما اختلفوا في التّعبير عمّا فعل باجتهادهم وآرائهم.

فقال بعضهم: كان ذلك حجًّا مفردًا، وكان الطواف الأوّل للقدوم، والسّعي لأجل الحجّ، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنّه قصد الحج.

وقال بعضهم: كان ذلك تمتّعًا بسوق الهدي، وكان الطواف الأوّل للعمرة، كأنّهم سمَّوا طواف القدوم والسّعي بعده عمرة، وإن كان للحج، وكان بقاؤه على الإحرام؛ لأنّه كان متمتعًا بسوق الهدي.

وقال بعضهم: كان ذلك قرانًا، والقران لا يحتاج إلى طوافين وسعيين.

وهذا الاختلاف سَبيله سبيل الاختلاف في الاجتهاديات.

أمّا أنَّه سعى تارة أخرى بعد طواف الزيارة -سواء قيل بالتّمتع أو القرآن-؛ فإنه لم يثبت في الروايات المشهورة، بل ثبت عن جابر أنّه لم يسْعَ بعده انتهى".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذا هو الأرجح؛ سواء كان قارنًا، أو مفْرِدًا، أو متمتّعًا؛ وذلك لوجوه:

الأول: أنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر - بعد الوقوف بعرفة وقضاء التَّفث - إلّا الطّواف بالبيت؛ قال - تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} (1)، ولم يذكر السّعي بين الصفا والمروة.

(1)[الحج: 29].

ص: 324

الثاني: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة والتّحقيق لم يسعَ إلّا سعيه الأوّل، وقد قال:"خذوا عنّي مناسككم".

ولو كان السّعي بعد الوقوف بعرفة واجبًا على المتمتع دون غيره لأمر به وبينه للأمّة، ولم يفعل صلى الله عليه وسلم.

الثالث: أنّه قد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث جابر - حينما أمرهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالتحلّل-: "فأتينا النساء ومسسنا الطيب فلمّا كان اليوم الثامن وأحرمنا بالحج، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمرة".

الرابع: أنّه قد ثبت عن ابن عباس أنّه قال: "يكفي المتمتع المفرد سعي واحد"(1).

الخامس: أن طاووس - تلميذ ابن عباس -: "أقسم أنَّه لم يطف أحد من أصحاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة"(2).

قال الحافظ: "وهذا إسناد صحيح"(3).

فإن قيل: فما الجواب على حديث عائشة، وفيه:"وأمّا الّذين أحلّوا فطافوا طوافًا آخر"؟

فالجواب: أنّ هذه الزيادة في هذا الحديث قد أعلّها كبار أهل العلم كالإمام أحمد وابن تيميّة، بأنّها مدرجة وليست من الحديث وعلى فرض ثبوتها؛ فقد اختلف العلماء على أقوال ثلاثة في مرادها من قولها:"فطافوا طوافًا آخر".

وعلى فرض أنّ مرادها: السعي الآخر؛ فقد تعارض قولها وقول جابر، وابن عباس، ولابد من تقديم أحدهما على الآخر.

فجابر يتحدّث عن نفسه حيث كان متمتعًا ومن كان مثله فينفي السّعي الآخر، وأمّا هي فهي تتحدّث عن غيرها؛ لأنّها كانت قارنة، ولا ريب أنّ صاحب النسك أعلم به من غيره.

(1) صحَّ عن ابن عمر أنه طاف لهما طوافًا واحدًا. ابن أبي شيبة (14325).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (14320).

(3)

"الفتح"(4/ 579).

ص: 325

فإن قيل: فما الجواب على أثر ابن عباس الّذي علّقه البخاري (1)؛ وفيه: "أنّهم لمّا رجعوا من عرفة طافوا بين الصّفا والمروة"؟

فالجواب عليه من وجوه:

الأول: ضعف إسناده (2).

الثاني: على فرض ثبوته؛ فإن غاية ما فيه إقرار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك، وهذا يدلّ على الاستحباب؛ لا على الوجوب، وعليه يحمل قول الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} (3)، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد حيث قال:"أعجب إلى أن يسعى المتمتّع سعيًا آخر"، وبهذا أخذ شيخ الإسلام ابن تيميّة.

وقد راجعت محقّق العصر الألبانيّ رحمه الله في هذه المسألة حيث قرّر في "حجّة النَّبي صلى الله عليه وسلم " وجوب السّعي الآخر على المتمتع، فرجع عن القول بالوجوب إلى الاستحباب - وهذا مِن إنصافه رحمه الله.

297 -

قال الْمُصَنِّف (4):

"ويكون الإحرام: وهو في الحجّ والعمرة بمنزلة التّكبير في الصّلاة، فيه تصوير الإخلاص والتعظيم، وضبط عزيمة الحجّ بفعل ظاهر، وفيه جعل النَّفس متذلّلة خاشعة لله بترك الملاذّ والعادات المألوفة، وأنواع التجمُّل، وفيه تحقيق معاناة التّعب والتشعُّث والتغير لله.

أقول: وليس في إيجاب الإحرام - على غير من دخل لأحد النسكين - دليل.

أمّا الآية - أعني: قوله - تعالى -: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} -، فإنَّها بيان لما حرَّمهُ عليهم من الصّيد حال الإحرام، في قوله - تعالى -:{إلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقد عُلم أنَّه لا إحرام إلّا لأحد النسكين -، ثم أخبرهم بإباحة الصّيد لهم إذا حلّوا.

(1) كتاب الحج / رقم: (1572).

(2)

انظر "الفتح"(3/ 507).

(3)

[البقرة: 158].

(4)

(2/ 66 - 67).

ص: 326

وأمّا قول ابن عباس؛ فاجتهاد منه، وليس ذلك من الحجّة في شيء والمقام مقام اجتهاد، ولهذا خالفه ابن عمر، فجاوز الميقات غير محرم، كا روى ذلك عنه مالك في "الموطأ".

وقد كان المسلمون في عصره صلى الله عليه وسلم يختلفون إلى مكّة لحوائجهم، ولم ينقل أنَّه أمر أحدًا منهم بإحرام، كقصّة الحَجَّاج بن عِلاطٍ، وكذلك قصّة أبي قتادة لما عقر حمار الوحش داخل الميقات وهو حلال، وقد كان أرسله لغرض قبل الحجّ، فجاوز المقيات غير مريد للحجّ ولا للعمرة، والبراءة الأصلية مستصحبة؛ فلا ينقل عنها إلّا ناقل صحيح يجب العمل به.

وقد ذهب إلى جواز المجاوزة من غير إحرام -لغير الحاج والمعتمر- ابن عمر والشّافعي في أخير قوليه.

وأمّا إيجاب الذم على من جاوز -معلّلًا ذلك بأنّه ترك نسكًا-: ففاسد؛ فإنّ الإحرام ليس بنسك لغير من أراد الحج أو العمرة، على أنَّه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"من ترك نسكًا فعليه دم"؛ وإنّما روي ذلك عن ابن عباس؛ كما في "الموطأ".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: خلط المصنّف رحمه الله في هذه المسألة أمرين:

الأول: أنّه قرّر أنّ من مرّ على الميقات ليس مريدًا للحج والعمرة؛ فإنّه لا يلزمه الإحرام، وهذا حق.

ولكن ينبغي تقييده بأن لا يكون قاصدًا مكّة ولم يعتمر أو يحجّ.

الثاني: من مرّ على الميقات مريدًا النّسك ولم يحرم منه؛ فهذا الّذي أفتى ابن عباس أنّ عليه دمًا، ولم يخالفه أحد من الصّحابة.

298 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"أقول: قال قوم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت لأهل العراق ذات

(1)(2/ 68).

ص: 327

عرق، وإنّما وقّته عمر بن الخطاب رضي الله عنه قلت: قد ذهب إلى هذا طاوس، ورواه أحمد بن حنبل، عن ابن عباس، وإليه ذهب جماعة من الشّافعيّة - كالغزالي، والرّافعي، والنووي وغير هؤلاء -، ووجه ذلك؛ ما قاله ابن خزيمة وابن المنذر من أنَّه لم يصح أنّه صلى الله عليه وسلم وقت ذات عرق لأهل العراق في حديث صحيح.

قال الحافظ في "الفتح": "لعلّ من قال: إنّه غير منصوص؛ لم يبلغه، أو رأى ضعف الحديث باعتبار أنّ كل طريق من طرقه لا تخلوا من مقال، لكن الحديث بمجموع طرقه يقوى". انتهى.

وقد ذكر الماتن رحمه الله في "شرح المنتقى" من روى حديث توقيت ذات عرق لأهل العراق من الصّحابة، ومجموع ما رووه لا يخرج عن حدّ الحسن لغيره، وهو ممّا تقوم به الحجّة".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: الأظهر من حيثُ الروايةُ: أنّ الحديث لا يثبت مرفوعًا، وإنّما يثبت عن عمر رضي الله عنه أنّه حدّ لأهل العراق ذات عرق، وقد أقرّه على ذلك كافّة الصحابة فهو دين يدان الله به كما يدان بسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.

299 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"ولم يثبت أنّه صلى الله عليه وسلم أمر أحدًا من النّاس أن يغتسل للإحرام؛ إلّا ما وقع منه الأمر للحائض والنفساء دون غيرهما، فدلّ ذلك على أنّ اغتسالهما للقذر، ولو كان للإحرام؛ لكان غيرهما أولى بذلك منهما، فمع الاحتمال في فعله -وعدم صدور الأمر منه-؛ لا تثبت المشروعية أصلًا".

قال الفقير إلى عفو ربِّه:

الحق: أنّه غسل مسنون، فقد روى ابن أبي شيبة (2): نا حفص، عن

(1)(2/ 70).

(2)

"المصنف"(3/ 1560).

ص: 328

ابن جريج، قال: سألت نافعًا: أكان ابن عمر يغتسل عند الإحرام؟ فقال: كان ربّما يغتسل وربما يتوضأ".

300 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"وقد كان ابن عمر إذا أفطر من رمضان وهو عازم على الحجّ في ذلك العام؛ لم يأخذ من رأسه، ولا من لحيته شيئًا؛ حتى يحج كما في الموطأ".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وروى أبو داود (2) وغيره بسند حسن عن مروان بن سالم المقفّع، قال:"رأيت ابن عمر يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف".

(وفيه فائدة):

وهو مشروعية أخذ ما زاد على القبضة من اللحية في غير الحج أو العمرة.

301 -

قال الْمُصَنِّف (3):

"ولا يلبس المحرم القميص: الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك: أنَّ الأوّل ارتفاق وتجمل وزينة، والثّاني ستر عورة، وترك الأوّل تواضع لله، وترك الثّاني سوء أدب؛ كذا في "الحجّة".

(ولا العمامة، ولا البُرْنُس، ولا السَّراويل، ولا ثوبًا مسّه وَرْس، ولا زعفران، ولا الخفّين إلّا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكون أسفل من الكعبين، ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفّازين

".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال ابن القيم: "وأمّا نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن

(1)(2/ 70).

(2)

"السنن"(2041).

(3)

(2/ 71).

ص: 329

عمر المرأة أن تنتقب، وأن تلبس القفّازين؛ فهو دليل على أنّ وجه المرأة كبدن الرجل، لا كرأسه، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصل على قدر الوجه -كالنقاب والبرقع-، ولا يحرم عليها ستره بالمقنعة والجلباب ونحوهما، وهذا أصح القولين؛ فإنّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سوى بين وجهها ويديها، ومنعها من القفازين والنقاب، ومعلوم أنّه لا يحرم ستر يديها، وأنّهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصل على قدرهما، وهما القفّازان، فهكذا الوجه إنّما يحرم ستره بالنّقاب ونحوه، وليس عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام، إلّا النَّهي عن النقاب، وهو كالنهي عن القفازين؛ فنسبة النقاب إلى الوجه كنسجة القفازين إلى اليد سواء؛ وهذا واضح - بحمد الله -.

وقد ثبت عن أسماء أنّها كانت تغطي وجهها وهي محرمة، وقالت عائشة:"كان الركبان يمرّون بنا، ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا"، ذكره أبو داود.

واشتراط المجافاة عن الوجه -كما ذكره القاضي وغيره- ضعيف لا أصل له دليلًا ولا مذهبًا.

قال صاحب "المغني": "ولم أر هذا الشرط -يعني: المجافاة- عن أحمد ولا هو في الخبر، مع أنّ الظّاهر خلافه؛ فإنّ الثوب المسدول لا يكاد يسلم من إصابة البشرة، فلو كان هذا شرطًا لبيّن، وإنّما منعت المرأة من البرقع والنّقاب ونحوهما، ممّا يعدّ لستر الوجه، قال أحمد: لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثّوب من أسفل، كأنه يقول: إنّ النقاب من أسفل على وجهها" تم كلامه" (1).

302 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة: فإن كان الدّليل على

(1)"إعلام الموقعين"(1/ 267).

(2)

(2/ 74 - 75).

ص: 330

هذا الفساد أقوال الصّحابة؛ فمع كون الروايات عنهم إنّما هي بطريق البلاغ -كما ذكره مالك في "الموطأ"، وليس ذلك بحجّة لو كان في المرفوع فضلًا عن الموقوف-: فقد عرفت غير مرّة أن قول الصّحابي ليس بحجّة؛ إنّما الحجّة في إجماعهم عند من يقول بحجيّة الإجماع".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: روى ابن أبي شيبة (1): حدَّثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عطاء قال:"سئل ابن عباس عن رجل وقع على امرأته قبل أن يزور البيت؟ قال: إذا واقع قبل أن يزور فعليه الحج من قابل".

وعن ابن عباس قال: "من غشي قبل أن يطوف بالبيت يوم النحر عليه بدنة"، أخرجه يعقوب بن سفيان (2): ثنا أبو يوسف: ثني عقبة بن مكرم: ثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة عن عمرو بن دينار: سمعت طاوسًا عن ابن عباس به.

وعن ابن عمر: قال: "عليه الحج ويهدي"، أخرجه ابن أبي شيبة (3): حدَّثنا أبو خالد الأحمر، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر به.

قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ من جامع عامدًا في حجه قبل وقوفه بعرفة، أنّ عليه حج قابل، والهدي"(4).

303 -

قال الْمُصَنِّف (5):

"ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل: لما ورد بذلك القرآن الكريم: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ

(1)"المصنف"(3/ 14938).

(2)

(2/ 273).

(3)

"المصنف"(3/ 14939).

(4)

"الإجماع"(144) وانظر "فتح الباري" لابن حجر (4/ 42) و"مراتب الإجماع" لابن حجر (42).

وانظر "الفتح"(4/ 42)، و"مراتب الإجماع"(42).

(5)

(2/ 77 - 79).

ص: 331

صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} ".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: بل حكم الصّحابة - رضوان الله عليهم - لازم لنا وهم أولى النّاس دخولًا في قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (1)، وذلك بتعديل الله لهم، وأمرنا بأن نأخذ مآخذهم وحذرنا من مخالفتهم، قال - تعالى -:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (2)، وقال - تعالى -:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (3)؛ فهم أئمّتنا رضي الله عنهم وأرضاهم - ولكن ينبغي تقييد هذا بقيدين:

الأول: أن يثبت عنهم النّقل فيما حكموا به.

الثاني: أن يتّفقوا عليه، أو حكم به أحدهم ولم يخالف.

ثم إذا لم ينقل عنهم أنّهم حكموا فيه؛ فيجتهد فيه اثنان من أهل العدل والعلم من أهل العصر.

304 -

قال الْمُصَنِّف (4):

"ويدلّ على ذلك أيضًا حديث جابر عند أحمد، وأهل "السُّنن"، وابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم"؛ وهذا الحديث وإن كان فيه مقال؛ فهو لا يقدح في انتهاضه للاستدلال، وهو نص في الفرق باعتبار القصد وعدمه".

(1)[المائدة: 95].

(2)

[النساء: 115].

(3)

[التوبة: 100].

(4)

(2/ 80).

ص: 332

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الحافظ: "أخرجه أصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي؛ من حديث عمرو بن أبي عمرو -مولى المطلّب بن عبد الله بن حنطب-؛ عن مولاه -المطلب-، عن جابر .... وعمرو مختلف فيه وإن كان من رجال "الصحيحين"، ومولاه قال الترمذي: "لا يعرف له سماع من جابر"، وقال في موضع آخر: قال محمد: "لا أعرف له سماعًا من أحد من الصحابة إلّا قوله: "حدّثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول:"لا نعرف له سماعًا من أحد من الصّحابة، وقد رواه الشافعي عن الداروردي، عن عمرو، عن رجل من الأنصار، عن جابر، قال الشافعي: "إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى أحفظ من الداروردي ومعه سليمان بن بلال"؛ يعني: أنّهما قالا فيه عن المطلب، قال الشّافعي: "وهذا الحديث أحسن شيء في هذا الباب" (1) ".

305 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه، قد ذهب إلى كلٍّ منها طائفة:

أحدها: أن يكون متقدّمًا على أحاديث تحريم المدينة؛ فيكون منسوخًا.

الثاني: أن يكون متأخّرًا عنها معارضًا لها؛ فيكون ناسخًا.

الثالث: أن يكون النغير ممّا صيد خارج المدينة ثم أُدخِل المدينة كما هو الغالب من الصيود.

الرّابع: أن يكون رخّصه لذلك الصّغير دون غيره، كما رخَّص لأبي بُرْدة في التضحية بالعَنَاق دون غيره.

فهو متشابه كما ترى، فكيف يجعل أصلًا يقدم على تلك النّصوص

(1)"التلخيص"(2/ 526).

(2)

(2/ 83).

ص: 333

الكثيرة المحكمة الصّريحة الّتي لا تحتمل إلّا وجهًا واحدًا".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأظهر هو الوجه الثالث.

306 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"أقول: عندي أنّه لا يجب على من قتل صيدًا -أو قطع شجرًا من حرم المدينة- لا جزاء ولا قيمة بل يأثم فقط".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: روى الطحاوي (2): حدثنا صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور. ح. وحدّثنا يوسف بن يزيد: حدثنا الحجّاج بن إبراهيم، قالا: حدثنا هشيم: أخبرنا حجّاج وعبد الملك، عن عطاء، عن عبيد بن عمير:"أنّ عمر بن الخطاب رأى رجلًا يقطع من شجر الحرم ويعلفه بعيرًا له، قال: فقال: علي بالرجل، فأتي به، فقال: يا عبد الله! أما علمت أنّ مكة حرام لا يعضد عضاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلّا لمعرف؟! فقال: يا أمير المؤمنين! والله ما حملني على ذلك إلّا أنّ معي نضوًا لي، فخشيت أن لا يبلغني أهلي، وما معي زاد ولا نفقة؛ فرقَّ عليه بعدما هوَّبه، وأمر له ببعير من إبل الصدقة فأعطاه إيّاه، وقال: لا تَعَوَّدَن أن تقطع من شجرة الحرم شيئًا".

307 -

قال الْمُصَنِّف (3):

"وقد ذهب الجمهور إلى فرضيّة الطواف للقدوم.

وقال أبو حنيفة: سنة.

وروي عن الشّافعي أنّه كتحيّة المسجد.

والحقّ الأول؛ لقوله - تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ".

(1)(2/ 84).

(2)

"مشكل الآثار"(8/ 177).

(3)

(2/ 87 - 88).

ص: 334

قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأظهر: أنّه سنّة؛ لحديث عروة بن مضرس.

308 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"ويقبل الحجر الأسود: لما في "الصحيحين" من حديث عمر: أنّه كان يقبل الحجر ويقول: إنّي لأعلم أنّك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".

قال الفقير إلى عفو ربِّه:

(وفي هذا من الفوائد):

أنّه ينبغي للعالم أن يُسلِّم للنّص وإن لم تظهر له حكمته؛ وأنّ فتح باب التّعليل في العبادات ليس منهجًا علميًّا سليمًا عند أهل الاتّباع، بل هو يُضعف من الأخذ بالسنّة.

309 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"ويستلم الركن اليماني: لما أخرج أحمد والنسائي، عن ابن عمر: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطًّا"، وفي إسناده: عطاء بن السائب".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني رحمه الله: "قلت: ولا يضر هنا؛ لأنّ من رواة الحديث عنه -عند أحمد (3) - الثوري، وهو قد روى عن عطاء قبل اختلاطه، فالحديث صحيح"(4).

310 -

قال الْمُصَنِّف (5):

"وإنّما اشترط له شروط الصّلاة كما ذكره ابن عباس؛ لأنّ الطواف

(1)(2/ 88).

(2)

(2/ 90).

(3)

(رقم:561).

(4)

"التعليقات الرضيّة"(2/ 90).

(5)

(2/ 91).

ص: 335

يشبه الصلاة في تعظيم الحق وشعائره، فحمل عليها".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: أخرجه النسائي (1)، والشافعي (2) من طريق حنظلة بن أبي سفيان، عن طاووس، عن ابن عباس؛ موقوفًا.

وإذا تبيّن أنّ الأصح هو الوقف، فلا يلزم من تشبيه الطواف بالصلاة أنّه يجب فيه ما وجب في الصلاة، وذلك في الطهارة على وجه الخصوص؛ لأنّ من استدلّ به أراد إثبات وجوب أو اشتراط الطهارة للطواف؛ وهو استدلال ضعيف لأوجه:

الأول: أنَّه قد ثبت في المرفوع: "إذا خرج أحدكم عامدًا إلى الصّلاة؛ فلا يشبكنّ بين أصابعه فإنّه في صلاة".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنّ أحدكم في صلاة ما انتظر الصّلاة"، وبإجماع أهل العلم: أنَّه لا يلزم العامد إلى الصّلاة أو منتظر الصّلاة ما يلزم المصلّي من شروط وواجبات.

الثاني: أنَّه لم يثبت عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أمر بالوضوء قبل الطواف ولا أحد من أصحابه، ولو كان الطواف لا يصحّ إلّا بوضوء لبيّنه، صلى الله عليه وسلم للأمّة؛ كما بين لهم أنّه لا يصح طواف العريان بالبيت.

الثالث: وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألّا تطوفي بالبيت حتّى تطهري"، فلا يصح الاستدلال به أيضًا؛ وذلك أن طهارة الحائض تكون بأمرين:

أ- انقطاع الدم.

ب- الاغتسال.

وكلا الأمرين لا يصدقان على المُحدث حدثًا أصغر، فقياسه على الحائض من باب التكلف الّذي نهينا عنه.

(1)(2/ 36).

(2)

(75).

ص: 336

وقد تقدّم غير مرّة: أنّ القياس في العبادات لا يصح.

وما قرّرناه لا يعني عدم مشروعيّة الوضوء قبل الطواف؛ فقد فعله صلى الله عليه وسلم وتوضأ قبله، كما تيمّم صلى الله عليه وسلم لرد السّلام، وقال:"إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة"، ثم إنّه سوف يصلّي ركعتين بعد الطواف.

311 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"وأمّا حديث: "الطواف بالبيت صلاة": فمع كونه في إسناده عطاء بن السائب" وهو ضعيف، فليس التّشبيه بمقتضٍ لمساواة المشبَّه للمشبَّه به في جميع الأوصاف، بل الاعتبار التشابه في أخص الأوصاف؛ وليس هو الوضوء".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وما قرّره رحمه الله من أن الوضوء ليس فرضًا هو الحق -إن شاء الله-؛ وذلك أنّا لم نجد في سنّة النَّبي صلى الله عليه وسلم -أو آثار الصّحابة - رضوان الله عليهم - مع كثرة الأحاديث والآثار الواردة في المناسك، وحاجة النّاس لمعرفة هذا الحكم أنّهم أمروا به أو جعلوه شرطًا لصحّة الطواف، وأمّا وضوء النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل الطواف؛ فغاية ما يدلّ عليه الاستحباب، وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم الوضوء لما يستحبّ وما يجب؛ فتفطّنْ!

312 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"وعن أبي هريرة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "وكل به -يعني: الركن اليماني- سبعون ملكًا، فمن قال: اللهم! إني أسألك العفر والعافية في الدّنيا والآخرة {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ؛ قالوا: آمين"، أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسماعيل بن عياش، وهشام بن عمّار وهما ضعيفان".

(1)(2/ 96).

(2)

(2/ 97).

ص: 337

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: إطلاق القول على هشام بن عمار بالضعف، خطأ بيّن؛ لأنّ الرجل في نفسه ثقة، روى له البخاري؛ لكنّه كان قد تغيّر في آخر عمره، فالأحسن ما قاله الشوكاني فيه عند هذا الحديث (1):"وهو ثقة تغير بآخره"، وكأن الشارح رحمه الله اختصر كلامه هذا؛ فأخلّ! وأحسن من ذلك قول الحافظ في "التقريب":"صدوق مقرئ، كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح"(2).

313 -

قال الْمُصَنِّف (3):

"وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي - وصحّحه - من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما جعل الطواف بالبيت وبالصّفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني رحمه الله (2/ 105): "بقوله: "هذا حديث حسن صحيح"، (2/ 105)؛ وفيه نظر؛ لأنّ في سنده - عنده وعند أبي داود (4)، عبيد الله بن أبي زياد -وهو القدّاح- وفيه كلام واختلاف، وفي "التقريب" أنّه: "ليس بالقوي"، ثم قد خالفه من هو أوثق منه: فرواه عن شيخه القاسم عن عائشة فلم يرفعه، وكذلك رواه حسين المعلم عن عطاء عن عائشة موقوفًا.

انظر "سنن البيهقي"(5/ 145)، والحديث رواه أحمد - أيضًا - (6/ 64 - 75 - 39) وراجع "تاريخ بغداد"(11/ 331 - 332)(5).

(1)(5/ 40).

(2)

"التعليقات الرضيّة"(2/ 97).

(3)

(2/ 98).

(4)

(1/ 296).

(5)

"التعليقات الرضية"(2/ 98).

ص: 338

314 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"قلت: وجهر فيهما بقراءته نهارًا، فالجهر فيهما السُّنّة؛ ليلًا ونهارًا، فلمّا فرغ منهما؛ أتى الحجر الأسود، فاستلمه، ثم خرج إلى الصّفا من الباب الّذي يقابله".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: هذا يحتاج إلى دليل؛ وإلّا فالأصل هو المخافتة في القراءة.

315 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"والحاصل: أنّ المبيت بمنى ليس بمقصود في ذاته؛ إنّما هو لأجل الرّمي المشروع؛ لأنّه فعل، والزّمان والمكان. من ضروريّاته، فالحق ما قاله الحنفيّة وبعض الشّافعية؛ من عدم وجوبه في نفسه".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال أبو عبد الرحمن رحمه الله: "قلت: هذا خلاف ما سبق تقريره من المصنف؛ أنّ الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج الوجوب، وما ذكره هنا من الدليل على أن المبيت غير واجب، إنما هو رأي لا دليل عليه من السُّنّة، بل السُّنة تخالفه وتشهد لهذا الأصل، وهو ما صحّحه الترمذي وغيره عن عاصم بن عدي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى .... ؛ الحديث، وقد خرّجته وصحّحته في "التعليقات" (3)، وفي "البخاري": "أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكّة أيام منى من أجل سقايته".

قال الحافظ: "وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنّه من مناسك الحج؛ لأنّ التيسير بالرّخصة يقتضي أنّ مقابلها عزيمة، وأنّ الإذن وقع للعلّة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها، لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال الجمهور".

(1)(2/ 98).

(2)

(2/ 105).

(3)

(2/ 105).

ص: 339

ونقله الشوكاني (1): لكنّه لم يعزه إليه، فدلّ على أنَّه يرى الوجوب خلافًا للشارح وهو الحق" (2).

216 -

قال الْمُصَنِّف (3):

"وفي حديث جابر عند مسلم وغيره: "أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة، فصلّى بها المغرب، والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يسبِّح بينهما شيئًا، ثم اضطجع، حتّى طلع الفجر، فصلّى الفجر حين تبيّن له الصّبح بأذانٍ وإقامةٍ، ثم ركب القصواء، حتّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبّره وهلّله ووحّده، فلم يزل واقفًا حتّى أسفر جدَّا، فدفع قبل أن تطلع الشمس حتّى أتى بطن محسر فحرك قليلًا".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني رحمه الله: يعني: وأسرع السير؛ كما جاء مصرّحًا به في بعض الأحاديث -كما أشرت إلى ذلك في "التعليقات"(4).

قال ابن القيم (5): "وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه؛ فإنّ هنالك أصاب أصحاب الفيل ما قصّ الله علينا؛ ولذلك سمي ذلك الوادي وادي محسر؛ لأنّ الفيل حسر فيه -أي: أعيى- وانقطع عن الذهاب، وكذلك فعل في سلوكه الحجر، وديار ثمود؛ فإنّه تقنّع بثوب، وأسرع السير"(6).

317 -

قال الْمُصَنِّف (7):

"وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث ابن

(1) في "النيل"(5/ 68).

(2)

"التعليقات الرضية"(2/ 106).

(3)

(2/ 107).

(4)

(4/ 150).

(5)

في "الزاد"(1/ 315).

(6)

"التعليقات الرضية"(2/ 107).

(7)

(2/ 109).

ص: 340

عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم الجمرة، فقد حلّ لكم كل شيء إلّا النساء".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الألباني: قلت: تبع الشارح - في عزوه لأبي داود - الشوكاني (1)، وأنا فتّشت عنه في "سننه"، فلم أجده من حديث ابن عباس، وإنّما (1/ 310) من حديث عائشة، وأعلّه بالانقطاع، ويبدو لي أنَّه ليس عنده من حديث ابن عباس، فإن الزيلعي (2) لم يعزه إلّا للنسائي، وابن ماجه (3)، وهو منقطع أيضًا، لكن أحدهما يقوي الآخر، سيّما وقد جاء من حديث أم سلمة بسند حسن - إن شاء الله تعالى - (4).

قال الحافظ: "وروى أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه من حديث الحسن العرني عن ابن عباس: "إذا رميتم الجمرة؛ فقد حل لكم كل شيء إلّا النّساء، فقال رجل: يا ابن عباس! والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُضمّخ رأسه بالطيب"، وللنَّسائي من طريق سالم عن ابن عمر، قال: "إذا رمى وحلق حلّ له كل شيء إلّا النساء والطيب"، قال سالم: وكانت عائشة تقول: حل له كل شيء إلّا النساء" أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وروى الحاكم من حديث ابن الزّبير أنَّه قال: "من سنّة الحج أن يصلّي الإمام الظّهر، والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، والصّبح بمنى، ثمّ يغدو له، حتّى إذا زالت الشمس خطب النّاس، ثمّ صلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثم وقف بعرفات حتّى تغيب الشمس، ثم يفيض فيصلّي بالمزدلفة، أو حيث قضى الله له، ثم يقف بجمع، حتى إذا استفثر دفع قبل طلوع الشمس، فإذا رمى الجمرة الكبرى حلّ له كل شيء حرّم عليه إلّا النساء والطيب حتّى يزور البيت" (5).

(1) في "النيل"(5/ 60).

(2)

في "نصب الراية"(3/ 81).

(3)

وهو في "المسند"(2090).

(4)

فراجع "نصب الراية"، "التعليقات الرضية"(2/ 109).

(5)

"التلخيص"(2/ 497).

ص: 341

قال شيخ الإسلام: "فإذا رمى جمرة العقبة نحر هديه إن كان معه هدي

ثم يحلق رأسه أو يقصّره، والحلق أفضل من التّقصير، وإذا قصّره جمع الشعر وقصّ منه بقدر الأُنملة -أو أقل أو أكثر-، والمرأة لا تقص أكثر من ذلك، وأمّا الرجل؛ فله أن يقصّر ما شاء، وإذا فعل ذلك فقد تحلّل باتّفاق المسلمين التحلّل الأول، فيلبس الثياب، ويقلّم أظفاره، وكذلك له - على الصحيح - أن يتطيّب ويتزوّج، وأن يصطاد، ولا يبقى عليه من المحظورات إلّا النساء" (1).

318 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"وفي "الصّحيحين" وغيرهما من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النّحر، وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله! حلقت قبل أن أرمي؟ قال: "ارم ولا حرج"، وأَتاه آخرُ، فقال: يا رسولَ الله! ذبحت قبل أن أَرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج"، وأَتاه آخر، فقال: إنّي أَفضت إلى البيت قبل أَن أَرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج".

وفي رواية فيهما: فما سئل عن شيء؛ إلّا قال: "افعل ولا حرج".

وأخرج أحمد من حديث علي، قال: جاء رجل، فقال: يا رسول الله! حلقت قبل أن أنحر؟ قال: "انحر ولا حرج"، ثم أتاه آخر فقال: إنّي أفضت قبل أن أحلق؟ قال: "احلق -أو قصّر- ولا حرج".

وفي لفظ للترمذي - وصحّحه -، قال: إنّي أفضت قبل أن أحلق؟

وفي "الصّحيحين" وغيرهما عن ابن عباس: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قيل له في الذّبح والحلق والرمي، والتّقديم والتأخير؟ فقال:"لا حرج".

وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن حبّان، والحاكم من حديث عائشة، قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلّى الظّهر، ثم رجع إلى

(1)"مجموع الفتاوى"(26/ 137 - 138).

(2)

(2/ 109 - 111).

ص: 342

منى فمكث بها ليالي أيّام التّشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كل جمرة بسبع حصيّات؛ يكبّر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، وعند الثانية، فيطيل القيام ويتضرّع، ويرمي الثالثة لا يقف عندها.

وعن ابن عباس، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشّمس؛ رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي - حسّنه -.

وفي "البخاري" عن ابن عمر، قال: كنّا نتحيّن؛ فإذا زالت الشمس رمينا.

وأخرج التّرمذي - وصحّحه - من حديث ابن عمر: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليها، ذاهبًا وراجعًا.

وفي لفظ عنه: أنّه كان يرمي الجمرة يوم النّحر راكبًا، وسائر ذلك ماشيًا، ويخبرهم أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.

وفي "الصّحيحين" من حديث ابن عباس، وابن عمر: أن العباس استأذن النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكّة ليالي منى؛ من أجل سقايته؟ فأذن له.

وفي "البخاري"، و"أحمد" من حديث ابن عمر: أنَّه كان يرمي الجمرة الدّنيا بسبع حصيّات؛ يكبّر مع كل حصاة، ثم يتقدّم فيسهِّل، فيقوم مستقبل القبلة طويلًا، ويدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشّمال، فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلًا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.

وأخرج أحمد، وأهل "السنن" -وصحّحه الترمذي- من حديث عاصم بن عدي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخّص لرِعاءِ الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النّحر، ثم يرمون الغداة، ومن بعد الغداة ليومين، ثم يرمون يوم النّفر.

وأخرج أحمد، والنّسائي عن سعد بن مالك، قال: رجعنا في الحجّة مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيّات، وبعضنا يقول: رميت بست حصيّات، ولم يعِبْ بعضهم على بعض؛ ورجاله رجال الصّحيح".

ص: 343

قال الفقير إلى عفو ربِّه: الراجح عندي في هذه المسألة هو: جواز الرمي قبل الزّوال في اليوم الثاني عشر -عند وجود ما يدعو إلى ذلك-؛ لوجوه منها:

الأول: دلّت الأدلّة من السُّنّة على جواز الرّمي قبل وقته -عند الحاجة إلى ذلك-: فقد روى الشيخان (1) من حديث ابن عباس قال: "كنت فيمن قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضعفة أهله من المزدلفة إلى منى"، وفي رواية لمسلم (2):"بعث للنَّبي صلى الله عليه وسلم في الثقل من جمع بليل".

وروى الشيخان (3) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "وددت كنت استأذنت رسمول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأصلي الصّبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي النّاس".

وروى الشيخان (4) -أيضًا- عن أسماء رضي الله عنها: "أنّها نزلت ليلة الجمع عند المزدلفة، فقامت تصلّي، فصلّت ساعة، ثم قالت لمولاها: يا بني! هل غاب القمر؟ قال: لا، فصلّت ساعة، ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؛ قال: نعم؛ قالت: فارتحلوا، قال: فارتحلنا ومضينا حتّى رمينا الجمرة، ثم رجعت فصلّت الصّبح في منزلها، قال: فقلت لها: أي هنتاه! ما أرانا إلّا قد غلسنا، قالت: أي بني! إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن".

وروى الشيخان عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر: "كان يقدم ضعفة أهله عند المشعر الحرام بمزدلفة بالليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع؛ فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا، رموا الجمرة، وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم ".

(1) البخاري (1678)، ومسلم (1293).

(2)

(1293).

(3)

البخاري (1681)، ومسلم (1290) واللفظ له.

(4)

البخاري (1679)، ومسلم (1291).

ص: 344

وروى مسلم عن ابن شوال: "أنّه دخل على أمّ حبيبة فأخبرته: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل".

وروى أبو داود بسند حسن عن عائشة قالت: "أرسل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت".

ودلّت الأدلّة على جواز الرمي بعد وقته عند الحاجة إلى ذلك، وقد روى مالك في "الموطأ"، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، بسند صحيح عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الإبل بالبيتوتة عند منى يوم النّحر، ثم يرمون الغد وبعد الغد ليومين.

قال البغوي في "شرح السُّنّة"(1): "معنى قوله": "يرمون الغد وبعد غد"؛ أي: يرمون الغد إن شاؤا ليومين أو لا يرمون الغد، ويرمون بعد الغد للغد وما بعده".

وروى البخاري عن ابن عباس: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له يوم النحر: رميت بعد أن أمسيت؟ قال: "افعل ولا حرج".

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جوّز للمسلمين الرّمي قبل دخول وقت العبادة المشروع عند الحاجة؛ كما في يوم النّحر على أنّه قال في حديث ابن عباس: "أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشّمس".

قال الحافظ: "وهو حديث حسن"(2).

وأنّه جوّز الرمي بعد وقته عند الحاجة؛ كإذنه لرعاء الإبل بتأخير الرمي.

قال الحافظ: "وفيه دليل على أنّ السُّنّة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد الزوال، وبه قال الجمهور وخالف فيه عطاء وطاوس، وقالا:

(1)(7/ 229).

(2)

"الفتح"(3/ 617).

ص: 345

يجوز قبل الزوال - مطلقًا -، ورّخص الحنفيّة في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق: إن رمي قبل الزوال أعاد؛ إلّا في اليوم الثالث فيجزئه" (1).

قال صاحب "الإنصاف": "وعنه يجوز رمي متعجّل قبل الزّوال وينفر بعده"(2).

الثاني: إنّ من أهم المهمّات الدّين، وأعظم مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على حرمة المسلم، وروى الشيخان (3) من حديث أبي بكرة أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، والسُّنة اثني عشرة شهرًا، منها أربعة حُرم ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر؛ الّذي بين جمادي وشعبان، أي شهر هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال:"أليس ذو الحجة؟ "، قلنا: بلى، قال:"فأي بلد هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننا أنّه سيسمّيه بغير اسمه، قال:"أليس البلدة؟ "، قلنأ بلى، قال:"فأي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتّى ظننا أنَّه سيسمّيه بغير اسمه، قال:"أليس يوم النحر؟ "، قلنا: بلى، قال:"فإنّ دماءَكم، وأموالكم، وأعراضكم؛ عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا"؛ الحديث.

وروى الترمذي (4) تحت (باب: ما جاء في تعظيم المؤمن)، حديث ابن عمر قال:"صعد النَّبي صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع" -الحديث-، وفي آخره قال:"ونظر ابن عمر إلى البيت -أو إلى الكعبة- وقال: ما أعظمَكَ وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمةً عند الله منك".

فتبيّن من هذا: أنّ حرمة دم المسلم أعظم عند الله عز وجل من

(1)"الفتح"(3/ 678).

(2)

(4/ 45).

(3)

البخاري (1741)، ومسلم (1679).

(4)

"السنن"(2032).

ص: 346

إقامة عبادة من العبادات يهلك فيها المسلم؛ ولذا أوجب العلماء على المضطر أكل لحم الميتة؛ كما أوجبوا على من يخاف تلف عضو من أعضائه أن يتيمّم ولا يغتسل.

وقد روى البخاري (1) عن ابن عمر: "أنّه جاءه رجل فقال: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارْمه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنّا نتحيّن حتى إذا زالت الشّمس رمينا".

قال الحافظ: "يعني: الأمير الّذي على الحج" وكأن ابن عمر خاف عليه أن يخالف فيحصل منه ضرر عليه، فلمّا أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم " (2).

319 -

قال الْمُصَنِّف (3):

"ويستحبّ لمن يحج بالنّاس أن يخطبهم: بعد الزّوال خطبتين خفيفتين قائمًا، والأخيرة أخف، ويجلس بينهما كالجمعة؛ يعلم فيهما المناسك إلى اليوم الثّاني، وإذا زالت الشّمس اغتسل، إن أحب.

يوم النّحر: لحديث الهِرمَاس بن زياد، قال: رأيت النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب النّاس على ناقته العضباء يوم الأضحى؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.

وأخرج نحوه أبو داود أيضًا من حديث أبي أمامة.

وأخرج نحوه هو والنسائي من حديث عبد الرحمن بن معاذ التّيمي.

وأخرجه البخاري، وأحمد من حديث أبي بكرة، وفيه أنّه قال:"فإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام؛ كحرمة يومِكُم هذا، في شهرِكُم هذا، في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربّكم، ألا هل بلّغت؟! "، قالوا: نعم، قال:

(1)(1746).

(2)

"الفتح"(3/ 678).

(3)

(2/ 111 - 112).

ص: 347

"اللهمّ! اشهد، فليبلّغ الشاهد الغائب؛ فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفّارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: ليس في الأحاديث الّتي ساقها المؤلّف شيء صريح يدلّ على ما ذهب إليه؛ من أنَّه يخطب خطبتين يجلس بينهما إلّا القياس على الجمعة، وفيه نظر.

320 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"ويستحبّ الخطبة وسط أيام التّشريق: لحديث سراء بنت نبهان، قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس، فقال: "أي يوم هذا؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "أليس أوسط أيّام التشريق؟! "؛ أخرجه أبو داود، ورجاله رجال الصحيح".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: حسّنه الحافظ (2) ووافقه الشيخ الألباني رحمه الله في "التعليقات الرضية"(2/ 113).

321 -

قال الْمُصَنِّف (3):

"ويطوف الحاجّ طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة يوم النّحر: لحديث ابن عمر في "الصّحيحين" وغيرهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النّحر، ثم رجع فصلّى الظّهر بمنى.

وفي "صحيح مسلم" من حديث جابر نحوه".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال ابن القيم: "في"الصحيحين" عن ابن عمر: أنّه صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النّحر، ثم رجع فصلّى الظّهر بمنى"، وفي "صحيح مسلم" عن جابر:"أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر بمكّة"، وكذلك قالت عائشة.

(1)(2/ 112 - 113).

(2)

في "البلوغ"(724).

(3)

(2/ 113 - 114).

ص: 348

واختلف في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر، فقال أبو محمد بن حزم: قول عائشة وجابر أولى، وتبعه على هذا جماعة؛ ورجّحوا هذا القول لوجوه:

أحدهما: أنّه رواية اثنين؛ وهما أولى من الواحد.

الثاني: أن عائشة أخص النّاس به صلى الله عليه وسلم ولها من القرب والاختصاص به والمزية ما ليس لغيرها.

الثالث: أنّ سياق جابر لحجّة النَّبيّ صلى الله عليه وسلم من أوّلها إلى آخرها، أتم سياق، وقد حفظ القصّة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها.

حتى ضبط منها أمرًا لا يتعلّق بالمناسك، وهو نزول النَّبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع في الطريق، فقضى حاجته عند الشعب، ثم توضأ وضوءً خفيفًا، فمن ضبط هذا القدر فهو بضبط مكان صلاته يوم النّحر أولى.

الرابع: أنّ حجّة الوداع كانت في آذار، وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشّمس إلى منى، وخطب بها النّاس، ونحر بدنًا عظيمة، وقسّمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه، وتطيّب، ثم أفاض، فطاف وشرب من ماء زمزم، ومن نبيذ السقاية، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال تبدو في الأظهر أنّها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرّجوع إلى منى بحيث يدرك وقت الظّهر في فصل آذار.

الخامس: أنّ هذين الحديثين، جاريان مجرى الناقل والمبقى، فقد كانت عادته صلى الله عليه وسلم في حجّته الصّلاة في منزله الّذي هو نازل فيه بالمسلمين، فجرى ابن عمر على العادة، وضبط جابر وعائشة رضي الله عنهما الأمر الّذي هو خارج عن عادته، فهو أولى بأن يكون هو المحفوظ.

ورجّحت طائفة أخرى قول ابن عمر؛ لوجوه:

أحدهما: أنّه لو صلّى الظّهر بمكة، لم تصلي الصحابة بمنى وحدانًا وزرافات، بل لم يكن لهم بد من الصّلاة خلف إمام يكون نائبًا عنه ولم

ص: 349

ينقل هذا أحد قط، ولا يقول أحد: إنّه استناب من يصلّي بهم، ولولا علمه أنّه يرجع إليهم فيصلّي بهم؛ لقال: إن حضرت الصّلاة ولست عندكم؛ فليصلّ بكم فلان، وحيث لم يقع هذا ولا هذا، ولا صلّى الصحابة هناك وحدانًا - قطعًا -، ولا كان من عادتهم إذا اجتمعوا أن يصلّوا عزين، علم أنّهم صلّوا معه على عادتهم.

الثاني: أنّه لو صلّى بمكة، لكان خلفه بعض أهل البلد وهم مقيمون، وكان يأمرم أن يتمّوا صلاتهم، ولم ينقل أنّهم قاموا فأتمّوا بعد سلامه صلاتهم، وحيث لم ينقل هذا ولا هذا، بل هو معلوم الانتفاء - قطعًا -، علم أنَّه لم يصل حينئذٍ بمكة، وما ينقله بعض من لا علم عنده، أنّه قال:"يا أهل مكّة! أتمّوا صلاتكم؛ فإنّا قوم سفر"؛ فإنّما قاله عام الفتح، لا في حجته.

الثالث: أنه من المعلوم؛ أنَّه لما طاف ركع ركعتي الطواف، ومعلوم أنّ كثيرًا من المسلمين كانوا خلفه يقتدون به في أفعاله ومناسكه، فلعلّه لمّا ركع ركعتي الطواف، والنّاس خلفه يقتدون به، ظنّ الظّان أنّها صلاة الظّهر، ولا سيّما إذا كان ذلك في وقت الظّهر، وهذا الوهم لا يمكن رفع احتماله، بخلاف صلاته بمنى؛ فإنّها لا تحتمل غير الفرض.

الرابع: أنّه لا يحفظ عنه في حجّه أنه صلّى الفرض بجوف مكّة، بل إنّما كان يصلّي بمنزله بالأبطح بالمسلمين مدّة مقامه، كان يصلّي بهم أين نزلوا لا يصلّي في مكان آخر غير المنزل العام.

الخامس: أنّ حديث ابن عمر متّفق عليه، وحديث جابر من أفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، وكذلك هو في إسناده؛ فإنّ رواته أحفظ وأشهر وأتقن: فأين يقع حاتم بن إسماعيل من عبيد الله بن عمر العمري، وأين يقع حفظ جعفر من حفظ نافع؟

السادس: أن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه؛ فروى عنها على ثلاثة أوجه:

أحدها: أنَّه طاف نهارًا.

ص: 350

الثاني: أنَّه أخّر الطواف إلى اللّيل.

الثالث: أنَّه أفاض من آخر يومه.

فلم يضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصّلاة؛ بخلاف حديث ابن السابع: أن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ فإنّ حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها.

وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يصرّح بالسّماع؛ بل عنعنه، فكيف يقدم على قول عبيد الله: حدّثني نافع عن ابن عمر؟

الثامن: أنّ حديث عائشة: ليس بالبيّن أنّه صلى الله عليه وسلم صلّى الظهر بمكّه؛ فإنّ لفظه هكذا: "أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلّى الظّهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيّام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشّمس، كل جمرة بسبع حصيّات"؛ فأين دلالة هذا الحديث الصّريحة؛ على أنَّه صلّى الظّهر يومئذٍ بمكّة؟ وأين هذا في صريح الدلالة إلى قوله ابن عمر: "أفاض يوم النّحر، ثم صلّى الظهر بمنى"، يعني: راجعًا؟ وأين حديث اتّفق أصحاب الصّحيح على إخراجه إلى حديث اختلف في الاحتجاج به، والله أعلم (1) ".

322 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"وهذا يدلّ على أنّ الواجب ليس إلّا طواف واحد، لا ثلاثة: طواف القدوم، والزيارة، والوداع، ويدلّ عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر: "أنَّه حجّ فطاف بالبيت، ولم يطف طوافًا غير ذلك".

(1)"زاد المعاد"(2/ 280 - 283).

(2)

(2/ 115).

ص: 351

قال الفقير إلى عفو ربِّه:

قال الألباني رحمه الله: "لقد تتبّعت ألفاظ هذا الحديث في "البخاري" (1)، ومسلم (2)، فلم أر فيهما هذا اللّفظ الّذي أورده الشّارح، وكأنّه نقله بالمعنى! وهو تساهل منه، ولا سيما وقد زاد فيه -بناءً على فهمه-: "ولم يطف طوافًا غير ذلك"، ولا أصل لهذه الزيادة عندهما، والنّاظر في ألفاظهما -بتأمّل- يتبيّن له خلاف ما قاله الشّارح؛ ذلك لأنّ ابن عمر كان قارنًا، كما قال في رواية لهما: "إنّي قد أوجبت حجّة مع عمرة، فانطلق حتّى ابتاع بقديد هديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم لم يحل منهما حتّى حلّ منها بحجّة يوم النّحر -زاد مسلم-: وكان يقول: "من جمع بين الحج والعمرة، كفاه طواف واحد ولم يحل حتّى يحل منهما جميعًا".

فأنت ترى أنّه ليس فيه نفي طواف الإفاضة والوداع، بل قصده بيان أنّ القارن يكتفي أن يطوف لقدومه طوافًا واحدًا لحجّه وعمرته، نعم؛ في بعض الروايات عنه ما يدلّ - بظاهره - على ما ذهب إليه الشّارح، وهو قوله - بعد قول نافع -: فطاف بالبيت، وبالصّفا والمروة، ولم يزد على ذلك، ولم ينحر، ولم يحلق، ولم يقصر، ولم يحلل من شيء حرم، حتى كان يوم النّحر، فنحر، وحلق، ورأى أن قضى طواف الحج والعمرة، بطوافه الأول.

وقال ابن عمر: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال الحافظ (3): "وهذا ظاهره أنَّه اكتفى بطواف القدوم عن طواف الإفاضة، وهو مشكل".

لكن هذا الظّاهر غير مراد هذا الحديث، والدّليل قوله فيه:"كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم "؛ فإنّه من المعلوم أنّه صلى الله عليه وسلم كان في حجّه قارنًا، وأنّه

(1)(3/ 389 - 433، 4 - 905 - 10).

(2)

(4/ 51 - 52).

(3)

(4/ 5).

ص: 352

طاف لذلك طوافًا واحدًا، ثم طاف طواف الإفاضة، ثم طواف الوداع، كما ورد عن جمع من الصّحابة - منهم ابن عمر نفسه في "البخاري"(1) وغيره -، فإذا حمل قوله في الحديث:"كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " على اكتفائه بطوافه الأوّل عن ما بعده من الإفاضة والوداع -كما فهم الشارح واستشكله الحافظ - تناقض حديثاه، وذا لا يجوز، فوجب حمله على معنى لا يختلف مع حديثه الآخر، وليس هو إلّا ما ذكرناه من اكتفائه لقدومه بطواف لحجه وعمرته، لا الاكتفاء به عمّا بعده من الطّواف.

وبعد؛ فإنّ البحث يحتمل الزيادة ولكن المجال ضيّق، فنكتفي بهذا.

ولا بدّ من التنبيه على أمرين آخرين:

الأول: أنّ احتجاج المؤلّف بحديث عائشة، هو مثل احتجاجه بحديث ابن عمر؛ أعني: أن عائشة كانت قارنة، وأيضًا فإنّها كانت حائضًا حين قدمت مكّة، فلم تستطع أن تطوف حتى قضت مناسكها كلها؛ كما في "البخاري" وغيره، فلا يقاس بها الرجال، والنساء طاهرات -كما لا يخفى-.

والأمر الآخر: أنّه قد فاته الدّليل على وجوب طواف الزيارة؛ وهو قوله - تعالى -: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} وهو طواف الإفاضة؛ كما جزم به الشوكاني في "النيل"(5/ 61)، وكذا ابن كثير وغيره" (2).

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذا التحقيق من الشيخ رحمه الله يدل على جلالة قدره في العلم، وأنّه إنّما ينبل العالم بقدر إحاطته بالسُّنّة والآثار: سندًا ومتنًا.

(1)(3/ 424 - 426).

(2)

"التعليقات الرضية"(2/ 115 - 116).

ص: 353

والعجب من المؤلف رحمه الله حيث احتجّ بفعل ابن عمر، مع أنّه في ظاهره خلاف ما ثبت عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ثم إنّه في مواضع أخرى رد من أقوال وأفعال الصّحابة ما لم يتعارض مع قوله أو فعله صلى الله عليه وسلم.

323 -

قال الْمُصَنِّف (1):

"وقد ورد الدّليل في أمور؛ منها: الصّوم؛ لحديث: "من مات وعليه صوم، صام عنه وليّه"، ولكن ليس في هذا الحديث وجوب على الميّت بل الإيجاب على الولي، وغاية ما يستفاد من قوله: "صام عنه"؛ أنَّه يجزئ ذلك الصّوم عن الميّت".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: وهذا أيضًا في النذر خاصّة؛ كما قال ابن عباس وعائشة.

324 -

قال الْمُصَنِّف (2):

"فالحق ما قاله من ذهب إلى عدم الوجوب".

قال الفقير إلى عفو ربِّه: انظر آثار الصّحابة في وجوب العمرة عند النكتة (292).

* * *

(1)(2/ 123).

(2)

(2/ 128).

ص: 354