الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى: {فِي الْأَذَلِّينَ
(20)}
أخص من قولك أولئك أذلاء، ووصف الذلة مقابل لوصف محادتهم، فإن قلت: ظاهرها يوهم كون الشيء ظرفا لنفسه، لأن الأذلين هم المحادون لله، قلت: المعنى على التجوز في جملة الأذلين في العذاب.
قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ
…
(21)}
ابن عطية: أي قدر ذلك وأراده في الأزل، الزمخشري: كتبه في اللوح المحفوظ، انتهى، هذا جار على مذهبه، لأنه ينفي الإرادة في الأزل لكنه أقرب إلى ظاهر اللفظ، وعلى تفسير ابن عطية يكون الكتب مجازا، ودخلت اللام في (لأَغْلِبَنَّ) لتضمن الفعل معنى الإرادة، وهي لَا تقع جوابا إلا بعد أفعال القلوب، فإن قلت: لم أتى هذا الفعل بهمزة المتكلم وحده؟ وهلا كان بالنون لأنها للمتكلم، ومعه [غيره*]، أو للمعظم نفسه، ولا أعظم من الله عز وجل؟ فالجواب: أنه عدل عنها خشية إيهام الاشتراك في الغلبة؛ لقصد التنبيه عليه باستقلال الله تعالى واختصاصه بالغلبة دون وزير ولا معين.
قوله تعالى: (قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
القوة راجعة للقدرة، [والعزة*] بمعنى أنه مستغن بإرادته وعلمه وممتنع عن [الاحتياج*] إلى غيره.
قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا
…
(22)}
قيل: إنها نزلت في المنافقين، وقيل: في حاطب بن أبي بلتعة من المؤمنين ومخاطبته أهل مكة، وحديثه في مسلم، في كتاب فضائل الصحابة، وذكره الزمخشري في أول سورة الممتحنة، وجعله هنا من التخيل، وقال ابن عطية: المراد يؤمنون الإيمان الكامل، انتهى، وتحقيقه [أنَّا*] إن قلنا: أنها نزلت في المنافقين فينفي وجدان الموادة حقيقة، معناه لَا تجد مؤمنا يواد من حاد الله ورسوله من حيث كونه يحادد إليها مكافأة عن يد سلفت، أو نحو ذلك، فحينئذ لَا يكون المراد نفي الوجدان حقيقة؛ لأن ذلك قد وجد في المؤمنين، كحاطب ونحوه، فيحتاج إلى أحد أمرين: إما أن يجعله تخيلا، فالمراد نفي المراد الإيمان الكامل، ويؤخذ من الآية عدم تزويج الكتابية، لأن التزويج ملزوم للمودة، لقوله تعالى:(وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، وتقديره أن الكتابية محادة لله ورسوله، وكل من حاد الله ورسوله لَا يواد، فالكتابية لَا تواد، ثم تقول الزوجة تواد، وكل من يواد لَا يكون كافرا [فالزوجة*] لَا تكون
كافرة، وقال مالك في [العتبية*] في كتاب النكاح الثاني: سماع أشهب، وابن نافع رسم الطلاق، وسئل عن النصراني يصنع صنيعا، فيختن ابنا له فيدعوا في دعوته مسلمين أو مسلما، أترى له أن يجيبه، فقال: إن ما جاء ليس عليه في ذلك ضيق، إن جاء فلا بأس به، قال ابن رشد: معناه لَا إثم عليه في ذلك ولا حرج إن فعله، وذلك إن كان له وجه من جوار أو قرابة، أو ما أشبه ذلك، والأحسن أن لَا يفعل لاسيما إذا كان ممن يقتدى به؛ لما في ذلك من التودد إلى الكفار، وقد قال تعالى (لَا تَجِدُ قَوْمًا)، الآية وفي العتبية أيضا في النكاح الأول، قال ابن القاسم: كره مالك الوصية إلى اليهودي والنصراني، وكان قد أجازها قبل ذلك، قال ابن القاسم: إذا كان على صلة رحم يكون أبوه وأخوه، أو أخواله نصارى فيصل بذلك رحمهم وهو أحسن، وأما لغير هذا فلا. قاله عنه عيسى: وأما الأباعد، فلا يعجبني، نقله ابن يونس في الوصايا، وفي النكاح الثالث من العتبية في رسم باع شاة من سماع عيسى ابن دينار، قال ابن القاسم: لَا أرى أن تجوز وصية المسلم إلى النصراني، إلا أن يرى السلطان لذلك وجها، فإن أجازها استخلف النصراني مسلما يزوج بنات الموصي بالمسلمات، ابن رشد، قوله: يرى لذلك وجها، مثل أن يكون قريبه أو مولاه، أو زوجته، فيزوجوا [حسب*] نظرهم لما في الحيلة من المودة والإشفاق على ذوي الرحم، وهو خلاف ظاهر المدونة إنه لَا تجوز الوصية إلى الْمَسْخُوطِ، ولا إلى الذمي، وقال أصبغ: إذا كان قريبا فلا ينزل، ويجعل معه من عدول المسلمين من ينظر معه، ويكون المال بيده وهو أحسن الأقوال وأولاها بالإتباع، وإليه ذهب ابن حبيب وحكاه عن مطرف وابن الماجشون [وابن شاش*]، وتصح الوصية بالمال للذمي، قال القاضي أبو الحسن القصار: ويكون للحربي عندي انتهى، وجوز وصية المسلم للكافر بالمال عللوه بأنه مكافأة عن يد [سلفت*]، فإن قلت: يعارضه قوله (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ) الآية، قلت: إنما المراد بذلك المسالمة وترك القتال لا المواصلة والمودة، وفي جامع العتبية في رسم القضاء من سماع أشهب وابن نافع، قيل لمالك: أترى بأسا أن يهدي المسلم لجاره النصراني مكافأة؟ فقال: ما يعجبني ذلك، قال: قال تعالى (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) الآية، ابن رشد: أي مكافأة على ما يجب عليه أن يكافئه لَا مكافأة على هدية أهداها إليه، أو لا ينبغي قبول هديته، لأن المقصود [من*] الهدايا التودد بها لحديث:"تَهَادَوْا تَحَابُّوا" فإن أخطأ، وقبل هديته، وكانت عنده، فالأحسن أن [ينبه عليها*]، ولما عرف القاضي في مداركه بأبي عبد الله محمد بن عبد العزيز بن علي المعروف بابن الحصار القرطبي، وكان من حفاظ الفقه ورواة الحديث، قال: كان له جار من النصارى [يقضي*] حوائجه، ومتى مر بدار
الشيخ وقف به فيهش إليه الشيخ ويدعوا له، بأن يقول له: أبقاك الله وتولاك، أقر الله عينك، سرني ما يسرك، جعل الله يومي قبل يومك، والنصراني يفرح لذلك، فعوتب الشيخ في ذلك، فقال: إنما هي [معاريض*] علم الله [نبأني بها*]، فأما قولي أبقاك الله وتولاك، فأريد بقاؤه لعدم الجزية، وأن يتولاه بعذابه، وقولي أقر الله عينك، فإني أريد [قرار*] حركتها بشيء [يعرض*] لها، فلا تتحرك جفونها، وقولي يسرني ما يسرك، فالقافية تسرني وتسره، وأتى لي الله يومي قبل يومك، فيوم دخول الجنة قبل يوم دخوله النار، وقول الزمخشري: نزلت فيمن يصحب السلطان، غير صحيح؛ لأن مالكا [كان*] يصحب الملوك ويجلس معهم، وذكروا في سبب نزولها أمرين:
أحدهما: يقتضي أنه ذم من واصل الكفار، وأظهر توددهم وعليه يدل أول الآية.
والآخر: يقتضي أنها في مدح من عاداهم وعليه يدل آخر الآية، ونزلت الآية على منع المودة بلفظ المفاعلة فتتمتع مودة المسلم لمن لم يقدر له شبه.
قوله تعالى: [(وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) *] هذا من باب نفي ما يتوهم ثبوته أو من باب نفي المانع، كقولك: أكرم السائل ولو جاءك على فرس، والعطف [تدلي*] لا ترقي باعتبار رقة القلب على الأب أقوى منها على الابن، أو هو ترق باعتبار أن التعاضد بالآباء أقوى منه بالأبناء، لكثرة الأبناء وتعددهم؛ بخلاف الأب فإنه واحد، وكان القاضي أبو علي عمر بن عبد [الرفيع*] رحمه الله تعالى يقول: في الآية سؤال، كان الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى ابن الفؤاد اللخمي يرده، وهو أن من حكم بحكم نفي أو إثبات ثم أخذ يذكر الموانع التي يستعيد معها وجود ذلك الحكم، فإنه يبتدئ بالأضعف منها ثم يترقى إلى ما هو أعلى منه وأبعد، أن يوجد معه الحكم ثم إلى ما هو أقوى في المنع من وجود ذلك الحكم، كقولك: أكرم السائل وإن أتاك على حمار، وإن أتاك على فرس، وإن علمت أن له دارا، ولَا شك أن رتبة الآباء أعلى من رتبة الأخوة وأشرف، بدليل الميراث ولأن ميل النفس إلى الابن أكثر، بدليل جواز شهادة الأخ لأخيه، ولا يجوز شهادة الأب لابنه، وجاءت هذه الآية على عكس هذا؛ لأنه سلك فيها مسلك التدلي، وقال: كنت أنا أجبته عن هذا السؤال، بأن الأب مفرد لا [يمكن*] فيه التعداد، والإنسان يركن إليه فبدئ به، والبنون يمكن أن يتعددوا ويكثروا
فيحصل همٌّ لأبيهم كحال [التعاون*] والنصرة على هذا فيكون [ميل*] النفس إليهم أشد بهذا المعنى، وأما الآخرة فيتناولون آخرة النسب وآخرة الإسلام، أعني الأصحاب؛ لأن البنين يتفرعون منه وحده، والآخرة يتفرعون من أبيه وابنه ومن أبيه خاصة ومن أمه خاصة وما يتفرع من أصل [
…
] أقل مما يتفرع من ذلك، والعشيرة أكثر من ذلك كله، فسلك في الآية على هذا مسلك الترقي، وانظر ما يأتي بعد هذا في سورة الممتحنة ويقرر كون العطف ترقيا من وجه آخر أيضا، وهو أنه إذا كان الإيمان مانعا من موادة الأب الذي لَا يمكن خلقه عقلا، [فأحرى*] أن يمنع مِن موادة من يمكن خلقه وهو الابن، وفي سورة عبس (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) فقدم الأخ على الأب.
قوله (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ).
قول النقاش: كتبه في [اللوح المحفوظ*]، اعتزال مع كونه سببا، وكذلك قول الطبري: قضى لقولهم الإيمان وكله بمعنى اللام، وكتب مشرب معنى قضى اعتزال أيضا، بل المراد خلق في قلوبهم الإيمان، وعبر عنه بالكتب؛ [ليفيد*] تحقيق ذلك وثبِوته، وكلام الزمخشري هنا أوله يوهم الصواب، وآخره اعتزال، في قوله في تفسير (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)، أي بلطف من عنده، والمراد بالروح الهداية وسماها روحا؛ لأنها بها تحصل حياة النفوس حقيقة.
قوله تعالى: (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ).
عطف المضارع على الماضي، إما لأن هذه جملة أخرى ابتدائية، فالمراد وهو يدخلهم، أي والله يدخلهم أو أن يدخلهم في معنى أدخلهم بإدخالهم لَا أنه أدخلهم بالفعل، لأن بعضهم [
…
] حكى شيخنا أبو الحسن محمد ابن الشيخ أبي العباس أحمد البوني عن الشيخ الصالح أبي الحسن علي بن منتصر الصدفي: أنه حكى عن الشيخ الواعظ [أبي*] الحسن علي البوني كان ساكنا بحارة اليهود من تونس، وكان يقضي حوائجهم ويملأ لهم الماء من عنده ويسعفهم بمرادهم [ولا يكلهم إلى*] ما ينوبهم في رمي الزبل الذي هنالك، فلما مات تركوا ذلك كله، فطلبهم أهله بالرجوع إلى عادتهم، وقالوا لهم: إنه أوصانا عليكم فسألوهم عن موجب ذلك، فقالوا: موجبه من نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوصى على الجار، وأكد حقه فأسلموا كلهم ببركة الشيخ رحمة الله عليه.
* * *