الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطهارة
أَوّلًا: بابُ الْمِياه
1 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"الأُولى: الماءُ طاهرٌ ومطهرٌ ولا خلاف في ذلك، وقد نطق بذلك الكتاب والسُّنة، وكما دلَّ الدّليل على كونه طاهرًا مطهرًا، وقام على ذلك الإجماعُ، كذلك يدلُّ على ذلك الأَصل، والظّاهر، والبراءَةُ؛ فإنَ أَصل عنصر الماء طاهر مُطَهّر بلا نزاع، وكذلك الطهور يفيد ذلك، والبراءَةُ عن مخالَطَةِ النجاسةِ له مُسْتَصحَبةٌ".
قال الفقير إلى عفو ربه: وأَصلُه في كتاب الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)} (2).
وقال صلى الله عليه وسلم:
"اللهم اغْسلْني مِنْ خَطايايَ؛ بالْماء، والثلْجِ، والْبَرَد"(3).
2 -
قال الْمُصَنِّف (4):
"هذه المسأَلةُ الثالثة من مسائل الباب:
(1)(1/ 87).
(2)
[الفرقان: 48].
(3)
متفق عليه (خ / 744)، (م / 598).
(4)
(1/ 90).
ووجه ذلك: أَنّ الماء الّذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يُضف إلى شيء من الأُمور التي تخالطُه، فإنْ خالطه شيءٌ أَوجب إضافتَه إليه -كما يقال: ماء ورد، ونحوُه-؛ فليس هذا الماء المقيدُ بنسبَتِه إلى الورود -مثلًا- هو الماءَ المطلقَ الموصوفَ بأَنه طَهور في الكتاب العزيز؛ بقوله -سبحانه-:{مَاءً طَهُورًا (48)} (1)، وفي السُّنةِ المُطهَّرة بقوله صلى الله عليه وسلم:"الماء طَهور"؛ فخرجِ بذلك عن كونه مطهرًا، ولم يخرج به عن كونه طاهرًا؛ لأَن الفرض أن الذي خالطه طاهر، واجتماعُ الطاهِرَيْن؛ لا يوجِبُ خُروجَهما عن الوصفِ الذي كان مستحَقا لكلّ واحدٍ منهُما قبل الاجتِماع".
قال الفقير إلى عفو ربه: ثبت في "الصَّحيح" من حديثِ ابن عبّاسِ رضي الله عنهما في الرَّجل الذي وقَصَتْهُ راحِلَتُه: "أَنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهم بغَسْله بماءٍ وسِدْرِ"(2).
ولا ريبَ أَن السِّدْرَ سوفَ يُغَيِّرُ لونَ الماء.
وثبت -أَيضًا- في "الصَّحيح":
"أَن الرّسولَ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ اللاتي يَغْسِلْنَ ابْنَتَه؛ أَن يَغْسِلْنَها بماءٍ وسِدر، ويجْعَلْنَ في آخِرِهنَّ كافورًا -أَو شيئًا من الكافور-"(3).
وثبتَ عند النَّسائِي (4) وغيرِه:
أَن النبِي صلى الله عليه وسلم اغْتَسَل هو وبعضُ أَزواجِه من قَصعةٍ فيها أَثرُ عَجِينٍ.
وثبتَ عندَ الترمذي (5) وغيرِه؛ مِنْ حديث قَيْسِ بْنِ عاصِمٍ:
"أَن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَه أَنْ يغْتَسِلَ بماءٍ وسِدر".
(1)[الفرقان: 48].
(2)
البخاري: (1267)، ومسلم:(1206).
(3)
البخاري: (1255)، ومسلم:(939).
(4)
في "المجتبى" بِرَقمِ (240).
(5)
بِرَقم (605).
قال الفقير إلى عفو ربه: وكل هذِه الأَحاديثِ؛ فيها ماءٌ مُتغيرٌ بطاهرٍ؛ قد صحَّتِ الطهارةُ به.
فالماءُ الْمُتَغَيّرُ لا يخلُو من إحدى صورَتَيْنِ:
الأُولى: أَنّه يمكِنُ أَنْ يُطلَقَ عليه اسمُ (الماءِ المُطْلَقِ)؛ بحيثُ يكونُ هو الغالبَ على ما خالَطه؛ كما دلت عليه الأَحاديثُ السابقةُ؛ فهذا تجوزُ الطهارةُ به.
الثانية: ألّا يُمْكِنَ أَنْ يُطْلَقَ عليه اسمُ (الماءِ الْمُطلَقِ): كالنبيذ -مثلًا-، و (الشاي)، و (القَهوَة)، ونحوِها؛ فهذا لا تصحُّ الطهارَةُ بهِ -قطعًا-.
3 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"وقد أَطالَ القومُ في فروع موتِ الحيَوان في البئر، والعشر في العشر، والماء الجاري، وليس في كل ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ألْبَتَّةَ! ".
قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الْكَلامُ لا يَتعلَّقُ بمسأَلَةِ الباب، فتنبَّهْ -حَفِظَكَ الله-!
4 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"واحتجَّ أَهلُ هذا الْمَذَهب بمِثْل قوله -تعالى-: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} وبخبرِ الاستيقاظ، وخبرِ الولوغ، وأَحاديثِ النهي عن البول في الماء الدّائم، وهي جميعُها في "الصححيح"؛ ولكنها لا تدل على المطلوب، ولو فرضنا أَنَّ لشيء منها دلالةً بوجه ما؛ كان ما أَفادته تلك الدلالةُ مقيدًا بما تقدَّم؛ لأن التّعبد إنما هو بالظُّنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، على أَنه لا يَبْعُدُ أَن يقال: إن العاقل لا يظن استعمال النّجاسة باستعمال الماء إلا
(1)(1/ 92).
(2)
(1/ 95 - 97).
إذا خالطتِ الماء -بجرمِها، أَو بريحها، أَو بلونها، أَو بطعمها- مخالطةً ظاهرة توجب ذلك الظّنَّ.
ولا شك ولا ريب أَنّ ما كان من الماء على هذه الصفة يَنْجُس؛ لأَن المخالطة إن كانت بالجِرم؛ فالمتوضئ مُستَعمِل لِعَيْنِ النّجاسة، وإن كانت المخالطة بالريح، أَو اللّون، أَو الطعم؛ فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجّحناه.
والحاصلُ: أنّهم إدن أَرادوا -بقولهم: إنْ ظُنَّ استعمالُ النّجاسة باستعماله؛ فهو القليل، وإدن لم يُظَن؛ فهو الكثير -ما هو أَعمُّ من عين النّجاسة، وريحها، ولونها، وطعمها: فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجّحناه؛ إلَّا من جهة أَنّ هؤلاء اعتبروا الْمَظِنّة، وأَهلَ المذهب الأَوّل اعتبروا المَئِنّة؛ ولكن لا يخفى أَن المظَنَّة إذا كانت هي الصادرةَ من غير أَهل الوسوسة والشكوك؛ فهي لا تكاد تخالف المَئِنَّة في مثل هذا الموضع، وإن أَرادوا استعمال العين فقط، أَو عدمَ استعمال العين فقط؛ فهو مذهب مستقلّ غير ذلك المذهب، ولكن الظاهر أَنهم أرادوا المعنى الأَوّل، ويدلُّ على ذلك: أنَّه قد وقع الإجماع على أنّ ما غيرَ لون الماءِ، أَو ريحَه، أَو طعمَه من النّجاسات؛ أَوجب تنجيسه.
-كما تقدَّم تقريرُه-، فأَهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك؛ لدخولهم في الإجماع، بل هو مصرح لحكاية الإجماع في "البحر".
فتقرر بهذا؛ أَنهم يريدودن المعنى الأوّل -أعني: الأَعمَّ من العين، والريحِ، واللّون، والطعم-؛ ثبوتًا وانتفاءً، وحينئذ؛ فلا مخالفة بين المذهبَيْن؛ لأَن أهل المذهب الأَوّل لا يخالفون في أَنّ استعمال المطهّر لعين النجاسة مع الماء؛ موجب لخروج الماء عن الطهوريّة؛ خروجًا زائدًا على خروجه عند استعمال ما فيه مجرّد الريح، أَوِ اللون، أوِ الطعم؛ فتأَملْ هذا؛ فهو مفيد.
بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء، وبين الأَدلة الدالّة عليها على هذه الصورة التي لخصتها ممّا لم أَقف عليه لأَحد من أَهل العلم، وهذِه المسأَلةُ هي من المضايِقِ التي
يتعَثَّرُ في ساحَتِها كلُّ مُحَقق، ويَتَبَلَّدُ عِندَ تشعّب طرائِقِها كلُّ مُدَقِّق". قال الفقير إلى عفو ربه: لكنْ ينبغِي أن يقالَ: إن الماءَ إذا كانَ قليلًا؛ ووقَعَتْ فيه نجاسة؛ فإنَّه لا يُتَوَضئُ به؛ لأن الذي يغلِبُ على الظنِّ في مثْلِ هذهِ الصُّورةِ تأَثُرُه بهذه النّجاسة؛ وإن لم يَظْهَر ذلك؛ وعليه يَدُل حَديثُ ولوغِ الْكَلْبِ في الإناءِ.
5 -
قال الْمصَنِّف (1):
(وما فوق القلتين وما دونهما): قدَّر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدَّرهما بخمس قرب، وفسرها أصحابه بخمس مئة رطل. . .
ثمَّ قال: ويدفع ذلك ما مرَّ من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه.
قال الفقير إلى عفو ربِّه: فقد ضَعَّفَه [أي حديث القلتين، ابنُ القَيِّم رحمه الله منْ خَمسَةَ عَشَرَ وجهًا (2).
والْحق: أنَّه حدِيثٌ حَسَنٌ مِنْ حيثُ الصِّناعَةُ؛ كما قرَّر ذلك شيخُ الإِسلامِ، والحافِظُ ابنُ حجَرِ، وغيرُهُما (3).
6 -
قال الْمصَنِّف (4):
"ومُتَحركٌ وساكِنٌ؛ وجْهُ ذلكَ: أَن سكُونَه -وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به حالة-؛ فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طَهورًا؛ لأَنه يعود إلى وصف كونه طهورًا بمجرّد تحرّكه.
وقد دلَّتِ الأَحاديث على أنَّه لا يجوز التطهير بالماء السّاكن ما دام ساكنًا؛ كحديث أَبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عند مسلم وغيره: أَنّ
(1)(1/ 98).
(2)
انظر "تهذيب السُّنَن"(1/ 56).
(3)
انظر "التلخيص الحبير"(1/ 18) و"إرواء الغليل"(1/ 60).
(4)
(1/ 98 - 99).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغتسلَن أَحدُكم في الماء الدّائم وهو جنب"، فقالوا: يا أَبا هريرة! كيف يفعل؟ قال: يتناوَلُه تناوُلًا.
وفي لفظ لأَحمدَ وأَبي داودَ:
"لا يبولنَّ أَحدُكم في الماء الدائم، ولا يغْتَسِلْ فيه من جنابة".
وفي لفظ للبخاري: "لا يبولَن أَحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثمّ يغتسل فيه".
وفي لفظ الترمذي: "ثمّ يتوضأ منه".
وغير هذه الروايات الّتي يفيد مجموعُها: النّهيَ عن البول في الماء الدائم على انفراده، والنّهيَ عن الاغتسال فيه على انفراده، والنّهيَ عن مجموع الأَمرَيْن.
ولا يصحُّ أَنْ يقالَ: إن رِوايتَي الانفراد مقيدَتان بالاجتماع؛ لأَنّ البولَ في الماء على انفراده لا يجوز، فأَفاد هذا: أَن الاغتسال والوضوءَ في الماء الدّائم من دون بول فيه غير جائز، فمن لم يجد إلَّا ماءً ساكنًا، وأراد أَنْ يتطهَّر منه؛ فعليه أَنْ يحتال قبل ذلك بأْن يحرِّكَه، حتى يَخْرُجَ عن وصفِ كونِه ساكِنًا، ثمَّ يُتَوَضأُ مِنْهُ.
وأَمّا أَبو هريرة؛ فقد حمل النهي على الانغماس في الماء الدائم؛ ولهذا لما سُئل: كيف يفعل؟ قال: يتناوله تناولًا".
قال الفقير إلى عفو ربه: هذا الفَهمُ الَّذي ذَهبَ إليه رحمه الله؛ إنما دفَعَه إليهِ حِرصهُ عَلَى الأَخْذِ بظاهرِ النَّص؛ كما هي عادَتُه رحمه الله!
والْحَق أَنَّه أَخطأ من عدَّةِ وجوه:
الأوَّلُ: عدَمُ دِلالَةِ ظاهر النصوصِ على تحريم الوُضوءِ -أَوِ الاغْتِسالِ- بالماءِ السّاكِن؛ فإن النَّهي لم يأتِ إلَّا مقرونًا: إمّا بغُسلِ -الْجنابة، أَوِ البَولِ.
الثاني: أَن النصوصَ يَجِبُ أَنْ تُفْهَمَ على ضَوْءِ فَهْمِ الصحابَةِ
-رضي الله عنهم، وَلم يُنقَلْ عن واحدٍ منهُمْ أَنه أَمَرَ بِتحرِيك الماءِ السّاكِن قَبْلَ الْوُضوءِ!!
الثالث: أَن هذا الوَصفَ -وَهُوَ كونُه ساكِنًا- لَيْسَ هُو مَناطَ الحُكْم؛ بدليلِ أَن الشارعَ لمْ يَنْهَ كل أَحدٍ عَنِ استِعمالِه؛ وإنما خَصَّهُ بالْجُنُب ومَنْ يبُولُ، فدَل على أَن العِلَّةَ الْمُؤَثِّرَةَ (سَدُّ ذَرِيعَةِ فَسادِ الْماء)، وهذا هوَ الذي فهِمَه أَبو هريرةَ رضي الله عنه.
7 -
قال المصَنِّف (1):
"وَمُسْتَعْمَلٍ وغيرِ مُسْتَعملٍ: هذِه المسأَلةُ السادسةُ من مسائِل الْباب، وقد وقع الاختلاف بين أَهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات؛ وهل يخرج بذلك عن كونه مطَهِّرًا أَمْ لا؟
فحكي عن أَحمد بن حنبل، والليث، والأَوزاعي، والشافعيُّ ومالك -في إحدى الرّوايتين عنهما-، وأَبي حنيفة- في رواية عنه -: أَنّ الماء المستعمل غير مطهر، واستدلّوا بما تقدَّم من حديث النّهي عن الاغتسال في الماء الدّائم.
ولا دلالة له على ذلك؛ لأَنّ علَّة الثهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء مستعملًا؛ بل كونه ساكنًا، وعلةُ السُّكونِ؛ لا مُلازَمَةَ بيْنَها وبَيْنَ الاستِعمال".
قال الفقير إلى عفو ربه: نَهْيُه صلى الله عليه وسلم عنِ اغْتِسالِ الْجُنُب فِيه: لا يدلُّ على أَنّه نَجسٌ بِمُجَرَّدِ الاغْتِسالِ؛ إذْ ليس في اللفْظِ ما يدُل على ذلك؛ بل نَهْيُه صلى الله عليه وسلم سَدٌّ للذرِيعَةِ، أَوْ يقال: إنَّه مكروهٌ بمجَرَدِ الطبعِ؛ لا لأَجلِ أنَّه ينجسُهُ.
8 -
قال الْمصَنِّف (2):
"فالحَق: أَن الْمُستَعْمَلَ طاهِرٌ وَمُطهرٌ؛ عملًا بالأَصل وبالأَدِلَّةِ الدّالةِ على أنّ الماءَ طَهُورٌ".
(1)(1/ 100 - 101).
(2)
(1/ 102).