الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة. وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سواه والمعنى: ذلك التثبت والتأني والتشمر لظهور البراءة، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه، لأن المعصية خيانة. ثم أكد أمانته بقوله: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وأنه لو كان خائنا لما هدى الله عز وجل أمره، أي: سدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى، حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه، ثم أراد أن يتواضع لله، ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكيا، وبحالها في الأمانة معجبا ومفتخرا، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أي لا أنزهها من الزلل، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، فإن النفس البشرية تأمر بالسوء، وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ.
هذا خلاصة ما قرروه على أنه كلام يوسف. قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك- والله أعلم-.
لطائف:
الأولى- محل قوله: (بالغيب) الحال من الفاعل أو المفعول، على معنى- وأنا غائب أو غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفيّ عن عيني، أو هو ظرف، أي بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب.
الثانية- قيل: معنى لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزا، للمبالغة، لأنه إذا لم يهد السبب، علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى.
وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم، كقوله تعالى: يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة: 30] ، أي في قولهم.
وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده.
الثالثة- قال في (الإكليل) : وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أصل في التواضع، وكسر النفس وهضمها.
الرابعة- قال الزمخشري: لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة- ثم ساقها- وقال: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.
قال الناصر: ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة. ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.
الخامسة: رأيت لابن القيم في (الجواب الكافي) في عجيب صبر يوسف وعفته، مع الدواعي من وجوه، قال عليه الرحمة، بعد أن مهد مقدمة في مفاسد عشق الصور العاجلة والآجلة: إنها أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله تعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف، وما راودته، وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، لصبره وعفته وتقواه، ومع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبّره الله عليه. فإن موافقة الفعل، بحسب قوة الداعي، وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة وذلك لوجوه:
أحدها- ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا بل يحمد.
الثاني- أن يوسف عليه السلام كان شابا، وشهوة الشباب وحدّته أقوى.
الثالث- أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة.
الرابع- أنه كان في غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه، وبين أهله ومعارفه.
الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.
السادس- أنها غير آبية ولا ممتنعة، فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها، لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب، كما قال الشاعر:
وزادني كلفا في الحب أن منعت
…
أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
فطباع الناس مختلفة في ذلك: فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة
ورغبتها، وتضمحل عند إبائها وامتناعها، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع، ويشتد شوقه بكل ما منع، ويحصل له من اللذة بالظفر بالضد نظير ما يحصل من لذة الظفر بعد امتناعه ونفاره. واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها وشدة الحرص على إدراكها.
السابع- أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد، فكفته مؤنة الطلب، وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن- أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى، إن لم يطاوعها، من أذاها له، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.
التاسع- أنه لا يخشى أن تنمي عليه هي، ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب، وغيبت الرقباء.
العاشر- أنه كان مملوكا لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة من العرب: ما حملك على كذا؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. تعني:
قرب وساد الرجل من وسادتي، وطول السواد بيننا.
الحادي عشر- أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن، وشكت حالها إليهن، لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف: 33] .
الثاني عشر- أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة، من ضيق السجن والصغار.
الثالث عشر- إن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلّا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: أَعْرِضْ عَنْ هذا [يوسف: 29]، وللمرأة: اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ [يوسف: 29] ، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهنا لم يظهر منه غيرة.
ومع هذه الدواعي فآثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى، فقال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:
33] ، وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف