الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لها نظيرا، عسر عليهم التعبير عن حقيقتها. وهذا
تنبيه
لهم على رب العالمين، حيث لم يعرفوا حقيقته، ولا تصوروا كيف هو سبحانه وتعالى. وإن ما يضاف إليه من صفاته هو على ما يليق به جل جلاله. فإن الروح، التي هي بعض عبيده، توصف بأنها تعرج إذا نام الإنسان. وتسجد تحت العرش. وهي مع هذا في بدن صاحبها لم تفارقه بالكلية. والإنسان. في نومه، يحس بتصرفات روحه تصرفات تؤثر في بدنه. فهذا الصعود الذي توصف به الروح لا يماثل صعود المشهودات. فإنها إذا صعدت إلى مكان فارقت الأول بالكلية. وحركتها إلى العلوّ حركة انتقال من مكان. وحركة الروح بعروجها وسجودها ليس كذلك. انتهى.
فصل
وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله: إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحسّ في هذه الأيام، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملأ الأعلى. لا يصل العقل إلى إدراك كنهها. وإنها متصلة بهذا الجسد الطينيّ، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما. ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه. وإنه كغلاف للسرّ الإلهي المسمى روحا.
ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح (هي صورة كالجسد) ويقولون: إن الروح وغلافها هذا يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص، إلى عالم غير هذا العالم. ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة. ولكنا لا نراها بأعيننا، لعدم استعداد أعيننا لذلك. كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة (رونتجن) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآية التي صنعها له. وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعيّ فائدة كبرى. ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، رؤية حقيقية. انتهى. ملخصا.
تنبيه:
جميع ما قدمناه، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان.
قال ابن القيم في كتاب (الروح) : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف.
وأكثر السلف، بل كلهم، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم. بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة،
وهو ملك عظيم.
وقد ثبت في الصحيح «1» عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة، وهو متكئ على عسيب، فمررنا على نفر من اليهود. فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح؟ وقال بعضهم: لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه. وقال بعضهم: نسأله. فقام رجل فقال: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلمت أنه يوحى إليه. فقمت. فلما تجلى عنه قال:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية،
ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي.
وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس. وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب. وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم. فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة. فإن قيل: فقد روى أبو الشيخ عن السدّيّ عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبيّ. وليس على ديننا. ولا على دينكم. قالوا: فمن تبعه؟ قالوا: سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه. وأما أشراف قومه فلم يتبعوه. فقالوا: إنه قد أظلّ زمان نبيّ يخرج، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبيّ صادق. وإن لم يخبركم بهن فهو كذّاب. سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم. فإن قال لكم: هي من الله، فقولوا: كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه.؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية. يقول: هو خلق من خلق الله ليس هو من الله.
قيل: مثل هذا الإسناد لا يحتج به. فإنه من تفسير السديّ عن أبي مالك. وفيه أشياء منكرة. وسياق هذه القصة في السؤال، من الصحاح والمسانيد، كلها تخالف سياق السديّ.
وقد رواها الأعمش والمغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: مر النبيّ صلى الله عليه وسلم على ملأ من اليهود. وأنا أمشي معه. فسألوه عن الروح، قال فسكت.
فظننت أنه يوحى إليه. فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ يعني اليهود قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
…
الآية. وكذلك هي في قراءة عبد الله. فقالوا كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل. رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة.
وروى يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
(1) أخرجه البخاريّ في: العلم، 47- باب قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. حديث رقم 106.
أتت اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الروح. فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء. فأنزل الله عز وجل الآية
. فهذا يدل على ضعف حديث السدّي، وأن السؤال كان بمكة، فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود. ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ولبادر إلى جوابهم بما تقدم من إعلام الله له، وما أنزل الله عليه. وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب. فإما أن تكون من قبل الرواة، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها. ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة، ثم قال: والروح في القرآن على عدة أوجه:
أحدها: الوحي، كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52]، وقوله: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: 15] ، وسمى الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح.
الثاني: القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين، كما قال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] .
الثالث: جبريل كقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193- 194]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 97] ، وهو روح القدس، قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: 102] .
الرابع: الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله. وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ: 38]، وإنها الروح المذكورة في قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر: 4] .
الخامس: المسيح عيسى ابن مريم. قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] ، أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس، قال تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27]، وقال: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: 2]، وقال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53]، وقال: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام: 93]، وقال:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 7- 8] ، وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185] .
وأما في السنة فجاءت بلفظ النفس والروح. انتهى.
قال ابن كثير: رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي، أن هذه الآية مدينة. وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك المدينة. مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية. كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ انتهى.
وقد روى ابن جرير عن قتادة: أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام.
وحكاه عن ابن عباس.
أقول: الذي أراه متعينا في الآية، لسابقها ولا حقها، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن، وهو قريب من قول قتادة. ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنّة بكونه شفاء ورحمة، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا: قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وقال تعالى:
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: 15] فكانوا إذا سمعوا الروح، وصدعوا بالإيمان به، يتعنتون في السؤال عنه، استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله، وأنه روح من لدنه، وإلقاء من أمره. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: 53] وقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 1- 3] ، أي بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته.
وذلك لأنهم قوم جاهليون، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة، للأمّية والجهالة الفاشيتين فيهم. كما أشير إليه بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم. وما هو في جنب معلومات لا تحصى، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب. والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف، يفسر بعضه بعضا.
وجميع ما ذكره المتقدمون، غير ما ذكرناه، جري مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة. وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود، لأنها لما كان لها وجوه من المعاني، ومنها ما سألوا عنه، ألقموا بها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به، بقوله سبحانه: