الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصيام
1 - باب: أحكام الصّيام
266 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"في "المسوى" اختلفوا في هلال رمضان: فقيل: يثبت بشهادة الواحد، وعليه أبو حنيفة، وقيل: لا بدّ من عدلين، وعليه مالك، وللشافعي قولان كالمذهبين؛ أظهرُهما الأول، ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مُصْحِيَةً أو مُغيمةً.
وقال أبو حنيفة في الصَّحو: لا بدّ من جمع كثير".
قال الفقير إلى عفو ربّه: أما رؤية هلال رمضان؛ فقد ثبت اعتداد الشارع برؤية الواحد والاثنين العدول على ما جاء في حديث ابن عمر: أخرجه أبو داود (2)، والدارقطني (3)، والبيهقي (4)، والحاكم (5)، وحديث ابن عباس: أخرجه أبو داود (6)، والترمذي (7)، والنسائي (8)، وابن ماجه (9).
(1)(2/ 9).
(2)
"السنن"(2342).
(3)
"السنن"(2/ 156).
(4)
"السنن الكبرى"(4/ 212).
(5)
(1/ 423).
(6)
"السنن"(2340).
(7)
"السنن"(691).
(8)
"السنن"(2112).
(9)
"السنن"(1652).
وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجه أبو داود (1)، والبيهقي (2)، والدرقطني (3) -.
والاثنين: على حديث عبد الرحمن بن زيد؛ أخرجه أحمد (4)، والنسائي (5) -، وأمير مكة الحارث بن حاطب-.
وقد جاءت آثار الصَّحابة رضي الله عنهم موافقة للأحاديث المرفوعة.
أمّا رؤية هلال شوال؛ فلم يثبت في المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ إلا مجرّد القياس على رؤية هلال شعبان، وقد جاءت الآثار الصّحيحة عن الصَّحابة رضي الله عنهم بخلاف هذا القياس.
فقد روى ابن أبي شيبة (6): حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال:"كنّا بخانقين فأهللنا هلال رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فأتانا كتاب عمر أن الأهلّة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارًا؛ فلا تفطروا؛ إلا أن يشهد رجلان مسلمان أنَّهما أَهلَّاه بالأمس".
فإن قيل: فما الجواب على ما أخرجه الشافعي (7)، وعبد الله (8) من طريق سليمان الشيباني، عن عبد الملك بن ميسرة، قال:"شهدت المدينة في عيد فلم يشهد على الهلال إلَّا رجل واحد، فأمرهم عبد الله بن عمر فقبلوا شهادته"؟ -ذكره صاحب "ما صحّ من آثار الصَّحابة"(2/ 627) -.
(1)"السنن"(2341).
(2)
"السنن الكبرى"(4/ 212).
(3)
"السنن"(2/ 159).
(4)
"المسند"(4/ 321).
(5)
"السنن"(2116).
(6)
(3/ 69).
(7)
في "الغيلانيات"(1/ 215).
(8)
في "مسائله"(179).
فالجواب:
أن هذه الرواية شاذّة، فقد رواه ابن أبي شيبة (3/ 68) قال: حدَّثنا علي بن مسهر عن الشيباني عن عبد الملك بن ميسرة قال: "شهدت المدينة في هلال صوم أو إفطار فلم يشهد على الهلال إلا رجل فأمرهم ابن عمر فقبلوا شهادته".
ورواه أحمد عن حفص بن غياث عن الشيباني، عن عبد الملك بن ميسرة، قال: "كنت بالمدينة فشهد رجل أنه رأى الهلال
…
" (1).
ورواه الشافعي في "الغيلانيات"(1/ 232) من طريق أحمد بن حنبل بمثله.
ورواه ابن جرير الطبري (2): حدثنا أبو كريب: حدَّثنا أبو أدريس: حدثني الشيباني عن عبد الملك، قال: "قدمت المدينة فرئي الهلال
…
".
ورواه أيضًا (2/ 1129)، حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي: حدَّثنا حفص بن غياث: حدثنا الشيباني، عن عبد الملك، قال: "كنت بالمدينة فجاء رجل يشهد على رؤية الهلال
…
".
وانفرد محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدَّثنا عبد الواحد: حدَّثنا سليمان: حدَّثنا عبد الملك بن ميسرة، قال: "شهدت المدينة في عيد
…
" (3)؛ بهذا اللفظ.
ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال الحافظ عنه:"صدوق"، وهو إن كان صدوقًا فقد خالف من هو أوثق منه في قوله:"شهدت المدينة في عيد"، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن يعارض به أثر عمر رضي الله عنه.
(1)"مسائل الإمام أحمد" رواية ابنه عبد الله (179).
(2)
في "تهذيب الآثار"(2/ 1127).
(3)
"تهذيب الآثار"(2/ 1127).
267 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"وفي "الأنوار": وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة".
قال الفقير إلى عفو ربّه: انظر أثر عمر في الفقرة السابقة (266).
268 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"أو إكمال عدّة شعبان: لحديث أبي هريرة في "الصّحيحين" وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم؛ فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين".
قال الفقير إلى عفو ربّه: وهذه اللفظة وهي قوله في آخر الحديث: "عدة شعبان" وإن أخرجها البخاري؛ فقد أعلّت بعلَّتين:
قال ابن القيم: "إحداهما: أنه من رواية محمد بن زياد عنه، وقد خالفه فيه سعيد بن المسيب؛ فقال فيه: "فصوموا ثلاثين" قالوا: روايته أولى؛ لإمامته، واشتهار عدالته، وثقته، واختصاصه بأبي هريرة، ولموافقة روايته لرأي أبي هريرة ومذهبه؛ فإن مذهب أبي هريرة، وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وعمرو بن العاص، وأنس، ومعاوية، وعائشة، وأسماء: صيام يوم الغيم.
قالوا: فكيف يكون عند أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأكملوا عدّة شعبان"؛ ثم يخالفه؟!
والعلة الثانية: ما ذكر الإسماعيلي، قال: "وقد روينا هذا الحديث عن غندر، وابن مهدي، وابن علية، وعيسى بن يونس، وشبابة، وعاصم بن علي، والنضر بن شميل، ويزيد بن هارون، وأبي داود؛ كلُّهم عن شعبة؛
(1)(2/ 10).
(2)
(2/ 10).
لم يذكر أحد منهم: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، فيجوز أن يكون آدم قال ذلك من عنده على وجه التفسير للخبر، وإلا فليس لانفراد البخاري عنه بهذا من بين ما رواه عنه وجه، "هذا آخر كلامه (1).
قال الدارقطني: حدثنا محمد بن مخلد: ثنا علي بن داود: ثنا آدم: ثنا شعبة: ثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبّي عليكم الشهر، فعدوا ثلاثين"؛ يعني: عدوا شعبان ثلاثين"، صحيح عن شعبة، كذا رواه آدم عن شعبة.
وأخرجه البخاري عن آدم، عن شعبة وقال فيه:"فعدوا شعبان ثلاثين"، ولم يقل: يعني" (2).
قال الحافظ: "وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة أيضًا، فرواها البخاري -كما ترى- بلفظ: "فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين"، وهذا أصرح ما ورد في ذلك، وقد قيل: إن آدم شيخه انفرد بذلك، فإن أكثر الرواة عن شعبة قالوا فيه: "فعدوا ثلاثين"، أشار إلى ذلك الإسماعيلي وهو عند مسلم وغيره، قال: فيجوز أن يكون آدم أورده على ما وقع عنده من تفسير الخبر؛ قلت: الذي ظنه الإسماعيلي صحيح، فقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن يزيد، عن آدم بلفظ: "فإن غَم عليكم فعُدّوا ثلاثين يومًا"، يعني: عدّوا شعبان ثلاثين، فوقع للبخاري إدراج التفسير في نفس الخبر"(3).
قال الفقير إلى عفو ربه: فهذا التحقيق العلمي في هذه الرواية هو المعتمد، وإن كانت من حيث المعنى صحيحة؛ فقد روى الدارقطني (4) -
(1)"تهذيب السنن"(3/ 216).
(2)
"السنن"(2/ 162).
(3)
في "الفتح"(4/ 145).
(4)
(2/ 156).
وصححه ابن خزيمة (1) - من حديث عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لا يتحفّظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عدّ ثلاثين يومًا ثم صام".
وله شاهد من حديث ابن عباس؛ رواه أبو داود (2)، والترمذي (3) وقال:"حسن صحيح"، وابن خزيمة (4)، وابن حبان (5).
269 -
قال الْمُصَنِّف (6):
"أقول: يمكن أن يقال: إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين، فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصّص بالشهرين المذكورين، وما ورد في خصوص شهر رمضان، ممّا يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين؛ فيمكن أن يقال فيه: إن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم، وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يومًا".
قال الفقير إلى عفو ربّه: هذا الفهم لهذا النّص يفتقر إلى مستند من كلام الأولين، وإلا فلا يخلو من تكلّف.
270 -
قال الْمُصَنِّف (7):
"قال بعض المحققين: التكليف الشهري عُلِّقَ معرفة وقته برؤية الهلال دخولًا وخروجًا، أو إكمال العدّة ثلاثين يومًا، فهل في الأكوان أوضح من
(1) في "صحيحه"(3/ 203).
(2)
"السنن"(2/ 298).
(3)
"السنن"(3/ 72).
(4)
في "صحيحه"(3/ 204).
(5)
في "صحيحه"(8/ 228).
(6)
(2/ 11).
(7)
(2/ 11).
هذا البيان؟! والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمّة".
قال الفقير إلى عفو ربه: قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أنه ثبت بالسُّنة الصحيحة واتفاق الصَّحابة؛ أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم، كما ثبت عنه في "الصَّحيحين" أنه قال: "إنا أُمّة أُمِّية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته".
والمعتمد على الحساب في الهلال؛ كما أنه ضالٌ في الشريعة، مبتدع في الدّين، فهو مخطئ في العقل، وعلم الحساب؛ فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي، وإنما غاية الحساب منهم: إذا عدل أن يعرف كم بين الهلال والشمس من درجة وقت الغروب مثلًا، لكن الرؤية ليست مضبوطة بدرجات محدوده؛ فإنها تختلف باختلاف حدَّةِ النظر وكلاله، وارتفاع المكان الذي يتراءى فيه الهلال، وانخفاضه، وباختلاف صفاء الجو وكدره، وقد يراه بعض الناس لثمان درجات، وآخر لا يراه لثنتي عشر درجة، ولهذا تنازع أهل الحساب، في قوس الرؤية تنازعًا مضطربًا.
وأئمّتهم -كبطليموس- لم يتكلموا في ذلك بحرف؛ لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي.
وإنما يتكلم فيه بعض متأخريهم -مثل كوشيار الديلمي، وأمثاله؛ لَمَّا رأوا الشريعة علقت الأحكام بالهلال، فرأوا الحساب طريقًا تنضبط فيه الرؤية.
وليست طريقة مستقيمة، ولا معتدلة؛ بل خطؤها كثير، وقد جزب، وهم يختلفون كثيرًا: هل يرى؟ أم لا يرى؟ وسبب ذلك: أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم بالحساب، فأخطأوا طريق الصَّواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينت أن ما جاء به الشرع الصَّحيح؛ هو الذي يوافقه العقل الصَّريح" (1).
(1)"مجموع الفتاوى"(25/ 207 - 208).
271 -
قال المصنِّف (1):
"وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة: وجهه الأحاديث المصرّحة بالصّيام لرؤيته والإفطار لرؤيته، وهي خطاب لجميع الأمّة، فمن رآه منهم في أيّ مكان؛ كان ذلك رؤية لجميعهم.
وأمّا الاستدلال من استدل بحديث كُرَيب عند مسلم وغيره: أنّه استهلَّ عليه رمضان وهو بالشام، فرأى الهلال ليلة الجمعة، فقدم المدينة، فأخبر بذلك ابن عباس، فقال: لكنا رأيناه ليلة السّبت، فلا نزال نصوم حتى نكمِل ثلاثين أو نراه، ثم قال: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وله ألفاظ-:
فغير صحيح؛ لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه، ظنًّا منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل؛ وهذا خطأ في الاستدلال، أوقع الناس في الخَبط والخَلط، حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب".
قال الفقير إلى عفو ربه: هذا ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: "فإن قيل: قد روى كريب مولى ابن عباس: "أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتي، واستهل علي رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال يوم الجمعة، ثم قدمت بالمدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلنا: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم؛ ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتّى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولًا تكتفي برؤية معاوية؛ فقال: لا؛ هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
قيل: ابن عباس أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن لا يفطروا في مثل هذه الواقعة، ولم يذكر لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون ذلك؛ لأن كريبًا
(1)(2/ 12).
هو الّذي أخبرهم بالرؤية المتقدمة وحده، وقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا بشهادة اثنين؛ لائهم لو علموا بخبره لأفطروا، وليس فيه تعرض لقضاء ذلك اليوم.
وشهادة الواحد إنما تقبل في الهلال إذا اقتضت الصوم أداء أو قضاء، فأما إذا اقتضت الفطر فلا.
ويجوز أن يكون ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصوموا لرؤيته ويفطروا لرؤيته، ولا يفطروا حتى يروه أو يكملوا العدّة، كما قد رواه ابن عباس وغيره مفسرًا.
فاعتقد ابن عباس أن أهل كل بلد يصومون حتى يروه أو يكملوا العدّة، وقد تقدم عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أنه قصد رؤية بعض الأمّة في الجملة؛ لأنّ الخطاب لهم، وهذا عمل برؤية قوم في غير مصرهم". "شرح العمدة- الصيام" (1).
وإلى ما قرّره شيخُ الإسلام ذهب محدث العصر الشيخ ناصر الألباني رحمه الله فقال -معلقًا على قول صاحب "فقه السُّنة": "الثالث لزوم أهل بلد الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها.
واختار المؤلف هذا المذهب الأخير معققا عليه بقوله: "هذا هو المشاهد ويتفق مع الواقع".
قلت: وهذا كلام عجيب غريب؛ لأنه إن صحّ أنه مشاهد موافق للواقع، فليس فيه أنه موافق للشرع أولًا، ولأن الجهات -كالمطالع- أمور نسبية ليس لها حدود مادية يمكن للناس أن يتبينوها ويقفوا عندها.
ثانيًا: وأنا -والله- لا أدري ما الذي حمل المؤلف على اختيار هذا الرأي الشاذ، وأن يُعْرض عن الأخذ بعموم الحديث الصّحيح، وبخاصّة أنه
(1)(1/ 173).
مذهب الجمهور؛ كما ذكره هو نفسه، وقد اختاره كثير من العلماء المحققين: مثل شيخ الإسلام ابن تيمية (1)، والشوكاني (2)، وصديق حسن خان (3) وغيره، فهو الحق الذي لا يصح سواه، ولا يعارضه حديث ابن عباس؛ لأمور ذكرها الشوكاني.
ولعلّ الأقوى أن يقال: إن حديث ابن عباس ورد فيمن صام على رؤية بلده ثم بلغه في أثناء رمضان أنهم رأوا الهلال في بلد آخر قبله بيوم، ففي هذه الحالة يستمر في الصيام مع أهل بلده حتّى يكملوا ثلاثين أو يروا هلالهم، وبذلك يزول الإشكال، ويبقى حديث أبي هريرة، وغيره على عمومه، يشمل كل من بلغه رؤية الهلال من أي بلد أو أقليم من غير تحديد مسافة أصلًا، كما قال ابن تيمية (4)، وهذا أمر متيسر اليوم للغاية -كما هو معلوم-، ولكنه يتطلّب شيئًا من اهتمام الدول الإسلامية حتى تجعله حقيقة واقعيّة -إن شاء الله تبارك وتعالى" (5).
قال الفقير إلى عفو ربّه: ومع تقديري التام لهذين العالمين الجليلين وللمصنّف رحمهم الله؛ فإن فهم الأولين مع انتفاء الخلاف بينهم أحب إلينا في هذه المسألة وغيرها.
قال ابن عبد البر: "ثم إن النظر يدل عليه عندي؛ لأن الناس لا يكلّفون علم ما غاب عنهم في غير بلدهم، ولو كلّفوا ذلك لضاق عليهم، أرأيت لو رُؤي بمكة، أو بخراسان هلال رمضان أعوامًا، بغير ما كان بالأندلس، ثم ثبت ذلك بزمان عند أهل الأندلس أو عند بعضهم، أو عند رجل واحد منهم، أكان يجب عليهم قضاء ذلك اليوم وقد صام برؤية وأفطر برؤية؟ أو بكمال ثلاثين يومًا كما أمر؟ ومن عمل بما يجب عليه مما أمر به
(1) في "الفتاوى"، (225).
(2)
في "نيل الأوطار".
(3)
في "الروضة الندية"(1/ 224 - 225).
(4)
في "الفتاوى"(25/ 107).
(5)
"تمام المنّة"(397).
فقد قضى الله عنه، وقول ابن عباس عندي صحيح في هذا الباب، والله الموفق للصّواب" (1).
ثم:
1 -
إن الله -تعالى- قال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، والذين لا يوافقون من شاهده في المطالع لا يقال: إنهم شاهدوه لا حقيقة ولا حكمًا، والله -تعالى- أوجب الصّوم على من شاهده.
2 -
وقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، فعلل الأمر في الصّوم بالرؤية ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال: إنه رآه لا حقيقة ولا حكمًا.
3 -
أن التوقيت اليومي يختلف فيه المسلمون بالنص والإجماع، فإذا طلع الفجر في المشرق؛ فلا يلزم أهل المغرب أن يمسكوا لقوله -تعالى-:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ، ولو غابت الشمس في المشرق، فليس لأهل المغرب الفطر فكما أنه يختلف المسلمون في الإفطار والإمساك اليومي؛ فيجب أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري، وهذا القول هو الذي تدل عليه الأدلة" انتهى (2).
وبه قال عكرمة، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وإسحاق بن راهويه، وابن عبد البر، ثم إني وجدت شيخ الإسلام يقرّر هذا (3) حيث قال:
"تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا؛ فإن اتفقت لزم الصوم وإلا فلا، وهو الأصح للشافعية، وقول في مذهب أحمد"، فهذا تصريح برجوعه عمّا قرره موافقًا لمذهبه في "شرح العمدة" وغيره.
(1)"التمهيد"(14/ 358).
(2)
من "الشرح الممتع"(6/ 321) لفقيه عصرنا الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.
(3)
في "الاختيارات"(158).
272 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"وعلى الصائم النية قبل الفجر: لحديث حفصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من لم يُجمعِ الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له"؛ أخرجه أحمد، وأهل "السُّنن"، وابن خزيمة، وابن حبان -وصحّحاه-، ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفًا، فالرَّفع زيادة يتعين قبولها، على ما ذهب إليه أهل الأُصول، وبعض أهل الحديث".
قال الفقير إلى عفو ربه: والأصح رواية من رواه موقوفًا على حفصة رضي الله عنها قال الدّارقطني: "رفعه عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، وهو من الثقات الرفعاء -لعل المراد الرفاعين- واختلف على الزهري في إسناده: فرواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة من قولها، وتابعه الزبيدي، وعبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري.
وقال ابن المبارك، عن معمر، وابن عيينة، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن حفصة، وكذلك قال بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، وكذلك قال إسحاق بن راشد، وعبد الرحمن بن خالد، عن الزهري، وغير ابن المبارك يرويه عن ابن عيينة، عن الزهري، عن حمزة.
واختلف عن ابن عيينة في إسناده، وكذلك قال ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وقال ابن وهب -أيضًا- عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قوله، وتابعه عبد الرحمن بن نمر، عن الزهري، وقال الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سالم، أن عبد الله وحفصة قالا ذلك، ورواه عبيد الله بن عمر عن الزهري، واختلف عليه" (2).
(1)(2 - 13/ 14).
(2)
"السنن"(2/ 172).
273 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"أمَّا حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن أصبح صائمًا أن يتم صومه في يوم عاشوراء، فغاية ما فيه: أنَّ من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار؛ كان ذلك عذرًا له عن التبييت".
قال الفقير إلى عفو ربه: وإلى هذا ذهب أبو العباس: "ومن تجدد له صوم بسبب، كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء التهار، فإنَّه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء، وإن كان قد أكل"(2)، وإلى ساعتي هذه لم أجد عن الصَّحابة شيئا في ذلك.
قال ابن القيم: "وطريقة ثالثة: وهي أن الواجب تابع للعلم، ووجوب عاشوراء، إنما علم من النهار، وحينئذٍ فلم يكن التبييت ممكنًا، فالثية وجبت وقت تجدد الوجوب والعلم به، وإلا كان تكليفًا بما لا يطاق وهو ممتنع.
قالوا: وعلى هذا إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النّهار، أجزأ صومه بنية مقارنة للعلم بالوجوب، وأصله صوم يوم عاشوراء، وهذه طريقة شيخنا؛ وهي -كما تراها- أصح الطرق، وأقربها إلى موافقة أصول الشرع وقواعده، وعليها تدل الأحاديث، ويجتمع شملها الذي يظن تفرقه، ويتخلّص من دعوى النسخ بغير ضرورة، وغير هذه الطريقة لا بدّ فيه من مخالفة قاعدة من قواعد الشرع، أو مخالفة بعض الآثار.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل قباء بإعادة الصّلاة التي صلوا بعضها إلى القبلة المنسوخة، إذ لم يبلغهم وجوب التحول، فكذلك من لم يبلغه وجوب فرض الصوم، أو لم يتمكن من العلم بسبب وجوبه؛ لم يؤمر
(1)(2/ 14).
(2)
"الاختيارات"(159) وانظر مزيد بحث وتفصيل في "الفتاوى"(22/ 251).
بالقضاء، ولا يقال: إنه ترك التبييت الواجب، إذ وجوب التبييت تابع للعلم بوجوب المبيت وهذا في غاية الطهور" (1).
274 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"أقول: وأمّا أنه يجب تجديد النية لكل يوم؛ فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشيء، أو الإرادة له من دون اعتبار أمر آخر، ولا ريب أن من قام في وقت السّحر، وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به، في غير أيام الصوم؛ فقد حصل له القصد المعتبر؛ لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك، وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضّرورة، إذا لم يكن ثَمَّ عذرٌ مانع عن الأكل والشرب غير الصوم، ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد؛ إلّا إذا كان مجنونا أو ساهيا أو نائما، كمن ينام يومًا كاملًا".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: ولعل ثمرة الخلاف في هذه الصورة: هي من نام يومًا كاملًا؛ فهل يصحّ صيامه للغد أم لا؟ فمن اعتبر تجديد النية أمره بالقضاء، ومن قال تكفيه نية صيام الشّهر؛ صحح صومه؛ وهو الأظهر (3).
(1)"زاد المعاد"(2/ 66 - 77).
(2)
(2/ 14).
(3)
أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 288 / 5) عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول:"لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر".
وأخرج النسائي في "السنن الكبرى"(2/ 118 / 2652 - العلمية) من طريق محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت عبيد الله، عن نافع، عن عبد الله:"إذا لم يجمع الرجل الصيام من الليل؛ لا يصوم".
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1 / رقم 9112) والدارقطني في "السنن"(2/ 283) من طريق: سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن حفصة رضي الله عنها، قالت:"لا صيام لمن لم يجمع الصيام قبل الفجر". وإسناده صحيح.
قلت: وهذه الآثار تكون في صورة من تردَّد في النية؛ كأن يقول: "هل الغد من رمضان أو ليس من رمضان؟ "، أو أنه لم ينوِ أصلًا؛ كأن يكون على سفر في الغد =
275 -
قال الْمصَنِّف (1):
"وقد ذهب إلى العمل بهذا الجمهور، وهو الحق، ومن قابل هذه السّنة بالرأي الفاسد فرأيه رد عليه، مضروب في وجهه".
قال الفقير إلى عفو ربّه: أمّا قوله: "فرأيه رد عليه" فهذا حق، وأمّا قوله:"مضروب في وجهه"؛ فلا أجد ما يشهد لها من أدب الكتاب والسُّنّة.
276 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"وهكذا الجماع: لا خلاف في أنه يُبطل القسِام إذا وقع من عامد، وأمّا إذا وقع مع النّسيان فبعض أهل العلم ألحقه بمن أكل أو شرب ناسيًا، وتمسّك بقوله في الرواية الأُخرى: "من أفطر يومًا من رمضان ناسيًا، فلا قضاء عليه ولا كفارة"، وبعضهم منع من الإلحاف أقول: إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف، وقد ثبت في "الصَّحيحين" وغيرهما: أن المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله! قال: "وما أهلكك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فأمَرَه بالكفارة.
وفي رواية لأبي داود، وابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصم يومًا مكانه"؛ وهذه الزيادة مروية من أربع طرق ويقوي بعضها بعضًا.
= فيقول: أنا مسافر في الغد، ولا أحتاج إلى نية الصوم لأني مسافر، ثم يبدو له بعد الفجر عدم السفر، فيقول أنا صائم، فهذا نقول له: لا يصح منك الصيام لأنك لم تبيت النية من الليل.
أما من نوى أن يصوم فإنه لا يحتاج إلى تجديد النية كل ليلة لأنها لازمة -إلا أن يطرأ عليه طارئ سفر، أو مرض، ثم أراد استئناف الصيام فإنه لا بد له أن يبيت نية جديدة قبل فجر اليوم الذي يريد فيه استئناف الصيام.
(1)
(2/ 16).
(2)
(2/ 16 / 17).
ويدل على تحريم الوطء للصائم واجبًا: مفهومُ قوله -سبحانه-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} ".
قال الفقير إلى عفو ربه: يظهر من كلامه رحمه الله عدم إلحاق المجامع النّاسي بالأكل، وهذا تفريق بين متماثلين يندرجان تحت قاعدة واحدة؛ وهي: قوله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5](1).
وقوله -تعالى-: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2)، وجاء في "الصحيح" من حديث ابن عباس -مرفوعًا-:"يرويه عن ربّه: "قد فعلت" (3)، وثبت قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنّسيان، وما استكرهوا عليه".
وهذه قاعدة في كافة المحظورات؛ في الصّلاة، والصّيام، والحج، وغيرها، من فعل منها شيئًا ناسيًا أو جاهلًا؛ فلا إثم عليه ولا كفارة.
277 -
قال الْمُصَنِّف (4):
"وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصم يومًا مكانه"، وهذه الزيادة مروية من أربع طرق، ويقوي بعضها بعضًا {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} .
قال الفقير إلى عفو ربه:
الطريق الأولى: أخرجها أبو داود (5)، وابن ماجه (6)، والدارقطني (7)،
(1)[الأحزاب: 5].
(2)
[البقرة: 286].
(3)
"مسلم"(126).
(4)
(2/ 17).
(5)
"السنن"(2393).
(6)
"السنن"(1954).
(7)
"السنن الكبرى"(2/ 243 - 252).
والبيهقي (1)، من طريق هشام بن سعد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
الطريق الثانية: أخرجها البيهقي (2)، من طريق إبراهيم بن سعد، قال: وأخبرني الليث بن سعد عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة به.
الطريق الثالثة: أخرجها الدارقطني (3) من طريق إسماعيل بن أبي أويس؛ حدثني أبي، أن محمد بن مسلم بن شهاب، أخبره عن حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة حدّثه.
الطريق الرابعة: أخرجها البيهقي (4) من طريق عبد الجبار بن عمر، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة به. ويتبين أن الطريق الثالثة والرابعة متابعتان للثانية.
278 -
قال الْمصَنِّف (5):
"والقيء عمدًا: لحديث أبي هريرة: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذَرعه القيء؛ فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا؛ فليقضِ"؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم -وصححه-.
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمّد القيء يفسد الصّيام وفيه نظر؛ فإن ابن مسعود، وعكرمة، وربيعة قالوا: إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالبًا أو مستخرجًا، ما لم يرجع منه شيء باختياره".
قال الفقير إلى عفو ربّه: أما أثر ابن مسعود: فقد أخرجه عبد
(1)"السنن"(4/ 226).
(2)
(4/ 226).
(3)
(2/ 251).
(4)
(4/ 226).
(5)
"السنن الكبرى"(4/ 226).
الرزاق (1) عن الثوري، عن وائل بن داود، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود، قال:"إنما الوضوء مما خرج، والصوم مما دخل وليس مما خرج"؛ وهو -كما ترى- منقطع؛ فهو ضعيف؛ فإنّ إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود.
فإن قيل: ما الجواب على أثر ابن عباس الذي علقه البخاري (32 - باب: المجامعة والقيء للصائم): "وقال ابن عباس وعكرمة: "الصوم مما دخل وليس مما خرج"؟
قيل: هو مجمل ويشكل عليه: أن الحائض تفطر بخروج الدّم، قال الحافظ:"أمّا قول ابن عباس، فوصله ابن أبي شيبة عن وكيع، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس في المجامعة للصائم؛ قال: "الفطر مما دخل وليس مما خرج، والوضوء مما خرج وليس مما دخل" (2).
أمّا ما ورد عن أبي هريرة؛ فهو ضعيف، قال الحافظ:"كأنّه يشير بذلك إلى ما رواه هو -في "التاريخ الكبير"-؛ قال: قال لي مسدد، عن عيسى بن يونس: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة -رفعه-، قال: "من ذرعه القيء وهو صائم؛ فليس عليه القضاء، وإذا استقاء فليقض"، قال البخاري: لم يصحّ، وإنما يروى عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، وعبد الله ضعيف جدًّا"(3).
والذي يصحّ هو أثر ابن عمر، الذي أخرجه مالك (4): عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان يقول:"من استقاء وهو صائم؛ فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه"، وهو بهذا التفصيل لا مخالف له من الصحابة.
(1)"المصنف"(1/ 170).
(2)
"الفتح"(4/ 207).
(3)
"الفتح"(4/ 206).
(4)
في "موطئه"(1/ 304).
279 -
قال الْمُصَنف (1):
"وعلى من أفطر عمدًا كفارة ككفارة الظهار: لحديث المجامع في رمضان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "هل تجد ما تُعتق رقبة؟ "، قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ "، قال: لا، قال: "فهل تجد ما تُطعم ستين مسكينًا؟ "، قال: لا، ثم أُتِيَ النبي صلى الله عليه وسلم بَعَرْقٍ فيه تمر، فقال: "تصدّق بهذا"، قال: فهل على أفقَرَ منّا؟! فما بين لابَتَيْهَا أهل بيت أحوج منّا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: "اذهب فأطعمه أهلك "ولم يذكر الجماع".
قال الفقير إلى عفو ربه: هذا التقرير نقيض طريقة المصنف رحمه الله من حيث الأخذ بالظّاهر، وترك التوسع في الرأي، وكان الصواب الوقوف مع النصوص وعدم التكلف في إلحاق بعضها ببعض؛ من غير حجّة ولا برهان، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه رحمه الله لبينه الشارع، قال -تعالى-:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (2).
وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (3).
وأمّا رواية: "أن رجلًا أفطر"؛ فهي مجملة، والطريقة العلميّة تقضي بحملها على المبينة، وهي الفطر بالجماع.
280 -
قال الْمُصَنِّف (4):
"وروي عن بعض الظاهريّة -وهو محكي عن أبي هريرة-: أن الفطر في السّفر واجب، وأن الصوم لا يجزئ".
(1)(2/ 19).
(2)
[التوبة: 115].
(3)
[مريم: 64].
(4)
(2/ 23).
قال الفقير إلى عفو ربِّه: أخرجه ابن أبي شيبة (1): حدَّثنا الفضل بن دكين، عن زهير، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرر، عن أبي هريرة، قال:"صمت في السّفر فأمرني أبو هريرة أن أعيد الصّيام في أهلي".
وهذا إسناد رجاله ثقات، سوى المحرر بن أبي هريرة، قال الحافظ عنه:"مقبول"(2)، وقال الذهبي:"وثق"(3).
وعلى فرضه حسنه؛ فهو معارض بما أخرجه مسدد (4): ثنا يحيى، عن ابن عجلان: ثني أبو سعيد -مولى المهري-، قال:"أقبلت مع صاحب لي من العمرة، فوافينا هلال رمضان، فنزل في أرض أبي هريرة في يوم شديد الحر، فأصبحنا مفطرين إلّا رجلّا منَّا واحدًا، فدخل صاحبنا يتلمّس برد النّخيل، فقال: ما بال صاحبكم؟ قالوا: صائم، قال: ما حمله على ألّا يفطر، قد رخّص الله له، لو مات ما صلّيت عليه".
وهذا إسناد صحيح، والشاهد من الأثر؛ قوله:"قد رخّص الله له".
281 -
قال الْمُصَنِّف (5):
"والمراد بـ (نحو المسافر): الحبلى والمرضع؛ لما أخرجه أحمد، وأهل "السُّنن" -وحسّنه الترمذي- من حديث أنس بن مالك الكعبي، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصّلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم".
قال الفقير إلى عفو ربِّه:
وقد صح عن اثنين الصّحابة:
(1)(2/ 8996).
(2)
"التقريب".
(3)
"الكاشف"
(4)
"المطالب العالية"(1/ 405).
(5)
(2/ 23).
1 -
عن ابن عمر:
أ- فقد روى عبد الرزاق (1): عن معمر عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال:"الحامل إذا خشيت على نفسها في رمضان تفطر وتطعم ولا قضاء عليها". صحيح.
ب- وروى الشّافعي (2): عن مالك عن نافع: "أن ابن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها؟ فقال: "تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينًا مُدًّا من حنطة". صحيح.
ج- وروى الدارقطني (3): حدَّثنا أبو صالح الأصبهاني: ثنا أبو مسعود: ثنا الحجّاج: ثنا حماد عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر:"أن امرأة سألت وهي حبلى؟ فقال: "أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا ولا تقضي". صحيح.
د- وأمّا ما يروى عن ابن عمر: "أنّه أمرها أن تفطر وتُطعم كل يوم مسكينًا مدًّا، ثم لا يجزئها ذلك، فإذا صحّت قضته".
فهو ضعيف الإسناد؛ فقد أخرجها أبو عبيد (4)، من طريق محمد بن جعفر، عن ابن أبي لبيبة، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن ابن عمر به. فيه: ابن أبي لبيبة - واسمه: محمد بن عبد الرّحمن -؛ قال الحافظ: "ضعيف كثير الإرسال".
2 -
عن ابن عباس:
أ- روى أبو داود (5)، عن أبّان عن قتادة، عن عكرمة:"أنّ ابن عباس قال: "أثبت للحبلى والمرضع -يعني: قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} "- صحيح.
(1)(4/ 218).
(2)
"مسنده"(1/ 278).
(3)
(2/ 207).
(4)
في "الناسخ والمنسوخ"(63/ 106).
(5)
(708).
ب- روى الدّارقطني (1)، عن ابن عباس:"أنّه رأى أم ولد له حاملًا -أو مرضعًا- فقال: أنت بمنزلة الّذي لا يطيقه عليك أن تطعمي مكان كل يوم مسكينًا ولا قضاء عليك"، وقال:"إسناد صحيح". وقد روى البيهقي عنه قوله: "تقضي ولا تطعم" وإسنادها حسن.
قال الترمذي: "وقال بعضهم: يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما، وإن شاءتا قضتا ولا إطعام عليهما، وبه يقول إسحاق"(2).
وبهذا يتفق كلام الصّحابة - رضوان الله عليهم -.
282 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"ومن مات وعليه صوم صام عنه وليّه: لحديث عائشة في "الصّحيحين" وغيرهما، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام؛ صام عنْه وليّه"؛ وقد زاد البزّار لفظ: "إن شاء"، قال في "مجمع الزوائد""وإسناده حسن".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: قال الشيخ الألباني رحمه الله: "قلت: وليس كذلك؛ لأنّه تفرّد بها ابن لهيعة (4) وقد صرّح بضعفها (5) فقال: "وهي ضعيفة؛ لأنّها من طريق ابن لهيعة".
وقوله: "صام": خبر بمعنى الأمر؛ تقديره: فليصم، وهو للوجوب عند بعض أهل الظّاهر - خلافًا للجمهور - وإلى ذلك ذهب الشارح رحمه الله" (6).
(1)(2/ 206).
(2)
(1/ 218).
(3)
(2/ 23).
(4)
كما في "الفتح"(4/ 157).
(5)
في "التلخيص"(6/ 457).
(6)
"التعليقات الرضية"(2/ 23).
283 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"أقول: الظّاهر - والله أعلم - أنّه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميّت إذا كان عليه صوم، سواء أوصى أو لم يوص، كما هو مدلول الحديث، ومن زعم خلاف ذلك، فليأت بحجّة تدفعه".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: أما من التزم فهم الدّين عقيدة وشريعة على منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه لا يعدل عنهم، ولا يخرج عن أقوالهم وفهمهم لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعليه؛ فإنّ الحقّ الّذي لا مريّة فيه في هذه المسألة:
أن الميت إذا كان عليه صيام، فلا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون فرضًا، فهذا يطعم عنه؛ كما أفتى بذلك ابن عباس وعائشة:
أ- فقد روى عبد الرزاق (2) عن معمّر، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان الأنصاري، عن ابن عباس:"عن رجل مات وعليه رمضان، ونذر صيام شهر آخر؟ قال: يطعم عنه ستّون مسكينًا". وإسناده حسن.
ب - وروى النسائي (3): أنبأ محمد بن عبد الأعلى، قال: حدَّثنا يزيد وهو ابن زريع، قال: حدَّثنا حجّاج الأحول، قال: حدَّثنا أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال:"لا يصلّي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدًّا من حنطة" وهذا إسناده حسن.
(1)(1/ 25).
(2)
"المصنف"(4/ 240).
(3)
في "الكبرى"(2/ 175).
ج - روى أبو داود (1): حدَّثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان، عن أبىِ حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
أ- فقد روى الطّحاوي (2): حدَّثنا روح بن الفرج: حدَّثنا يوسف بن عدي: حدَّثنا عبيدة بن حميد عن عبد العزيز بن رضيع.
عن عروة عن عمرة ابنة عبد الرحمن، قالت:"سألت عائشة رضي الله عنها: فقلت لها: إنّ أُمي توفيت وعليها رمضان أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: لا، ولكن تصدّقي عنها مكان كل يوم مسكين، خير من صيامك عنها"، وإسناده صحيح.
الثاني: أن يكون نذرًا، فهذا يصام عنه على فتوى ابن عباس وعائشة وابن عمر.
أ- فقد روى البيهقي (3): أخبرنا أبو بكر بن الحسن القاضي، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس الأصم: ثنا محمد بن إسحاق: أنبأ عبد الوهاب ابن عطاء: أنبأ سعيد عن روح بن القاسم، عن علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس:"في امرأة توفيت -أو رجل- وعليه رمضان ونذر شهر؟ فقال ابن عباس: يطعم عنه مكان كل يوم مسكينًا، أو يصوم عنه وليّه لنذره"، وإسناده حسن.
ب- وذكر شيخ الإسلام (4) لفظًا آخر لأثر ابن عباس، فقال:"وعن ميمون بن مهران: "أنّ ابن عباس سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان؟ فقال: "أمّا رمضان" فيطعم
(1)"السنن"(2401).
(2)
في "مشكل الآثار"(6/ 178).
(3)
"السنن الكبرى"(4/ 254).
(4)
في "شرح العمدة" - الصيام - (1/ 364).
عنه، وأمّا النّذر؛ فيُصام عنه". رواه أبو بكر".
ج- وروى ابن أبي شيبة (1): حدَّثنا ابن علية عن علي بن الحكم البناني، عن ميمون، عن ابن عباس:"سئل عن رجل مات وعليه نذر؟ فقال: يصام عنه النذر". وإسناده صحيح.
د - وروى أبو داود (2): حدَّثنا محمد بن كثير: أخبرنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:"إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نذر قضى عنه وليّه"، وإسناده صحيح.
أ- فقد روى الطّحاوي (3) -كما سبق- عن عمرة ابنة عبد الرحمن، قالت:"سألت عائشة فقلت لها: إنّ أمّي توفيت وعليها رمضان؛ أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: لا، ولكن تصدّقي عنها مكان كل يوم مسكين، خير من صيامك عنها". وإسناده صحيح.
أ- فقد روى البيهقي (4): أخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق المزكي: أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب: ثنا محمد بن عبد الوهاب: أنبأ جعفر بن عون: أنبأ يحيى بن سعيد عن القاسم ونافع: "أنّ ابن عمر كان إذا سئل عن الرجل يموت وعليه صوم من رمضان أو نذر؟ يقول: لا يصوم أحد عن أحد، ولكن تصدّقوا عنه من ماله للصوم؛ لكل يوم مسكينًا".
وسئل الإمام أحمد: عن قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صيام؛ صام عنه وليّه؟ قال: هذا في النذر خاصّة؛ كما قال ابن عباس وعائشة"، "مسائل ابن هانئ".
(1)"المصنف"(3/ 112).
(2)
"السنن"(2401).
(3)
في "مشكل الآثار"(6/ 178).
(4)
"السنن الكبرى"(4/ 254).
284 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"والكبير والعاجز عن الأداء والقضاء يكفّر عن كل يوم بإطعام مسكين؛ لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في "الصحيحين" وغيرهما، قال: لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ؛ كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتّى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وأخرج هذا الحديث أحمدُ، وأبو داود، عن معاذ بنحو ما تقدّم؛ وزاد: ثم أنزل الله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، فأثبت الله صيامه على المقيم الصّحيح، ورخص فيه للمريض والمسافر، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام.
وأخرج البخاري، عن ابن عباس، أنَّه قال: ليست هذه الآية منسوخه: هي للشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة، لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا.
وأخرج أبو داود، عن ابن عباس، أنَّه قال: أُثبتت للحبلى والمرضع أن يُفطرا؛ ويطعما كل يوم مسكينًا.
وأخرج الدّارقطني، والحاكم -وصحّحاه- عن ابن عباس، أنَّه قال: رُخص للشيخ الكبير أن يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكينًا، ولا قضاء عليه.
وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن، مع ما فيه في الإشعار بالرّفع؛ فكان ذلك دليلًا على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم.
أقول: لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصّوم شيء من المرفوع في شيء من كتب الحديث، وليس في الكتاب العزيز ما يدلّ
(1)(2/ 25 - 27).
على ذلك؛ لأنّ قوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ؛ إن كانت منسوخة -كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمّهات كلهم: أنَّها كانت في أول الإسلام، فكان من أراد أن يفطر يفتدي؛ حتّى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله - تعالى -:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، ومثل ذلك روي عن معاذ بن جبل؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، ومثله عن ابن عمر؛ أخرجه البخاري -: فالمنسوخ ليس بحجّة بلا خوف.
وإن كانت محكمة -كما رواه أبو داود عن ابن عباس-: فظاهرها جواز ترك الصّوم لمن كان مطيقًا غير معذور، ووجوب الفدية عليه، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون.
وأمّا قول ابن عباس المتقدّم: فكلام غير مناسب لمعنى الآية؛ لأنّها في المطيقين، لا فيمن لا يستطيع أن يصويم كما قال، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنّها أُثبتت للحبلى والمرضع، فإنه يدل على أنّها منسوخه فيما عداهما".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: يرحمك الله ما كان أغناك عن هذا! فلقد أخطأت في حكمك على ابن عباس من وجوه عدّة:
الأول: فهمك -أن الآية منسوخة؛ وأنّه لا وجه لما قاله ابن عباس في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة - فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - متفقون على المعنى الذي ذهب إليه ابن عباس:
1 -
فقد روى أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ"(1) عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد في الشيخ إذا كبر ولم يطق الصيام: افتدى بطعام مسكين كل يوم مدًّا من حنطة"، قال ذلك أبو بكر بن حزم عن أشياخ الأنصار".
(1)(59).
2 -
ولما رواه أبو داود (1)، وأحمد (2)، والحاكم (3): عن شعبة عن الأعمش، قال: حدَّثنا عمرو بن مرّة: ثنا ابن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال: "أنزل الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)} -إلى هذه الآية-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، قال: فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطْعَم مسكينًا وأجزأ ذلك عنه.
قال: ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأُخرى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؛ قال: فأثبت الله صيامه على المقيم الصّحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الّذي لا يستطيع الصّيام". وأُعلَّ بالإرسال.
3 -
ما أخرجه الدارقطني (4): حدَّثنا أبو صالحٍ الأصبهانيُّ: ثنا أبو مسعود: ثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح أنَّ أبا حمزة حدّثهم عن سليمان بن موسى عن عطاء، عن أبي هريرة قال:"من أدركه الكبر فلم يستطع أن يصوم رمضان؛ فعليه لكل يوم مد من قمح"، وفي إسناده: عبد الله بن صالح؛ فيه ضعف.
(فهذا قول ثلاثة من الصّحابة ولم يعرف لهم مخالف)(5).
الثاني: (وأيضًا؛ فإن الصّحابة والتابعين أخبروا أنّ الله رخّص في هذه الآية للعاجز عن الصّوم أن يفطر ويُطعم، وأنّ حكم الآية باقٍ في حقّه، وهم أعلم بالتّنزيل والتأويل، وأيضًا؛ فإن ذلك تبيّن من وجهين:
أحدهما: أَنّ ابن عباس وأصحابه قرؤوا (يُطوَّقونه) و (يُطيقونه)، وهي
(1)"السنن"(1/ 193).
(2)
"المسند"(5/ 246).
(3)
(2/ 301).
(4)
"السنن"(2/ 208).
(5)
"شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 262).
قراءة صحيحة عنه، والقراءة إذا صحّت عن الصحابة كان أدنى أحوالها أن تجري مجرى خبر الواحد في اتّباعها والعمل بها؛ لأنّ قارئها يخبر أنّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك: فإمّا أن يكون حرفًا من الحروف السّبعة الّتي نزل القرآن بها، ويكون بعد النّسخ يقرأ الآية على حرفين (يُطوَّقونه) و (يُطيقونه)، أو يكون سمعها على جهة التفسير وبيان الحكم، فاعتقد أنّها من التلاوة، وعلى التّقديرين فيجب العمل بها.
وإن لم يقطع بأنّها قرآن، ولهذا موضع - يستوفى فيه - غير هذا الموضع.
ومعنى (يُطوَّقونه)؛ أي: يكلّفونه فلا يستطيعونه، فمن كلّف الصوم فلم يطقه؛ فعليه فدية طعام مسكين، وإن صام مع الجهد والمشقّة، فهو خير له، وهذا معنى كلام ابن عباس في رواية عطاء عنه.
الثاني: أنّ العامة تقرأ (يطيقونه)، فكان في صدر الإسلام لَمّا فرض الله الصوم خيّر الرّجل بين أن يصوم وبين أن يُطعم مكان كل يوم مسكينًا، فإن صام ولم يُطعم، كان خيرًا له، ثم نسخ الله هذا التّخيير في حق القادر بقوله:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، فأوجب الصّوم ومنع من الفطر والإطعام، وبقي الفطر والإطعام للعاجز عن الصّوم؛ لأنّه لما أوجب على المطيق للصوم أحد هذين الأمرين -وهو الصيام أو الإطعام؛ لقدرته على كل منهما- كان القادر على أحدهما مأمورًا بما قدر عليه، فمن كان إذ ذاك يقدر على الصّيام دون الإطعام لزمه، ومن يقدر على الإطعام دون الصيام لزمه، ومن قدر عليهما؛ خُيِّر بينهما، فإنّ هذا شأن جميع ما خُير النَّاس بينه، مثل خصال كفّارة اليمين، وخصال فدية الأذى وغير ذلك، ثم نسخ الله جواز الفطر عن القادر عليه، فبقي الفطر والفدية المستفاد من معنى الآية للعاجز.
ويُبيّن ذلك: أن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصّوم؛ فإنهما يكونان مخيّرين بين الصّيام والإطعام، فإذا عجز بعد ذلك عن الصّوم، تعيّن عليهما الإطعام، ثم نسخ ذلك التّخيير، وبقي هذا المعين، وهذا ما تقدّم عن معاذ
وابن عباس من رواية سعيد بن جبير وغيره من التّابعين" (1).
الثالث: فإن (قيل: هي منسوخه في حق الّذي كان قد خير بين الأمرين؛ وهو القادر على الصّيام؛ كما دلّ عليه نطق الآية، وكما بينوه، فأمّا من كان فرضه الطعام فقط -كما دلّ عليه معنى الآية-؛ فلم يُنسخ في حقّه شيء، وعلى هذا يحمل كلام من أطلق القول بأنّها ليست منسوخة؛ لأنّه قد روى عن ابن عباس التصريح بذلك)(2).
قلت:
1 -
فقد روى عبد الرزاق (3): عن معمر، عن أيوب، قال: سمعت عكرمة يحدّث عن ابن عباس: "أنّها ليست بمنسوخه، فكانوا يقرؤنها "يطوقونه"؛ هي في الشّيخ الّذي كلف الصيام ولا يطيقه؛ فيفطر ويُطعم".
2 -
وروى عبد الرزاق (4): عن معمر، عن ثابت البناني، قال:"كبر أنس بن مالك حتّى كان لا يطيق الصيام، فكان يفطر ويُطعم".
285 -
قال الْمُصَنِّف (5):
"وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان - وعليه رمضان أو بعضه، ولم يقضه -؛ لأنّه لم يثبت في ذلك شيء صحّ رفعه، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصّحابة من أقوالهم، وليس بحجّة على أحد، ولا تعبد الله بها أحدًا من عباده، والبراءة الأصلية مُستصحَبة، فلا ينقل عنها إلّا ناقل صحيح، وقد ذهب إلى هذا النخعي، وأبو حنيفة، وأصحابه".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: بل هي حجّة بالشرط المذكور آنفًا، وعلى
(1)"شرح العمدة" لابن تيميّة (1/ 262 - 264).
(2)
"شرح العمدة" لابن تيميّة (1/ 266).
(3)
"المصنف"(4/ 221).
(4)
"المصنف"(4/ 220).
(5)
(2/ 27).
ذلك جرى أئمّة الإسلام - ومنهم: الأربعة -، ولم يخالف إلّا شرذمة من المتكلّمين ومن قلّدهم من أهل الظّاهر (1)، وفي عين هذه المسألة جاءت الآثار عن الصّحابة متّفقة:
1 -
روى البيهقي (2): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا الحسن بن مكرم: ثنا يزيد بن هارون: ثنا شعبة، عن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس:"في رجل أدركه رمضان وعليه رمضان آخر؛ قال: يصوم هذا ويُطعم عن ذاك كل يوم مسكينًا ويقضيه".
2 -
وبما رواه أيضًا (3): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا يحيى بن أبي طالب، قال: قال عبد الوهاب بن عطاء: "سئل سعيد وهو ابن أبي عروبة عن رجل تتابع عليه رمضانان وفرط فيما بينهما؟ فأخبرنا عن قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن مجاهد، عن أبي هريرة أنه قال: "يصوم الّذي حضر ويقضي الآخر ويُطعم لكل يوم مسكينًا".
قال الدّارقطني: "إسناد صحيح موقوف"(4).
3 -
ولما رواه الدارقطني (5): حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار: ثنا عباس بن محمد: ثنا يحيى بن أبي بكير: نا زهير: نا الحسن بن الحر، عن نافع، أنّ عبد الله كان يقول:"من أدركه رمضان وعليه من رمضان شيء؛ فليطعم مكان كل يوم مسكينًا مدًّا من حنطة".
(1) انظر "أعلام الموقعين".
(2)
"السنن الكبرى"(4/ 253).
(3)
"السنن الكبرى"(4/ 253).
(4)
"السنن"(2/ 421).
(5)
"السنن"(2/ 196).
"وقال حرب: سألت أحمد قلت: رجل أفطر في رمضان من مرض أو علّة ثم صحّ لم يقض حتى جاء رمضان آخر؟ قال: يصوم هذا اليوم الّذي جاء ويقضي الّذي ترك ويطعم لكل يوم مسكينًا، قلت: مدَّا؟ قال: نعم"(1).
"وقد ذكر يحيى بن أكثم: أنَّه وجد في هذه المسألة الإطعام عن ستة من الصحابة؛ لم يعلم لهم منهم مخالفًا"(2).
وهذا الحكم -وهو وجوب الإطعام مع القضاء- خاص بالمتساهل المفرط لا المعذور.
لأنّه "ليس له أن يؤخّره إلى رمضان إلا لعذر، مثل أن يمتد به المرض أو السّفر إلى أن يدخل الرمضان الثّاني:
أ- فإن أخّره إليه لعذر، صام رمضان الّذي أدركه وقضى الرمضان الّذي فاته بعده ولا شيء عليه.
"فعلى كل حال، ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصّوم وهو لا يطيقه، وهو محل النّزاع، وغذا لم يوجد دليل في كتاب الله، ولا في سُنَّة رسوله: فليس في غيرهما أيضًا ما يدلّ على ذلك، فالحق عدم وجوب الإطعام، وقد ذهب إليه جماعة من السَّلف؛ منهم: مالك، وأبو ثور، وداود.
286 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"وأمّا التفريق في قضاء رمضان: فقد أخرج الدارقطني من حديث ابن عمر: أنَّه صلى الله عليه وسلم سئل عن قضاء رمضان؟ فقال: "إن شاء فرَّقه، وإن شاء تابعه"؛ وفي إسناده سفيان بن بشر، وقد ضعّفه بعضهم.
(1)"شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 348).
(2)
"شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 351).
(3)
(2/ 27 - 28).
وقال ابن الجوزي: ما علمنا أحدًا طعن فيه، ثم صحّح الحديث".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: وعلى هذا أجمع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1 -
فقد روى ابن أبي شيبة (1): حدّثني معاوية بن صالح: حدَّثنا أزهر بن سعيد، عن أبي عامر الهوزني، قال: سمعت أبا عبيدة بن الجراح: "وسئل عن قضاء رمضان متفرّقًا؟ قال: احص العدّة وصم كيف شئت".
2 -
وروى (2) أيضًا: حدَّثنا زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، عن موسى بن يزيد بن موهب، عن أبيه، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل:"أنّه سئل عن قضاء رمضان؟ قال: احص العدّة وصم كيف شئت".
3 -
وروى (3) أيضًا: حدَّثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن عبد الحميد بن رافع بن خديج، عن جدّته:"أن رافعًا كان يقول: احص العدّة وصم كيف شئت".
(4)
وروى (4) أيضًا: حدَّثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عباس وأبي هريرة، قالا:"لا بأس بقضاء رمضان متفرّقًا".
(5)
وروى (5) أيضًا: حدَّثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: أنبأني أبو بكر عن أنس، قال:"إن شئت فاقض رمضان متتابعًا وإن شئت متفرّقًا".
6 -
وروى (6) أيضًا: حدَّثنا ابن علية، عن معمر، عن الزهري، عن
(1)"المصنف"(3/ 34).
(2)
"المصنف"(3/ 32).
(3)
"المصنف"(3/ 32).
(4)
(3/ 32).
(5)
(3/ 32).
(6)
(3/ 33).
عبيد الله، عن عبد الله، عن ابن عباس، في قضاء رمضان -:"صمه كيف شئت".
تنبيه:
لم يذكر المؤلّف بعض المفطرات الّتي دلّ عليها الدّليل من السُّنّة الصّحيحة والأثر؛ كالحجامة، وسيأتي في تعليقي على "نيل الأوطار" - إن شاء الله تعالى - بسط هذا وغيره ممّا لم يتعرّض له المؤلف.
287 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"واستقبال رمضان بيوم أو يومين: لحديث أبي هريرة في "الصّحيحين" وغيرهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إلّا أن يكون رجل كان يصوم صومًا؛ فليصمه".
ويؤيّده حديث أبي هريرة أيضًا عند أصحاب "السُّنن" - وصحّحه ابن حبان وغيره - مرفوعًا - بلفظ: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا".
وفي الباب أحاديث.
والخلاف طويل مبسوط في المطوّلات.
أقول: وما زال الخلاف في هذه المسألة من عصر الصّحابة إلى الآن، وقد صارت مركزًا من المراكز الّتي يتغالى النّاس في أمرها إثباتًا ونفيًا، ولم يحتجّ أحد منهم بأن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصومه.
وأمّا ما احتجّوا به من العمومات الدّالة على مشروعية مطلق الصّوم واستحبابه: فنحن نقول بموجبها، ونقول: هي مخصَّصة بأحاديث أمره صلى الله عليه وسلم بالصوم لرؤية الهلال، والإفطار لرؤيته، أو إكمال العدّة كما صحّ في جميع دواوين الإسلام، وبأحاديث نهيه صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين، وهو في "الصّحيح"؛ بل ورد النّهي عن صوم النّصف الأخير من شعبان.
(1)(2/ 38 - 39).
وقال عمّار: من صام يوم الشّك؛ فقد عصى أبا القاسم؛ وهو صحيح.
بل قال ابن عبد البر: لا يختلفون في رفعه.
ولعلّ مراده أن له حكم الرّفع، لا أن القائل له هو النّبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا إذا لم يصلح لتخصيص العمومات لم يصلح مخصّص قط.
ومن نظر إلى ما يقع من عوامّ المسلمين -بل ومن بعض خواصِّهم في هذه الأعصار من التّجاري على الصوم والإفطار بمجرّد الشكوك والخيالات الّتي هي عن الشّريعة بمعزل-: قضى العجب، وبكى على الدين، وانتظر القيامة".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: والأصل في هذه المسألة قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبّي عليكم؛ فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين" متفق عليه.
وفي رواية: "فإن أغمي عليكم فأكملوا العدّة"، أخرجها مسلم (1).
وفي رواية: "فإن حال دونه غمامة فأتمّوا العدّة": أبو داود (2)، والترمذي (3)، والنسائي (4)، وغيرهم، وعن عمار بن ياسر، قال:"من صام اليوم الّذي يشكّ فيه؛ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "؛ أخرجه: أبو داود (5)، والترمذي (6)، والنسائي (7)، وغيرهم.
فها هنا صورتان في المسألة:
الأولى: أن تكون ليلة الثلاثين من شعبان صحوًا ولم يُرَ؛ فالصحابة
(1)"السنن"(3/ 127).
(2)
"السنن"(2327).
(3)
"السنن"(1/ 133).
(4)
"السنن"(1/ 302).
(5)
"السنن"(2334).
(6)
"السنن"(1338).
(7)
"السنن"(1/ 306).
مجمعون على تحريم الصّيام في هذه الحالة.
الثانية: أن يحول دون رؤيته ليلة الثلاثين من شعبان سحاب أو قتر؛ فللصحابة في هذه الحالة قولان:
أ- يصام احتياطًا؛ صحّ ذلك عن ابن عمر، وعائشة، ومعاوية، وأسماء.
ب- أنّه لا يجوز صيامه، وعليه يحمل قول عمار:"من صام الّذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم "، وإليه ذهب:
ابن عباس، وابن مسعود (1)؛ مستدلين بقول النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإن غمّ عليكم فاقدروا له"، ومن قال بهذا؛ فهو أسعد بالدّليل.
قال - تعالى -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
وذهب إلى أثر ابن عمر أحمد في أحدى روايتيه، واختاره شيخ الإسلام، وابن القيم، وهذا غريب (2)!! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإن حال دونه غمام أو غياية فأكملوا العدّة ثلاثين يومًا"؛! فكيف يقال: إن عمّارًا فهم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم ما لم يرده؟ وقد وافقه على ذلك ابن مسعود؟! وكان الأولى الاعتذار لمن قالوا بخلاف هذا القول من الصّحابة؛ كابن عمر وعائشة، ومن وافقهما من الأئمّة والأخذ بقول من وافق النّص الصّريح من الصّحابة والله ولي التوفيق.
288 -
قال الْمُصَنِّف (3):
"قال في "الحجّة البالغة": "إن ليلة القدر ليلتان:
إحداهما: ليلة يُفْرَقُ فيها كلُّ أمر حكيم، وفيها نزل القرآن جملة
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 322) والبيهقي (4/ 209). قال: "لأن أفطر يومًا من رمضان ثم أقضيه أحب إليّ من أزيد فيه ما ليس منه".
(2)
انظر "شرح العمدة"(1/ 124 - 126)، وردَّ شيخ الإسلام على أثر عمّر ولعلّه لم يعلمه بأثر ابن عباس وابن مسعود.
(3)
(2/ 46).
واحدة، ثم نزل بعد ذلك نُجُمًا نُجُمًا، وهي ليلة في السَّنة، ولا يجب أن تكون في رمضان، نعم؛ رمضان مظِنَّة غالبة لها، واتّفق أنَّها كانت في رمضان عند نزول القرآن.
والثانية: يكون فيها نوع من انتشار الروحاينة، ومجيء الملائكة إلى الأرض، فيتّفق المسلمون فيها على الطاعات، فتتعاكس أنوارهم فيما بينهم ويتقرّب منهم الملائكة، ويتباعد منهم الشياطين، ويُستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم، وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر، تتقدّم وتتأخّر فيها، ولا تخرج منها، فمن قصد الأولى قال: هي في كل سنة، ومن قصد الثانية قال: هي في العشر الأواخر من رمضان".
قال الفقير إلى عفو ربّه: قال أحمد شاكر - في تعليقه على "الروضة": "هذا خيال غريب من صحاب "الحجّة البالغة"، لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة، وما أظن أحدًا قاله قبله، والعبرة في هذه الأمور بالنّقل، لا بالتخيّل والأوهام".
289 -
قال الْمُصَنِّف (1):
"وفي المسوى": "اختلفوا في أي ليلة هي أرجى؟ والأقوى أنّها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدّم وتتأخّر.
وقول أبي سعيد: أنَّها ليلة إحدى وعشرين.
وقال المزني، وابن خزيمة: إنَّها تنتقل كل سنّة ليلة؛ جمعًا بين الأخبار.
قال في "الروضة": وهو قوي.
ومذهب الشافعي أنَّها لا تلزم ليلة بعينها.
وفي "المنهاج": وميل الشافعي إلى أنَّها ليلة الحادي والثالث والعشرين.
وعن أبي حنيفة: أنَّها في رمضان، لا يُدرَى أيّة ليلة هي؟ وقد تتقدّم وتتأخّر.
(1)(2/ 46 - 47).
وعندهما كذلك؛ إلّا أنَّها متعيّنة لا تتقدّم ولا تتأخّر" (1).
قال الفقير إلى عفو ربِّه: النصوص الثابتة عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم تدلّ على أنّها في الوتر العشر الأواخر في رمضان؛ من غير تحديد ليلة بعينها، بل تارة تكون ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين هكذا؛ كما نقل ذلك المصنّف عن ابن خزيمة والمزني.
290 -
قال الْمُصَنِّف (2):
"قال في "المسوى": اتّفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول، ولا يفسد به اعتكافه، ولا يخرج للأكل والشرب، ويجوز غسل الرأس، وترجيل الشّعر، وما في معناه.
وأكثرهم على أنَّه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض، وصلاة الجنازة؛ إلّا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض مارًّا.
وإن شرط في اعتكافه الخروج لشيء من هذا؛ جاز له أن يخرج عند الشّافعي، ولا يجوز عند أبي حنيفة كذا في "شرح السنّة".
قال الفقير إلى عفو ربِّه: هذا الاشتراط لا أصل له في المنقول، والقياس في العبادات فاسد.
* * *
(1)(2/ 46 - 47).
(2)
(2/ 48).