الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (17) : آية 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
يمجد تعالى نفسه بقوله سُبْحانَ وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره. وقوله تعالى الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي سيّره منه ليلا. و (أسرى) بمعنى (سرى) يقال: أسراه وأسرى به وسرى به. فهمزة (أسرى) ليست للتعدية. ولذا عدي بالباء.
وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في (أسرى) لإفادة السرعة في السير ولذا أوثر على (سرى) .
والإسراء سير الليل كله، كأسرى، فقوله تعالى لَيْلًا للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود. مثل: أسعفت مرامه. مع أن الإسعاف قضاء الحاجة. أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر. وقد استظهره الناصر في (الانتصاف) قال: ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضمونا لغيره، قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النحل: 51] . فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية، وكذلك المفرد. فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين، وهو التثنية، مراد مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ، لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ولو اقتصر على قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له. والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية.
وقيل سرّ قوله لَيْلًا إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه. أي أنه كان في بعض الليل أخذا من تنكيره. فقد نقل عن سيبويه أن الليل والنهار إذا
عرّفا كانا معيارا للتعميم، فلا تقول أرقت الليل، وأنت تريد ساعة منه، إلا أن تقصد المبالغة. بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك. فلما عدل عن تعريفه هنا، علم أنه لم يقصد استغراق السرى، وهذا هو المراد من البعضية. وجوز بعضهم أن يكون (أسرى) من (السراة) وهي الأرض الواسعة. وأصله من الواو. أسرى مثل أجبل وأتهم، أي ذهب به في سراة من الأرض، وهو غريب. وفي تخصيص الليل إعلام بفضله لأنه وقت السر والنجوى والتجلي الأسمى، ولذلك كان أكثر عبادته صلى الله عليه وسلم بالليل. والمراد (بعبده) خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنويه والتنبيه على اختصاصه به عز وجل وانقياده لأوامره- ما لا يخفى.
والعبد، لغة، الإنسان مطلقا والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة، كالعبادة والعبودة.
قال ابن القيّم في (طريق الهجرتين) : أكمل الخلق أكملهم عبودية.
وأعظمهم شهودا. لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
ولهذا كان من
دعائه صلى الله عليه وسلم: أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك.
ثم قال: ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر. وكان
يقول: أيها الناس! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي. إنّما أنا عبد.
وكان
يقول «1» : لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم. إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله.
وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي.
فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] . وقال وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: 23] .
وفي حديث الشفاعة: أنّ المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فنال ذلك بكمال عبوديته لله، وبكمال مغفرة الله له.
انتهى.
وقوله تعالى مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني مسجد مكة المكرمة. سمي حراما، كبلده، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه، ولا بصيد صيده، ولا بقطع شجره ولا كلئه. وقوله سبحانه إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو مسجد بيت المقدس، وكان يعرف
(1) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، 48- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ، حديث رقم 1214.
بهيكل سليمان لأنه الذي بناه وشيده والْأَقْصَى بمعنى الأبعد. سمي بذلك لبعده عن مكة، وقوله تعالى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ أي جوانبه ببركات الدين والدنيا. لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء ومهبط وحيهم ومنمى الزروع والثمار. فاكتنفته البركة الإلهية من نواحيه كلها. فبركته إذن مضاعفة، لكونه في أرض مباركة، ولكونه من أعظم مساجد الله تعالى. والمساجد بيوت الله. ولكونه متعبد الأنبياء ومقامهم ومهبط وحيه عليهم، فبورك فيه ببركتهم ويمنهم أيضا.
وقيل في خصائص (الأقصا) : إنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى. بيت نوّه الله به في الآيات المفصلة، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة. لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب. وهو قبلة الصلاة في الملتين، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين. وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين.
لا تشدّ الرحال «1» بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه.
انتهى. ومن فضائله ما
رواه الإمام أحمد «2» والنسائي والحاكم صححه، عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثا. فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة.
سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه.
وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه.
وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد- يعني ببيت المقدس- خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك.
وروي أن ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه. تجريدا لقصد الصلاة.
وقال الشيرازيّ في (عرائس البيان) كان بداية المعراج الذهاب إلى الأقصى.
لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم. وهناك
(1) أخرجه البخاريّ في: فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، 6- باب مسجد بيت المقدس، حديث 379، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم 415.
(2)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/ 176 والحديث 6644.
وأخرجه النسائي في: المساجد، 6- باب فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه.