المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر خصائصه وأحكامه - إعلام الساجد بأحكام المساجد

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌ الفاتحة في مدلول‌‌ المسجد لغةوشرعا وتوابع ذلك

- ‌ المسجد لغة

- ‌أول مسجد وضع على الأرض

- ‌أول بيت وضع للناس بالقاهرة

- ‌فصل بناء المساجد

- ‌الباب الأولفيما يتعلق بمكة والمسجدالحرام من خصائص

- ‌ذكر أصل بناء الكعبة المعظمة

- ‌ذكر أول من كسا البيت

- ‌ذكر حال انتهائه

- ‌ذكر من بنى المسجد الحرام

- ‌تبيين المراد بالمسجد الحرام

- ‌بيان المراد بحاضري المسجد الحرام

- ‌ذكر حدود الحرم

- ‌ذكر حدود البيت المحرم

- ‌ذكر حدود منى

- ‌خَيف منى

- ‌المزدلفة

- ‌عرفات

- ‌بيان الحجاز ما هو

- ‌جزيرة العرب

- ‌ذكر أسماء مكة

- ‌ذكر خصائصه وأحكامه

- ‌الباب الثانيفيما يتعلق بمسجد النبي صلىالله عليه وسلم والمدينة

- ‌ذكر بناء المسجد

- ‌تبيين حدود حرم المدينة

- ‌ذكر ما جاء في خراب المدينة

- ‌ذكر أسمائه

- ‌هل المدينة حجازية أو شامية

- ‌ذكر ما جاء في عالم المدينة

- ‌ما جاء أن المدينة أقل الأرض مطراً

- ‌ذكر جملة من الخصائص والأحكام والفضائل

- ‌الباب الثالثفيما يتعلق بالمسجد الأقصى

- ‌ذكر أسمائه

- ‌ذكر أصل بنائه

- ‌هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله الإسراء

- ‌فصل في فضله

- ‌فصل في أحكامه

- ‌الباب الرابعفيما يتعلق بسائر المساجد

الفصل: ‌ذكر خصائصه وأحكامه

‌ذكر خصائصه وأحكامه

هي أجل من أن تحصى، وأعظم من أن تستقصى، ولكنا نذكر منها جملة كبيرة:

الأول: إنه أول بيت وضع على الأرض كما سبق الكلام عليه.

الثاني: إن إحياء الكعبة بالحج في كل سنة من فروض الكفايات قال الرافعي: وينبغي أن تكون العمرة كالحج، بل الاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام، فإن التعظيم وإحياء البقعة يحصل بجميع ذلك. وقال النووي: لا يحصل مقصوده الحج بما ذكره، فإنه يشتمل على الوقوف والرمي والمبيت بالمزدلفة ومنى وإحياء تلك البقاع بالطاعات وغير ذلك، انتهى.

وكذلك نازعه ابن الرفعة في المطلب في إلحاقه الصلاة والاعتكاف بما ذكر، وقال الشيخ نجم الدين القمولي: كأن النووي رحمه الله فهم من كلام الرافعي الاقتصار على هذه الأمور دون الحج، وهذا لا يعطيه كلامه، وإنما الذي فيه أنه أراد إحياءه بهذه الأمور مع الحج، قال: وفي وجوب ذلك نظر، ويجوز أن يكون مرادهم بقولهم: إن الحج في كل سنة فرض أنه فرض على من حج ومن لم يحج عند الاستطاعة فيعم الحرج الكل إذا تركوه. وأن يكون مرادهم أن الحج وإن كان فرض عين على المستطيعين على التراخي فيجب عليهم على الكفاية ألا تخلو الكعبة سنة من الحج

ص: 84

إن لم يحجه أحد تطوعا. وبلغني عن بعض أهل العصر أن إحياء الكعبة بالحج لا يسقط إلا بفعل الجمع الكبير حتى لو حج اثنان أو ثلاثة لم يسقط الحرج.

الثالث: أن تقدم المأموم على إمامه في الموقف في غير المسجد الحرام مبطل للصلاة على أظهر القولين سواء أكان التقدم في جهة الإمام أم في غير جهته؟ وأما في المسجد الحرام فالواجب أن يكون الإمام أقرب إلى الكعبة من المأمومين فلو تقدم على الإمام وصار أقرب إلى الكعبة منه نُظر، إن كان أقرب إليها من جهة الإمام كما لو كان الإمام يصلي في مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والمأموم عند الباب بطلت صلاته، وإن كان أقرب إليها في غير جهة الإمام كما لو وقف الإمام في المقام والمأموم في الحجر مثلا فأصح الطريقين القطع بالصحة كما قال الرافعي، لأنه غير موصوف بالتقدم عليه، ولأنه: يمكنه مشاهدة أفعاله والاقتداء به حينئذ للمحاذاة بخلاف من تقدم عليه فإنه لا يمكنه ذلك وهذا مذهب الحنفية والمنصوص لأحمد، قال العمراني في البيان وهو المنصوص للشافعي، وقول عامة الأصحاب ووجهه، ثم قال ولأن الشافعي نص في الجامع الكبير أنه إذا كان الإمام يصلي إلى الكعبة على الأرض والمأموم على سطحها يصلي بصلاته أجزأه، فإن المأموم هنا أقرب انتهى. قال بعض مشايخنا: والظاهر أن صورة المسألة فيما إذا لم يكن ظهره إلى وجه الإمام، وفيما إذا كان وجهه إلى وجهه والمأموم أقرب إلى ما يستقبلانه توقف ما، والظاهر أن أبا إسحق ينازع فيه.

ص: 85

فرع غير منقول: لو صلى الإمام إلى نفس الركن الذي فيه الحجر الأسود مثلا فالظاهر أن جهة الإمام ما حاذاها بدنه من ناحيتي الركن وهو ما بين الركن الشامي والركن اليماني، قال بعض المتأخرين.: قلت: لا جائز أن يقال: الإمام لا جهة له ولا أن تكون الجهة التي بين الركن اليماني وحده ولا الشامي وحده إذ هو ترجيح بلا مرجح، فتعين أن يكون كل منهما ويلزم عليه أن يكون مستقبلا جهتين وهو محال. فالأولى أن يقال: إن من في جهة أحد الركنين إذا كان إلى ناحية الإمام أكثر فهو في جهته ومالا فلا. ويبقى النظر فيمن هو في جهته، إن كان أقرب إلى الكعبة منه لم تصح صلاته، وهذا كله إذا وقف الإمام إلى جهة الركن بحيث يحاذي جميع بدنه وإلا فلو وقف منحرفا بحيث يكون بعضه خارجا عنه لم يصح صلاته.

فرع: ذاك التفصيل السابق يأتي فيما لو وقف في الكعبة واختلفت جهاتهما بأن يكون وجهه إلى وجهه أو ظهره إلى ظهره أو وجه الإمام إلى الحجر مثلا والمأموم إلى ظهر الكعبة فلا يضر شيء من ذلك فإن اتحدت جهاتهما فإن كان وجه المأموم إلى ظهر الإمام فذاك أو بالعكس فقولان، والصحيح البطلان. ولهذا قال الرافعي: يجوز الاقتداء في الكعبة مع اتحاد جهة المأموم والإمام ومع اختلاف الجهتين، فإن الكل قبلة، واعلم أن حكمهم بالصحة فيما إذا جعل وجهه إلى وجهه وظهره إلى ظهره يحتاج إلى دليل لأنه يخالف القاعدة. إذ فيهما لا يعد تابعا وهو أشد مخالفة في تقدمه عليه في جهة

ص: 86

واحدة، فإن قيل كأنه قاس جعل وجهه إلى وجهه على ما إذا استداروا حول الكعبة. قلنا: المخالفة مع المواجهة ولا حائل أفحش بل هو كالعبث وأيضا فما وجه جعل ظهره إلى ظهره مع قبحه وبعده عن المتابعة. قال شيخنا: ولم أر ما ذكره الرافعي إلا في التهذيب والتتمة وغيرهما، وأكثر الكتب ساكتة عنه، وعبارة الإمام: قال الأئمة: إذا دخل الناس البيت فالجهات كلها قبلة، فلا يمتنع أن يقف الإمام والمأموم متقابلين كما ذكرناه في الاستدارة حول الكعبة.

الرابع: أن من صلى في بناء منفصل عن المسجد مقتديا بإمام المسجد لم يصح اقتداؤه لعدم اتصال الصفوف، وأما في المسجد الحرام، فلو صلى على جبل الصفا أو المروة أو أبي قبيس مقتديا بصلاة الإمام في المسجد الحرام، قال الشافعي رضي الله عنه: يجوز لأن كل ذلك متصل وهو في حكم العرف غير منقطع، حكاه الماوردي في الحاوي قبل باب صفة الأئمة بورقة، وكذلك حكاه القاضي بن كج عن النص، فقال في كتاب التجريد بعد ذكره صلاة من صلى على سطح بيته مقتديا بإمام المسجد: قال الشافعي: لا تجزيه الصلاة للخروج عن حد الاتصال، ثم قال، يعني الشافعي: فإن قيل: الناس يصلون على أبي قيس بصلاة الإمام في الكعبة، قيل لأن حكم أبي قبيس حكم الأرض والقرار –وإن كان عاليا- لأن الأرض منها عال ومنها مستو، وليس كذلك حكم الأبنية لأنه قد خرج عن حكم الأرض والقرار،

ص: 87

ولا يمكن اتصال الصفوف من الدار إلى السطح ويمكن ذلك في أبي قبيس انتهى لفظه بحروفه.

وفي البيان للعمراني: قال في الإفصاح: ومن كل على الصفا والمروة وجبل أبي قبيس فصلى بصلاة الإمام في المسجد تصح صلاته، ووجهه بما تقدم، وخالف الشيخ أبو محمد الجويني في النقل، فقال في تصنيف له صغير سماه: احتياط الصلاة بالتمام، من مواقف المأموم والإمام، في الفصل السابع في الكلام على السهل مع الجبل، إذا وقف الإمام على السهل والمأموم على الجبل نُظر فيه، إن كان الجبل بحيث يمكن صعوده وارتقاؤه صح اقتداؤه به إذا كان مكان الارتقاء في الجهة التي فيها الإمام، وإن كان بخلاف ذلك كان الحكم بخلافه، لأن الجبل حينئذ بمنزلة السور المنيف يقف عليه المقتدي والإمام على القرار، وقد قال الشافعي رحمه الله: من صلى على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد فصلاته باطلة ولا بد لهذه المسألة من تأويل مستقيم، لأن ذلك الجبل جبل لا يتعذر. فمن مشايخنا من قال: إنما منع الاقتداء لبعد المسافة وزيادتها على ثلاثمائة ذراع. ومنهم من قال: إنما منع الاقتداء للمساكن المبنية على جهة أبي قبيس فإنها حائلة من طريق الحكم بين الإمام والمأموم، ومثل هذه المسألة يتبين لك أن العلم بركوع الإمام وسجوده لا يكفي بخلاف ما ذهب إليه عطاء بن أبي رباح رحمه الله، ولو جوزنا الصلاة على أبي قبيس بصلاة الإمام من المسجد

ص: 88

الحرام لأن الواقف على ذلك الجبل يشاهد الإمام والقوم في المسجد بحيث لا تخفى عليهم صلاتهم ولا شيء من أفعالهم، انتهى.

وتبعه في هذا النقل عن النص الخوارزمي في الثاني وقال: لم يجوّز الشافعي الصلاة على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد لأن بينهما دورا مملوكة، وصوّب الشيخ جمال الدين رحمه الله نقل الخوارزمي ولم يطلع على كلام الشيخ أبي محمد من جهة أن مكان المأموم أعلى ولم يحاده نحر والذي يميل إليه الخاطر تقديم ما نقله فحول المذهب كابن كج والماوردي وقد قال ابن الصلاح والنووي رحمهما الله: إن أصحابنا العراقيين أقعد بمعرفة النصوص أو يقال: تحصل بمجموع النقلين إن لم يحملا على حالين لصحة صلاة من صلى على أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد الحرام عند عدم اتصال الصفوف قولان: فاشدد يديك بهذه الفائدة فإنها تساوى رحلة.

الخامس: إن المأموم، والإمام إذا كانا في بناءين كصحن وصفّة أو بيت، فهل يشترط الاتصال وتلاحق الصفوف كما صححه الرافعي، أو القرب كما صححه النووي؟ طريقان، هذا إذا لم يكن بينهما حائل، أو كان ولم يمنع المرور، كالباب النافذ، فإن حال ما يمنع المرور لا الرؤية كالشباك فوجهان، أصحهما في الروضة – البطلان، أو ما يمنعهما كالجدار بطلت قطعا، هذا كله في غير المسجد الحرام، أما الشباك في رباط المسجد الحرام أو المدينة، أو بيت المقدس. فتصح الصلاة إذا وقف المأموم

ص: 89

في نفس الجدار، لأن جدار المسجد من المسجد كما صرحوا به، والحيلولة في المسجد بين الإمام والمأموم لا تضر. وهذا. وإن لم يصرحوا به بخصوصه لكن كلامهم لا يأباه، ويوجد من تصرفاتهم التلويح إليه وقد صرح به ابن أبي الصيف اليمني في جزء لخصه في المضاعفة، وقال تحصل له المضاعفة وإن صلى في عرض جدار من جدرانه، وإن كان فيه شباك، وفي رحبته إذ صلاة من صلى فيها بصلاة الإمام الذي في المسجد صحيحة ولا يقال: إن الصلاة في عرض جداره لا تصح بصلاة الإمام، ولا يقع عليها فضيلة المسجد الحرام، لأن الشافعي نص على أنه إذا حلف لا يدخل دارا فدخل دهليزها لا يحنث لأننا نفرق بوجهين [أحدهما] أن للعرف مدخلا في الأيمان، والثاني، أن الأئمة نصوا على حصول ذلك أعني صحة الصلاة بصلاة الإمام كمن صلى في رحبة المسجد والفضيلة في معنى ذلك – إذ المصحح كون الإمام والمأموم في مكان واحد وحكم الاتحاد التسوية، فلذلك حصلت فضيلة الجماعة لمن صلى فيها، ثم هو أولى بحصول الصحة، وقيل: الفضيلة من الدرجة، لأنه على الجملة جزء من أجزائه، وليست كذلك، بل إنما ألحقت به على سبيل التبع، والتابع للشيء قد يعد منه وإن لم يكن من نفسه، ألا ترى أن التسليمة الثانية من الصلاة، وإن وقعت بعد التحلل، والرمي والمبيت في الحج من واجباته وإن أتى بهما بعد زوال الإحرام.

ص: 90

السادس: نقل عن ابن جرير الطبري وبعض الظاهرية: أنه لا يجوز الصلاة في الكعبة لا فرضا ولا نفلا، وأحمد منع الفرض، وجوز النفل، وقال مالك: لا يصلي الفرض ولا السنن ويصلي فيها التطوع وإن صلى فيها الفرض أعاد في الوقت وحجته قوله تعالى: "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" وهي قبالته. ومن صلى في جوف الكعبة لم يقابل شطرها لأنه يكون مستقبلا للبعض، مستدبرا للبعض، ولا تحصل كلها قبالته إلا أن يكون خارجا عنها، وإنما جاز ذلك في النافلة، لأن استقبال الكعبة فيها غير واجب، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما الجواز فرضا ونفلا، وحجتنا أن من صلى خارجا عنها فإنه يستقبل بعضها، وصلاته جائزة بالإجماع، لأن ما عن يمين ما استقبل من البيت وما عن يساره ليس هو مستقبله، فلم يتعبد باستقبال كل جهاته، وعلى هذا، فمن صلى فيه فقد استقبل إحدى جهاته، وترك غيرها وذلك لا يضر لوجود مثله في الخارج، وقد روى البخاري ومسلم عن بلال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل البيت وصلى فيه ركعتين، وأما ما رواه مسلم عن ابن عباس: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله، أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل البيت ركعتين. وقال هذه القبلة، فقدم الشافعي الراوية الأولى على الثانية لوجوه، أحدها أنها مثبته والمثبت مقدم على النافي لزيادة علمه، ذكره البيهقي وغيره، الثاني: أن رواتها أكثر والكثرة من باب الترجيح في الرواية. فقد روى الصلاة في البيت عن بلال جماعة

ص: 91

كثيرة، منهم أسامة، وعمر بن الخطاب، وجابر، وعثمان بن طلحة، من طرق ذكرها الطحاوي في شرح المعاني، الثالث: اضطراب الرواية الثانية فروى أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن ابن عمر، أخبرني أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة بين الساريتين وروى الدارقطني في سننه عن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت وصلى فيه ركعتين. الرابع: تعليل حديث ابن عباس بالإرسال، فإنه رواه عن أخيه الفضل كما أخرجه الطبراني في معجمه وغيره. الخامس: أن بلالا كان حاضر الواقعة فخبره أولى بالتقديم، وهذه طريق الجهابذة، قال البخاري وغيره: القول قول بلال، لأنه كان حاضرا مشاهدا لصلاته بخلاف ابن عباس، وبنحو هذا علل حديثه نكح ميمونة وهو محرم ومن الناس من جمع بين الروايتين وصححهما. واختلفوا في ذلك على طرق أحسنها أن ذلك كان في وقتين وبه تتجمع الأخبار كما قيل بمثله من أحاديث الإسراء لما اختلفت ألفاظها، قال ابن حبان في صحيحه: الأشبه حمل الخبرين على دخولين متغايرين، أحدهما يوم الفتح وصلى فيه، والآخر في حجة الوداع ولم يصل فيه، وقال السهيلي: وقول من قال في حديث بلال: إن صلى بمعنى دعا، ليس بشيء، لأن في حديث ابن عمر أنه صلى فيها ركعتين، ولكن رواية ابن عباس وبلال صحيحتان لأنه عليه السلام دخلها يوم النحر فلم يصل، ودخل من الغد فصلى، وذلك في

ص: 92

حجة الوداع، رواه الدارقطني بإسناد حسن عن ابن عمر، وهو من فوائده. والثانية: حمل رواية بلال على صلاة التطوع، ورواية أسامة على الفرض هكذا قال القرطبي في شرح مسلم وقال بعض الأئمة أن أسامة تغيب في الحين الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يشاهده فاستصحب النفي لسرعة رجعته، وبلال لم يغب فأخبر عما شاهد وعضد هذا بما رواه ابن المنذر عن أسامة قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم صورا في الكعبة، فكنت آتيه بماء في الدلو ليضرب به تلك الصور فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حال مضي أسامة في طلب الماء، وقال النووي: يشبه أنهم لما دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدعاء، فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ثم اشتغل أسامة بالدعاء في ناحية من نواحي البيت والنبي صلى الله عليه وسلم في ناحية أخرى، وبلال قريب منه. ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه بلال لقربه ولم يره أسامة لبعده، واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه، وأما بلال فتحققها، وأما الإمام فخر الدين في تفسيره فمال إلى مذهب مالك، وقال: الاحتجاج عنه بخبر بلال ضعيف من وجوه، أحدها أن خبر الواحد لا يعارض ظاهر القرآن، وثانيها، لعل تلك الصلاة كانت نافلة، ومالك يجوزها. وثالثها: أن مالكا ممن روى هذا الخبر وخالفه، ومخالفة الراوي وإن لم توجب الطعن في الخبر إلا أنها تفيد مرجوحيته بالنسبة إلى خبر واحد خلا عن هذا الطعن، فكيف بالنسبة إلى القرآن، ورابعها: أن الشيخين رويا في الصحيح عن ابن عباس: أنه لم يصل انتهى. وبما قدمناه يعرف الجواب عن ذلك كله.

تقييد – إنما تجوز الصلاة في الكعبة إذا استقبل جدارها أو بابها بشرط

ص: 93

أن يكون مردودا أو مفتوحا مع ارتفاع عتبته مقدار ثلثي ذراع إلى ذراع تقريبا، هذا هو المشهور، والوجه الثاني – بشرط أن يكون قدر ذراع. وبه جزم القاضي أبو الطيب في تعليقه، والثالث – بشرط أن يكون كقامة المصلي طولا وعرضا، والرابع- يكفي شخوصها بأي قدر كان، والخامس- لا يشترط شاخص أصلا. والمذهب الأول. قال إمام الحرمين: وكأن الأئمة راعوا في اعتبار هذا القار أن يكون في سجوده يسامت بمعظم بدنه الشاخص، ولكنه يكون في حال القيام خارجا بمعظم بدنه عن المسامته فليخرج على الخلاف فيما إذا وقف على طرف ونصف بدنه في محاذاة ركن من الكعبة. انتهى، ونقله الرافعي عنه واقره وأسقطه من الروضة بالكلية. وفي الصحيحين: أنهم لما دخلوا البيت أغلقوا الباب، قال الشافعي وإنما أغلقوه لوجوب الصلاة إلى جدار من جدرانها. فدل على أنه لو صلى إلى الباب وهو مفتوح لم يجزه، لأنه لم يستقبل منها شيئا ووقع في صحيح البخاري عن بعض الرواة: إنما أغلق الباب لئلا يستدبر شيئا من البيت ورد بأن الباب إذا أغلق صار كأنه جدار البيت فلو هدمت – والعياذ بالله – فصلى في عرصتها – ولا شاخص لم تصح كالصلاة على سطحها لأنه صلى في البيت لا إليه، ولهذا لما هدم ابن الزبير الكعبة وضع أعمدة فستر عليها الستور لاستقبال المستقبلين وطواف الطائفين. وقال ابن عباس له: إن كنت هادمها فلا تدع الناس لا قبلة لهم، وهذا يدل على أن بقعة البيت ما كانت تنزل عندهم منزلة البيت، لكن خالفهما في ذلك جابر. وقال صلوا إلى موضعها. وخالف ابن سريج في الصلاة في العرصة فجوز ذلك. قال الرافعي: وخصه بعضهم عنه بصورة العرصة. وقال الإمام: لا شك

ص: 94

انه يجزئه في السطح، وبه صرح البغوي نقلا عنه ولا فرق انتهى. وأما الصلاة إلى أرض الكعبة فتجوز ويجزئه ذلك بلا خلاف عندنا. سواء أكان بقي منها شاخص أم لا. ومذهب مالك أن المقصود بالاستقبال البناء لا البقعة كذا نقله في شرح مسلم في الحج. وما ادعاه من نفي الخلاف باطل وفي الاستذكار للدارمي ما لفظه: وأما الصلاة إليه إذا تهدم –والعياذ بالله- فمن أصحابنا من قال لا تجوز، والصحيح أنه تجوز انتهى. والصواب تخصيصه عن ابن سريج بالعرصة كما فعل في الروضة ولهذا نقضوا عليه بما لو صلى على السطح ولا سترة، وجزم ابن أبي عصرون في المرشد بالمنع من السطح دون العرصة.

مسألة: ولو حفر في الكعبة حفرة ووقف فيها جاز. نقلاه في الشرح والروضة عن الإمام وأقراه، ونقله في الذخائر عن بعض الأصحاب. ثم قيده بما إذا لم يجاوز الحفر قواعد البيت، فإن جاوزها بحيث لا يحاذي بأعلى بدنه لم تصح، وإلا فهو كما لو صلى على ظهرها إلى سترة قصيرة قال ابن الرفعة، وفيما قاله نظر انتهى. والظاهر ما قاله، ولا سيما مع بقاء بنائها.

مسألة: لو وقف عند طرف ركن الكعبة وبعض بدنه يحاذي الركن وبعضه خارج عنه لم تصح صلاته على الأصح. هذا هو المنقول. وقال بعض مشايخنا: ينبغي أن يفصّل فيقال: إن كان البعض الخارج عن الركن قد جاوز الشاذروان لم تصح وإن لم يجاوزه صح. وقد قالوا في

ص: 95

كتاب الحج: إن عرضه ذراع وارتفاعه قدر ثلثي ذراع فيكون كما لو استقبل العتبة المرتفعة كذلك، بل أولى، وهذا ظاهر على وجه الأرض، ولو استقبل الركن نفسه، فالوجه الجزم بالصحة، لأنه مستقبل البناء المجاور للركن، وإن كان بعض بدنه خارجا عن الركن نفسه من الجانبين.

السابع: قال ابن القاص: من صلى بالاجتهاد فأخطأ إلى الحرم جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد لأهل الحرم، والحرم لأهل مشارق الأرض ومغاربها، هكذا حكاه عنه القاضي أبو سعد الهروي في أواخر الإشراف على غوامض الحكومات، وهو غريب وقد نقله سريج الروياني أيضا في أواخر أدب القضاء عنه عن أصحابنا فقال: قال: [ابن أبي أحمد قال] أصحابنا: من توجه إلى البيت، وهو بعيد عنه، بالاجتهاد فأخطأ إلى الحرم جاز، وذكر هذا الحديث انتهى. وهذا شيء لا نعرفه لأصحابنا. نعم حكوا عن مالك قال: الكعبة قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة أهل مكة، والحرم قبلة أهل الدنيا. وهذا النقل عنه غريب: قلت: وأما الحديث فأخرجه البيهقي في سننه من حديث عمر بن حفص المكي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض. قال البيهقي: تفرد به عمر ابن حفص، وهو ضعيف لا يحتج به والحمل فيه عليه.

ص: 96

الثامن: لا تصح الصلاة فوق ظهر الكعبة إذا لم يكن بين يديه شاخص منها قدر ثلثي ذراع لما في الترمذي: نهى عن الصلاة فوق ظهر بيت الله فإن كان بين يديه ذلك جاز. قال الشيخ تاج الدين الفزاري في الإقليد: جزم أصحابنا بصحة الصلاة على ظهر الكعبة في هذه الحالة مستدلين بحديث بلال، أنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة، وفيه نظر فإن في الحديث: نهى أن يصلى على ظهر بيت الله، وهو ظاهر في النهي، والمعتمد في الاستقبال الاتباع، ولم ينقل، ولأن الرقي على البيت ينافي تعظيمه، والمقصود استقباله، انتهى. وقال الخوارزمي في الكافي: الصلاة على ظهر البيت جائزة بالشرط السابق. قال: بخلاف ما لو صلى على جبل أبي قبيس متوجها إلى هواء البيت، فإنه تصح صلاته أي مطلقا، لأنه لم يقف على البيت، فيعد مستقبلا إياه وههنا وقف على نفس البيت، فلا يعد مستقبلا إياه حتى يكون بين يديه كل شيء.

التاسع: قال البغوي وتبعه الرافعي والنووي: يستحب للإمام إذا صلى في المسجد الحرام، أن يقف خلف المقام، ويقف الناس مستديرين إلى الكعبة. واعلم أن استحباب الاستدارة من غير حاجة إليها لم يوجهه الرافعي. وزعم الماوردي أنه السنة، وفيه نظر نقلا ودليلا، أما نقلا

ص: 97

فإن الآخرين إنما صرحوا بالجواز ، وعبارة التتمة: جرت العادة بكذا ، وعبارة الإمام في تقرير الجواز. هكذا عهد الناس في الأعصر الخالية ، ولعل الحاجة أحوجت إلى تسويغ ذلك ، فإن الناس يكثرون في الموسم ، ولو كلفوا الوقوف في جهة واحدة لتعذر ذلك انتهى. وظاهره أن الأولى تركه إذا لم تدع إليه حاجة ، وأما دليلا فإنه لم يرد فيه شيء بل روى الأزرقي: ان أول من أدار الصفوف حول الكعبة خالد بن عبد الله القسري حين ولي مكة في خلافة عبد الملك بن مروان ، وكان سببه أنه ضاق عليه الموقف وراء الإمام ، وكان عطاء وعمرو بن دينار يرونه ولا يغيرونه وهذا يشير إلى أنه محدث وأن الأمر {الأول} كان بخلافه ، وغايته الجواز عند الحاجة كما في الموسم ، وزمن الحج ، وكثرة الجمع ، أما إذا قلوا فالظاهر أن الأفضل وقوفهم وراء الإمام ، إلا أن يرد بخلافه نقل.

العاشر: قال إمام الحرمين في النهاية: لو اقترب صف من البيت فقد لا يحاذي الكعبة منهم إلا عشرون أو نيف وعشرون ، ويخرج طرف الصف إن زاد ثم قال: فلو بعدوا ووقفوا في أخريات المسجد فقد بلغ الصف ألفا وهم يعاينون الكعبة فصلاتهم صحيحة ، وعن على قطع ، وعلم أن حقيقة المحاذاة نفيا وإثباتا لا تختلف بالقرب والبعد ، ولكن

ص: 98

المتبع في ذلك ونظائره ، حكم الإطلاق والتسمية لا حقيقة المسامتة انتهى. وتبعه على ذلك الرافعي والنووي ، ولعله من تصرف الإمام ولهذا لما تكلم على القولين في أن فرض البعيد ، العين أو الجهة. قال: إن ما ذكر كلام ملتبس ، والوجه عندي ، فذكره ، وكلام الأصحاب يأباه. وقد حكاه في الذخائر عن بعض الأصحاب ثم قال: ويحتمل أن {يقال} لا يصح صلاة الخارجين عن المحاذاة ، لأنها غير موجودة حقيقة ولا أثر للتسمية مع مخالفة الحقيقة لحالة القرب انتهى. وظاهر كلام ابن الصباغ والمتولي وغيرهما أنه لا تصح صلاة الخارجين عن سمت البيت في أخريات المسجد قطعا ، فإنه قال: المعاين للبيت يجب عليه استقباله ، ولا يجوز له الصلاة إلى جهته ، وهذا لا خلاف فيه ، ثم حكى القولين في الغائب عن البيت ثم قال في آخر كلامه ، وأجاب أصحابنا عن الصف الطويل بأن مع البعد يتسع الصف المحاذي وهذا لعمري يكون مع تقوس الصف ، وأما مع استوائه فلا يمكن التحاذي وينبغي أن يقال: أهل الصف الواحد لا يمكن أحدا منهم أن يقطع بأنه محاذ للكعبة ، وإنما ذلك على طريقة الظن فإذا لم يتعين منهم المخطيء لعين الكعبة لم يوجب على أحد منهم القضاء انتهى قال ابن الرفعة: وقول ابن الصباغ وهذا لعمري إلى آخره يقتضي أن محل الكلام إذا كان بمكة ، وإلا فلا معنى للتقوس انتهى. وهذا أن أراد به من كان خارج المسجد ممن يجري فيه القولان فقريب وإن أراد به

ص: 99

مسألتنا فممنوع ، وكلام الشامل بعيد منه وقد أطلق صاحبا التهذيب والكافي القول: بأنه لو امتد صف خلف الإمام في المسجد الحرام لم تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة ، وقضيته أنه لا فرق بين أن يكون الصف بقرب الكعبة أو بأخريات المسجد ، ويوافقه قول الأصحاب: إن من كان بالمسجد الحرام يلزمه التوجه إلى عين الكعبة وتأمل جوابهم عن الصف الطويل مع البعد ، أن مع بعد المسامتة تكثر المحاذاة بدليل النار على الجبل إذا وقف جمع كثير على بعد منها فكل منهم يرى أن النار في محاذاته وأنه لو مد خيطا إلى موضع النار اتصل بها ، وأيضا فإن المخطيء منهم غير متعين ، واحتمال الإصابة في كل واحد منهم موجود ، والأمران مفقودان فيمن بأخريات المسجد من غير انحراف إلى الكعبة جزما ، هذا ما تحرر لي فيه ، والعلم عند الله ، وقد اعترض الشيخ جمال الدين رحمه الله على ابن الرفعة في كلامه السابق على ابن الصباغ بما يقتضي أنه لا تصح الصلاة في البعيد عن الكعبة إلا مع التقوس. وهذا مردود لقيام الإجماع على صحة صلاة الصف الطويل.

الحادي عشر: النفل في الكعبة أفضل منه خارجها ، وأما الفرض فإن لم يرج جماعة فكذلك وإن رجاها فخارجها أفضل. قاله في الروضة نقلا عن الأصحاب ، لأن المحافظة على الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة أولى من المحافظة على المتعلقة بمكان العبادة وذكر مثله في شرح المهذب وغيره. قال ابن الرفعة: وفيه نظر لأن قاعدة الشافعي أنه إذا دار الأمر بين إدراك

ص: 100

فضيلة وبطلان عبادة ، عند غيره فالخروج من الخلاف أولى ، {قلت}. قد ذكر هذا السؤال النووي في شرح المهذب فأجاب عنه فقال: فإن قيل: قد منع بعض العلماء الصحة فيها ، والخروج من الخلاف مستحب ، فكيف يكون مندوبا؟ فالجواب أن استحباب الخروج من خلاف العلماء هو في مسائل الإجتهاد ، أما ما خالف سنة صحيحة فلا حرمة له انتهى. وهذا الجواب إنما يصح بالنسبة إلى النافلة فإنه الذي وردت به السنة ، أما الفرض فلم ترد فيه سنة ، والقياس مع المخالف ، لأن باب النفل أوسع ، فالخلاف في الفرض حينئذ من الخلاف المحترم. نعم. قال: الكيا الهراسي في كتاب نقد مفردات أحمد: منع أحمد الفرض في الكعبة. وجوز النفل ولا شك أن عموم قوله تعالى: ((فَوَل وجهك شطرَ المسجد الحرام)) يتناول المصلي إليها وفيها ، وصح أنه دخل البيت ، وصلى فيه وهم يحملونه على النافلة. والحكاية حكاية حال. ونذرت عائشة رضي الله عنها أن تصلي في البيت. فقال صلى الله عليه وسلم: صلي في الحجر فإنه من البيت ، ومعلوم أن النذر مفروض. ولعل أحمد يجوز ذلك. وإنما منع الفرض المطلق انتهى. واعلم أن الأصحاب استحبوا فعل ركعتي الطواف خلف المقام ، فإن تعذر ففي الحجر. وإلا في المسجد ثم في أي موضع شاء ولم يتعرضوا لفعلها في الكعبة. فهل يقال: إنه أفضل من جميع ما سبق عملا بما تقدم من

ص: 101

الإطلاق ، وإنما سكتوا عنه لعدم تيسره في الغالب بدليل أنه أفضل من الحجر ومن المسجد بلا شك ، ولم يصرحوا بتقديمه عليها. ويقال: المقام مقدم على البيت لفعله عليه الصلاة والسلام ، وتكون هذه الصلاة مستثناة من ذلك الإطلاق. وفيه نظر ، والظاهر الثاني ، فإن الناشيء من الثواب أضعاف ما في المضاعفة.

الثاني عشر: إن صلاة النفل في البيت أفضل من فعله في المسجد لما فيه من الخلوص والبعد عن الرياء لكن هل يأتي مثل ذلك في المسجد الحرام؟ الظاهر نعم. إذا قلنا: إن حرم مكة كمسجدها في المضاعفة كما جزم به الماوردي والنووي ، وسيأتي. وصرح النووي في شرح المهذب بأن صلاة النفل في البيت أفضل من فعلها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسكت عن المسجد الحرام. وجريانه فيه أولى ، لأن حرم المدينة ليس كمسجدها في المضاعفة بخلاف حرم مكة. قلت: وفي سنن أبي داود من حديث زيد ابن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة. وأخرج الترمذي في الشمائل وابن ماجه في سننه بإسناد جيد عن عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيتي ، والصلاة في المسجد ، فقال: قد ترى ، ما أقرب بيتي من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون المكتوبة ، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه. وقال ابن أبي الصيف اليمني: جاء في بعض الأخبار ، أن صلاة النافلة في الزاوية

ص: 102

103

ص: 103

104

ص: 104

105

ص: 105

فصلى ركعتين. هذا هو الصحيح. وفي وجه أن مكة كغيرها من البلاد لعموم الأخبار ، والاستثناء في الحديث إنما هو لركعتي الطواف ، والحديثان إذا كان كل منهما أعم من الآخر من وجه لا يقدم خصوص أحدهما على عموم الآخر إلا بمرجح. ومال إليه البيهقي، وحمل الحديث على ركعتي الطواف. قال: وهو الأشبه بالآثار. وفي وجه يختص بالمسجد الحرام ، وفي وجه يباح في البلد فقط دون باقي الحرم خارجه. وقال المحاملى في المقنع: والأولى ألا يفعل خروجا من خلاف مالك وأبي حنيفة. وأغرب الجيلي فقال: واختلفوا في العلة فقيل: إنما كان ذلك لشرف البقعة فعلى هذا لا فرق بين المكى والآفاقى. ومنهم من قال: إنما كان ذلك ، لأن الناس يقصدونها لإقامة الطاعة فيها ، فلو منعوا عنها فات مقصودهم فعلى هذا يختص بالآفاقى ، أي فلا يكره بخلاف المقيم بمكة. وهذا غريب جدا ، وذكر ابن أبي شيبة في مصنفه فيما أفرده في الرد على أبي حنيفة في الجواز آثارا في ذلك. فعن عطاء قال: رأيت ابن عمر طاف بالبيت بعد الفجر. وصلى ركعتين قبل طلوع الشمس. وعن عطاء قال: رأيت ابن عمر وابن عباس طافا بعد العصر وصليا. وعن ليث عن أبي سعيد أنه رأى الحسن والحسين قدما مكة فطافا بالبيت بعد العصر وصلَّيا. وعن الوليد بن جُميع عن أبي الطفيل أنه كان يطوف بعد العصر ويصلي حتى

ص: 106

تصفارُّ الشمس. وعن عطاء: رأيت ابن عمر وابن الزبير طافا بالبيت قبل صلاة الفجر ثم صليا ركعتين قبل طلوع الشمس.

الخامس عشر: إن الطواف تحية البيت يجوز فعله في هذه الأوقات.

أيضا للحديث السابق وهو قول الشافعي وأحمد وإسحق وداود وجمهور العلماء وبه قالت الصحابة كما سبق وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم ، ومنعه أبو حنيفة. وقال مالك: لو أخر ركعتي الطواف إلى وقت الجواز جاز ، والحديث السابق حجة في الباب وهو سنة انفرد بها المكيون وهي صحيحة برواية عبد الله بن بَابَاه وهو ثقة.

السادس عشر: إن تحية المساجد الصلاة، وتحية البيت الطواف ،

وليس الطواف تحية المسجد ، صرح به الأصحاب منهم القضاة ، الماوردي في الحاوى ، والروياني في البحر ، وأبو الطيب الطبري في تعليقه في باب الحج ، وكذلك المحاملي في اللباب ، وأبو حامد في الرونق في صلاة النفل ، وفي الصحيحين عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم: أول شئ بدأ به الطواف ، وحكى ابن مسدي في إعلام الناسك عن أحمد بن حنبل وغيره: أنه يُحَييِّ المسجد أولا بركعتين ثم يقصد الطواف والمشهور الأول ، فإن قيل: إذا كان الطواف تحية البيت فهلا أمرتموه عند الفراغ منه بأن يصلي التحية لأجل المسجد؟ فالجواب: قال القاضي أبو الطيب والروياني: إنا نأمره بأن يصلي في المقام ركعتين. وتلك الصلاة تجزئه عن تحية

ص: 107

المسجد كما لو دخل المسجد والإمام في مكتوبة فصلاها سقطت عنه تحية المسجد ، ولأن القصد ألا يدخل المسجد لاهثا فإذا طاف زال هذا المعنى فإن قيل: هلا أسقطتم سنة الطواف إذا بدأ بالصلاة فيه لفريضة جماعة كما تسقط التحية إذا وجد جماعة عند الدخول فصلاها معهم؟ قلنا: لأن الصلاة والطواف جنسان مختلفان فلم يتداخلا وركعتا التحية والصلاة المكتوبة جنس واحد فتداخلتا. قال في البحر: ولو أتى بصلاة فريضة عقب الطواف قامت مقام ركعتي الطواف. وروى الشافعي في القديم هذا عن ابن عمر ، ولم يذكر له مخالفا. وهذا دليل على أنها لا تجب إذ الواجبان لا يتداخلان. قلت: وعلى ما سبق ينبغي للمصلي ركعتي الطواف بعد الطواف أن ينوي بهما تحية المسجد أيضا ليحصل له ثوابهما ، فلينتبه لذلك. واعلم أن ظاهر كلامهم فيما سبق أنه لو أخر الركعتين بعد الطواف وجلس فاتت التحية كما في غيره من المساجد. وفيه نظر. ولو طاف ، وصلى. ثم دخل الكعبة. فهل نقول: حصلت تحيتها بالطواف ، لتعليلهم السابق أم لا؟ بل ذلك تحية رؤيتها فلا بُدَّ من تحية لدخولها. فيه نظر.

فائدة:

التحيات خمس:

أحدها: تحية المسجد بالصلاة.

ص: 108

ثانيها: تحية البيت بالطواف كما سبق التصريح به عن الأصحاب.

وقول صاحب التحرير تحية المسجد الحرام الطواف ، لعل مراده بالمسجد الحرام ، البيت.

ثالثها: تحية الحرم بالإحرام بالحج والعمرة. قاله المحاملي وغيره.

رابعها: تحية مِنى بالرمي. ذكره في الشامل ، وحمل على من ضاق عليه وقت الوقوف ولم يدرك المبيت بمزدلفة.

خامسها: تحية المسجد بالنسبة إلى الخطيب يوم الجمعة الخطبة.

قالها النووي في نكت التنبيه بناءً على أنه لا يستحب له تحية المسجد وفيها خلاف.

*

*

*

السابع عشر:

إن الدعاء عند رؤية الكعبة مستجاب لما روى البيهقي في سننه في باب الاستسقاء عن أبي أُمامة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: تفتح أبواب السماء ، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن ، عند التقاء الصفوف ، ونزول الغيث ، وإقامة الصلاة ، ورؤية الكعبة. لكن في إسناده عُفير ابن معدان. قال أبو حاتم الرازي: لا يعتد به ، والحاكم يصحح حديثه في مواضع.

ص: 109

الثامن عشر:

إن الدعاء في حرم مكة مستجاب. ففي الصحيحين عن عبد الله ابن مسعود لما دعا النبي صلي الله عليه وسلم على قريش شق عليهم وكانوا يرون أن الدعوة في تلك البلد مستجابة. وقال الحسن البصري. الدعاء هناك مستجاب في خمسة عشر موضعا ، في الطواف ، وعند الملتزم ، وتحت الميزاب ، وفي البيت ، وعلى الصفا والمروة ، وفي المسعى ، وخلف المقام ، وفي عرفات ، والمزدلفة ، وعند الجمرات وفيها أحاديث:

ص: 110

التاسع عشر:

يرتب الثواب على مجرد النظر إلى الكعبة. قال الطبراني في معجمه الأوسط: ثنا محمد بن علي الصائغ ، ثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، ثنا عبد الرحمن بن أبي السفر الدمشقي. ثنا الأوزاعي عن عطاءٍ قال: حدثني ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ينزل الله على أهل المسجد ، مسجد مكة ، كل يوم عشرين ومائة رحمة ستين منها للطائفين وأربعين منها للمصلين ، وعشرين منها للناظرين. وقال: لم يروه عن الأوزاعي إلا عبد الرحمن بن أبي السفر. قلت ، قال البخاري فيه: إنه روى حديثا موضوعا ، وروى الأزرقي عن جده عن عثمان. أخبرني زهير ابن محمد قال: الجالس في المسجد ينظر إلى البيت لا يطوف به ولا يصلي أفضل من المصلي في بيته لا ينظر إلى البيت.

العشرون:

إن نفس دخول الكعبة مثاب عليه ، ففي سنن البيهقي والأوسط للطبراني من طريق عبد الله بن المؤمل عن ابن مُحَيْصن عن عطاء عن ابن عباس يرفعه: من دخل البيت ، دخل في حسنة وخرج من سيئة وخرج مغفورا له.

قال البيهقي: تفرد به عبد الله بن المؤمل وليس بقوي. وجعله ابن أبي شيبة من

ص: 111

قول مجاهد. وقال أبو نعيم في الحلية: ثنا أبو علي الطلحي: ثنا الحسين ابن علي العدوي. ثنا داود بن حماد أبو حاتم. ثنا يحي بن سليم عن سفيان الثوري. عن إسحق بن يحي بن طلحة عن عائشة بنت طلحة. عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: صنعت اليوم شيئا لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت ماصنعته قلت: وما ذاك يا رسول الله؟. قال: دخلت البيت وخشيت أن يأتي الآتي من بعدي يقول حججت ولم أدخل البيت ، وإنه لم يكتب علينا دخوله ، وإنما كتب علينا طوافه. قال كذا حدثناه إسحق ابن يحي. وصوابه طلحة بن يحي. والحديث تفرد به يحي بن سليم عن الثوري عن طلحة. وأخرجه أبو داود والترمذي وصححه. وفي سنده إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير وهو ضعيف. وقد رواه البزار بإسناد آخر ، وظاهر الخبر أنه كان في حجة الوداع ، واحتج به بعضهم على كراهة دخول البيت ، ولا حجة فيه بل الذي فيه الكراهية لمن توهم أنه من تمام الحج. وقد نص الشافعي على استحباب دخول البيت بهذا الحديث وزعم بعضهم أنه من مناسك الحج. لكن الثابت أن دخوله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفتح كما جاء مصرحا به في رواية مسلم. ولم يكن يوم الفتح محرما ، وأما أحاديث حجة الوداع فليس في شئ منها مايحقق أنه عليه السلام دخل أم لا؟

آداب دخول الحرم

ولدخوله آداب ، ككف البصر من غير تأمل جدرانه وسقوفه ، ودخوله

ص: 112

بخضوع وخشوع وغير ذلك ، وينبغي أن يدخله مرات. مرة يصلي فيه ركعتين ، ومرة أربعا ، ومرة يدعو فقط ، لاختلاف الروايات في ذلك. وحمله المحققون على دخوله مرات. وقال: أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي في كتابه. الفنون. وقع لي تأملات في الحج منها: الصلاة بين عمودي البيت إلى أربع جهات ، إلى هذا واستدبرت الآخر ، وعودي لاستقبال ما استدبرت ، وإلى مايلي الظهر ، وإلى مايلي الصدر لتكون الموافقة حاصلة فقد صح أنه عليه السلام صلى بينهما. ولم أعلم كيف صلى انتهى.

وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ، وفي الصحيحين من حديث بلال: أنه جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وفي رواية البخاري عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه قال البيهقي: وهو الصحيح. وفي رواية أبي داود: ثم صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع. وفي رواية البخاري عن ابن عمر: أنه كان إذا دخل البيت مر قِبل وجهه حتى يدخل ، ويجعل الباب خلف ظهره فيمشي حتى يكون بينه وبين الجدار الذي يلي وجهه حين يدخل قريبا من ثلاثة أذرع فيصلي وهو يتوخى المكان الذي أخبره بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه.

وفي الصحيحين أن بلالا أخبره قال: صلى بين العمودين من السطر

ص: 113

المقدم. وجعل الباب خلف ظهره ، واستقبل بوجهه الذي يستقبل حين يلج البيت الذي بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع.

الحادي والعشرون:

يستحب الغسل لدخول الكعبة. حكاه إمام الحرمين في النهاية في كتاب الجمعة عن صاحب التلخيص وأقره ، وحكاه عن نقل الإمام كذلك ابن الرفعة في الكفاية. وذكر الشيخ جمال الدين رحمه الله أن هذا الموضع وقع غلطا في النهاية ، وأن الموجود في التلخيص إنما هو الغسل لطواف الزيارة وأن الموقع للامام في ذلك قول القفال في شرحه: وزيارة البيت.

قلت: الإقدام على توهيم الإمام مع اختلاف النسخ ليس بجيد. وقد ذكر لي من وقف على كلام ابن القاض: أن فيه مانقله عن الإمام والله أعلم.

الثاني والعشرون:

يستحب الغسل لدخول الحرم قاله أبو بكر الخفاف من قدماء أصحابنا في كتاب الخصال.

الثالث والعشرون:

يستحب الغسل لدخول مكة ففي الصحيحين عن ابن عمر: أنه كان

ص: 114

لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارا ، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك ، ولا فرق بين أن يكون الداخل مُحرما أو حلالا – ومسألة الحلال النقل فيها عزيز وقد صرح بها الشافعي في الأُم.

الرابع والعشرون:

إن صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والمعني أن الصلاة فيه تفضل على مسجد الرسول ، ويدل لذلك أحاديث؛ أحدها ما رواه أحمد ، والبزار في مسنديهما ، وابن حبان في صحيحه من حديث حماد بن زيد وغيره عن حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ، وإسناده على شرط الصحيح. لا جرم أن بن عبد البر صححه وقال: إنه الحجة عند التنازع ، ذكره في التمهيد من جهة قاسم بن أصبغ عن أحمد بن زهير الحافظ ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد به قال: وهو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد إلا لمتعسف لا يعرج على قوله في حبيب المعلم. وقد كان الإمام أحمد يمدحه ويوثقه ويثني عليه ، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه ، ولم يرو عنه

ص: 115

القطان. وروى عنه يزيد بن زريع وحماد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي وغيرهم. وهم أئمة علماء يقتدى بهم. وسائر الإسناد أئمة ثقات. ومنهم من علله بالاختلاف على عطاء ، لأن قوما يروونه عن ابن الزبير وآخرون يروونه عن ابن عمر. وآخروون عنه عن جابر ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث. وليس كذلك لأنه يمكن أن يكون عند عطاء عنهم. والواجب ألا يدفع خبر نقله العدول إلا بحجة. وقال البزار: هذا الحديث قد روي عن عطاء. واختلف على عطاء فيه. ولا نعلم أحدا قال بأنه يزيد على مائة إلا ابن الزبير وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح فرواه عن عطاء عن ابن الزبير. وروى هذا الحديث عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر ، ورواه ابن جريج عن عطاء ابن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة. ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة انتهى. وقال الحافظ شمس الدين الذهبي في مختصر سنن البيهقي: إسناده صحيح ولم يخرجه أرباب السنن ، الثاني حديث جابر. رواه ابن ماجه في سننه ، ثنا إسماعيل بن راشد. ثنا زكرياء بن عدي. أنا عبد الله بن عمرو. عن عبد الكريم عن عطاء. عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيما سواه وعبد الكريم فيه لِينٌ. الثالث حديث ابن عمر. رواه ابن عبد البر: حدثنا أبو القاسم خلف بن سعيد. ثنا عبد الله بن محمد. ثنا أحمد بن خالد. ثنا على بن عبد العزيز. ثنا محمد بن عمار. ثنا أبو معاوية عن موسى الجهني

ص: 116

عن نافع عن ابن عمر ، به. ثم قال: ورجال إسناده علماء أجلاء وموسى الجهني كوفي أثنى عليه يحي القطان وأحمد ويحي وغيرهم. وروى له مسلم. قال أبو بكر فحسبت ذلك على هذه الرواية التي هي: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة. فبلغت صلاة واحدة في المسجد الحرام عمر خمس وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة. وصلاة يوم وليلة في المسجد الحرام وهي خمس صلوات عمر مائتي سنة وسبع وسبعين سنة وتسعة أشهر وعشر ليال ، والعجب من أبي حنيفة كيف كره المجاورة بمكة. طريق آخر. رواه أبو أحمد حميد بن زنجويه. ثنا يعلى بن عبيد. ثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء. حدثني ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن صلاة في مسجدكم هذا – يعني مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم – تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا الصلاة في المسجد الحرام فهي أفضل قال: وقال سلمة بن كهيل: إلا الصلاة في المسجد الحرام فإنها تعدل مائة صلاة في مسجد المدينة. الرابع – حديث أبي الدرداء – أخرجه البزار في مسنده. ثنا محمد بن يزيد بن شداد. ثنا سعيد بن سالم. القداح عن سعيد بن بشير عن إسماعيل بن عبيد الله عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم: فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمائة ألف صلاة ، وفي مسجدي ألف صلاة ، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة. وقال: لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد. وإسناده حسن. انتهى. ونقله ابن عبد البر عنه محتجا به. الخامس. حديث أنس رواه ابن ماجه في سننه ثنا هشام بن عمار. ثنا أبو الخطاب الدمشقي. أنا زريق أبو عبد الله الإلهاني

ص: 117

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة ، وصلاة في المسجد الأقصى ، ومسجد المدينة ، بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة. وأبو الخطاب هذا هو معروف بن عبد الله الخياط.

قال ابن عدي: عامة أحاديثه لا يتابع عليها. ثم أورد له هذا الحديث. وقال الحافظ أبو الحجاج المزي. قال بعضهم في هذا الحديث عن هشام ابن عمار [ثنا أبو الخطاب حماد بن زيد الدمشقي قال أبو القاسم الطبراني في المعجم الأوسط عن محمد بن نصر الهمذاني عن هشام بن عمار] والظاهر أنه رجل آخر يعني معروف بن عبد الله. السادس – حديث ابن عباس ، رواه الطبراني في معجمه الكبير. ثنا على بن إسحق. ثنا إبراهيم بن يوسف الغرياني المقدسي. ثنا عمرو بن بكر. ثنا مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها مائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة. وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله ، غريب. السابع: روى ابن وضاح عن حامد بن يحي البلخي. ثنا ابن عيينة عن زياد بن سعد أنا سليمان بن عتيق سمعت عبد الله بن الزبير:

ص: 118

سمعت عمر بن الخطاب يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حزم. وهذا سند كالشمس في الصحة. الثامن: روى ابن أبي خيثمة عن أبيه. ثنا هشيم عن الحجاج عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال: الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة ضعف. قال: فنظرنا فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف صلاة. قال ابن عبد البر وابن حزم: فهذان صحابيان جليلان يقولان يفضل المسجد الحرام على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا مخالف لهما من الصحابة فصار كالإجماع منهم على ذلك. وفي رسالة الحسن البصري إلى الرجل الزاهد الذي أراد الخروج من مكة. قال صلى الله عليه وسلم: من صلى في المسجد الحرام ركعتين فكأنما صلى في مسجدي ألف ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من البلدان.

الخامس والعشرون:

إن حرم مكة كالمسجد الحرام في المضاعفة المذكورة جزم به الماوردي وتبعه النووي في مناسكه. ونقله صاحب البيان عن الشريف العثماني كما سياتى. وهو بناء على أن المسجد الحرام في الخبر ، المراد به جميع الحرم ، لكن خالف ذلك في باب استقبال القبلة من شرح المهذب. فقال في تفسير حديث المضاعفة: إن المسجد الحرام قد يطلق ويراد به الكعبة والمسجد حولها. ثم جعل من ذلك حديث مضاعفة

ص: 119

الصلاة. ويعكر على الأول رواية النسائي في سننه من حديث ميمونة إلا المسجد الكعبة ، ورواه مسلم عنها: إلا مسجد الكعبة. ومن حديث أبي هريرة إلا الكعبة. وفي رواية ابن ماجه وصلاته بمكة ألف ، وحكى المحب الطبري خلاف العلماء في مكان المضاعفة بالنسبة إلى الصلاة ورجح أن المضاعفة تختص بمسجد الجماعة ، ثم قال: فإن قيل: فقد ورد عن ابن عباس: أن حسنات الحرم كلها ، الحسنة بمائة ألف. فعلى هذا يكون المراد بالمسجد الحرام في حديث الاستثناء ، الحرم كله: قلنا: نقول بموجبه: إن حسنة الحرام مطلقا بمائة ألف لكن الصلاة في مسجد الجماعة تزيد على ذلك.

ولهذا قال: بمائة صلاة في مسجدي ولم يقل حسنة. وصلاة في مسجده بألف صلاة كل صلاة بعشر حسنات ، فتكون الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف حسنة ، وتكون في المسجد الحرام بألف ألف حسنة إما مسجد الجماعة وإما الكعبة على اختلاف القولين. ويلحق بعض الحسنات تضعيفا ، أو يكون ذلك مختصا بالصلاة لخاصية فيها والله أعلم. انتهى. وما ذكره يحصل بصلاة المنفرد وتزيد الحسنات بصلاة المكتوبة في جماعة على ما جاء أنها تعدل سبعا وعشرين درجة ، ويتحصل في المراد بالمسجد الحرام الذي تضاعف فيه الصلاة سبعة أقوال: الأول – أنه المكان الذي يحرم على الجنب الإقامة فيه. الثاني – أنه مكة. الثالث – أنه الحرم كله إلى الحدود الفارقة بين الحل والحرم. قاله عطاء. وقد سبق مثله عن الماوردي وغيره. وقال الروياني: فضل الحرم على سائر البقاع فرخص في الصلاة فيه في جميع الأوقات لفضيلة البقعة ، وحيازة الثواب المضاعف

ص: 120

انتهى. وهذا فيه تصريح بهذا القول. الرابع – أنه الكعبة وهو أبعدها الخامس – أنه الكعبة والمسجد حولها ، وهو الذي قاله النووي في استقبال القبلة. السادس – أنه جميع الحرم وعرفة. قاله ابن حزم. السابع – أنه الكعبة وما في الحجر من البيت. وهو قول صاحب البيان من أصحابنا. فقال في باب استقبال القبلة ، وقد ذكر حديث مضاعفة الصلاة في المسجد الحرام: سألت الشريف محمد بن أحمد العثماني ما المراد بالمسجد الحرام من هذا الخبر؟ فقال: المراد به الكعبة والمسجد حولها وسائر بقاع الحرم ، لأن الله تعالى أطلق الإسراء على المسجد الحرام ، ومعلوم أنه أُسري بنبينا من بيت خديجة. وكل موضع أطلق فيه المسجد الحرام ، فالمراد به جميع الحرم. قال صاحب البيان: والذي تبين لي أن المراد بهذا الخبر ، الكعبة وما في الحجر من البيت وهو ظاهر كلام صاحب المهذب ، لأنه قال: الأفضل أن يصلى الفرض خارج البيت ، لأنه يكثر فيه الجمع ، والأفضل أن يصلي النفل في البيت لقوله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي. الحديث. قال: والدليل على ما ذكرته حديث عائشة ، قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أصلي في البيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلي في الحجر فإنه من البيت. فلو كان المسجد وسائر بقاع الحرم يساوي الكعبة بذلك لم يكن لتخصيصها البيت بالنذر معنى ، ولأَمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي في سائر بقاع الحرم. ولا فرق بين أن يقول: علَّى لله أن يصلى في المسجد الحرام أو في البيت الحرام إذا ثبت أن البيت الحرام إنما هو الكعبة. وكذلك

ص: 121

المسجد الحرام ، وأما الآية فإنما سمى بيت خديجة بالمسجد الحرام على سبيل المجاز انتهى. واختار الإمام تقي الدين محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني في جزء جمعه في المضاعفة: أنها تختص بالمسجد المعد للطواف ، لأنه المنصرف عند الإطلاق في العرف. قال ولا تضر زاوية الكعبة ، ولهذا قال الغزالي: لو نذر صلاة في الكعبة ، فصلى في أرجاء المسجد الحرام ، جاز. نعم. روى أنه قال: وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد الحرام. قال: ولكن قال الشيخ أبو محمد هذه الزيادة لم تصح فنحكم بالتسوية كما لو عين زاوية من المسجد. قال: وهذا نص صريح فيما ذكرت. فإن قيل: فقد نص الشافعي في الأم على أن الصلاة داخل الكعبة أفضل من خارجها بالجماعة. قال ابن الصباغ: وحاصل النص: إن كانت فرادى أو نافلة فهي في البيت أفضل ، وإن كانت بالجماعة فريضة أو غيرها وأمكن أن يصلى فيه ، فالبيت أفضل. وهذا نص في تفضيلها على سائر بقاع الحرم فلم لا يكون المسجد الحرام الموعود بمضاعفة الصلاة فيه هي دون غيرها؟ هذا مع ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: إذا أردت أن تصلي في البيت فصلي في الحجر فإنه قطعة من البيت فلو لم يكن لها خاصية المسجد الحرام لكان يقول لها: صلي حيث شئت. فالجواب: أنا لا ننكر أن المصلي فيها مصل في المسجد الحرام وإنما ننكر أن تنفى المضاعفة عمن صلى في المسجد ، بل نقول: هي الأصل الذي منه نشأت الحرمة. وعنه انتشرت الفضيلة ، فالمصلي فيها آخذ بالنصيب الأوفى والسهم الأرجح وإن كان المصلي في أخريات المسجد مساهما في

ص: 122

أصل التضعيف ومشاركا فيه ، وهو كالقرب من الإمام في صلاة ، فإنه فضيلة لا تنقص البعيد من أصل فضل الجماعة ، ولا تحطه عن حيازة الزيادة على القدر في الدرجة ، ولهذا قال الشافعي: وكلما قرب منها كان أحب إلي كما قال في القرب من الإمام ، وهذا القول أضعف من قول من يقول: إن المراد بالمسجد الحرام مكة أو سائر الحرم ، لأن فيهما مراعاة التدريج في الحرمة مع شمول الاسم المذكور في القرآن ، إلا أن الظاهر اختصاص التضعيف بالمسجد الذي قدر به الطواف ، وجعل الكعبة أخص الخواص أولى ، وذلك لأن الخواص التي انتشرت إليها حرمتها وامتدت إليها فضيلتها؛ بيت المسجد ، وخطة مكة ، وسائر الحرم ، وهو الحجاب الأول الأقرب إليها ، والحمى الأخص المحوط عليها ، مع أنه مختص بالمسجديّة اسما وعرفا. فكان له من خاصتها الحظ الأولى. ألا ترى أن الطواف لا يصح إلا فيه ، والاعتكاف إنما يصح في جميع الحرم في الكعبة ثم فيه أو فيما شاركه في اسم المسجديّة من الأماكن التي خصت الصلاة بالحرمة كمسجد أبي بكر وغيره ، إذ المسجد يشترط في كونه مسجدا الصيغة القولية ، ولا شك أن مساجد الحرم متعددة ، وهو من بينها بالمسجد الحرام في العرف تفرد ، وأن الجنب يجوز له اللبث فيما سواه من بقاع الحرم الذي لم يستجد له من الصيغة ما تقدم وقد ذكر الأزرقي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن حد المسجد الحرام

ص: 123

من الحزورة إلى المسعى. وقد ذكر المحاملي في اللباب اثني عشر حكما تتعلق بالحرم. ولم يذكر منها مضاعفة الصلاة ، وفيه إشارة إلى أنها خاصة ببقعة في الحرم على الخصوص. قال: وإذا تقرر أن المسجد الحرام ، هو مسجد الكعبة ، فتشمل فضيلة الصلاة فيه من صلى في الكعبة والحجر والمسجد من صحنه وأروقته وسطوحه وزواياه ومنائره بل في عرض الجدار من جدرانه وإن كان فيه شباك ، وفي رحبته ، إذ صلاة من من من صلى فيها بصلاة الإمام الذي في المسجد صحيحة انتهى ملخصا.

تنبيهات:

الأول: إن هذه المضاعفة في المسجدين لا تختص بالفريضة ، بل تعم النفل والفرض كما قاله النووي في شرح مسلم: إنه المذهب. قلت: وهو لازم للأصحاب من استثنائهم النفل بمكة من الوقت المكروه لأجل زيادة الفضيلة. وقال الطحاوي من الحنيفة في شرح الآثار: وهو مختص بالفرض – وأن فعل النوافل في البيت أفضل من المسجد الحرام. وكذلك ذكره ابن أبي زيد من المالكية. وقال ابن أبي الصيف اليمني: هذا التضعيف في الصلوات يحتمل أن يعم الفرض والنفل ، وهو ظاهر الأخبار ، ويحتمل

ص: 124

أن يختص به الفرض دون النفل ، لأن النفل دونه. وقد ورد أن ثواب الفرض يزيد على ثواب] النفل [بسبعين درجة ، وأن صلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بخمس وعشرين ، أو سبع وعشرين في المساجد الثلاثة وغيرها. وذلك في الفرائض ويلحق بهام اشرع له الجماعة من النوافل. فإن قيل: كيف تقولون: إن المضاعفة تعم الفرض والنفل؟ وقد تطابقت الأصحاب ونص الحديث على أن فعل النافلة في بيت الإنسان أفضل ، ولم يستثن إلا مايستحب له المسجد كالعيد وما لايتأتى إلا فيه كركعتي الطواف. قلنا: لا يلزم من المضاعفة في المسجد أن تكون أفضل من البيت ، والظاهر أنه ذو وجهين ، وبالجهتين تتم المضاعفة في نافلة المسجد ، وإن لم توجد في فرائض غيرها ، وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل ، ولا يلزم من ذلك جعله أفضل فإن للأفضل مزايا إن كان للمفضول مزية.

الثاني: إن اختلاف الروايات في التضعيف يحتمل إن صحت كلها أن يكون حديث الأقل قبل حديث الأكثر ، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شئ ، كما قيل في الجمع بين رواية أبي هريرة في فضل الجماعة بخمس وعشرين وبين رواية ابن عمر بسبع وعشرين ، فإن حديث أبي هريرة قبل حديث ابن عمر ، فزادهم درجتين ، ويحتمل أن تكون الأعداد تُنزَّل على الأحوال ، فقد جاء: أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة ،

ص: 125

وأنها تضاعف إلى غير نهاية ، وقد روى: تفكر ساعة خير من عبادة سنة لتفاوت الأحوال.

الثالث: بحث قاضي القضاة تاج الدين السبكي مع الشيخ والده رحمهما الله في صلاة الظهر بمنى يوم النحر إذا جعلنا منى خارجة عن حدود الحرم ، أن تكون أفضل من صلاتها في المسجد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، صلاها بمنى يومئذ ، والاقتداء به أفضل ، أو في المسجد لأجل المضاعفة؟ فقال الشيخ: بل في منى ، وإن لم تحصل بها المضاعفة ، فإن في الاقتداء بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم من الخير ما يربو على المضاعفة.

السادس والعشرون:

إن التضعيف لا يختص بالصلاة بل وسائر أنواع الطاعات كذلك قياسا على ما ثبت في الصلاة والنظر إلى الكعبة فأُلحق به ما في معناه من أعمال البر. قال الحسن البصري: صوم يوم بمكة بمائة ألف ، وصدقة درهم بمائة ألف ، وكل حسنة بمائة ألف ، وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك شهر رمضان بمكة فصامه ، وقام منه ما تيسر كتب له مائة ألف شهر رمضان فيما سواها ، وكتب له بكل يوم وليلة عتق رقبة ، وفي كل يوم حمل فرسين في سبيل الله وفي كل ليلة حسنة ، وروى البزار في مسنده من جهة عاصم بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رمضان

ص: 126

بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة. وفي المستدرك للحاكم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم ، وحسنات الحرم ، الحسنة بمائة ألف حسنة ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. ورواه البيهقي في سننه ، وضعفه ، وفي المعجم الأوسط للطبراني من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أم هانئ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمتي لن يزالوا بخير ما أقاموا شهر رمضان قيل: يارسول الله وما خزيهم في إضاعته؟ قال انتهاك المحارم فيه ، من عمل فيه زنا ، أو شرب خمرا ، لعنه الله ومن في السموات إلى مثله من الحول ، فإن مات قبل أن يدرك شهر رمضان فليست له عند الله حسنة يتقي بها النار ، فاتقوا شهر رمضان فإن الحسنات تضاعف فيه مالا تضاعف في سواه ، وكذلك السيئات. انتهى: وإذا ثبتت المضاعفة بالسيئة بالنسبة إلى الزمان الفاضل فالمكان كذلك.

ص: 127

السابع والعشرون:

ذهب جماعة من العلماء إلى أن السيئات تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات. ممن قال ذلك مجاهد وابن عباس وأحمد بن حنبل وابن مسعود وغيرهم لتعظيم البلد. وسئل ابن عباس عن مقامه بغير مكة فقال: مالي ولبلد تضاعف في السيئات كما تضاعف الحسنات؟ فحمل ذلك منه عل مضاعفة السيئات بالحرم ، ثم قيل: تضعيفها كمضاعفة الحسنات بالحرم. وقيل: بل كخارجه ، ومن أخذ بالعمومات لم يحكم بالمضاعفة قال تعالى:(ومن جاء بالسيئة فلا يُجْزَى إلا مثلها)

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من هم بسيئة وعملها كتبت له سيئة واحدة)) وقال بعض السلف لابنه: يابني إياك والمعصية ، فإن عصيت ولابد ، فلتكن في مواضع الفجور ، لا في مواضع الأجور ، لئلا يضاعف عليك الوزر ، أو تعجل لك العقوبة ، وحرر بعض المتأخرين النزاع في هذه المسألة فقال: القائل بالمضاعفة: أراد مضاعفة مقدارها أي غلظها لا كميتها في العدد ، فإن السيئة جزاؤها سيئة ، لكن السيئات تتفاوت ، فالسيئة في حرم الله وبلاده على بساطه أكبر وأعظم منها في طرف من أطراف البلاد ، ولهذا ليس من عصى الملك على بساط مُلكه كمن عصاه في موضع بعيد عنه. فإن قيل: فيرجع النزاع أيضا. وأي فرق بين أن تكون السيئة المعظمة

ص: 128

بمائة ألف سيئة وهي واحدة ، وبين أن تكون بمائة ألف سيئة عددا ، فالجواب أنه قد جاء: أن من زادت حسناته على سيئاته في العدد دخل الجنة ، ومن زادت سيئاته على حسناته في العدد دخل النار ، ومن استوت حسناته وسيئاته عددا كان من أهل الأعراف ، فلا يبعد أن يكون في الغلظ من غير تعدد معنى من عدم الزيادة العددية المرجحة بسبب فضل السيئات في الحرم في الحالة التي لولا هذا التأويل لرجح جانب السيئة ، أو معنى غيره يحصل به.

الثامن والعشرون:

العقاب على الهم فيه بالسيئات وإن لم يفعلها. قال تعالى: ((ومن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظلم نُذقْه من عذابٍ أليمٍ)). ولهذا عُدّى فعل الإرادة بالباء ولا يقال: أردت بكذا ، لما ضمنه بمعنى يهم ، فإنه يقال: هممت بكذا.

وهذا مستثنى من قاعدة الهم بالسيئة وعدم فعلها. كل ذلك تعظيما لحرمته ، وكذلك فعل الله سبحانه بأصحاب الفيل ، أهلكهم قبل الوصول إلى بيته. وقال أحمد بن حنبل: لو أن رجلا هم أن يقتل في الحرم أذاقه الله من العذاب الأليم ثم قرأ الآية وقال ابن مسعود: ما من بلد يؤاخذ العبد في بالهم قبل الفعل إلا مكة. وتلا هذه الآية.

التاسع والعشرون:

كره جماعة من السلف المجاورة بمكة. وحكى ذلك عن أبي حنيفة وغيره من العلماء المحتاطين لمعان ثلاثة ، أحدها خوفا من التقصير في

ص: 129

حرمتها ، والتبرم ، واعتياد المكان ، والأنس به ، وذلك يجر إلى قلة المهابة والتعظيم ، ولهذا كان عمر يأمر الحاج بالرجوع إلى أوطانهم ، ويمنع الناس من كثرة الطواف بالبيت. وقال: خشيت أن تنتهك حرمة هذا البيت بخلاف الذي يقدم زائرا ، ثم يذهب ، فإنه يهاب المكان ويعظمه أكثر من القاطنين ، ولمثل هذا نهى السلف عن الكلام في ذات الله تعالى لأن كثرة النظر في ذلك تسقط مهابة الرب من القلب ولهذا قال الشاعر

وأخ كثرت عليه حتى ملني

والشئ مملول إذا ما يكثر

وفي الحديث: زر غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا

الثاني: تهييج الشوق بالمفارقة لتنبعث داعية العود قال تعالى: ((وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)) أي يثوبون إليه ويترددون إليه مرة بعد أخرى ، لا يقضون منه وطرا. وقال بعضهم: لأن تكون في بلد وقلبك مشتاق إلى مكة ، متعلق بهذا البيت ، خير لك من أن تكون فيه ، وأنت متبرم بالمقام وقلبك في بلد آخر. ويقال إن لله عبادا يطوف بهم الكعبة تقربا إلى الله تعالى.

الثالث: الخوف من ركوب الخطايا والذنوب بها فإن ذلك محظور ، وبالحرا أن يورث مقت الله تعالى لشرف الموضع. وروى عن وهيب ابن الورد المكي قال: كنت ذات ليلة في الحجر أصلي سمعت قائلا بين الكعبة والأستار

ص: 130

يقول: إلى الله أشكو. ثم إليك يا جبريل ما ألقى من الطائفين حولي] من [تفكههم في الحديث ولغوهم ولهوهم لئن لم ينتهوا عن ذلك لأنتفضن انتفاضة يرجع كل حجر منى إلى الجبل الذي قطع منه. ولهذا انتهى حال بعض المقيمين بمكة إلى أنه لم يقض حاجته في الحرم ، بل كان يخرج إلى الحل ، ولهذا كره بعض العلماء أجور دور مكة.

قال الغزالي: في الإحياء: ولا تظنن كراهة المقام يناقض فضل الكعبة ، لأن هذه كراهة سببها ضعف الخلق عن القيام بحقوق الله. وحكى ابن الصلاح عن سعيد بن المسيب أنه قال لرجل من أهل المدينة جاء يطلب العلم: ارجع إلى المدينة ، فإنا كنا نسمع أن ساكن مكة لا يموت حتى يكون الحرم عنده بمنزلة الحل. وذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما إلى استحباب المجاورة بها لما يحصل فيها من الطاعات التي لاتحصل في غيرها من الطواف وتضعيف الصلوات والحسنات وحكاه صاحب الغاية عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقد ذكر ابن الجوزي في مثير الغرام عدة من استوطن مكة من الصحابة. فبلغوا أربعا وخمسين صحابيا ،

ص: 131

وجماعة كثيرة من التابعين. قال وقد جاور بها عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله ، قال النووي: والمختار أن المجاورة بها مستحبة ، إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في الأمور المحذورة. وينبغي له أن يتذكر بها ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لخطيئة أصيبها بمكة أعز علي من سبعين خطيئة بغيرها. وفي بعض كتب الحنابلة: سأل أحمد عن الجوار بمكة. وكان هو لما أراد الخروج استأذن المتوكل أن يجاور بها فقيل له: حرها شديد. فأمسك وقال: الجوار لا بأس به ، إنما كره عمر الجوار لمن هاجر منها. قال: وسئل عن رجل يقتل الدر بمكة – فقال لابأس به.

الثلاثون:

مذهب أحمد أنه لا يكره المرور بين يدي المصلي في المسجد الحرام ، وأن الصلاة لا يقطعها بمكة شئ ولو كان المار امرأة بخلاف غيرها. حكاه القاضي أبو يعلى في الأحكام السلطانية. ونقل ذلك عن مالك وعبد الرزاق ، واحتج عليه عبد الرزاق في كتاب الصلاة تأليفه – بما رواه عن عمر بن قيس أخبرني كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه عن جده. قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد الحرام ، والناس يطوفون بالبيت بينه وبين القبلة بين يديه ليس بينه وبينهم سترة ، وفي رواية أخرى. رأيته يصلي فيما يلي باب بني سهم.

ص: 132

الحادي والثلاثون:

يستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد في المسجد الحرام ، لا في الصحراء لفضل البقعة ومشاهدة الكعبة ، ولحصول المضاعفة لهم في الصلاة. وألحق الصيدلاني به بيت المقدس ، وأما غيرها من البلدان ففيها خلاف. والمصحح أن فعلها في المسجد أفضل. وقال القاضي ابن كج في كتاب التجريد: قال الشافعي في الأم: تصلى في المصلى في سائر البلدان إلا في مكة فإنه تصلى في مسجدها ، لأنه خير بقاع الأرض. وقال: إن كان لو وسعهم مسجد ذلك البلد أحببت أن يصلوا فيه انتهى لفظ الشافعي بحروفه وفيه فوائد لم يقفوا عليها.

الثاني والثلاثون:

تحريم استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط في الصحراء والبنيان عند كثير من العلماء بخلاف التشريق والتغريب ، وعند الشافعي في الصحراء لا في البنيان. وهذا لا يختص بالحرم بل يعم كل مكان. واختلف أصحابنا في علة النهي. فقيل: إنه احترام الكعبة وتعظيمها. وقد روى في حديث سراقة مرفوعا: إذا أتى أحدكم البراز فليكرم قبلة الله ولا يستقبل القبلة والذي قاله جمهور الأصحاب: إن العلة في ذلك كون القبلة لا تخلو عن مصل من جن أو إنس ، فربما يقع بصره على فرجه حالة الاستقبال أو الاستدبار فيتأذى بذلك بخلاف البيوت.

ص: 133

لا سيما المتخذة لذلك ، وخدش بعضهم في هذا التعليل ، بأن المصلى ممن ذكر ، ظهره إلى جهة من يقضي الحاجة ، فالتعليل بهذا يقتضي أن يكون الاعتبار باليسير من الجهة التي تقابل القبلة لا من جهة القبلة ، والحديث إنما تعرض لاستقبال القبلة واستدبارها ، فالتعليل الأول أقوى. ورد عليه جواز ذلك في البيوت.

الثالث والثلاثون:

تورع بعضهم عن قضاء الحاجة بمكة وكان يتأول أنها مسجد. وهذا التأويل مردود بالإجماع والنص ، وقد فعله صلى اله عليه وسلم وأصحابه والسلف. نعم. روى الحافظ أبو علي ابن السكن في سننه الصحاح من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بمكة كان إذا أراد حاجة الإنسان خرج إلى المغمس وهو على ثلاثة فراسخ منها. ورواه أبو جعفر الطحاوى في تهذيب الآثار. وقال: على ميلين من مكة. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث نافع بن عمر عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب بحاجته إلى المغمس)) قال نافع: نحو ميلين من مكة. وقال: لم يروه عن عمرو إلا نافع بن عمر تفرد به سعيد بن أبي مريم.

ص: 134

الرابع والثلاثون:

حكى الماوردى وجهين في جواز الاستنجاء بحجارة الحرم. وقال: ظاهر المذهب سقوط الفرض بذلك مع تأثيمه.

الخامس والثلاثون:

كره أحمد في رواية الوضوء والغسل بماء زمزم ، والمشهور الجواز بلا كراهة. وقد روى هو في مسنده عن علي في حديث له ، ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بسجل من ماء زمزم ، فشرب منه وتوضأ. وقال ابن الزاغوني من الحنابلة، لا يختلف المذهب أنه ينهى عن الوضوء به ، لقول العباس: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حِلٌّ وبِلٌّ واختلف في السب الذي لأجله ثبت النهي على طريقتين: إحداهما أنه اختيار الواقف وشرطه ، وهو قول العباس. وهذا كما لو سبّل ماء للشرب لا يجوز الوضوء منه؛ لأنه خالف مراد الواقف ، والثانية أن سببه الكرامة والتعظيم ، فإن قلنا: إن ما ينحدر من أعضاء المتوضئ طاهر غير مطهر كره الوضوء بماء زمزم وإن قلنا إنه نجس كمذهب أبي حنيفة حرم التوضؤ به ، وإن قلنا إنه طهور كمذهب مالك لم يحرم ولا يكره ، لأنه لم يؤثر فيه الوضوء ما يوجب رفع التعظيم ، وكره بعض المتأخرين منهم الغسل به دون الوضوء.

ص: 135

وفرق بأن غسل الجنابة يجري مجرى إزالة النجاسة من وجه ، ولهذا عم البدن كله لما صار جنبا؛ ولأن حدثها أغلظ ، ولأن العباس إنما حجرها على المغتسل خاصة ، وأما إزالة النجاسة به فيحرم. وقالت الحنابلة. إن تغير كان حراما ، وإن لم يتغير وكان في الغسلة السابعة فهل يحرم أو يكره على روايتين ، وإن قلنا: إن الماء لا ينجس إلا بالتغير فمتى انفصل غير متغير في أي الغسلات كان كره ولم يحرم وأما الاستنجاء به فحرام صرح به الماوردي في باب الاستطابة من الحاوي فقال: ولماء زمزم حرمة تمنع من الاستنجاء به انتهى. وكذلك من استعماله إلا فيما وردت فيه الرخصة وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم توضأ به ، وأمر أن تبرد به الحمى فلا يتعدى به ما ورد. قال: لكن إن استنجى به أجزأ بالإجماع. وجزم المحب الطبري أيضا بتحريم إزالة النجاسة به. وقال: إن بعض الناس استنجى به فحدث به البواسير ، وقال الروياني: تكره إزالة النجاسة به لحرمته. وقال العجلي: الأولى ألا يتطهر به لكرامته ، وفي شرح المهذب المسمى بالاستقصاء عن الصيمري: إن غيره من الماء أولى منه. وقضية إطلاق الجمهور أنه كغيره فتحصلنا في الاستنجاء به على وجوه ، الكراهة ، والتحريم ، وخلاف الأولى. وههنا بحث ، وهو أن القائل بالتحريم أو الكراهة إما أن يكون مدركه أنه من أنهار الجنة أو كونه من منبع شريف ، فإن كان الأول ، فينبغي أن يقال: بالكراهة في النيل والفرات ، لأنهما من

ص: 136

أنهار الجنة ، ولاقائل به ، وإن كان الثاني فينبغي أن يقال: بالكراهة في عين سلوان بالقدس ، وسائر مياه الحرم ، ولا قائل به. نعم. قد يقال مدركه أنه له خصوصية انفرد بها وهو كونه يقتات به كالطعام كما في صحيح مسلم في حديث أبي ذر في بدء إسلامه: إنها طعام طعم ، وشفاء سقم فليلتحق في الاحترام بالمطعومات ، ولعل هذا مأخذ الماوردي. وهذا البحث من فوائد شيخنا العلامة أبي العباس ابن الأذرعي الحلبي.

السادس والثلاثون:

يجوز إخراج ماء زمزم وغيره من مياه الحرم ، ونقله إلى جميع البلدان ،لأن الماء يستخلف ، بخلاف نقل التراب والحجر ، وكانت عائشة رضي الله عنها تحمل ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله. رواه الترمذي وقال: حسن ، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. قال في شرح المهذب: ويستحب نقله للتبرك.

السابع والثلاثون:

يحرم نقل تراب الحرم وأحجاره عنه ، وسواء في ذلك تراب نفس مكة وما حواليها من جميع الحرم. هذا هو الأصح في شرح المهذب للنووي والذي أورده الرافعي في باب محرمات الإحرام ، كراهته. وعند الحنفية: أنه لا بأس بإخراج الأحجار وترابه ، ونقله الشافعي في الأم

ص: 137

عن أبي حنيفة وهو المنقول عن عمر؛ وابن عباس لكنهما كرهاه ، وقال أحمد: إذا أردت أن تستشفي بتراب الحرم فلا تأخذه لكن ألصق عليه طينا من غير طين الحرم ، ونقل القاضي أبو الطيب عن الشافعي أنه قال: رخص بعض الناس في ذلك ، واحتج بشراء البرام من مكة. قال الشافعي ، وهذا غلط فإن البرام ليست من حجارة الحرم بل يحمل من مسيرة يومين أو ثلاثة من الحرم ، وإذا أخرج ذلك فلا ضمان ويجب رده وأما عكسه وهو نقل تراب الحل إلى الحرام ففي الروضة والمناسك أنه مكروه ، وفي شرح المهذب أنهم اتفقوا على أنه خلاف الأولى ، لئلا يحدث لها حرمة لم تكن. قال: ولا يقال: مكروه لعد ثبوت النهي عنه: وفي البيان: قال الشيخ أبو إسحق ولا يجوز إدخال شئ من تراب الحل وأحجاره إلى الحرم. وهذا يرد نقل الاتفاق.

الثامن والثلاثون:

أن الشخص إذا مات وأريد نقله إلى بلد آخر قبل دفنه فإنه يحرم على الأصح ، لا سميا إذا كان بمكة أو المدينة ، أو بيت المقدس لما فيه من تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته بخلاف ما لو كان بقرب مكة ، أو المدينة ، أو بيت المقدس فإن الماوردي حكى في الحاوي عن نص الشافعي أنه يختار نقله إليها لفضل الدفن بها ، فقد روى ابن عباس وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة.

ص: 138

وفي رواية الزهري: من قبر بالمدينة كنت عليه شاهدا ، وله شافعا ، ومن مات بمكة فكأنما مات في سماء الدنيا انتهى.

وحكاه عنه النووي في زوائد الروضة عن النص ، وكذا فعل في المنهاج والحق أن هذا لم يتعرض له الشافعي ، وإنما هو من كلام الماوردي يعرفه من وقف عليه. وقد تبعه عليه الروياني في الحلية ، ولم يعزه إلى الشافعي ، وقد نقل القاضي أبو الطيب وابن الصباغ نص الأم بلفظ: إن من مات بمكة أو المدينة ، أحببت أن يدفن في مقابرها ، وكذلك إن مات ببلد قد ذكر في مقبرته خير أحببت أن يدفن بها ، وساق النص إلى آخره. وليس فيه تعرض للاستثناء السابق. وقد قال صاحب البيان وأبو نصر البندنيجي في المعتمد إنه لا نص للشافعي في نقل الميت من بلد إلى بلد. وقال ابن الرفعة: قال الشافعي في الأم. ولا أحب إذا مات في بلد أن ينقل إلى غيرها ، وخاصة إذا كان قد مات بمكة أو المدينة ، أو بيت المقدس. قال الماوردي: نعم. لو مات بقرب مكة ، أو المدينة ، أو بيت المقدس. فيختار أن ينقل إليها. قال ابن الرفعة: والجمهور على منع النقل يعني مطلقا. وصرح بأن الاستثناء للماوردي نفسه ، لا للشافعي ، وجرى عليه المحب الطبري. وقال: لو أوصى بنقله من بلد موته إلى أحد الأماكن الثلاثة لزم تنفيذ وصيته أي عند القرب ، وأمن التغير. وعزاه إلى بعض أصحابنا باليمن.

ص: 139

قال: ولو مات بقرب قرية ، أهلها صالحون ، فهل ينقل ليدفن بجوارهم؟ لا يبعد إلحاقه بالأماكن الشريفة ، وهذا كله منه بناء على ما سبق عن النص.

التاسع والثلاثون:

يجوز ستر الكعبة بالحرير ، لأن ذلك محرم على الرجال فقط. وقال الغزالي في فتاويه ولا بأس بتحلية المصحف بالذهب وتزيين الكعبة بالذهب والحرير ما لم ينسب إلى الإسراف. هذا كله في إلباس الكعبة ، وأما غيرها. ففي زوائد الروضة عن الشيخ أبي نصر المقدسي: إن تنجيد البيوت ، أي تزيينها بالثياب المصورة وغيرها من الحرير وغيره حرام. قال النووي: لكن الصواب في غير الحرير والمصورة. الكراهة دون التحريم انتهى.

وفي البيان ، في باب الوليمة: أن الشافعي قال في الأم: فإن كانت المنازل مسترة ، فلا بأس أن يدخلها وليس فيه شيء أكرهه سوى السرف ، لما روى عن ابن عباس أنه قال: لا تستروا الجدر. انتهى.

وروى مسلم من حديث عائشة: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة واللبن وفي سنن البيهقي من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس: لا تستروا الجدر بالثياب. وفيه بإسناد منقطع أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن تستر الجدر. قال البيهقي: وروينا في الكراهة عن عثمان. ويشبه أن يكون ذلك لما فيه من السرف. وقال الغزالي في الإحياء: تزيين الحيطان لا ينتهي إلى التحريم. إذ الحرير محرم على الرجال ، وما على الحيطان

ص: 140

ليس منسوبا إلى الذكور ، ولو حرم هذا لحرم تزيين الكعبة؛ بل الأولى إباحته بموجب قوله تعالى:((قُلْ مَنْ حرَّم زينةَ الله)). لا سيما في وقت الزينة ، إذا لم يتخذه عادة للتفاخر ، فإن قيل: وإن تخيل أن الرجال ينتفعون بالنظر إليه ، قيل: لا يحرم على الرجل النظر إلى الديباج مهما لبسه الجواري ، فالحيطان في معنى النساء. وفرق الشيخ نجم الدين بن الرفعة في المطلب في باب النذر بينهما ، بأن في النظر إليهن في هذه الحالة تشوفا وتشوقا إلى ما هو المقصود منهن ، فلذلك أبيح ، ولهذا علل منع لبس الرجال بالخنوثة التي لا تليق بشهامتهم. وهذا المعنى مفقود في الحيطان ،بل فيه استعمال الزينة ، واستعماله حرام على الرجال كيف قدر.

وقد حكى عن الشيخ أبي حامد: أنه ألحق بلبس الحرير والجلوس عليه تعليق الستور ونحوها لكنه وجه ذلك بأنه ابتذال وسرف وهو ما أورده الرافعي في آخر باب صلاة العيد ، أما سائر المساجد ففي إلحاقها بالكعبة احتمال للشيخ عز الدين ابن عبد السلام. وسيأتي إن شاء الله في الباب الرابع.

الأربعون:

هل يمتنع الشرب من ماء السيل النازل من الميزاب تحت الحجر لأنه من ذهب واستعماله حرام؟ والظاهر الجواز؛ كما قالوا فيمن أراد استعمال ماء الورد من مرش ذهب أو فضة أن يسكبه في يده ثم يستعمله منه.

ص: 141

الحادي والأربعون:

قال أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا: لا يجوز قطع شئ من سترة الكعبة ، ولا نقله ، ولا بيعه ، ولا شراؤه ، ولا وضعه بين أوراق المصحف. ومن حمل شيئا من ذلك لزمه رده بخلاف ما تتوهمه العامة ويشترونه من بني شيبة. وأقره الرافعي على ذلك ، وكذا قال الإمام أبو عبد الله الحليمي لا ينبغي أن يؤخذ شئ من كسوة الكعبة. وقال ابن القاص: لا يجوز بيع أستار الكعبة. وقال ابن الصلاح: الأمر فيها إلى الإمام يصرفه في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء. واحتج بما رواه الأزرقي في كتاب مكة: أن عمر بن الخطاب كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج. قال في الروضة: وهو حسن متعين لئلا يتلف بالبلى. وذكره أيضا في شرح المهذب في أواخر كفارة الإحرام. وروى الأزرقي أيضا عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما أنهما قالا: تباع كسوتها ويجعل ثمنها في سبيل الله والمساكين وابن السبيل. قالا: ولا بأس أن يلبس كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب وغيرهما ، وكذا قالته أم سلمة. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن أبي ليلى – وسئب عن رجل سرق من الكعبة فقال: ليس عليه قطع.

ص: 142

وذكر الأصحاب في كتاب الوقف فيما إذا بليت حصر المسجد ، أو أستار الكعبة في جواز بيعها وجهان ، أصحهما. نعم. لئلا تضيع ، أو يضيق المكان بلا فائدة. والثاني لا يباع بل تترك بحالها ، فيحتمل أن تخص مسألتنا بالجديد وفي خزانة الأكمل للحنفية: لا تأخذ شيئا من أستار الكعبة ، وما يسقط منها إلى القوام لا بأس أن يشترى منهم. وأخرج البخاري عن أبي وائل قال: جلست إلى شيبة بن عثمان في المسجد الحرام فقال: جلس إلي عمر بن الخطاب مجلسك هذا فقال: لقد هممت ألا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها يعني الكعبة فقلت له: كان لك صاحبان فلم يفعلاه ، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. هما المرءان ، اقتد بهما.

الثاني والأربعون:

يحرم أخذ شئ من طيب الكعبة للتبرك وغيره ، ومن أخذه لزمه رده إليها ، فإن أراد التبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ، ثم أخذه ، قاله النووي في الروضة من زوائده. ورأيته منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 143

وقياسه أن يأتي ذلك في الشمع. قال عطاء: كان أحدنا إذا أراد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر.

الثالث والأربعون:

بيع أشجار الحرم حرام باطل. قال القفال: إلا أن يقطع شيئا يسيرا للدواء فيجوز بيعه حينئذ. قال في الروضة: وفيما قاله نظر. وينبغي ألا يجوز كالطعام الذي أبيح له أكله ، لا يجوز له بيعه. قال صاحب التلخيص: وحكم شجر النقيع بالنون – حكم شجر الحرم في امتناع بيعه.

الرابع والأربعون:

مذهب الحنفية ، أن بيع دور مكة وكراءها لا يجوز ، وهو رواية عن أحمد. قال ابن المنير في المقتفي – وهو أحد قولي مالك والمشهور منه. واحتج أبو حنيفة بما رواه عن عبيد الله بن أبي يزيد كذا قال عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. مكة حرام وحرام بيع رباعها ، وحرام أجر بيوتها ، قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ، وهو وهم والصحيح أنه موقوف قال: ووهم أيضا في قوله: ابن أبي يزيد. والصواب ابن أبي زياد القداح. وروى الحاكم في المستدرك من طريق اسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بن باباه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: مكة مباح لا تباع رباعها ، ولا تؤاجر بيوتها ،

ص: 144

وقال: صحيح الإسناد. ولم يخرجاه ، وشاهده حديث أبي حنيفة انتهى. واسماعيل قال فيه البخاري: منكر الحديث وضعفه يحيى والنسائي وقال ابن حبان: كان فاحش الخطإ ، وأبوه ضعفه يحيى بن معين. وقال أبو حاتم: منكر الحديث. وفي سنن ابن ماجه عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر وعمر ، وإن دور مكة كانت تدعى: السوائب. من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن. وفي سنن الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح عن عبد الله بن عمر ويرفعه: من أكل من كراء بيوت مكة أكل نارا. وابن أبي نجيح: هو عبد الله بن يسار لم يدرك عبد الله ، وفي مصنف بن أبي شيبة عن مجاهد قال النبي صلى الله عليه وسلم: مكة حرام حرمها الله لا يحل بيع رباعها ، ولا إجارة بيوتها ، وكان عطاء يكره إجارة بيوتها والقاسم وعبد الله بن عمر. وروى محمد بن علي: لم يكن لدور مكة أبواب وحكى عن عثمان أنه قال: رباعي التي بمكة سكنها بنيّ ويسكنونها من أحبوا. وكره بيعها مجاهد وعطاء وطاوس. وكان عمر بن الخطاب يأمر بنزع أبواب دور مكة إذا قدم الحاج. قال السهيلي: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بمكة ، أن ينهى أهلها عن كراء دورها إذا جاء الحاج فإن ذلك لا يحل لهم. وعن مالك: إن كان الناس ليضربون فساطيطهم بدور مكة لا ينهاهم أحد ، واحتجوا أيضا بأن الله تعالى أطلق على مكة كلها مسجدا بقوله (سبحان

ص: 145

الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) وإنما كان الإسراء من بيت أم هانئ ، وغيره من البيوت داخل في لفظ المسجد ، والمسجد لا يباع ولا يؤجر وعورض هذا بأن الإجماع قائم على جواز الوطء ، وغيره من الأحوال التي لا تسوغ في المسجد فيها فلو كان اسم المسجد يستلزم حكم المسجد لزم ألا يجوز فيها حالة من الحالات المنافية للمسجد. وأجاب ابن المنير أيضا ، بأن العام إذا خصص بقي ما عداه على أصل العموم فلا يلزم من جواز تلك الأحوال فيها بدليل الإجماع جواز غيرها من البيع والإجارة إلا بقيد جامع مستأنف. ولو فرض قياس كان النص أو العرف يدفعه ، قلت: بل الجواز دل عليه النص كما سيأتي ، وأيضا: فإطلاق لفظ المسجد على دور مكة أو على الحرم كلها مجاز من باب التغليب. لا من باب حقيقة اللفظ وقد قال سبحانه: ((فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام)) ولم يكتف أحد من المسلمين باستقبال المسجد المحيط بالكعبة فضلا عن بقية دور مكة بل أجمعوا على أن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية ، الكعبة فقط ، وهو حقيقة اللفظ ولا يتبادر الذهن إلى إرادة مكة كلها إلا بقرينة ، وحينئذ يبطل ما بنى عليه ابن المنير من منع بيع دور مكة لإطلاق المسجد عليها ’ وليس مأخذ منع البيع وعدمه ذلك بل مأخذه الخلاف في أنها فتحت صلحا أو عنوة. وذهب الشافعي وأحمد في رواية وغيرهما إلى جواز بيعها وكرائها ، وأن دورها وأراضيها باقية على ملك أربابها يجوز لهم

ص: 146

التصرف فيها ببيع ورهن وإجارة ووقف ، وكذا سائر دور الحرم وأراضيه ، وللشافعي فيه مناظرة مع اسحق ابن راهوية فروى البيهقي بسنده إلى إبراهيم بن محمد الكوفي قال: رأيت الشافعي يفتي الناس ورأيت اسحق بن راهويه واحمد بن حنبل حاضرين قال أحمد بن حنبل لإسحق يا أبا يعقوب: تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله فقال اسحق: لم تر عيناي مثله!!. قال: نعم. فجاء فأوقفه على الشافعي فذكر القصة إلى أن قال: ثم تقدم إسحق إلى مجلس الشافعي وهو مع خاصته جالس فسأله عن سكنى بيوت مكة ، أراد الكراء فقال له الشافعي: عندنا جائز ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهل ترك لنا عقيل من دار فقال له اسحق: أتأذن لي في الكلام فقال: تكلم. فقال: حدثنا يزيد عن هشام عن الحسن: أنه لم يكن يرى بذلك (بأسا وأخبرنا ابو القاسم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى بذلك). وعطاء وطاوس لم يكونا يريان بذلك ، فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ فقال: اسحق بن راهويه الحنظلي الخراساني. فقال له الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم. فقال اسحق: هكذا يزعمون. قال الشافعي: ما أحوجني إلى أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بعرك أذنيه.

ص: 147

أنا أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنت تقول: عطاء وطاوس وابراهيم والحسن ، هؤلاء لا يرون ذلك. هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ فذكر قصته ، إلى أن قال: قال الشافعي: قال الله ((للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم)) فنسب الديار إلى المالكين أو غير المالكين؟ قال اسحق: للمالكين. فقال الشافعي: قول الله تعالى أصدق الأقاويل. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فنسب الديار إلى مالك أو إلى غير مالك؟ فقال اسحق: إلى مالك. فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين وأسكنها ، وذكر جماعة من الصحابة ، فقال له: اسحق: اقرأ أول الآية. قال الله عز وجل: ((سواء العاكف فيه والبادي)) فقال الشافعي: لو كان هذا كما تزعم لكان لا يجوز لأحد أن ينشد فيها ضالة ، ولا ينحر فيها البدن ، ولا تلقى فيها الأرواث. ولكن هذا في المسجد خاصة. قال. فسكت إسحق. ولم يتكلم ، فسكت عنه الشافعي رحمهما الله. وروى البيهقي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:((سواء العاكف فيه والبادي)) يقول: من أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. قال البيهقي ، وما يروى عن اسماعيل بن ابراهيم بن حماد عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: مكة مباح لا تباع رباعها ولا تؤجر. فإسماعيل وأبوه ضعيفان. قال: وما روى عن

ص: 148

علقمة بن نضلة الكناني أنه قال: يعني الحديث السابق من جهة ابن ماجه فهو إخبار عن عادتهم الكريمة من اسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم قال: وقد روينا جواز البيع وجواز الإرث كثيرا فاشترى نافع بن عبد الحارث من صفوان بن أمية دار السجن لعمر بن الخطاب. وقال الزبير: باع حكيم بن حزم دار الندوة في الإسلام بمائة ألف درهم. وذلك في زمن معاوية ، فلامه معاوية في ذلك ، وقال أبعت مكرمة أبائك وشرفهم؟ فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا بالتقوى. ولقد اشتريتها في الجاهلية بزق خمر وبعتها بمائة ألف ، وأشهدكم أن ثمنها في سبيل الله ، فأينا المغبون؟. والندوة بالنون هي الدار التي كانوا يجتمعون فيها للتشاور ، ولفظها مأخوذ من لفظ الندى ، والنادي ، وهو مجلس القوم الذي يندون حوله ، أي يذهبون قريبا منه وقال ابن المنذر في الإشراف ، كان أحمد بن حنبل يتوقى الكراء في المواسم ، ولا يرى بأسا بالشراء. واحتج بأن عمر بن الخطاب اشترى دار السجن بأربعة

ص: 149

آلاف وحكى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: لا أرى به بأسا وحكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس ببيع أرضها إجارتها كسائر البلدان. قال طحاوي: اعتبرنا ذلك فوجدنا المسجد الحرام الذي كل الناس فيه سواء لا يجوز لأحد أن يبني فيه بيتا ولا يحتجر منه موضعا وكذا حكم جميع المواضع التي لا ملك لأحد فيها وجميع الناس فيها سواء.

ألا ترى أن عرفة لو أراد رجل أن يبني في المكان الذي يقف الناس فيه لم يكن له ذلك؟ (وكذلك منى) قالت عائشة يا رسول الله ألا نتخذ لك بمنى شيئا تستظل به. قال: ياعائشة: إن منى مباح لمن سبق. رواه الترمذي. وقال حسن. والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري. قال الطحاوي: ورأينا مكة شرفها الله على غير ذلك قد أجيز فيها البناء. وقال صلى الله عليه وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. فأثبت لهم أملكة كريمة قال السهيلي والقرطبي شارح مسلم: والخلاف منتزع من أصلين ، أحدهما: قوله تعالى: ((والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد)) وأن الضمير هل يرجع إلى المسجد الحرام أو إلى البلد ، والثاني أن رسول الله صلى الله

ص: 150

عليه وسلم دخلها عنوة غير أنه من على أهلها بأنفسهم وأموالهم ولا يقاس عليها غيرها من البلاد كما ظن بعضهم ، لأنها مخالفة لغيرها من وجهين أحدهما: ما خص الله به رسوله ، فإنه قال:((قل الأنفال لله والرسول)) والثاني: ما خص الله تعالى به مكة من أنه لا تحل غنائمها ، ولا تلتقط لقطتها ، وهي حرم الله وأمنه. فكيف تكون أرضها أرض خراج؟ فليس لأحد فتح بلدا أن يسلك بها مسلك مكة ، فأرضها أو دورها لأهلها ، ولكن أوجب الله تعالى عليهم أن يوسعوا على الحاج إذا قدموا من غير كراء ، فهذا حكمها ، فلا عليك بعد هذا فتحت عنوة أو صلحا. وإن كان ظاهر الأحاديث أنها فتحت عنوة أي كما هو مذهب الحنفية ، ومذهب الشافعي: أنها فتحت صلحا ، واحتواء أبي طالب على أملاك عبد المطلب يدل على ذلك وهو كان أكبر أولاده حين وفاته على عادة الجاهلية. قال القرطبي: من قال: إنها فتحت عنوة كانت مغنومة لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها ، وأقرها لأهلها ، ولمن جاء بعدهم كما فعل عمر بالأرض المغنومة فتبقى على ذلك ، لا تباع ، ولا تكرى ، ومن قال إنها فتحت عنوة مع تجويز بيعها ، راعى الخلاف على أصله في مراعاة الخلاف الظاهر وتكون فائدة

ص: 151

حكمه بالكراهة أن من باع شيئا منها أو أكراه لا ينفسخ عنده ، ويمضي غير أنه لا يشرع الإقدام عليه.

فائدة: الخلاف السابق إنما هو في نفس الأرض فأما البناء والمساكن فيجوز بيعها بلا خلاف.

قال الروياني: ولا يكره بيع شئ من الأرض إلا أراضي مكة ، فيكره بيعها للخلاف. وكذا إجارتها. قال النووي: وهذا غريب والأحسن أن يقال: إنه خلاف الأولى:

الخامس والأربعون:

أصح قولي الشافعي: أن لقطة مكة وحرمها لا يجوز أخذها للتمليك ، وإنما تؤخذ للحفظ والتعريف بخلاف سائر البلاد ، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي وأبي عبيد لما في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرمه الله لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها)) ومعلوم أن لقطة كل بلد تعرف ، ولو كان كغيره لم يكن لتخصيصه بهذا الذكر معنى. وفي مسند أحمد عن عبد الرحمن بن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج. وزعم ابن الجوزي أن مسلما أخرجه في الصحيح ولم يذكره الحافظ أبو الحجاج المزي في الأطراف ، والمعنى فيه أن مكة مثابة للناس يعودون إليها مرة بعد أخرى ، وربما يعود إليها من أضلها أو يبعث في

ص: 152

طلبها. والقول الثاني أنها كلقطة سائر البلدان. والمراد من الخبر ، أنه لابد من تعريفها به كما في سائر البلدان فلا يتوهم أن تعريفها في الموسم كان لكثرة الناس وهو مذهب الأئمة الثلاثة.

قال ابن المنذر: ورويناه عن عمر وابن عباس وعائشة وابن المسيب. يعني وبعد الحول تملك. قال أبو عبيد في كتاب الأموال: الصحيح عند ابن مهدي: هو القول الأول لقوله: ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد. قال ابن مهدي: ليس يحل له إلا إنشادها ، فأما الانتفاع بها فلا يجوز. وقال جرير بن عبد الحميد: معنى قوله: إلا لمنشد أي إلا لمن يسمع ناشدا يقول: من أصاب كذا فحينئذ يجوز للملتقط أن يرفها إذا رآها ليردها إلى صاحبها. ومال ابن راهويه إلى هذا القول. وقيل: معناه لا تحل إلا له ، وهو خبر في المعنى. لكنه لا يقال للطالب منشد ، لأن المنشد ، المعرف. والطالب الناشد: قال أبو عبيد: وليس للحديث وجه إلا ماقاله ابن مهدي واختاره من المالكية الداودي ، والباجي ، وابن العربي. قال القرطبي في شرح مسلم: وهو الأظهر. وقال الماوردي في الحاوي: في المنشد تأويلان. أحدهما وهو قول أبي عبيدة ، أنه صاحبها الطالب لها ، والناشد هو المعرف الواجد لها ، والمعنى لا تحل لمن يتملكها إلا صاحبها التي هي له دون الواجد. والثاني وهو قول الشافعي: أن المنشد الواجد المعرف ، والناشد هو المالك الطالب ومنه الحديث – وقد سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد -: أيها الناشد، غيرك الواجد. والمعنى لا تحل لقطتها إلا لمعرف يقيم على تعريفها ولا يتملكها ، وعلى كل من التأويلين ففيه دليل على تحريم تملكها.

ص: 153

فائدة: وأما لقطة عرفة ،ومصلى إبراهيم ففيه وجهان في الحاوي.

أحدهما: حل لقطتها قياسا على الحل.

والثاني: أنه كالحرم لا تحل إلا لمنشد ، لأنه مجمع الحاج ، وينصرف القصاد منه إلى سائر البلاد كالحرم انتهى.

وليس هذا الفرع في الشرح والروضة. قال الماوردي واختلفوا في جواز إنشادها في المسجد الحرام مع اتفاقهم على تحريم إنشادها في غيره من المساجد على وجهين ، أصحهما جوازه اعتبارا بالعرف ، وأنه مجمع الناس. وقال الرافعي رحمه الله. ولا تعرف في المساجد كما لاتطلب الضالة فيها.

قال الشاشي في المعتمد: إلا أن أصح الوجهين جواز التعريف في المسجد الحرام بخلاف سائر المساجد انتهى.

السادس والأربعون:

إن صيد الحرم حرام على الحلال والمحرم بالإجماع ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ولا ينفر صيدها ، ونبه بالتنفير على الإتلاف ، لأنه إذا حرم التنفير ، فالإتلاف بالأولى. وهو مضمون خلافا لداود الظاهري. وقيل السبب في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار ونسج العنكبوت ،وأمر الله حمامة فباضت على نسج العنكبوت وجعلت ترقد على بيضها فلما نظر الكفار إليها على فم الغار ردهم ذلك عن الغار. وجاء في الأثر أن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين اللتين ركزتا على فم الغار. فلذلك احترم

ص: 154

حمام الحرم. وهو من جنس قوله تعالى: ((وكان أبوهما صالحا))

قيل: جدهما السابع ، فحفظ الأعقاب ، رعاية الأسلاف ، وإن طالت الأحقاب ، وضد هذا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل الوزغ لما قيل: أنها كانت تنفخ النار على إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، أما إدخال صيده من الحلال إلى الحرم فقال ابن المنذر: كرهه ابن عمر وابن عباس وعائشة وعطاء وطاوس وأحمد وإسحق ، وأهل الرأي ، ورخص فيه جابر بن عبد الله. وقال هشام بن عروة: قد كان ابن الزبير يراها تسع سنين في الأقفاص. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا يرون فيه بأسا. ورخص فيه سعيد بن جبير ومجاهد ، ومالك والشافعي وأبو ثور وهو الأصح.

السابع والأربعون:

إن قطع شجره وحشيشه حرام على الحلال والمحرم لقوله صلى الله عليه وسلم: ولا يعضد شجرها. قال الواقدي: لما أرادت قريش البنيان قالوا لقصي: كيف نصنع بشجر الحرم فنهاهم وحذرهم في قطعها ، وخوفهم من العقوبة في ذلك ، فكان أحدهم يحوق بالبنيان حول الشجرة حتى تحصل في منزله قال: وأول من رخص في قطع شجر الحرم في البنيان عبد الله بن الزبير حين ابتنى دور بقعيقعان لكنه جعل دية

ص: 155

كل شجرة بقرة ، وكان يروى عن عمر أنه قطع دوحة كانت في دار أسد بن عبد العزى ، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة ، وذلك قبل أن يوسع المسجد فقطعها عمر رضي الله عنه ووداها ببقرة: قال السهيلي: ومذهب مالك في هذا أن لا دية في شجر الحرمين. قال: ولم يبلغني في ذلك شئ. وقد أساء من فعل ذلك ، وأما الشافعي فجعل في الدوحة بقرة وفيما دونها شاة ، وقال أبو حنيفة: إن كانت الشجرة التي في الحرم مما يستنبته الناس فلا دية على من قطع شيئا منها ، وإن كانت من غيرها ففيها القيمة بالغة ما بلغت ، وذكر أبو عبيد: أن عبد الله ابن عمر أفتى فيها بعتق رقبة. وقال ابن المنذر: لا أجد دلالة أوجب بها في شجر الحرم فرضا من كتاب ولا سنة ، ولا إجماع. وأقول كما قال مالك نستغفر الله تعالى. قال: وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على إباحة أخذ كل ما ينبته الناس في الحرم من الزرع ، والبقول ، والرياحين ، وغيرها. وقال النووي: اتفق العلماء على تحريم قطع أشجارها التي لا يستنبتها الآدميون {في العادة وعلى تحريم قطع خلاها وهو الرطب من الكلأ واختلفوا فيما أنبته الآدميون} ، واختلفوا في ضمان قطع الشجر. فقال مالك يأثم ، ولا فدية. وقال الشافعي وأبو حنيفة: عليه الفدية ، وأوجب أبو حنيفة القيمة ، والشافعي في الكبيرة بقرة والصغيرة شاة ، وكذا جاء عن ابن عباس ، ويجوز عند الشافعي ومن وافقه رعى

ص: 156

البهائم ، وقال أبو حنيفة ، وأحمد: لا يجوز. وقوله: ولا يعضد شوكه فيه دليل على تحريم جميع نبات الحرم من الشجر والكلإ سواء الشوك المؤذي وغيره ، وهو الذي اختاره المتولي. وهو الصحيح. وقال جمهور أصحابنا: لا يحرم الشوك ، لأنه مؤذ فأشبه الفواسق ، ويخصون الحديث بالقياس ، وحاصل المذهب أنه لا فرق في التحريم وإيجاب الضمان بين النابت بنفسه ، والمستنبت كالأشجار المثمرة والقرع والخلاف والفرصاد لظاهر الخبر. قال الماوردي: وحل الخلاف فيما أنبت في موات الحرم ، فإن أنبت في أملاكه لم يحرم بلا خلاف ، هذا بالنسبة إلى الشجر ، وقيده ابن الرفعة بالرطب. قال: أما إذا كان الشجر قد جف فقلعه فلا شئ عليه قال القاضي الحسين كما إذا قطع الصيد إربا إربا. وكذلك قال الماوردي والبندنيجي قالا: ولا فرق في ذلك بين أن يستهلكه أم لا. واعلم أن القاضي الحسين: إنما جوز القطع بالطاء ، لا باللام ، فلا يلزم من جواز القطع ، القلع بدليل الحشيش اليابس فإنه يجوز قطعه ، ولا يجوز قلعه ، ولم يتكلم النووي في الروضة وشرح المهذب على قطع الشجر اليابس ، وإنما تعرض للقلع فقط. وقد يوهم تحريم القلع ، والصواب الجواز كما سبق. وقال ابن المنذر: ما سقط من الشجر البالي الميت يجوز أخذه ، وهو قول أحمد وأبي ثور وأصحاب الرأي. قال: ولا نعلم أحدا منع منه ، وبه نقول انتهى.

أما المستنبت بالنسبة إلى غير الشجر كالحنطة والشعير ، وسائر

ص: 157

الخضروات فيجوز قطعه ، وقلعه بلا خلاف لمالكه ، ولو قطعه غيره ، فعليه قيمته له ، ولا شيء عليه للمساكين. قاله الخفاف في كتاب الخصال. وقد استثنى أصحابنا من التحريم أو التضمين في النابت بنفسه مسائل ، إحداها: الإذخر ، لورود التصريح باستثنائه في الصحيح.

الثانية: الشوك كالعوسج وغيره لأذاه كالفواسق الخمس ، وفي وجه اختاره في التتمة والنهاية ، التحريم. واختاره النووي في تصحيح التنبيه. وقال في شرح مسلم: أنه الصحيح لظاهر الخبر في قوله: لا يعضد شوكه.

الثالثة: إذا احتاج إلى شيء من الكلإ لعلف البهائم جاز أخذه على الأصح لأن المنع منه لأجلها ، كما يجوز تسريحها فيه ، لأن الصحابة كانوا يدخلون حقاقهم الحرم ، وهي ترعى فأبيح ذلك دفعا للضرر كما أبيح الإذخر. وحكى عن أبي يوسف. قال ابن العربي. وهو الصحيح – وقال ابن المنذر: اختلفوا في الرعي في حشيش الحرم فكان الشافعي يقول: أما الرعي فلا بأس به ، لأن الذي حرم النبي صلى الله عليه وسلم فيه الاختلاء إلا الإذخر. والاختلاء: الاحتشاش. وبه قال يعقوب وحكى عن عطاء. وكان النعمان ومحمد يقولان: لا يرعى في حشيش الحرم ولا يقطع منه الإذخر.

الرابعة: إذا احتيج إليه للدواء فالأصح لا يحرم قطعه ، لأن الحاجة إليه أهم من الحاجة إلى الإذخر. وقد استثناه الشرع. قال ابن المنذر: وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السنابستان ولا ينزع من أصله. وفي الوسيط

ص: 158

حكاية وجه أنه لا يلحق بالإذخر غيره. وإن مست إليه الحاجة كما في الإذخر. وحكاه الإمام في النهاية عن الشيخ أبي علي ابن السنجي في شرح التلخيص حكاية احتمالين له في وجوب الضمان وعدمه ، قلت وعليه ينطبق ما في ترتيب الأقسام للمرعشي فإنه جزم بجواز القطع ، وحكى في الضمان فيه وجهين.

الخامسة: إذا احتيج إليه كالحاجة التي يقطع لها الإذخر كتسقيف البيوت ونحوه ، وذكر الغزالي في الوسيط والبسيط: أن الخلاف في أخذه للدواء يجري هنا وقضيته الجواز ، وعليه جرى صاحب الحاوي الصغير فجوّز القطع للحاجة مطلقا ، ولم يخصه بالدواء.

السادسة: ما يتغذى به كالرجلة المسماة بالبقلة (الحمقاء) ونحو ذلك ، لأنه في معنى الزرع صرح باستثنائها المحب الطبري في شرح التنبيه وحيث جوزنا الأخذ في هذه المسائل فلا يجوز أخذه للبيع كالطعام الذي أبيح له أكله لا يجوز له بيعه صرح به الماوردي وتبعه النووي ، وخالف القفال كما سبق. قال ابن الصلاح في مناسكه: لا يجوز أخذ شيء من مساويك الحرم لعموم قوله: ((ولا يعضد شجرها)) وفي كتاب (عارضة) الأحوذي للقاضي ابن العربي نقلا عن الشافعي أنه أجاز قطع المسواك من فروع الشجرة كما جوّز أخذ ورقها وثمرها للدواء إذا كان لا يضرها ولا يميتها ، لأنه

ص: 159

يخلف ، والإجماع على إباحة الإذخر لورود استثنائه في الخبر ، ورأيت في ترتيب الأقسام للمرعشي أن مافيه منفعة كالإذخر وفرع الأراك فقطعه جائز وفي جبرانه وجهان انتهى لفظه وهو غريب جدا أعنى جريان خلاف في جزاء الإذخر وكذا في السواك. (وقال ابن المنذر في الإشراف: اختلفوا في أخذ السواك من شجر الحرم فروينا عن مجاهد وعطاء وعمرو ابن دينار الترخيص فيه وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي قال ابن المنذر ولا أجد دلالة أبيح بها ما أباح عطاء من أخذ السواك وغيره من الحرم والشيء إذا حرم ، حرم القليل منه والكثير ، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ليث قال: كان عطاء يرخص في القضيب والسواك) والسنا من الحرم. وعم مجاهد أنه كرهه.

الثامن والأربعون:

يحرم القتال بمكة لقوله صلى الله عليه وسلم: إنها لم تحل لي إلا ساعة من نهار. وهذه مسألة اختلف فيها أهل العصر الأول. ففي الصحيحين: أن عمرو بن سعيد لما أراد بعث الناس إلى مكة لقتال ابن الزبير ، قال له أبو شريح: أيها الأمير أحدثك حديثا سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، إنه صلى الله عليه وسلم قال: إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله فيها ، فقولوا: إن الله عز وجل

ص: 160

أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب. فقال عمرو بن سعيد: أنا أعلم منك يا أبا شريح لا تعيذ عاصيا ، ولا فارّا بدم ، ولا فارّا بخربة. انتهى فحمله أبو شريح على العموم ، وهو وجه الخير ، ونهاه عن القتال بمكة خشية أن تستباح حرمتها وحمله عمرو على الخصوص.

وقوله لأبي شريح: لا تعيذ عاصيا ، ليس بمطابق للكلام ، لأنه لم يختلف معه في أن من أصاب حدا في (غير) الحرم ثم لجأ إليه. هل يجوز قتاله أم لا؟ وأنما أنكر عليه بعثه الخيل إلى مكة واستباحة حرمتها ، ونصبه الحرب عليها ، فأحسن أبو شريح في استدلاله ، وحاد عمرو عن الصواب ، وأجابه عن غير سؤاله. قال ابن بطال: وابن الزبير عند علماء السنة أولى بالخلافة من يزيد ، ومن عبد الملك لأنه بويع لابن الزبير قبل هؤلاء ، وهو صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال مالك: وابن الزبير أولى من عبد الملك فإن قيل: لا شك في حل القتال بعده صلى الله عليه وسلم إذا وجد ما يوجبه من استيلاء أهل الشرك ، أو البغي ، أو منع حق؛ فما فائدة التنصيص على التحريم حينئذ ، لأن هذا ثابت لجميع الأمكنة. قيل: فائدته توكيد حرمتها ، وبيان فضلها على غيرها وشرفها. قال المحب الطبري. وقوله: ولا تحل لأحد من بعدي ، معناه تحريم القتال بها.

ص: 161

وإن كان مستحقا كما هو مذهب أبي حنيفة ، ولا كذلك سائر البلدان.

قلت: وهذا لا يزيل الإشكال. وفيه تنزيل الحديث على خلاف مذهبنا ، وإنما وجه الخصوصية أن الكفار ، أو البغاة لو تحصنوا بغيرها جاز قتالهم على أي وجه وبكل شيء ولو تحصنوا بها لم يجز قتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره. وقد نص الشافعي في الأم على هذا كما سيأتي.

التاسع والأربعون:

ذهب جماعة من العلماء إلى تحريم قتال البغاة فيه. بل يضيق عليهم إلى أن يخرجوا أو يفيئوا. واختاره القفال من أصحابنا وعد من جملة ما يخص النبي صلى الله عليه وسلم: جواز القتال له في حرم مكة ، ولكن الصحيح من المذهب المنصوص الجواز ، وعبارة القفال في شرح التلخيص عند ذكره الخصائص في باب النكاح: لا يجوز القتال بمكة حتى لو تحصن جماعة من الكفار بها لم يجز لنا قتالهم فيها: قال النووي: وهو غلط.

وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: من خصائص الحرم ، ألا يحارب أهله ، وإن بغوا على أهل العدل. فقال بعض الفقهاء: يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى يرجعوا إلى الطاعة ويدخلوا في أحكام أهل العدل. قال: وقال جمهور الفقهاء: يقاتلون على بغيهم إذا لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال ، لأن قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا يجوز إضاعتها فحفظها في الحرم أولى من إضاعتها انتهى. وما نقله عن الجمهور نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث. وفي سير الواقدي من الأم ، وأجاب عن الأحاديث الواردة في تحريم القتال كحديث أبي شريح

ص: 162

بأن معناها تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك بخلاف ما إذا تحصن الكفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه ، وبكل شيء انتهى ، وقال الشيخ أبو الفتح القشيري: هذا التأويل خلاف الظاهر ، فإن قوله: فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما فيه تبيين لخصوصية إحلالها له ساعة من نهار. وقال: فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقولوا: إن الله أذن لرسوله. ولم يأذن لكم. والمأذون له فيه إنما هو مطلق القتال ولم يكن قتاله لأهل مكة بمنجنيق وغيره وأيضا فالأحاديث دالة على أن التحريم لاظهار حرمة البقعة بتحريم مطلق القتال فيها ، وسفك الدم وذلك مما لا يختص بها انتهى. وفي مسند البزار عن عبد الأعلى بن حماد عن مسلم بن خالد عن أبي خيثمة عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن قوم صالح لما عقروا الناقة أهلك الله من كان في الأرض منهم إلا رجلا كان في حرم الله فمنعه من عذاب الله. قالوا. يا رسول الله من هو؟ قال: أبو رغال جد ثقيف لكن مسلم بن خالد فيه ضعف. وقال الحجاج: يقولون إن ثقيفا من بقية ثمود ، وهل نجا من ثمود إلا خيارهم؟ قال تعالى:((وثمودا فما أبقى)) (فبلغ) ذلك الحسن فتضاحك وقال: فما أبقى ، أي لم يبقهم. وكان هذا سبب توارى الحسن.

ص: 163

الخمسون:

من وجب عليه حد أو قتل بقصاص أو رجم بالزنا وغيره ، فالتجأ إلى الحرم: ففيه للعلماء ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه آمن ما دام في الحرم لقوله تعالى: ((ومن دخله كان آمنا)) ولقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما. ولكن يضيق عليه ، ولا يكلم ، ولا يطعم ، ولا يعامل حتى يخرج فيقتل أو يستوفى منه قصاص الطرف. أو الحد إلا أن ينشئ القتل فيه. ونقل عن أبي حنيفة وروى عن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير والحكم بن عتبة واسحق بن راهويه والظاهرية ، وهي رواية عن أحمد. وعن أبي الزبير المكي قال: لو وجدت في الحرم قاتل أبي ما كلمته.

الثاني: إن كان قاتلا لم يقتل حتى يخرج من الحرم ، وإن كانت الجناية فيما دون النفس أقيم عليه الحد ، وهي رواية عن أحمد وأبي حنيفة.

الثالث: أن الحدود تقام فيه. ويستوفى القصاص ، وهو قول مالك والشافعي ، لقوله تعالى:((ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه)) قال ابن المنذر: واحتج مالك بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ابن خطل لما وجد متعلقا بأستار الكعبة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم اقتلوه انتهى. وكذلك أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الفواسق الخمس

ص: 164

في الحل والحرم ، لأنها مؤذيات طبعا ، فإذا جاز قتله مع ضعف أذاه ، فالقاتل أولى ، ولأنه علله بالفسق ، والحكم يعم لعموم علته. وقد تقدم في حديث أبي شريح: أن الحرم لا يعيذ قاتلا ولا فارّا بدم ، وأما قوله: لا يسفك بها دما ، فلا حجة فيه ، لأن السفك عبارة عن إراقة الدم بغير حق ، ومنه قوله تعالى:((أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)) ، وأما قوله:((ومن دخله كان آمنا)) فمعناه الخبر عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة من الله على أهل مكة كقوله: ((جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس)) ، ولو التجأ إلى المسجد الحرام ، أو غيره من المساجد أخرج وقتل صيانة للمسجد ، وفي وجه أنه يبسط الأنطعة ويقتل في المسجد تعجيلا لتوفية الحق ، وإقامة الهيبة قال في الروضة: ولو التجأ إلى الكعبة أو إلى ملك إنسان أخرج قطعا ، أما حرم المدينة فيجوز القصاص فيه بالإجماع ، ولا خلاف في أن من جنى جناية بحرم مكة ، لا أمان له. قال ابن الجوزي وغيره: انعقد الإجماع على ذلك ، فإنه اجترا على الله وانتهاك حرمة بيته ، وإلحاد فيه. قال تعالى: ((ومن يرد فيه بإلحاد وظلم نذقه من

ص: 165

عذاب أليم)). وفي تفسير القرطبي في سورة البقرة. قال ابن العربي. حضرت بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي ، والقاضي الزنجاني يلقي الدرس يوم الجمعة إذ دخل علينا رجل بهي النظر على ظهره أطمار فسلم بسلام العلماء وتصدر في صدر المجلس فقال له الزنجاني: من السيد؟ فقال: رجل سلبه الشطار أمس وكان مقصدي هذا الحرم وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال الزنجاني: سلوه. فسألوه عن مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم. هل يقتل أم لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل. فسئل عن الدليل فقال: قوله تعالى: ((ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه)) قرئ ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم ، فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نص. وإن قرئ: ولا تقاتلوهم فهو تنبيه. لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا ظاهرا على النهي عن القتل: واعترض الزنجاني ينصر مذهب مالك والشافعي ، وإن لم ير مذهبهما. فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: ((فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)). قال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه ، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن والتي احتججت بها خاصة ، ولا يجوز لأحد أن يقول: العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني وهذا من بديع الكلام.

ص: 166

الحادي والخمسون:

تغليظ الدية على من قتل في حرم مكة ، وهو الذي لا يجوز دخوله بغير إحرام لقوله تعالى:((ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه)). ولأنه لما تغلظ بتحريم الصيد كان أولى أن تغلظ في نفوس الآدميين ، لأن للحرم تأثيرا في إثبات الأمن. وتغلظ وإن كان القتل خطأ سواء كان القاتل والمقتول معا في الحرم ، أو أحدهما فيه دون الآخر واختلفوا في قدر التغليظ. فقال ابن المنذر: وروينا عن عمر بن الخطاب: أنه من قال: من قتل في الحرم أو الأشهر الحرم فعليه الدية وثلث الدية ،وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وسليمان بن يسار وأحمد بن حنبل وغيرهم. وقالت طائفة: التغليظ جاء في أسنان الإبل لا الزيادة في العدد ، وبه قال طاوس والشافعي قال: وممن كان لا يرى التغليظ الحسن البصري والشعبي والنخعي وبه نقول وليس ثبت على ما روى عن عمر وعثمان ، وابن عباس في هذا الباب ، وأحكام الله على الناس في جميع البقاع واحدة ، أما حرم المدينة ، فالأصح أنه لا يتغلظ بالقتل فيه وبناه جماعة على الخلاف في ضمان صيدها ، إن قلنا: يضمن وهو القديم غُلِّظ به وإلا فلا ، ولا يغلظ بالقتل في الإحرام على الصحيح. وقضية كلام الأكثرين اختصاص القول بتغليظه بإحرام القاتل ، لكن القاضي الحسين حكى الخلاف في تغليظه بإحرام واحد منها نعم يتغلظ القتل في الأشهر الحرم ، وهي ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب ، ولا يلتحق بها

ص: 167

شهر رمضان وإن كان معظما. قال السهيلي: وجعل الله الأشهر الحرم أربعة ، ثلاثة سردا ، وواحدا فردا. وهو رجب ، أما الثلاثة فليأمن الحجاج واردين إلى مكة. وصادرين عنها شهرا قبل (شهر) الحج وشهرا آخر بعده قدر ما يصل إلى البيت من أقصى بلاد المغرب ثم يرجع حكمة من الله ، وأما رجب فللعمار يأمنون فيه مقبلين وراجعين ، نصف الشهر للاقبال ونصفه للرجوع ، إذ لا تكون العمرة من أقاضي بلاد المغرب كما يكون الحج وأقصى منازل المعتمرين خمسة عشر يوما ، فكانت الأقوات تأتيهم في الموسم ، وفي سائر العام وكان القتال فيها محرما كذلك صدرا من الإسلام ثم أباحته آية السيف وبقيت حرمة الأشهر لم تنسخ قال تعالى:((منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم)). فتعظيم حرمتها باق ، وإن أبيح القتال. وقد روى عن عطاء: أن تحريم القتال فيها حكم ثابت لم ينسخ انتهى. ونقلت من خط الإمام أبي

ص: 168

عمرو بن الصلاح مما نقله من كتاب الانتقام من الطاعن في الإمام الشافعي. تأليف الإمام أبي عبد الله الحسين الحليمي: اختلف أصحابنا في تحريم القتال في الأشهر الحرم فمنهم من قال: إنه ثابت ، ولا يجوز ابتداء المشركين فيها بالقتال ولكنهم إن ابتدءوا قوتلوا قدر ما يدفعون به عن المسلمين ، وهذا أليق بمذهب الشافعي لأنه يوجب تغليظ الدية في قتل الخطإ إذا كان في الشهر الحرام ، أو البلد الحرام ، فلو كانت حرمة الشهر الحرام منسوخة لكان كالشهر الحلال ، ولم يكن تغليظ الدية لأجله معنى ، ومنهم من قال: إنه منسوخ انتهى. وقال القفال في فتاويه: يجوز نصب القتال مع المشركين في الأشهر الحرم. سواء بدؤونا بالقتال أم لا؟

وقوله تعالى: ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم)). المراد به ذكر مدة عهد النبي صلى الله عليه وسلم معهم إلى أقصى الشهر.

الثاني والخمسون:

ذهب الحسن البصري إلى أنه لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة ، لأن القتل فيه منهى عنه فلا يحل ما يسببه ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:((لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة)). رواه مسلم من حديث جابر قال القاضي عياض: وهو محمول عند أهل العلم على حمل السلاح لغير ضرورة ولا حاجة ، فإن كان حاجة جاز. قال: وهذا مذهب مالك والشافعي وعطاء

ص: 169

وحجتهم دخول النبي صلى الله عليه وسلم عام عمرة القضاء بما اشترطه من السلاح في القراب ، ودخوله عام الفتح متأهبا للقتال. قال: وشذ عكرمة عن الجماعة فقال: إذا احتاج إليه حمله وعليه الفدية ، ولعله أراد إذا كان محرما ، ولبس الدرع أو المغفر حتى يوافق الجماعة. وقد أنكر ابن عمر على الحجاج أمره بحمل السلاح في الحرم ، وكأنه لكثرة الخلق في أيام الموسم فيخاف أن يصيب أحدا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من مشى في مساجدنا أو أسواقنا بنبل ، فليأخذ على نصالها لئلا يصيب مسلما)).

الثالث والخمسون:

اختلف الناس في وقت تحريم مكة على قولين حكاهما جماعة منهم الماوردي في الأحكام السلطانية ،

أحدهما أنها مازالت حلالا كغيرها إلى زمن ابراهيم عليه السلام فحرمها لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن ابراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة)).

رواه مسلم عن جابر ..

والثاني: أنها لم تزل حراما منذ خلقت السموات والأرض لما في الصحيح إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض)) ، الحديث. ثم أظهر الله ذلك على لسان نبيه ابراهيم ليكون سنة لمن بعد. وهذا القول نقله النووي عن الأكثرين .. وقال الطحاوي: إنه الصواب ، وبه تتجمع الأحاديث. وقد حصن الله بيته من أصحاب الفيل فلم يجدوا عليه سبيلا. فإن قيل.

ص: 170

فقد وقع في زمن معاوية لما أرسل الحصين بن نمير السكوني فنصب المجانيق على أبي قبيس وغيره من جبال مكة ، ورمى الكعبة المعظمة ، وكسر الحجر الأسود ، وأحرق الكعبة حتى انهدم جدارها. وسقط سقفها بأمر يزيد فلما جاء نعيه انكبوا راجعين. وكان موت يزيد بحوارين من الشام سنة أربع وستين في نصف ربيع الأول ، وحمل إلى دمشق ، وصلى عليه أخوه خالد ، ودفن في مقبرة باب الصغير وقد بلغ ثلاثين سنة، وكانت ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر واثني عشر يوما ، وأول حجر من جارة المنجنيق أصاب وجه الكعبة سمع لها أنين وتأوه شديد. ذكره القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بن سخرة في كتاب البرهان له ، ثم تلا فعله الحجاج بن يوسف فنصب المجانيق. ورمى البيت ودخلها عنوة وصلب ابن الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عجائز الجنة منكسا ، ثم تلاه القرامطة. أخذوا الحجر الأسود ، واستباحوا حريمه ، وقتلو جميع من وجدوا ولم يمنعوا كما منع أصحاب الفيل.

ص: 171

فالجواب إنما لم يمنعوا. لأن الدعوة قد تمت. والكلمة قد بلغت. والجماعة قد ثبتت ، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بوقوع الفتن بعده وأن الكعبة ستهدم ، وأن المدينة ستغزى ، فغزاها يزيد بن معاوية ، أرسل الجيوش إليها مع مسلم بن عقبة المري – بعثه في عشرة آلاف فارس وسبعة آلاف راجل. فأغاروا عليها ثلاثة أيام. ثم دخلها بالسيف ، وقتل من بقايا المهاجرين والأنصار نحو ألف وسبعمائة ، وخيار التابعين يوم الحرة ، وكانت يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة. وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن حزم في المرتبة الرابعة. وبالت الخيل وراثت بين القبر والمنبر –نستغفر الله – ولم يصل أحد في المسجد تلك الأيام ، ولا كان فيه أحد حاشا سعيد بن المسيب. فإنه لم يفارق المسجد – ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان. ومروان بن الحكم له عند مسلم بن عقبة بأنه مجنون لقتله. وهتك مسلم – لعنه الله - الإسلام هتكا ، وانتهبت المدينة ثلاثا. واستخف بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومدت الأيدي إليهم ونتفت لحية أبي سعيد الخدري ، وكان ممن لزم بيته ، فأخذوا جميع ما في داره حتى صوف الفرش ، وحتى أخذوا زوجين من حمام كان صبيانه يلعبون بهما. وكذلك فعلوا بغيره من الرجال والنساء ، وقتلوا من المهاجرين والأنصار ألفا وسبعمائة. ومن أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان ، ومن حملة القرآن من قريش

ص: 172

سبعمائة. وأُكره الناس على مبايعة يزيد بن معاوية على أنهم عبيد له ، إن شاء باع وإن شاء عتق. وذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعة على حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بضرب عنقه ، وأمه حاضرة فلم يرع حرمتها وكانت من المهاجرات الأول ، وهي زينب بنت أم سلمة ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي التي دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي طفلة ، وهو يغتسل ، فنضح في وجهها الماء فلم يزل ماء الشباب في وجهها حتى عجزت وقاربت المائة. فدعت على مسلم بن عقبة هذا فابتلاه الله بالماء الأصفر في بطنه فمات بعد الوقعة بثلاث ليال بقديد منزلة (من منازل الحاج) وهو يبح كالكلاب.

الرابع والخمسون:

قال أصحابنا: لا يمكن الكافر من دخول حرم مكة ، سواء مساجدها ، وغيرها. حتى لو جاء في رسالة لا يدخل بل يخرج إليه من يقضي الأمر المتعلق به. هذا هو المشهور. قال شيخنا: ورأيت في كتاب القاضي ابن كج في كتاب الحج: لا يجوز للمشرك عندنا دخول الحرم ، فإن احتيج إلى أن يدخل طبيب كافر إليه فذلك جائز للضرورة غير أنه لا يترك مستوطنا به. هذا لفظه بحروفه. وظاهر نص الأم ، وإطلاق الجمهور في كتاب الجزية ينازعه. قال الشافعي في الأم هناك: ليس للإمام أن يدع مشركا يطأ الحرم بحال من الحالات. طبيبا كان أو صانعا بنيانا أو غيره انتهى. ولعل ابن كج يحمل النص على غير حالة الضرورة ،

ص: 173

وأغرب القاضي فحكى في الذخائر فقال: هناك: وإن جاء كافر رسولا إلى الإمام في الحرم فقد قال الخراسانيون: يجوز دخوله ، لأداء الرسالة.

وقال العراقيون: لا يجوز (قال: وإن جاء ليسلم أو ليسمع كلام الله قال الخراسانيون يجوز له الدخول لذلك وقال العراقيون لا يجوز) بل يخرج إليه من يسمع كلامه وإسلامه ، ويسمعه كلام الله تعالى انتهى. وما نقله عن الخراسانيين غريب أو غلط. والموجود في كتبهم التصريح بموافقة العراقيين ، وقد صرح بذلك الإمام في كتبه ، وولده ، والغزالي ، والعوراني ، والبغوي ، وغيرهم ، ولم يذكر صاحب الكافي والترغيب من متأخريهم سواه ، وأما غير الحرم فيجوز أن يدخل كل مسجد ويبيت فيه بإذن المسلمين وهو مذهب جمهور العلماء. وجوز أبو حنيفة تمكينه من دخول الحرم واحتج أصحابنا بقوله تعالى:((إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا)). وهذه الآية نزلت في سنة تسع من الهجرة ، والمراد بالمسجد الحرام في الآية ، الحرم كله ، لقوله:((سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام)) وإنما أسرى به من بيت أم هانئ ، أو من بيت خديجة. كما قاله الماوردي والبغوي وكلاهما خارج عن الحرم. ويدل على ذلك قوله تعالى في الآية:((وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء)). أي إن خفتم انقطاع التجارة عنكم ، فاعتصموا بفضل الله ، ومعلوم أن ما يخاف من هو في البلد لا في

ص: 174

المسجد نفسه ، ولقوله تعالى:((وإذا قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا)) إلى أن قال: ((ومن كفر فأمتعه قليلا)). أي بمكة وهو ما قبل فتحها. فدل على تحريمها على الكافر بعد الفتح. (وقد روى عن الشافعي بسنده أنه عليه السلام قال: لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم) ولقول ابن عباس: لا يدخل أحد مكة إلا محرما. والكافر لا يمكن إحرامه ، فامتنع دخوله. وقال الماوردي في الحاوي: الكافر إن شرط عليه في عقد جزيته ألا يدخل مساجدنا ، فليس له دخولها وإن لم يشترط عليه ذلك ففيه ثلاثة مذاهب أحدها: وهو مذهب الشافعي أنه يجوز لهم دخول مساجدنا بأذننا إلا الحرم ، ومساجده ، فلا يجوز لهم دخوله. والثاني. وهو قول أبي حنيفة أنه يجوز لهم دخول المساجد كلها في الحرم وغيره. والثالث: وهو قول مالك أنه يجوز لهم دخول الحرم ومساجده إلا المسجد الحرام خاصة.

الخامس والخمسون:

لو دخل الكافر خفية ومرض ومات في الحرم ، نبش وأخرج منه ما لم يتقطع بخلاف غيره من البلاد.

السادس والخمسون:

يختص ذبح دماء الحيوانات في الحج والهدايا به ، ويجب تفريقه على مساكين الحرم سواء الغرباء والقاطنون (والقاطنون) أولى ، ولو ذبح في الحل لم يجزئه على الأظهر. وسواء في هذا كله دم التمتع والقران وسائر ما يجب بسبب في الحل والحرم ، أو بسبب مباح كالحلق للآدمي أو

ص: 175

بسبب محرم ، وأفضل الحرم للذبح في حق الحاج منى ، وفي حق المعتمر المروة ، لأنهما محل تحللهما. وكذا حكم ما يسوقانه من الهدي.

السابع والخمسون:

من قصد مكة لغير النسك – وكذلك من قصد الحرم كما قاله النووي ونقل اتفاق الأصحاب عليه – فإن كان لا يتكرر دخوله كالتاجر ، والرسول والمكي العائد من سفره ففي وجوب إحرامه بنسك قولان، أظهرهما عند المسعودي وغيره ، وجوبه للإطباق على فعله ، وبه قال ابن عباس ، وصححه النووي في نكت التنبيه ، وقال في البيان إنه الأشهر ، وأصحهما في الشرح الصغير للرافعي والمحرر والمنهاج ورجحه الشيخ أبو حامد وغيره – استحبابه ، ومحل الخلاف في الوجوب ، أما الترك فمتفق على كراهته ، فإن أوجبناه فتركه ، فقد قيل: لا قضاء عليه ، لعدم إمكانه ، فإنه لو خرج ليقضى ’ فعوده يقتضي إحراما جديدا فلا يمكنه تأدية القضاء لذلك وعلى هذا ، لو كان صيادا ، أو حطابا ، وجب عليه ونسب ذلك في المهذب إلى صاحب التلخيص. وقيل: يجب القضاء ، وطريقه ، أن يتصور بصور المترددين الذين لا يلزمهم الإحرام للدخول كالحطابين. قال الإمام وهو في غاية البعد. قال صاحب التلخيص: وكل عبادة واجبة على المرء إذا تركها فإن عليه القضاء أو الكفارة إلا واحدة ، وهي الإحرام لدخول مكة ، فإنه واجب ومن تركه فلا قضاء عليه ، ولا كفارة إلا في مسألة واحدة. قتلها تخريجا. وهو أن رجلا دخل مكة بغير إحرام ولم يكن

ص: 176

حطابا فلا قضاء عليه ، وإن كان حطابا فعليه القضاء في القول الذي لا يوجب الإحرام على الحطابين انتهى. وإن كان يتكرر دخوله كالحطاب والصياد فقيل: بطرد القولين. والأصح القطع بأنه لا يجب لعظم المشقة. وقيل: يلزمهم كل سنة مرة هذا كله إذا كان الداخل غير مقاتل ، فإن دخل مقاتلا أو خائفا من قتال باغ أو قاطع طريق ، أو خائفا من ظالم لتعذر ظهوره بالنسك كما اتفق عام الفتح فلا يجب ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح ، وعلى رأيه المغفر ولو كان محرما لم يلبسه. وقد كان خائفا من غدر الكفار وعد قبولهم للصلح الواقع بينه وبين أبي سفيان. هكذا استدل به أصحابنا ، وهو مردود ،لأن من خصائصه عليه السلام دخول مكة بغير إحرام ، وإن قلنا بالوجوب على غيره كما ورد في كتاب النكاح ، اللهم إلا أن يقال: الداخلون معه لم ينقل عنهم إحرام ولا أنه أمرهم به واستدل بعضهم بما روى مسلم عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام. دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام وللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: النفي ، والإثبات ، والتفصيل بين من هو داخل المواقيت. ومن هو قبلها ، فمن قبلها لا يجاوزها إلا بإحرام ومن هو داخلها فله حكم أهل مكة ، وهذا قول أبي حنيفة. والقولان الأولان للشافعي وأحمد.

الثامن والخمسون:

لا دم على المتمتع والقارن إذا كان من أهل مكة لقوله تعالى: ((ذلك لمن

ص: 177

لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام)). وهل المراد من دون مرحلتين من مكة أو من الحرم؟ وجهان ، أصحهما عند الرافعي الأول ، وعند النووي الثاني ، ويتأيد بما قاله الماوردي وغيره أن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية ، الحرم كله.

التاسع والخمسون:

لا يجوز إحرام المقيم به بالحج إلا فيه ، ولو أحرم خارجه كان مسيئا.

الستون:

إنه يجب قصده للحج والعمرة على المستطيع ، ولا يجب ذلك في موضع آخر بالاتفاق وبهذا احتج الشيخ عز الدين لتفضيله على المدينة. قال ، لأنه إذا كان للملك داران وأوجب على رعيته إتيان أحداهما دون الأخرى دل ذلك على أن اهتمامه بتلك أقوى. وأنها أرجح عنده من الأخرى.

الحادي والستون:

إن التلبية تستحب للمحرم في مساجد النسك ، كالمسجد الحرام ، ومسجد الخيف بمنى ، ومسجد إبراهيم بعرفة ، وأما غيرها فقولان ، القديم ، أنه لا يسن فيها حذرا من التشويش على المتعبدين بخلاف المساجد الثلاثة السابقة ، فإنها معهودة فيها ، والجديد. نعم. لعموم الأخبار.

ص: 178

الثاني والستون:

كره مالك القران لأهل مكة. وهو الجمع بين الحج والعمرة ، وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك للمكي ، فإن فعل فعليه هدي. وقال: إن تمتع فلا شيء عليه ، ففرق بين دم القران والتمتع. وقال ابن مسدى: تقر على أصول أبي حنيفة ومالك والشافعي أن المكي لا يجوز له أن يحرم إلا بحج مفرد ، وهو مذهب جمهور العلماء إلا أن مالكا والشافعي وأحمد قالوا: إن تمتع أو قرن لزمه ، ولا يلزمه لهادم بالنص.

الثالث والستون:

كره مالك لأهل مكة والمجاورين بها الاعتمار. وقال: يا أهل مكة ، ليس عليكم عمرة ، إنما عمرتكم الطواف بالبيت ، وهو قول عطاء وطاوس بخلاف غيرهم من أهل الآفاق فإنها واجبة عليهم وحكى ذلك عن أحمد أيضا إلا أن أبا يعلى ابن الفراء من أصحابه تأول قول أحمد: لا عمرة على أهل مكة ، فقال: يريد بذلك لا عمرة عليهم مع حجهم ، لأنهم قد تقدم منهم فعلها في أثناء السنة في غير وقت الحج. قال ابن مسدي: وقول أحمد هو قول لأهل الأثر ، ولم يكن أبو يعلى من الخائضين في غمار الآثار. والإكثار من العمرة مستحب عند الجمهور منهم الشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل ، وأهل الظاهر ، ونقله ابن حزم عن علي بن أبي طالب وابن عمرو وابن عباس وأنس وعائشة ومن التابعين عكرمة وعطاء وطاوس ،

ص: 179

وكذلك قال ابن المنذر في الإشراف. وخالف مالك فقال: لا يعتمر في السنة إلا مرة واحدة ، فإن اعتمر بعدها لزمته. نقله القرافي ، في الذخيرة. وحكاه ابن حزم عن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين وابراهيم النخعي واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في عام إلا مرة واحدة. قال في المحلي: ولا حجة فيه ، وإنما يكره ما حض على تركه وهو أنه عليه السلام ما حج منذ هاجر إلا حجة واحدة ، ولا اعتمر منذ هاجر إلا ثلاث عمر ، وعمرة مع حجته ، فيلزمهم أن يكرهوا الحج إلا مرة واحدة في العمر. قلت: وقد روى الترمذي عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجج حجتين قبل الهجرة ، وحجة معها عمرة ، لكن فيه ضعف ، وفي الصحيح عن أنس: أنه عليه السلام اعتمر أربع عمر ، إحداها في رجب وأنكرته عائشة. قال ابن العربي في العارضة: وإنكارها صحيح ، وإنما هي عمرة الحديبية ، المصدود عنها وعمرة القضاء ، وعمرة الجعرانة ، وعمرة مع حجة. قال ابن حزم: ويلزمهم أن يكرهوا العمرة إلا ثلاث مرات في العمر والدهر. وهو خلاف قولهم وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على العمرة ، وأخبر أنها تكفر ما بينها وبين العمرة الثانية كما ثبت في الصحيحين ، وفي السنن: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما تنفيان الفقر والهون كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة

ص: 180

والذهب. رواه الترمذي. وصححه وروى الدارقطني عن عائشة مرفوعا من مات حاجا أو معتمرا لم يعرض ولم يحاسب ، وقيل له: ادخل الجنة. وكان علي يعتمر في كل شهر مرة. رواه سعيد بن منصور. واعتر ابن عمر في عام واحد عمرتين واعتمرت عائشة ثلاث مرات في عام واحد. رواها ابن حزم. وعن أنس: أنه أقام بمكة ، فكان كلما جمم رأسه خرج. فاعتمر ، رواه ابن حزم. قال المحب الطبري: يروى بالحاء المهملة: أي أسود وصلح للحلاق ويروي بالمعجمة من الجمة. انتهى. وصوابه الجيم ، إذ المعجمة والمهملة إنما يذكران فيما يلتبس في الخط. وقد أفردت الكلام على التفضيل بين العمرة والطواف في جزء.

الرابع والستون:

مذهبنا أن مكة فتحت صلحا لا عنوة لكن دخلها صلى الله عليه وسلم للقتال خوفا من غدر أهلها.

الخامس والستون:

استحب السلف للقادم من مكة ألا يخرج منها حتى يختم القرآن جميعه لا سيما في الطواف وروى استحباب ذلك في المساجد الثلاثة التي تشد إليها

ص: 181

الرحال. قال ابراهيم النخعي: كان يعجبهم إ ذا قدموا مكة ألا يرجعوا حتى يختموا القرآن. رواه سعيد بن منصور.

السادس والستون:

يجب على من خرج من مكة – وإن يكن قد حج أو اعتمر. إلى مسافة تقصر فيها الصلاة مكيا أو غير مكيا – أن يطوف للوداع تعظيما للحرم على أصح الوجهين ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ينفرن أحد جتى يكون آخر عهده بالبيت)) ، هكذا قال الرافعي: وهو بناء على أنه ليس من المناسك وبه صرح النووي أيضا.

لكن نص الشافعي في الأم على أنه من المناسك فيقتضي اختصاص الطواف بالخارج إلى وطنه حاجا كان أو معتمرا.

السابع والستون:

يستحب أن ينوي الاعتكاف كلما دخل المسجد فإنه يحتسب له ، ويثاب عليه ولو في لحظة ، وينبغي أن يهتم بهذا. ولا يتغافل عنه لتحصل له فضيلة العاكفين فيه ، إذ لا تحصل إلا بالنية ، وكذلك يستحضر قوله صلى الله عليه وسلم لذين يظلهم الله في ظله:((ورجل قلبه معلق بالمساجد)).

الثامن والستون:

يستحب التطيب لزيارة البيت لغير المحرم ، ففي الصحيح عن عائشة:((طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله حين يريد أن يزور البيت)).

ص: 182

التاسع والستون:

استحب جماعة من السلف استلام الحجر عند الخروج من البيت سواء كان عقب طواف أم لا. روى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير ، وطاوس وابراهيم النخعي وغيرهم ، وحكى ابن أبي زيد: في النوادر عن مالك في الموازية: أنه لا بأس به.

السبعون:

يستحب تطييب الكعبة قالت عائشة: لأن أطيب الكعبة أحب إلى من أن أهدي لها ذهبا أو فضة. وقالت: طيبوا البيت ، فإن ذلك من تطهيره.

تعني قوله: ((وطهر بيتي)). وخلّق ابن الزبير جوف الكعبة أجمع. وكره مالك وأحمد بن حنبل تخليقها أيام الحاج. وقد تقدم أنه لا يجوز أخذ شيء منه وأن من أراده للتبرك أتى بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه.

الحادي والسبعون:

إنها دار إسلام أبدا لا يتصور فيها خلافة. وهذا أحد التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد الفتح ، أي من مكة ، لأنها دار إسلام ، وإنما تكون الهجرة من دار الحرب ، وهذا يقتضي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها تبقى دار إسلام ، لا يتصور منها الهجرة ، وقيل: بل معناه: لا هجرة بعد الفتح ، فضلها كفضلها قبل الفتح. وفي صحيح

ص: 183

مسلم في كتاب العظمة والأهوال عن أبي سفيان عن جابر قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم)).

الثاني والسبعون:

المحافظة على الموت بها فروى الدارقطني عن أحمد بن محمد بن أبي شيبة حدثنا محمد بن هشام المروروذي. ثنا محمد بن الحسين. الهمداني. ثنا عائذ المكتب عن طاء بن أبي رباح عن عائشة مرفوعا: من مات في هذا الوجه من حاج أو معتمر لم يعرض ولم يحاسب ، وقيل له: ادخل الجنة. ورواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث محمد بن إسحق عن حميد عن عطاء عن أبي هريرة مرفوعا ، من خرج حاجا أو معتمرا ، أو غازيا ثم مات في طريقه كتب الله له أجر الغازي والحاج والمعتمر إلى يوم القيامة ، ورواه صاحب التذكرة والتبصرة من رواية محمد بن اسماعيل القرشي المدني. ثنا عبيد الله بن نافع عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر مرفوعا: من مات بين الحرمين حاجا أو معتمرا بعثه الله يوم القيامة لا حساب عليه ، ولا عذاب. ورواه الدارقطني من حديث حاطب. من مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة ، وأخرج البزار في مسنده عن ابن جريج عن ابراهيم ابن أبي خداش عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نعم المقبرة

ص: 184

هذه)) قال ابن جريج: يعني مقبرة مكة. قال البزار: وهذا لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه. وابراهيم بن أبي خداش رجل من أهل مكة لا يعلم حدث عنه إلا ابن جريج.

الثالث والسبعون:

اختلف السلف أيما أفضل البداءة بمكة أو المدينة؟ وهي مسألة عزيزة ، وممن نص عليها ، وحكى الخلاف فيها ابن أبي شيبة في مصنفه ، والإمام أحمد في كتاب المناسك الكبير له. رواها ابن ناصر بإسناده إلى عبد الله ابن أحمد عن أبيه. قال في هذه المناسك سئل عمر عمن يبدأ بالمدينة قبل مكة؟ فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد قالوا: إذا أردت مكة فلا تبدأ بالمدينة وابدأ بمكة ، فإذا قضيت حجك فامرر بالمدينة إن شئت ، وبإسناده عن ابراهيم النخعي ومجاهد: إذا أردت مكة ، فاجعل كل شيء لها تبعا ، وذكر بإسناده عن عدي بن ثابت أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبدءون بالمدينة إذا حجوا. يقولون: نهل من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر ابن أبي شيبة في مصنفه هذا الأثر أيضا عن وكيع عن اسرائيل عن جابر عن عدي بن ثابت به ، ثم روى بإسناده عن علقمة والأسود وعمرو بن ميمون أنهم بدءوا بالمدينة قبل مكة. وقال الموفق بن قدامة الحنبلي: قال أحمد: وإذا حج الذي لم يحج قط – يعني من غير الشام ، لا يأخذ على طريق المدينة ، لأني أخاف أن يحدث به حدث فينبغي أن يقصد مكة من أخصر الطرق ، ولا يتشاغل بغيره وممن نص على هذه المسألة أيضا الإمام أبو حنيفة وقال: الأحسن أن يبدأ بمكة ، حكاه أبو الليث السمرقندي. وقال العبدي المالكي

ص: 185

في شرح الرسالة: أن المشي إلى المدية لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة، ومن بيت المقدس.

الرابع والسبعون:

انعقد الإجماع كما قال القاضي بن عياض وغيره – على أن أفضل بقع الأرض على الإطلاق المكان الذي ضم جسده صلى الله عليه وسلم وعلى أن مكة والمدينة أفضل بقاع الأرض بعده. ثم اختلفوا في أيها أفضل؟ فذهب عمر وغيره من الصحابة إلى تفضيل المدينة ، وهو قول مالك وأكثر المدنيين. وذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأكثر العلماء إلى تفضيل مكة. وبه قال ابن وهب وابن حبيب وأصبغ من المالكية. قال العبدري وهو مذهب أكثر الفقهاء ، قال ابن حزم: روى القطع بتفضيل مكة على المدينة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جابر وأبو هريرة وابن عمر وابن الزبير وعبد الله بن عدي ، منهم ثلاثة مدنيون بأسانيد في غاية الصحة. وهو قول جميع الصحابة أو جمهورهم. وقال ابن عبد البر: إنه روى عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر قال: وحسبك بفضل مكة ، أن فيها بيت الله الذي رضى الله بحط أوزار العباد بقصده في العمر مرة ولم يقبل من أحد صلاة إلا باستقبال جهته إذا قدر على التوجه إليها وهي قبلة المسلمين أحياء وأمواتا انتهى. والحجة فيه أحاديث ، الأول – ما رواه النسائي والترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته

ص: 186

بمكة يقول: لمكة: والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ماخرجت. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال ابن حزم: سنده في غاية الصحة وأخرجه ابن حبان في الصحيح ورواه أحمد في مسنده ولفظه والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله.

الثاني: مارواه النسائي أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق الحزورة: يا مكة والله إنك لخير أرض الله وأحب البلاد إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت. قال الدارقطني أصحاب الحديث يقولون: الحزورة بالتشديد. وقال اللغويون: هي الحزورة مخففا وقال ابن الأثير في النهاية: الحزورة موضع بمكة عند باب الحناطين ، وهي بوزن قسورة. قال الشافعي: الناس يشددون الحزورة والحديبية. وهما مخففان.

الثالث: مارواه الترمذي وصححه عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمكة: ما أطيبك وأحبك إلي؟!! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض. الحديث وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: لا. قال: بلدنا إلى آخره. ومن طريق أبي صالح عن جابر وابن عمر أنهما يشهدان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الناس: أي بلد أعظم حرمة؟ فأجابوه بأنه مكة. وهذا إجماع من الصحابة بتقريره صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم

ص: 187

تضعيف الحسنات فيها وغير ذلك. ونحن لا ننكر فضل المدينة. كيف وقد ورد فيها ما ورد؟! ففي الصحيحين عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة.

ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجابة بلا شك. وفي الصحيح أن الملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاعون ولا الدجال وأنه صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لا بتيها ، وأنه لا يصبر أحد على لأوائها إلا كنت له شفيعا يوم القيامة وهذه الأحاديث تدل على إثبات الفضيلة لا الأفضلية. واحتج من ذهب إلى تفضيل المدينة بأمور منها – أن الله تعالى بدأ بها في قوله:((وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق)). والمخرج الصدق: مكة. والمدخل الصدق: المدينة. والسلطان النصير: الأنصار. وكان القياس أن يبدأ بمكة ، لأنه خرج منها قبل أن يدخل المدينة. ويأبى الله أن ينقل نبيه إلا إلى ما هو خير منه. والجواب أن البداءة بها في الذكر لا يعين أفضليتها ، وإنما التقديم غايته الاهتمام. واهتمامه بأمر المدخل أعظم من المخرج. فإنه حاصل فيه. فلهذا بدأ به ، ومنها ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام. وتأولوه على أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة بمسجد مكة بدون الألف. قلت: وعندنا أن المراد إلا المسجد الحرام ، فإنه أفضل من مسجدي ، ويحتمل

ص: 188

إلا المسجد الحرام ، فإن الصلاة فيهما سواء ، فهذه ثلاث احتمالات ، فلا يصار إلى شيء منها إلا بدليل خارجي. وهو معنا ، فيتعين المصير إليه وهو حديث عبد الله بن الزبير: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ، رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه وإسناده على شرط الصحيح ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث وشواهده الكثيرة. بمزيد بسط في الرابع والعشرين فلا يحتاج إلى إعادته ، ومنها ما رواه الطبراني في معجمه الكبير والبخاري في تاريخه بإسنادهما عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المدينة خير من مكة. وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن الرداد. وقد تكلم فيه. قال أبو حاتم: ليس بقوي. وقال ابن عدي: عامة روايته ليس محفوظة ، وقال ابن عبد البر: هو حديث ضعيف لا يحتج به. وقيل: إنه موضوع. وقال الذهبي في ميزانه ليس هو ، وقد صح في مكة خلافه ومنها ما رواه الحاكم في المستدرك من قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي ، فأسكني في أحب البقاع إليك. وعنه جوابان ، أحدهما أنه حديث لا يصح. قال ابن عبد البر في الاستذكار: لا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه وقال ابن حزم في كتاب الأحكام: وهو حديث لا يسند ، وإنما هو مرسل. ورواه ابن وهب في موطئه من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن محمد بن اسماعيل عن سليمان بن بريدة أو غيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أمره الله بالخروج قال: اللهم إنك أخرجتني

ص: 189

من أحب بلادك إلي فأسكني أحب البلاد إليك. قال فهذا مرسل. ومحمد بن الحسن بن زبالة ضعيف هالك.

الثاني: على تقدير صحته: أنه أراد أحب البقاع إليك بعد مكة بدليل حديث النسائي السابق ، إن مكة خير بلاد الله. وهذا التأويل متعين لتجتمع به الأحاديث. ولا تتضاد ، ويدل له قوله في الحديث فأسكني في أحب البقاع إليك. وهذا المساق يدل في العرف على أن المراد به بعد مكة ، فإن الإنسان لا يسأل ما أُخرج منه ، فإنه قال: أخرجتني فأسكني فدل ، على إرادة غير المخرج منه. وتكون مكة مسكوتا عنها في الحديث. قال الشيخ عز الدين في قواعده: هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن صح فهو من المجاز من باب وصف المكان بصفة ما يقع فيه. ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر كقوله: بلدة طيبة ، وصفها بالطيب الذي هو صفة لهوائها. وكذلك الأرض المقدسة ، فكذلك وصفه بكونه محبوبا هو وصف لما حصل فيه مما يحبه الله ورسوله. وهو إقامة رسول الله به وإرشاده أهله إلى ما بعث به. قال: وأحسن من هذا أن يكون المعنى أخرجتني من أحب البقاع إلي في أمر معاشي. فأسكني في أحب البقاع إليك في أمر معادي. قال: وهذا متجه ظاهر انتهى. ومنها: أن عمر قال لعبد الله ابن عياش بن أبي ربيعة أنت القائل مكة خير من المدينة؟ فقال له عبد الله: هر حرم الله وأمنه وفيها بيته فقال له عمر: لا أقول في حرم الله ولا في

ص: 190

بيته شيئا ، قال ابن حزم. هذا حجة عليهم لا لهم ، لأن عمر لم ينكر على عبد الله ما استدل به بل أقره على ذلك ونحن نوجدهم عن عمر تصريحا بأفضلية مكة. وهو ما رواه ابن وضاح عن حامد بن يحيى البلخي ثنا ابن عيينة عن زياد بن سعد أنا سليمان بن عتيق. سمعت عبد الله بن الزبير سمعت عمر بن الخطاب يقول: صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حزم: فهذا سند كالشمس في الصحة. وروى مثل ذلك عن ابن الزبير قال ابن مهدي: فهذان صاحبان: لا يعرف له مخالف من الصحابة. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب قال: ومن نذر أن يعتكف في مسجد إيلياء ، فاعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أجزأ عنه. ومن نذر أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه ، فهذا فقيه أهل المدينة يصرح بفضل مكة على المدينة ، ومنها صح قوله صلى الله عليه وسلم. ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة. وصح أنه عليه السلام قال: لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها. وبمجموع الحديثين ثبت أن المدينة خير الأرض ، وهذا الاستدلال تبجح به بعض أهل العصر وادعى أنه القطعى في الباب ، وهو مردود لأنه ليس المراد بكونها روضة من رياض الجنة أنها قطعة منها ، بل العمل فيها موصل إلى الجنة. فلا يتلاقى مع الحديث الآخر ، ولأنه ليس فيه إلا فضل هذه البقعة بخصوصها ، وليس

ص: 191

الكلام إلا في مطلق المدينة خلا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الشيخ عز الدين فضلت مكة المدينة من وجوه.

أحدها: وجوب قصدها للحج والعمرة وهما واجبان لا يقع مثلهما بالمدينة.

الثاني: إن فضلت المدينة بإقامته صلى الله عليه وسلم فيها بعد النبوة (كانت مكة أفضل منها لأنه أقام بها بعد النبوة ثلاث عشرة أو خمس عشرة سنة وأقام بالمدينة عشرا).

الثالث: إن فضلت المدينة بكثرة الطارقين من عباد الله الصالحين. فمكة أكثر طارقا منها سيما من الأنبياء والمرسلين ، آدم فمن دونه الذين حجوها.

الرابع: التقبيل والاستلام ضرب من الاحترام وهما مختصان بالركنين اليمانيين. ولم يوجد مثل ذلك في المدينة.

الخامس: أن الله تعالى: أوجب علينا استقبالها في الصلاة حيثما كنا.

السادس: أن الله تعالى حرم استقبالها واستدبارها عند الحاجة.

السابع: أن الله تعالى حرمها يوم خلق السموات والأرض.

الثامن: أن الله تعالى بوأها لإبراهيم وابنه إسماعيل ومولدا لسيد المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ص: 192

التاسع: أن الله جعلها حرما آمنا في الجاهلية والإسلام.

العاشر: لا يدخلها أحد إلا بحج أو عمرة وجوبا أو ندبا.

الحادي عشر: قال فيها عز وجل: ((إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام)).

الثاني عشر: أنه اغتسل لدخولها فهو مسنون

قال ابن حزم: والمراد بمكة في قولنا: هي أفضل ، الحرم كله وما وقع عليه اسم عرفات فقط ، ويليها في الفضل المدينة يعني حرمها وحده ثم بيت المقدس يعني المسجد الأقصى وحده انتهى.

الخامس والسبعون:

إن الصلاة وإن كانت مكروهة في المقابر كما جاء في الحديث ونص عليه الفقهاء لكن يستثنى منه مقابر الأنبياء صلوات الله عليهم ، وإن لم يصرح به الفقهاء. لأن الله تعالى عصم ذواتهم الشريفة عن أكل الأرض وإنما ذكرت هذا لأن البيهقي ذكر في مناقب أحمد بن حنبل – وهو كثير الفوائد – أن أحمد بن حنبل روى فقال: حدثنا يحيى بن سليم الطائفي

ص: 193

عن عبد الله بن عثمان عن خيم عن عبد الرحمن بن ساباط عن عبد اله بن ضمرة السلولي قال: ما بين المقام إلى الركن إلى بئر زمزم إلى الحجر قبر سبعة وسبعين نبيا جاءوا حاجين فماتوا فقبروا هناك. قال أحمد بن حنبل: لم أسمع من يحيى بن سليم غير هذا الحديث الواحد انتهى.

وقد اشتهر أن قبر اسماعيل وأمه في الحجر ومع ذلك فلم يقل أحد بكراهة الصلاة فيه بل فيه ما فيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل. وكذلك مسجد الخيف قال الطبراني: في معجمه حدثنا عبد الله بن أحمد. ثنا عيسى بن شاذان. ثنا أبوهمام الدلال ثنا إبراهيم بن طهمان عن منصور عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا. وقال أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي مما وقع لي في تأملات الحج: السلام على قبور الأنبياء كآدم ، ومن تبعه فقد روى أنه ما من نبي خرج بعد عذاب قومه إلا إلى مكة ودفن بها وأن بها مثين أو ألوفا من الأنبياء.

السادس والسبعون:

روى عن بعض السلف: أن الملك إذا نزل إلى الأرض في بعض أمور الله تعالى: فأول ما يأمره الله تعالى به زيارة البيت. فينقض من تحت العرش

ص: 194

محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ثم يطوف بالبيت سبعا ويركض ركعتين ثم يغدو لحاجته بعد.

السابع والسبعون:

ذكر جماعة: أنه البيت المعمور الذي أقسم الله به. حكى ذلك عن ابن عباس والحسن ، معمور بمن يطوف به ، وعن محمد بن عباد بن جعفر أنه كان يستقبل الكعبة ويقول: واحد بيت ربي ، ما أحسنه ، وأجمله؟ هذا والله البيت المعمور. وقيل: هو البيت الذي بناه آدم أول ما نزل إلى الأرض فرفع إلى السماء أيام الطوفان يدخله كل يوم سبعون ألف ملك. والملائكة تسمية الضراح بالضاد المعجمة. لأن ضرح عن الأرض إلى السماء ، أي بعد عنها. وقال أبو الطفيل: سمعت عليا – وسئل عن البيت المعمور فقال: ذلك الضراح ، بيت بحيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم القيامة. وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: ويقال له: الضريح ، ومن قال الضراح فهو اللحن الصراح وقيل: البيت المعمور في السماء الدنيا وقيل: في الرابعة. وقيل في السادسة. وقيل: في السابعة وقيل: غير ذلك. وقال أبونعيم الحافظ في مستخرجه على صحيح البخاري: حدثنا عمرو بن حمدان ثنا الحسن بن سفيان. ثنا هدبة ثنا همام بن يحيى عن قتادة ثنا الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله

ص: 195

عليه وسلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك فلا يعودون إليه. قال: هذا الحديث علقه البخاري في باب ذكر الملائكة فقال: وقال همام عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة: في البيت المعمور ، ولم يزد. انتهى. فإن قيل: هذا مرسل ، لأن ابن أبي حاتم ذكر في كتاب المراسيل عن ابن المديني وأبي زرعة وغيرهما أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة والجواب أن الصحيح ثبوت سماعه منه. وحكاه الدارقطني عن موسى بن هرون وغيره. ونص عليه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. وهو ظاهر كلام البخاري. وشرط مسلم لإمكان لُقيّه.

الثامن والسبعون:

كونه بواد غير ذي زرع ، والأرزاق من كل قطر تجلب إليه من قريب ومن بعيد.

التاسع والسبعون:

ذكر أبو القاسم العتقي من المالكية قال: سمعت أن الحرم يعرف بألا يجئ سيل من الحل فيدخل الحرم. قال ابن عطية في تفسيره وهذا ، لأن الله تعالى جعله بربوة أو في حكمها ليكون أصون له.

الثمانون:

ذكر مكي وغيره أن الطير لا تعلوه وإن علاه طائر ، فإنما ذلك لمرض

ص: 196

به يستشفى بالبيت. قال ابن عطية: وهذا عندي ضعيف والطير يعاين بعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره.

وتلك كانت من آياته انتهى. وليس في هذا ما ينافي كلام مكي.

الحادي والثمانون:

ما ذكره الناس قديما وحديثا أنه إذا عم المطر من جوانبه الأربع في العام الواحد أخصبت آفاق الأرض. وإن لم يصب جانبا منه لم يخصب ذلك الأفق الذي يليه ذلك العام.

الثاني والثمانون:

أمر الفيل ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل ، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر.

الثالث والثمانون:

ذكر ابن هشام في سيرته: أن الماء لم يصل إلى البيت المعظم حين الطوفان ولكنه قام حولها وبقيت هي في هواء السماء ، وأن نوحا قال لأهل

ص: 197

السفينة – وهي تطوف بالبيت: إنكم في حرم الله وحول بيته فأحرموا لله ولا يمس أحد امرأة ، وجعل بينهم وبين النساء حاجزا فتعدى بنو حام فدعا نوح أن يسود لون بنيه. وقيل في سبب دعوة نوح على حام غير هذا. وذكر يحيى بن سلام عن ابن عباس قال: أول من عاذ بالكعبة حوت صغير من حوت كبير فعاذ منه بالكعبة. وذلك أيام الطوفان.

الرابع والثمانون:

إنه لا يدخله أحد إلا متواضعا خاشعا متذللا مكشوف الرأس متجردا عن لباس الدنيا بخلاف غيره من البقاع.

الخامس والثمانون:

إنه سبحانه أقسم به في موضعين من كتابه فقال: ((وهذا البلد الأمين)) وقال: ((لا أقسم بهذا البلد)) أي أقسم ، لأن لا في هذا الموضع عند النحويين صلة.

السادس والثمانون:

أنه سبحانه وتعالى أضافه لنفسه في قوله تعالى: ((وطهر بيتي للطائفين)) وناهيك بهذه الإضافة المنوهة بذكره المعظمة لشأنه ، الرافعة لقدره – وهي السر في إقبال قلوب العالمين عليه وعكوفهم لديه:

ص: 198

أطوف به والنفس بعد مشوقة

إليه وهل بعد الطواف تداني

وألثم منه الركن أطلب بردما

بقلبي من شوق ومن هيمان

فو الله ما أزداد إلا

صبابة

ولا القلب إلا كثرة الخفقان

فيا جنة المأوى ويا غاية المنى

ويا منيتي من دون كل أماني

أبت غلبات الشوق إلا تقربا

إليك فما لي بالعباد يدان

وماكان صدي عنك صد ملالة

ولي شاهد من مقلتي ولساني

دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا

فلبى البكا والصبر عنك عصاني

وقد زعموا أن المحب إذا نأى

سبيلي هواه بعد طول زمان

ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا

دواء الهوى في الناس كل أوان

يل إنه يبلى التصبر والهوى

على حاله لم يبله الملوان

وهذا محب قاده الشوق والهوى

بغير زمام قائد وعنان

أتاك على بعد المزار ولو ونت

مطيته جاءت به القدمان

السابع والثمانون:

أنه سبحانه عطف القلوب والأفئدة إليه دون غيره من البلاد ، فهي للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد. فهو أولى بقول القائل.

محاسنة هيولى كل حسن

ومغناطيس أفئدة الرجال

ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس أي يثوبون إليه على تعاقب الأعوام

ص: 199

من جميع الأقطار ولا يقضون منه وطرا بل كلما قربوا منه ، ازدادوا شوقا.

لا يرجع الطرف عنها حين يبصرها

حتى يعود إليها الطرف مشتاقا

والسر في هذا التوقان دعاء الخليل صلى الله عليه وسلم في قوله: ((فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)) وما يروى أن الله تعالى يلحظ الكعبة في كل عام لحظة في ليلة نصف شعبان فعند ذلك تحت إليها قلوب المؤمنين.

وقيل: سبب الشوق أنه أخذ الميثاق من بني آدم ثم وهذا منزع إلى أن حب الوطن من الإيمان.

الثامن والثمانون:

روى في حديث: وعد هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف ، فإن نقصوا أكملهم الله بالملائكة.

التاسع والثمانون:

روى أن الكعبة تحشر كالعروس المزففة ، ومن حجها تعلق بأستارها حتى تدخلهم الجنة.

التسعون:

أنها منذ خلقت ما خلت من طائف يطوف بها من جن أو إنس ، أو ملك ،

ص: 200

وعن بعض السلف أنه خرج في يوم شديد الحر فرأى حية تطوف وحدها. ذكره ابن الصلاح.

الحادي والتسعون:

روى ابن حبان في صحيحه في حديث طويل مرفوعا: أن الحاج إذا قضى آخر طوافه بالبيت خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وفي سنن سعيد بن منصور عن عمر أنه قال: من أتى هذا البيت لا ينتهزه غيري صلاة فيه ، رجع كيوم ولدته أمه.

الثاني والتسعون:

أن أهلها يقال لهم: أهل الله. قال ابن أبي مليكة كان السلف يلقبونهم بذلك. وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه لما استعمل عتاب بن أسيد على مكة قال ، أتدري ، على ما استعملتك؟ استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيرا يقولها ثلاثا.

ص: 201

الثالث والتسعون:

فضل مقبرتها – فعن ابن عباس: أنه صلى الله عليه وسلم قال لمقبرة مكة: نعم المقبرة هذه. أخرجه البزار. وقد سبق. وعن ابن مسعود قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ، ثنية المقبرة ، وليس بها يومئذ مقبرة قال: يبعث الله عز وجل من هذه البقعة ، أو من هذا الحرم كله سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر. قال أبو بكر ومن هم يا رسول الله؟

قال: هم الغرباء.

الرابع والتسعون:

تخصيصها بالمشاعر العظام كمنى ، وفيها الآيات العظيمة كما سبق بيانه.

الخامس والتسعون:

تخصيصها بالحجر الأسود ، وأنه يمين الله في الأرض ، وفي فضائل مكة للجندي عن اسحق بن ابراهيم بن عبيد. ثنا ابراهيم بن الحكم. ثنا أبي. ثنا وهب بن منبه عن طاوس عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا ما طبع الله الركن من أنجاس الجاهلية وأرجاسها وأيدي

ص: 202

الظلمة والأثمة لا ستشفى به من كل عاهة ولألفاه الله كهيئته يوم خلقه الله ، وإنما غيره الله بالسواد لئلا ينظر أهل الدنيا إلى زينة الجنة وأنزله ياقوتة من ياقوت الجنة بيضاء وضعه لآدم حيث أنزله في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة ، والأرض يومئذ طاهرة لم يعمل فيها شيء من المعاصي ، وليس لها أهل ينجسونها ووضع لها صفا من الملائكة على أطراف الحرم يحرسونه من جان الأرض ، وسكانها يومئذ الجن ، وليس ينبغي لهم أن ينظروا إليه ، لأنه من الجنة ومن نظر إلى الجنة دخلها فهم على أطراف الحرم حيث أعلامهم اليوم يحدقون به من كل جانب بينه وبين الحرم. وفي مستدرك الحاكم وغيره شواهد تقويه ، وروى الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: إن الركن الأسود ، والركن اليماني ياقوتتان من الجنة ، ولولا ما طمس من نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية غيره ولأبرءا من استلمهما من الخرس والجذام والبرص. وذكر الزبير بن بكار أن أبا قبيس كان يسمى الأمين – لأن الركن كان مودوعا فيه ، وأنه نادى إبراهيم عليه السلام حين بلغ بالبناء إلى الركن ، فأخبره أن الركن منه ، ودله على موضعه

ص: 203

منه وزعم أبو طاهر القرمطي من الباطنية: أن للحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته ، وأنه مغنطيس بني آدم. ورد القرطبي بقول عمر رضي الله عنه: إنك حجر لا تضر ولا تنفع الحديث. وقلع القرامطة الحجر والباب ، وأصعدوا رجلا ليقلع الميزاب فتردى على رأسه إلى جهنم وبئس المصير ، وأخذوا الباب ، وأخذوا أسلاب مكة والحاج ، وألقوا القتلى في زمزم وهلك تحت الحجر من مكة إلى الكوفة أربعون رجلا فعلقه لعنه الله على الإسطوانة السابعة من جامع الكوفة إلى الجانب الغربي ظنا منه أن الحج ينتقل إلى الكوفة قال ابن دحية ، ثم حمل الحجر إلى هجر سنة سبع عشرة وثلثمائة. وبقى عند القرامطة اثنتين وعشرين سنة إلا شهرا ، ثم رد لخمس خلون من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلثمائة. وكان محكم التركي بذل لهم في رده خمسي ألف دينار فلم يفعلوا. وقالوا: أخذناه بأمر ، ولا نرده إلا بأمر. وقيل: إنهم باعوه من الخليفة المقتدر بثلاثين ألف دينار ، ولما أرادوا تسليمه أشهدوا عليهم أنهم تسلموا الحجر الأسود. وقالوا لهم بعد الشهادة: يا من لا عقل لهم من أمن منكم أن هذا هو الحجر الأسود ، ولعلنا أحضرنا حجرا أسودا من البرية عوضه ، فسكت الناس ، إذ كان فيهم عبد الله بن عكيم المحدث. فقال:

ص: 204

لنا في الحجر الأسود علامة. فإن كانت موجودة فهو ، هو ، وإن كانت معدومة فليس هو ، ثم رفع حديثا غريبا: إن الحجر الأسود يطفو على وجه الماء ، ولا يسخن بالنار إذا أوقدت عليه. فأحظر القرمطي طستا فيه ماء ووضع الحجر فيه فطفا على الماء ، ثم أوقدت عليه النار فلم يسخن بها فمد عبد الله المحدث يده وأخذ الحجر وقبله. وقال: أشهد أنه الحجر الأسود. فتعجب القرمطي من ذلك وقال: هذا دين مضبوط بالنقل. وأرسل الحجر إلى مكة. قال ابن دحية: عبد الله بن عكيم هذا لا يعرف والحجر الأسود جلد لا تحلل فيه. والذي يطفو على الماء يكون فيه بعض التحلل كالجفاف وشبهه. قال وللحجر الأسود علامات غير ذلك ، وعرضه وطوله معلوم عند جميع من ألف في أخبار مكة ، ولا يمكن التدليس فيه ، والنقطة البيضاء التي فيه من أكبر العلامات.

السادس والتسعون:

تخصيصها بماء زمزم الذي هو سيد المياه. وهو هزمة جبريل وهمزته بعقبه وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها مباركة. إنها طعام طعم (وتقوت أبو ذر الغفاري من مائها خاصة ثلاثين ليلة ويوما فسمن حتى تكسرت عكن بطنه وفي معجم الطبراني من طريق موسى بن هارون إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير ماء على

ص: 205

وجه الأرض ماءُ زمزم فيه طعام من الطعم]، وشفاء من السقم وشر ماءٍ على الأرض ماءٌ بوادي برهوت بحضرموت وعليه رجل الجراد من الهواء وفيه آيات بينات منها آنه يقتات به. ولهذا لا يجوز الاستنجاءُ به. ومنها أنه لما شرب له، وقد جاء ذلك من طريق صحيحة ذكرتها في الذهب الإبريز في تخريج أحاديث الفتح العزيز ومنها أن الله خصه بالملوحة ليكون الباعث عليه الملمح الإيماني، ولو جعله عذبا جدًا لغلب الطبع البشري، وبهذا يرد على أبي العلاء المعري قوله:

لك الحمد أمواه البلاد بأسرها

عذاب وخصت بالملوحة زمزم

ومنها أن الله تعالى يعظم ماءها في الموسم ويكثر كثرة خارقة كعادة الآبار، ويحلو، وقد شاهدنا ذلك وغيرنا، ومنها أنه يروي: أن مياه الأرض العذبة ترفع قبل يوم القيامة غير زمزم، قال ابن شعبان: العين التي تلي الركن من زمزم من عيون الجنة.

ص: 206

السابع والتسعون:

تخصيصها بمقام إبراهيم عليه السلام قال تعالى: فيه آيات بينات مقام إبراهيم. قال العلماء: وهو الحجر المعروف، وذلك أن إبراهيم عليه السلام قام عليه وقت رفعه القواعد من البيت لما طال به البناء فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار ثم إن الله تعالى لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنهما في طين فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار، قال مجاهد وغيره أثر قدميه في المقام آية بينة.

وقال أبو طالب:

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة

على قدميه حافيا غير ناعل

وقد كان ملصقا بجدار البيت حتى اخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف، ولا يشوشون على المصلي عنده بعد الطواف وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث

ص: 207

ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {مقام إبراهيم} قال: الحرم كله مقام إبراهيم، وفي رواية: الحج كله مقام إبراهيم، ولعله الحجر كله مقام إبراهيم كما قاله مجاهد.

الثامن والتسعون:

إن من رأي الكعبة في المنام فهي رؤيا حق كما روى الطبراني في معجمه من طريق عبد الرزاق أنا معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رآني في منامه فقد رأني، فإن الشيطان لا يتمثل بي، ولا بالكعبة، وقال تفرد به عن عبد الرزاق محمد بن أبي السري العسقلاني قال: وهذه اللفظة ولا الكعبة، لا تحفظ إلا في هذا الحديث.

التاسع والتسعون:

لو نذر إتيان المسجد الحرام، لزمه، لحديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد كما هو في الصحيحين وأصح الطريقين، أنه ينعقد نذره بحج أو عمره، ونص عليه الشافعي كما قاله القاضي الحسين لحديث أخت عقبة أنها نذرت أن تمشي إلى بيت الله فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تمشي بحج أو عمرة، لأن مطلق كلام الناذرين محمول على ما ثبت له أصل في الشرع [كمن نذر أن يصلي يلزمه الصلاة المعهودة شرعًا

ص: 208

والمعهود في الشرع]، والعرف قصد المسجد الحرام بالحج والعمرة فيحمل نذره عليه، ولهذه الطريقة مأخذان.

أحدهما: تنزيل مطلق النذر على أقل ما يجب بالشرع، وهو رأي الأقدمين من الأصحاب.

والثاني: أنه لا يجوز دخول الكعبة بغير إحرام، وهو الأصح إلا فيما استثنى، لأن الإتيان لا يتصور إلا بالدخول، وهو ملتزم للإحرام، والطريقة الثانية تخريج قولين في انعقاد النذر بذلك تشبيها له بانعقاد النذر بالإتيان للمسجدين، ولا فرق بين أن يقول: إلى مكة أو الحرم، أو المسجد الحرام، او مسجد الخيف، أو مقام إبراهيم، أو يعين بقعة في الحرم، حتى دار أبي جهل لشمول حرمة الحرم ذلك بدليل تحريم تنفير الصيد فيه. وقال أبو حنيفة: إنما ينعقد نذره إذا قال: إلى بيت الله الحرام أو إلى الكعبة، أو إلى مقام إبراهيم، وقد أغرب الغزالي في الوجيز فقال: ولو قال: إلى مكة لم يلزمه شيء، حتى يقصد الحج، قال الرافعي، ولا وجه له، والمذكور في الكتب خلافه، وأقره ابن الرفعة في المطلب على ذلك.

تمام المائة:

ولو نذر إتيان بيت الله، ولم يقل: الحرام، فوجهان، أصحهما ونقله البندنيجي عن نصه في الأم، أنه لا ينعقد نذره إلا أن ينوي البيت الحرام لأن جميع المساجد بيت الله وعن المزني، لزومه، لأن إطلاق البيت ينصرف إليه دون غيره واختاره في المرشد

ص: 209

الأول بعد المائة:

لو قال: لله على أن أستر الكعبة، أو أطيبها لزمه، لأنه عهد في الصدر الأول فدل على أنه مطلوب، واندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه، ولما فيه من التعظيم وعود النفع على الطائفين والقاطنين حوله، وعن ابن كج: أنه لا يجوز قصد كون الستر والطيب للكعبة بل ينبغي أن يجعله لعامة المسلمين ليتجملوا به.

الثاني بعد المائة:

لو نذر صلاة في الكعبة، جازت في أطراف المسجد الحرام، حكاه الإمام عن شيخه، وإن كان يقول: جاء في بعض الأخبار: صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد الحرام، وهذه الزيادة لم يصححها الأثبات فلا تعويل عليها، فيحكم بالتسوية كما لو عين زاوية في المسجد قلت: وظاهر كلام صاحب البيان أن الكعبة لا يقوم غيرها مقامها سواء عبر الناذر بلفظ الكعبة، أو البيت الحرام (فإنه قال في استقبال القبلة لما ذكر أن المراد بالمسجد الحرام في خبر المضاعفة الكعبة وما في الحجر من البيت قال: ولا فرق بين أن يقول عليه لله أن يصلي في المسجد الحرام أو في البيت الحرام) إذا ثبت أن البيت الحرام، إنما هو الكعبة، وكذلك المسجد الحرام نتهى، وظاهره أن التعبير بالمسجد الحرام كالتعبير بهما حتى

ص: 210

تتعين الكعبة أو ما في الحجر منها، فأما التعبير بالكعبة، أو بالبيت فالظاهر فيه ما قاله من التعبير وحينئذ فتكون المراتب أربعا، الكعبة ونحوها كالبيت، ثم المسجد الحرام ثم مسجد الكعبة، ثم الأقصى.

الثالث بعد المائة:

لو نذر أن يأتي عرفة، فإن نوى به الحج لزمه لاقتران النية بلفظ يحتمله، وإن لم ينو شيئا أصلا، لم يلزمه شيء لأن ذلك ليس بقربة، لأن عرفة من الحل، فنذر إتيانها من غير ملاحظة الوقوف كنذر إتيان سائر بقاع الحل، قاله الماوردي، ولو قيل: ينعقد نذره، كان مذهبا ويكون اللازم له الحج لاختصاص عرفة بالحج، لأن قصد عرفة يجب بالشرع فوجب بالنذر، ولا يطرد هذا فيما إذا نذر إتيان ميقات من المواقيت، لأنه لا يلزمه قصده شرعا لانعقاد الاحرام قبله، وهذا الاحتمال قد أجاب به القاضي حسين مرة، وقال مرة أخرى، إن خطر له شهود عرفة في يوم عرفة لزمه لما فيه من البركة، وهو ما حكاه الغزالي عنه أي بعد الزوال.

إذ هو وقت القربة، قال الإمام: والذي قطع به أئمتنا في الطرق عدم اللزوم، وجوابا القاضي مخالفان لما قاله الأصحاب، نعم، قال القاضي في تعليقه: لو صرح في كلامه بإتيان عرفة يوم عرفة لزمه الحج، ونسبه الرافعي لابن أبي هريرة، وأن المتولي قيده بما إذا قال: عرفة بعد الزوال.

الرابع بعد المائة:

لو نذر النحر وحده بمكة لزمه النحر بها، ويفرق اللحم على مساكين

ص: 211

الحرم، ولو نذر ذلك في بلد آخر لم يتعين بل يذبح حيث شاء هذا هو أصح الوجهين.

الخامس بعد المائة:

لو نذر قصده لزمه الذهاب إليه بحج أو عمرة كما سبق بخلاف غيره، من المساجد فإنه لا يجب عليه الذهاب إذا نذره إلا مسجد المدينة، والمسجد الأقصى على قول. والأظهر أنه لا يجب بل يستحب.

السادس بعد المائة:

لو نذر الصلاة بمكان لم يتعين إلا المسجد الحرام إذ لا يقوم غيره مقامه لعظم فضله وتعلق النسك به، ولو عين حرم المدينة، أو المسجد الأقصى للصلاة فالأظهر في التحرير عدم التعيين والراجح عند الأكثرين وصححه النووي تعينها بدليل، لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث.

السابع بعد المائة:

لا خلاف أن من عليه خمسمائة صلاة منذورة فصلى في أحد المساجد الثلاثة صلاة أنها لا تسقد العدد الملتزم بالنذر، ولا خلاف أن من نذر الصلاة في مسجد مفضول من الثلاثة فصلى في أفضل منه أنه يجزئه عن نذره، وإن لم يكن الذي عينه والحاصل أن الأعلى يجزيء عن الأدني ولا عكس.

ص: 212

الثامن بعد المائة:

قال القاضي أبو القاسم بن كج في كتاب التجريد: إذا نذر الاستسقاء في الصحراء، وعبارة الشافعي في المختصر، وأكثر الأصحاب مصلي العيد، وقد استثنى صاحب الخصال من قدماء أصحابنا، وهو أبو بكر الخفاف من أصحاب ابن سريج ما إذا كانوا بمكة أو بيت المقدس، فقال: ويخرجون إلى الجبانة إلا بمكة أو بيت المقدس انتهى، وهو حسن، وعليه عمل السلف والخلف. لفضل البقعة وسعتها.

العاشر بعد المائة:

أطلق أصحابنا، أن ما كثر جمعه من المساجد أفضل مما قل جمعه وقضيته: أنه لو أقيمت جماعة كثيرة بمكة أو المدينة، أو بيت المقدس في مسجد بها سوى المساجد الثلاثة أن يكون الذهاب إليه أفضل، وفيه نظر.

وقد أطلق المتولي أن الجماعة فيها أفضل من الجماعة في سائر المساجد على ترتيبها في الفضل: قال: وليس تختص الفضيلة بالجماعة فيها بل الانفراد فيها أفضل من غيرها من المساجد أي مع الانفراد أيضًا.

ص: 213

الحادي عشر بعد المائة:

اغتفر بعض المحققين من أصحابنا وغيرهم ذرق الحمام في الحرم، ولأجله اختار الروياني في الحلية طهارة بول ما يؤكل لحمه، قال: وعليه عمل أهل الحرمين، قال وهو الاختيار، قال: ولهذا لم ينزه الله منه أفضل البقاع وهو المسجد الحرام مع أمره بالتطهير في قوله، وطهر بيتي للطائفين. الاية، وأمر ألا ينفر عنه الحمام.

الثاني عشر بعد المائة:

من حفر بئرا في الحرم في موضع يمكله فسقط فيه الصيد ضمنه، نص عليه الشافعي في الأم كما نقله المرعشي في ترتيب الأقسام، قال وليس على من حفر بئرا في ملكه فسقط فيها ساقط ضمان، إلا في هذه المسألة.

الثالث عشر بعد المائة:

إذا سرق ستارة الكعبة، فنقل الحارث بن سريج النقال عن الشافعي: أن عليه القطع، قال: لأن نصبها حرزها، وهذا هو المذهب، وقال أبو حنيفة لا قطع فيها لأنها ليست ملكا لأحد، ولنا ان سارقا سرق قبطية، من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعه عثمان ولم ينكره أحد، فصار كالاجماع، ولأنها تراد للزينة، وما يراد لزينة المسجد يقطع به.

ص: 214

الرابع عشر بعد المائة:

أن من أنكر مكة أو البيت: أو المسجد الحرام، أو صفة الحج، أو أنه ليس على هذه الهيئة المعروفة، أو قال لا أدري: أن هذه المسماة بمكة هي مكة أو غيرها، لا شك في تكفير قائله، قاله النووي في زوائد الروضة ناقلا له عن القاضي عياض وغيره.

الخامس عشر بعد المائة:

قال أبو الفتح بن برهان الأصولي في كتابه الأوسط: تقدم رواية أهل الحرمين على غيرهم لأنهم أعلم بحاله عليه السلام من أهل العراق وغيرهم ولذلك قال بعض المحدثين: إذا جاوز الحديث الحرمين انقطع نخاعه يعني مكة والمدينة.

السادس عشر بعد المائة:

إن الدجال لا يدخلها لما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة ليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة حافين يحرسونها.

ص: 215

السابع عشر بعد المائة:

إن من حجه أو اعتمره لا يزال يزداد هيبة وتعظيماً وبراً كما أمرنا بالدعاء له في قولنا: وزد من عظمه ممن حجه أو اعتمره شريفاً وتعظيماً وبراً وهذا المعنى حسن لمن تأمله.

الثامن عشر بعد المائة:

كره جماعة من السلف اتخاذ الشجر بمكة حكى ذلك ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد طاوس. قال: لاينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.

التاسع عشر بعد المائة:

إنه يستحب للصائم أن يفطر على تمر، فإن لم يجد فعلى ماء. قال المحب الطبري في شرح التنبيه: ومن كان بمكة استحب له الفطر على ماء زمزم لبركته. ولو جمع بينه وبين التمر فحسن قال: والقصد بذلك ألا يدخل جوفه أولاً مامسته لنار ، ويحتمل أن يراد هذا مع قصد الحلاوة تفاؤلاً بها.

العشرون بعد المائة:

قال المحاملي في اللباب: ومن دخل مكة ، وأراد أن يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعل صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة انتهى.

ص: 216

وهذا فيه نظر ، لأن الاغتسال ذلك اليوم لم يكن للصلاة وتلك الصلاة إنما كانت للفتح.

الحادي والعشرون بعد المائة:

الابراد بالظهر يختص بالبلاد الحارة. وقد مثل الشافعي بالحجاز فقال في البويطى: فإذا كانت البلاد مؤذية الحر مثل الحجاز وبعض العراق أخرت الصلاة في شدة الحر انتهى لفظه. وفي الشامل: التمثيل بالحجاز أيضا ً.

الثاني والعشرون بعد المائة:

نقل النووي في شرح المهذب عن أصحابنا أنه يختلف قدر ما تزول عليه الشمس من الظل باختلاف الأزمان والبلاد. فأقصر ما يكون الظل عند الزوال في الصيف عند تناهي طول النهار وأطول ما يكون في الشتاء عند تناهي مضي النهار. ونقل القاضي أبو الطيب أن أبا جعفر الراسبي قال في كتاب المواقيت: إن عند انتهاء طول النهار في الصيف لا يكون بمكة ظل لشيء من الأشخاص عندالزوال ، ستة وعشرون يوماً قبل انتهاء الطول ، وستة وعشرون يوما بعد انتهائه ، وفي هذه الأيام حتى لم ير للشخص ظل، فإن الشمس لم تزل ، فإذا رأى الظل بعد ذلك ، فإن الشمس قد زالت ، وبقي أيام السنة ، معرفة الزوال بمكة كمعرفته بغيرها. ونقل الشيخ أبو حامد

ص: 217

في تعليقه أنه إنما لايكون للإنسان فيء بمكة عند الزوال إلا يوماً واحداً في السنة لا غير انتهى.

وقال ابن الصباغ تبقى الشمس سته وعشرين يوماً لايظهر للشخص فيء عند الاستواء بمكة لأنها في وسط الفلك فإذا ارتفعت الشمس لم يبق فيها شيء من له فيء حتى أن الشمس تنزل إلى قعر الآبار. قال القاضي أبو علي الفاروق. وهذا غلط ،لأن الشمس لو لم يظهر لها فيء كان ذلك لوقوفها. ولا يتصور وقوفها. فإنها لو وقفت لوقعت على ماقيل. ولكن يقل فيء الشخص تارة ، ويكثر تارة. وسر هذا أنها لاتزال في السير إلا أنها تهبط في زمن الشتاء. وترتفع في الصيف ،فإذا ارتفعت قل الفيء ،وإذا هبطت طال وكثر ، وأما عدم الفيء بالكلية فلا يتصور انتهى. وقال ابن يونس صاحب التعجيز في شرحه للوجيز: وربما لايبقى له ظل بمكة في سابع عشر حزيران فإنه أطول يوم في السنة. ومكة محاذية لقبة الفلك ، فتقع في مسامتة الخوص فلا يبقى له ظل انتهى.

الثالث والعشرون بعد المائة:

روى أبو القاسم الطبراني في معجمه الأوسط من طريق عبدالله بن المؤمل. ثنا عبد الله بن عبدالرحمن بن محيص عن عطاء ابن أبي رباح عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: احتكار الطعام بمكة إلحاد، وقال:

ص: 218

لم يروه عن عطاء إلا ابن محيصن تفرد به عبدالله بن المؤمّل. قلت: ولى قضاء مكة، وروى عنه الشافعي قال أبو حاتم: ليس بالقوى وقال أبو داوود: منكر الحديث.

الرابع والعشرون بعد المائة: روى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب بسنده إلى سفيان بن وكيع ثنا موسى بن عيسى الليثي عن زائدة عن سفيان عن محمد ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسكن مكة سافك دم ولا مشانيهم قال: وهذا الحديث بهذا الإسناد رواه غير واحد عن سفيان بن وكيع. وقوله: لا يسكن بجزم النون على النهى أي لا ينبغي أن يسكن. ولو روى بعضها على الخبر لكان خبرا بخلاف مخبره. ولا يجوز ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الخامس والعشرون بعد المائة:

ص: 219