الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعقب العون. لأنه إذا أبصر هذا ذاك، فلا بدّ أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر، فهذه المعقبات لا تخلّص من قضاء الله ومن قدره! وهم وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة! والمقصود من هذه الجملة: بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره، عن حفظ الله وعصمته، ولا يعوّلوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعد: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً
…
الآية.
الثاني: قدمنا أنّ الضمير في لَهُ مُعَقِّباتٌ لمن أسرّ أو جهر.. إلخ. وأرجعه بعضهم لله، وما بعده (لمن) . قال الشهاب: فيه تفكيك للضمائر من غير داع.
وقيل: الضمير (لمن) الأخير، وقيل: للنبيّ لأنه معلوم من السياق.
الثالث- أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سرّ اختصاص الحفظة ببني آدم، ما ملخّصه: إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها، وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب. لأن من آمن، يعتقد جلالة الملائكة وعلوّ مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها، زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظّمه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال، كان ذلك أيضا رادعا له عنها. وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.!
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ أي: من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي: من الأعمال الصالحة أو ملكاتها، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً أي: لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك فَلا مَرَدَّ لَهُ أي: فلا ردّ لقضائه فيهم وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أي: يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم. وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال. وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية. قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه- أفاده أبو السعود.
تنبيه:
في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة، ومالوا مع الأهواء، وتركوا التمسك بآدابه
وسنته القويمة، حلّ بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا، ويفرّق كلمتهم، ويوهي قوّتهم، ويسلط عدوّهم!
وفي حديث قدسي عند ابن أبي حاتم: ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحوّلون منها إلى معصية الله، إلّا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون.
ولابن أبي شيبة: ما من قرية ولا أهل بيت، كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحوّلوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلّا تحوّلت لهم عما يكرهون من عذابي، إلى ما يحبون من رحمتي
. وقال القاشاني: لا بدّ في تغيير النعم إلى النقم، من استحقاق جليّ أو خفيّ.
وعن بعض السلف: إن الفارة مزّقت خفّي. وما أعلم ذلك إلّا بذنب أحدثته، وإلّا ما سلطها الله عليّ! وتمثّل بقول الشاعر:
لو كنت من مازن لم تستبح إيلي
أقول: المنقول عن بعض السلف مجمول على شدة الخوف منه تعالى، وإلّا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم، كما أشارت له الآية. وقد جوّد الكلام في ذلك، الإمام، مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث الدين الإسلامي فقال:
كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان) . فقرّر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية! التي قدرها الله في علمه الأزلي. لا يغيّرها شيء من الطوارئ الجزئية. غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها. بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها،
فقد جاء على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله» «1»
. وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقضي فيه إلّا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها. ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزؤن بها. ففصل بين الأمرين (الأشخاص والأمم) فصلا لا مجال معه للخلط بينهما.
(1) أخرجه البخاريّ في: الكسوف، 2- باب الصدقة في الكسوف، حديث رقم 584، عن عائشة.
ومسلم في: الكسوف، 2- باب ذكر عذاب القبر في صلاة الخسوف، حديث رقم 8.
فأما النعم التي يمتّع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه فكثير منها كالثروة والجاه والقوة والبنين، أو الفقر والضعة والضعف والفقد، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة أو عوج أو طاعة وعصيان! وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة، أو الفجرة الفسقة.
وترك لهم متاع الحياة الدنيا.، إنظارا لهم، حتى يتلقاهم ما أعدّ لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى! وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة، عبّروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! فلا غضب زيد. ولا رضا عمرو، ولا إخلاص سريرة، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا، ولا في تلك النعم الخاصة، اللهمّ إلّا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة.
كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن، وضياع السلطان بالظلم. وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب. والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر.
وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر..!
أما شأن الأمم فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية: من تصحيح الفكر، وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البرّ، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل: ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: 145] ، ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها. يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره! واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرهم بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
[الإسراء: 16] ، أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين، ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء ولا كاشف لما نزل بهم إلّا أن يلجئوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة يرسل الفكر والذكر والصبر والشكر إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب: 62] ، وما أجل ما قاله العباس بن عبد