الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه:
ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسّية لهذه الآية.
بحمل قوله شِفاءٌ على معنيين من باب عموم المجاز. أو حمل المشترك على معنييه، وممن قرر ذلك الرازيّ. وعبارته: اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية.
وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر.
وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة. والأخلاق المذمومة. أما الاعتقادات الباطلة، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوّات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها. لا جرم كان شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني وأما الأخلاق المذمومة، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة، والأعمال المحمودة. فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض. ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد- فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع في الدين والدنيا- كان أولى. ويتأكد ما ذكرنا
بحديث: (من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى)
وأما كونه رحمة للمؤمنين، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مرضية بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة. والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات والمبطلين، وهو الشفاء. ومنه مما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين، وهو الرحمة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة، لا جرم بدأ الله تعالى، في هذه الآية، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) في بحث الأدوية والأغذية المفردة، التي جاءت على لسانه صلى الله عليه وسلم في حرف القاف:(قرآن) : قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. والصحيح أن (من) هاهنا لبيان الجنس، لا للتبعيض.
وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس: 57] ، فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية. وأدواء الدنيا والآخرة. وما كل أحد يؤهّل ولا يوفق للاستشفاء به. وإذا أحسن العليل التداوي به، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام، واعتقاد جازم، واستيفاء شروطه- لم يقاومه الداء أبدا. وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو أنزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها. فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل للدلالة على دوائه وسببه والحمية منه، لمن رزقه الله فهما في كتابه. فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله. ومن لم يكفه فلا كفاه الله.
ثم قال في (حرف الكاف) : ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم ذكر ما كان يكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية للرعاف. فانظره.
وذكر، قبل، في فاتحة الكتاب، من سرّ كونها شفاء، حقائق بديعة. وكذا في بحث الرقي. وذكر أيضا أن من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها. فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه وقد جرّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة. ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسيّة وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجا عنها. ولكن الأسباب متنوّعة، فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبّر الطبيعة ومصرّفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعاينها القلب البعيد منه، المعرض عنه. وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة، تعاونا على دفع الداء وقهره. فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبّها له وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه- أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، ويوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية. ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية.