المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر جملة من الخصائص والأحكام والفضائل - إعلام الساجد بأحكام المساجد

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌ الفاتحة في مدلول‌‌ المسجد لغةوشرعا وتوابع ذلك

- ‌ المسجد لغة

- ‌أول مسجد وضع على الأرض

- ‌أول بيت وضع للناس بالقاهرة

- ‌فصل بناء المساجد

- ‌الباب الأولفيما يتعلق بمكة والمسجدالحرام من خصائص

- ‌ذكر أصل بناء الكعبة المعظمة

- ‌ذكر أول من كسا البيت

- ‌ذكر حال انتهائه

- ‌ذكر من بنى المسجد الحرام

- ‌تبيين المراد بالمسجد الحرام

- ‌بيان المراد بحاضري المسجد الحرام

- ‌ذكر حدود الحرم

- ‌ذكر حدود البيت المحرم

- ‌ذكر حدود منى

- ‌خَيف منى

- ‌المزدلفة

- ‌عرفات

- ‌بيان الحجاز ما هو

- ‌جزيرة العرب

- ‌ذكر أسماء مكة

- ‌ذكر خصائصه وأحكامه

- ‌الباب الثانيفيما يتعلق بمسجد النبي صلىالله عليه وسلم والمدينة

- ‌ذكر بناء المسجد

- ‌تبيين حدود حرم المدينة

- ‌ذكر ما جاء في خراب المدينة

- ‌ذكر أسمائه

- ‌هل المدينة حجازية أو شامية

- ‌ذكر ما جاء في عالم المدينة

- ‌ما جاء أن المدينة أقل الأرض مطراً

- ‌ذكر جملة من الخصائص والأحكام والفضائل

- ‌الباب الثالثفيما يتعلق بالمسجد الأقصى

- ‌ذكر أسمائه

- ‌ذكر أصل بنائه

- ‌هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليله الإسراء

- ‌فصل في فضله

- ‌فصل في أحكامه

- ‌الباب الرابعفيما يتعلق بسائر المساجد

الفصل: ‌ذكر جملة من الخصائص والأحكام والفضائل

‌ذكر جملة من الخصائص والأحكام والفضائل

الأول: أَنشأ أَصل مسجدها على يد سيد المرسلين المهاجرون الأَولون والأَنصار المتقدمون خيار هذه الأُمة، وفي ذلك من مزيد الشرف على غيره مالا يخفى، واشتمالها على بقعة هي أفضل بقاع الأَرض بالإجماع، وهو الموضع الذي ضم أَعضاءَ النبي صلى الله عليه وسلم. حكى الإجماع القاضي عياض وغيره، وفي ذلك قال بعضهم.

جزم الجميع بأَن خير الأَرض ما

قد حاط ذات المصطفى وحواها

ونعم. لقد صدقوا بساكنها علت

كالنفس حين زكت زكى ماواها

وحكمة التفضيل المجاورة، كما قيل: للمجاورة تاثير. ولهذا يحرم على المحدِث مس جلد المصحف. قال القرافي: ولما خفي هذا المعنى على بعض الفضلاءِ أَنكر الإِجماع في ذلك، وقال: التفضيل إنما هو بكثرة الثواب على الأعمال، والعمل على قبره صلى الله عليه وسلم محرم، وإذا تعذر

ص: 242

الثواب هنالك على عمل العامل مع أَن التفضيل إِنما يكون باعتباره. كيف يحكى الإِجماع في أفضلية تلك البقعة على سائر البقاع؟ انتهى. ولم يعلم أن أسباب التفضيل أعم من الثواب، والإِجماع منعقد على التفضيل بهذا الوجه لا بكثرة الثواب على الأعمال، ويلزم اَلا يكون جلد المصحف بل ولا المصحف نفسه أَفضل من غيره لتعذر العمل فيه، وهو خرق للإجماع.

الثاني: تحريم صيدها وشجرها على الحلال والمُحرم كمكة خلافا لأَبي حنيفة. لنا قوله: صلى الله عليه وسلم. إن إبراهيم حرم مكة. وإني حرمت المدينة، (ما بين لابتيها لا يقطع عضاها. ولا يصاد صيدها) رواه مسلم. وقوله لا يقطع عضاها

وروى أَبو عوانة في صحيحه عن شُرحبيل ابن سعد قال: أَتانا زيد بن ثابت ونحن غلمان ننصب فخاخا للطير فطردنا وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى

عن صيد المدينة وأَما حديث: يا أبا عُمَير ما فَعَل النُّفير؟ فيحتمل أَن يكون قبل تحريم المدينة، لكن مكة يضمن صيدها وشجرها، وفي ضمان المدينة قولان للشافعي، الجديد

ص: 243

عدم الضمان، وهو قول مالك لحديث يا أبا عمير ما فعل النفير؟ وعن سلمة بن الأكوع: أنه كان يصيد الوحش ويهدى من لحمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال له: أَما إِنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إِذا ذهبت، وتلقيتك إذا جئت، فإني أُحب العقيق. ذكره الشيخ تقي الدين القشيري في الإمام من جهة موسى بن محمد بن إبراهيم قال البيهقي: وموسى هذا، كان يحيى بن معين يضعفه. والظاهر أن هذا كان قبل التحريم، وروى الطبراني في الأَوسط من حديث سعيد بن أبي مريم نا عبد الله بن عمر قال حدثني صاحب مولى زيد بن ثابت قال: دخل عليّ زيد بن ثابت، وأنا بالأسواف وقد أعطلت ريشا فأخذ بأُذني ثم لكَمَ في قفاي. وقال: أتصيد ههنا. وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لابتيها؟ والقديم الضمان: لما روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه: أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد غلاما يخبط شجرا أو يقطعه فسلبه، فلما رجع سعد جاءَ أهل الغلام فكلموه أن يرد ما أَخذ من غلامه. فقال معاذ الله أن أَرد شيئا نَفَّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرده عليهم، قال النووي في شرحي المهذب ومسلم وتصحيح التنبيه: وهذا القول هو المختار فإن فيه حديثا صحيحا يعني ما ذكرناه وقال ابن المنذر: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخذ سَلَب القاتل،

ص: 244

وقاطع الشجرة، ولكن لم يقل به أحد إلا ابن أبي ليلى والشافعي في القديم، وهو المختار، وعمل به سعد بن أبي وقاص، وإذا قلنا به وقيل كضمان مكة، فالأصح أنه يسلب الصائد والقاطع، وعلى هذا ففي المراد بالسَّلب وجهان، أَحدهما أَنه ثيابه فقط، وأصحهما أنه كسلب القتيل، فيدخل فيه فرسه وسلاحه، وهل هو للسالب، أو لمساكين المدينة، أو لبيت المال؟ ثلاثة أوجه، أصحها الأَول، لحديث سعد، وقوله: طُعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سلب أخذ جميع ما عليه إلا ساتر العورة على الأصح، ويسلب بمجرد الاصطياد سواءٌ أَتلف، أم لا. نعم. يستثنى علف البهائم. ففي صحيح مسلم: ولا يخبط فيها شجر إلا لعلْف، وهو بإسكان اللام مصدر علف علفا، وأَما المفتوحة فاسم للحشيش والتبن والشعير ونحوها.

الثالث:

يحرم نقل تراب المدينة أَو أَحجاره إِلى الخارج عن حرم المدينة، ولا يجوز أَخذ الأكر والأَباريق المعمولة من ترابها. جزم به النووي في شرح المهذب، وحكى في حرم مكة خلافا في تحريمه أَو كراهته، وتردد فيه كلامه. وقد سبقت المسألة.

الرابع:

يستحب المجاورة بالمدينة لما يحصل في ذلك من نيل الدرجات، ومزيد الكرامات، ويأتي فيها الخلاف السابق في المجاورة بمكة ذكره النووي في

ص: 245

شرح مسلم فإنه نصب الخلاف في البلدين، والظاهر أَن الخلاف ههنا يضعف لكثرة ما ورد من الترغيب ههنا، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وأَبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صبر على لاواءِ المدينة وشدتها، كنت له شهيدا أَو شفيعا يوم القيامة.

الخامس:

أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم تربو على الصلاة في غيره بأَلف صلاة على ما سبق تفصيله ففي الصحيحين من حديث أَبي هريرة: صلاة في مسجدي هذا أَفضل من أَلف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام قال النووي: وهذا التفضيل يعم الفرض والنفل كمكة. هكذا قال في شرح مسلم. وذكر في شرح المهذب، والتحقيق أَن صلاة النفل في بيته أَفضل من المسجد وأَن حرم المدينة ليس كمسجدها في المضاعفة، وقد سبق الكلام عليه مبسوطا في الباب الأَول. قال: والصلاة في مسجد المدينة تزيد على فضيلة الأَلف فيما سواه إلا المسجد الحرام، لا أنها معادلة للأَلف بل زائدة عليه كما صرحت به الأَحاديث الصحيحة، " أَفضل من أَلف صلاة "، " خير من أَلف صلاة ". قال العلماءُ: وهذا فيما يرجع إلى الثواب. فثواب صلاة فيه يزيد على أَلف صلاة فيما سواه، ولا يتعدى ذلك إلى الإِجزاءِ حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزئه عنهما.

ص: 246

وهذا لا خلاف فيه. قال: واعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده، فينبغي أَن يحرص المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرناه. قلت: ومعتمده في هذا الإِشارة بقوله " في مسجد هذا " لكن ذهب غيره إِلى أَنه لو وُسِّع ثبت له هذه الفضيلة كما في مسجد مكة إذا وسع. فإن تلك الفضيلة ثابته له. وقد ذكر ابن النجار بسنده عن ابن عمر قال: زاد عمر بن الخطاب في المسجد قال: لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أَيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو بنى هذا المسجد إِلى صنعاء كان مسجدي - وهذا إن صح كان من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم. وروى أَبو عوانة في صحيحه من جهة موسى الجهني عن نافع عن ابن عمر يرفعه: صلاة في مسجدي هذا أَفضل م مائة صلاة في غيره إِلا المسجد الحرام. ثم قال: مائة صلاة غلط. وروى الطبراني في معجمه الأوسط من حديث عبد الرحمن بن أَبي الرجال عن نُبيط بن عمر عن أَنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى في مسجدي أَربعين صلاة لا تفوته صلاة كتبت له براءَة من النار ونجاة يوم القيامة. قال لم يروه عن أَنس إِلا نُبيط، تفرد به ابن أَبي الرجال.

السادس:

أن الله سبحانه عوض قاصده عن الحج والعمرة بأَمرين وعد عليهما ذلك

ص: 247

الثواب، أَما الحج فذكر ابن الجوزي بإسناده عن أَبي أُمامة أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة، وأَما العمرة فبزيارة مسجد قُباء ففي الصحيح صلاة في مسجد قباء كعمرة، وفي الصحيح عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ياتي قباء راكبا، وماشيا فيصلي فيه ركعتين. وفي رواية كان ياتيه كل سبت، ويستحب أن يكون ذلك.

السابع:

يستحب الانقطاع بها ليحصل له الموت بها، وقد كان المهاجرون إلى المدينة يكرهون أن يموتوا بغيرها ويسألون الله عز وجل أَن يتوفاهم بها. وفي صحيح البخاري من حديث زيد بن أَسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك. وبوب عليه النووي في الأَذكار: باب استحباب دعاءِ الإنسان أَن يكون موته في البلد الشريف. وعن نافع ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استطاع أَن يموت بالمدينة فليمت بها. فإني أَشفع لمن يموت بها. رواه الترمذي. وقال: حسن صحيح، غريب من هذا الوجه

ص: 248

وفي الباب عن سبيعة بنت الحرث الأسلمية. وسئل عنه الدارقطني في العلل الكبير فقرر صحته بما يطول ذكره. وهو مذكور في الذهب الإبريز من تأليفي. فإن قيل: وقد جاء ما يعارض هذا، وهو ما رواه النسائي عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: مات رجل بالمدينة ممن ولد بها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ياليته مات بغير مولده. قالوا: لم ذاك يا رسول الله؟ قال. إن الرجل إذا مات بغير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أَثره في الجنة. وذكره ابن طاهر في الصفوة وبوب عليه - إِيثارهم الغربة على الوطن - فالجواب. إن صح فلا يعارضه، بل الحديث خاص بمن لم يولد في المدينة.

الثامن:

اختصاص أَهلها بمزيد الشفاعة والإكرام زائدا على غيرهم من الأُمم. وفي معجم الطبراني من حديث القاسم بن حبيب عن عبد الملك بن عباد ابن جعفر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أَول من أَشفع له من أمتي أَهل المدينة، ثم أَهل مكة، ثم أَهل الطائف. وأَخرجه البزار في مسنده بالواو ثم قال: وعبد الملك بن عباد لا نعلمه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث بهذا الإسناد، وفي الصحيحين عن أبي هريرة وغيره من صبر على لاواءِ المدينة وشدتها كنت له شهيدا أَو شفيعا يوم القيامة. قال القاضي عياض: سئلت قديما عن معنى هذا، ولمَ خص ساكني المدينة بالشفاعة مع عموم شفاعته؟ وأَجبت عنه بما حاصله،

ص: 249

أن بعض مشايخنا جعل " أو" هنا للشك. والظاهر خلافه، لأَن جماعة كثيرة من الصحابة رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ ويبعد اتفاقهم عليه هكذا، بل الظاهر أَن هذا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فإما أَن يكون أُعلم بهذه الحالة هكذا وإما أَن تكون " أَو" للتقسيم، ويكون شهيدا للبعض وشفيعا للبعض، إما شفيعا للعاصين، وشهيدا للمطيعين، وإما شهيدا لمن مات في حياته، وشفيعا لمن مات بعده أَو غير ذلك. وقال القاضي: وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين، أو العاصين في القيامة، وعلى شهادته على جميع الأُمم. وقد قال قال في شهداءِ أُحد: أَنا شهيد على هؤلاء. فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية وزيادة منزلة وحظوة. قال: ويحتمل أَن يكون أَو بمعنى الواو. فيكون لهم شفيعا وشهيدا.

التاسع:

وجود البركة في صاعهم، ومدهم، ومكيالهم، لأَن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالبركة فيه. قال النووي: والظاهر أَن البركة في نفس المكيل في المدينة بحيث يكفي المد فيها من لا يكفيه في غيرها. وفي الحديث الصحيح: وإني دعوت في صاعها ومدها. بمثلى ما دعا به إبراهيم لأَهل مكة. وفي لفظ آخر: اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة ثم وجدت السهيلي قال: دعاؤه صلى الله عليه وسلم بالبركة في صاع المدينة ومدها يعني به الطعام الذي يكال بالصاع والمد. ولذلك قال في حديث آخر

ص: 250

كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه. رواه البزار من حديث أًبي الدرداء بلفظ: قوتوا طعامكم، وذكر في تفسيره ما قلناه قال: وذكر أبو عبيد في كتاب الأموال مُدّ المدينة: يقال: هو رطل وثلث. والرطل مائة وثمانية وعشرون درهما، خمسون حبة وخمسان.

العاشر:

تخصيصها بالبقعة التي بين القبر والمنبر. ففي الصحيح: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة. وفي لفظ: ما بين بيتي ومنبري. وفي لفظ للطبراني: ما بين حجرتي ومصلاي، وقبره صلى الله عليه وسلم في بيته. وهو حجرة عائشة رضي الله عنها، قيل معناه: بل إن ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنة. وقيل: بل العبادة فيه تؤدي إلى الجنة. وقال: ابن حزم: ظن بعض الأغبياء أن تلك الروضة قطعة مقتطعة من الجنة، وأن الأنهار سيحان، وجيحان، والنيل، والفرات منهبطة من الجنة، وهذا باطل، لأن الله تعالى يقول في الجنة:((إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأُ فيها ولا تضحى)) وليست هذه صفة الأنهار المذكورة ولا الروضة. فصح أَن قوله من الجنة، إنما هو لفضلها وأَن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة وأَن تلك الأنهار لطيبها وبركاتها أُضيفت إلى الجنة كما تقول في اليوم الطيب هذا يوم من أيام الجنة، وكما قيل في الضأن: إنها من دواب الجنة. وقد جاءَ أن حلق الذكر من رياض الجنة. وقال

ص: 251

الطحاوي في مشكل الآثار. قد جاءَ: وضع منبري على ترعة من ترعات الجنة، وما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة. وما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، وإن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة. قال. ففي هذه الأَحاديث ما يدل على أَن قبره ومنبره في موضع من الجنة غير الروضة المذكورة في الحديث، ومما يدل على ذلك أَن سهل بن سعد لما حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أَن منبره على ترعه ن ترع الجنة قال: أتدرون ما الترعة؟ هي الباب من أَبواب الجنة، وإذا كان منبره صلى الله عليه وسلم قد بلغه الله بجلوسه فيه وقيامه عليه هذه المنزلة، فقبره الذي تضمن بدنه وصار له مثوى أَولى بأن يكون في روضة من الجنة أَرفع منها وأحرى، وهو بذلك فيه أَولى، والجنة فيها روضات كثيرة، فقد يكون قبره في روضة منها غير الروضة المذكورة في الحديث. وقد يكون فيما هو في غير الروضة مما هو أرفع من الروضة، وقد يكون فيما يجمع الروضة وغيرها مما شرفه به وأَبان منزلته به عن الناس وفي تصحيح هذه الأَلفاظ علم من أَعلام نبوته صلى الله عيه وسلم لأَن الله اختصه بأَن أَعلمه بالمخفيات.

ص: 252

الحادي عشر:

أَن الدجال لا يدخلها كما لا يدخل مكة. ففي الصحيحين من حديث أَنس مرفوعا: إن الدجال لا يطأُ مكة، ولا المدينة، وأنه يجيء حتى ينزل في ناحية المدينة فترجُف ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق. وفي رواية البخاري عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان. وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأتي المسيح من قبل المشرق، وهمته المدينة حتى ينزل دُبَر أحد. ثم تصرف الملائكة وجهه قِبَل الشام. وهنالك يهلك وفي الصحيحين أَيضا: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، وحمله ابن حزم على قوته وأمره، لا أنه الواطئ نفسه، ويرده ما في صحيح مسلم من حديث فاطمة بنت قيس، فلا يدع قرية إلا هبطها. وفي المعجم الأَوسط للطبراني عن أَبي هريرة وابن عمر مرفوعا ينزل الدجال طرق المدينة، فأَول من يتبعه النساء والإِماءُ. وقال ابن حبان في صحيحه: ذِكْرُ نفى دخول الدجال المدينة من بين سائر الأَرض، وذكر الحديث. لكن روى في موضع آخر أنه لا يدخل مكة، وفي مسند أحمد من حديث جابر أَنه يخرج له كل منافق وكافر. وذلك يوم تنفى المدينة الخبث كما تنفى النار خبث الحديد.

الثاني عشر:

أن الطاعون لا يدخل المدينة، وهذا من خصائصها ففي الصحيحين من

ص: 253

حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال، وفي رواية البخاري من حديث: لا يقربها الدجال، ولا الطاعون إَن شاء الله، والأَنقاب جمع نقب بكسر النون وضمها، وهو الطريق على رأس الجبل وقال الأَخفش: أَنقاب المدينة: طُرُقها وفجاجها. والسر في ذلك أَن الطاعون وباء عند الأَطباء وقد صح أنهم لما قدموا المدينة وأَصابتهم أَمراض عظيمة، وحُمّى شديدة دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فكشف ذلك عنهم. وقال: اللهم انقل وباءها إلى خُمّ، أَو الجحفة. قال ابن عبد البر: وفي رواية ابن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن سالم عن أَبيه. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: رأَيت في المنام امرأة سوداء ثائرة الشعر أُخرجت من المدينة، فأسكنت مهيعة فأولتها (بان) وباءَ المدينة ينقله الله إلى مهيعة. وإنما دعا بنقل الحمى إِلى الجحفة لأَنها دار شرك: فلم تزل الجحفة من يومئذ أَكثر بلاد الله حمى، وإنه ليتقي شرب الماءِ من عينها الذي يقال له عين خُمّ فقلَّ من شرب منه إلا حُمّ، وقال الخطابي كان أهل الجحفة إذ ذاك يهودا، وقيل: إنه لم يبق أَحد من أهلها إِلا أَخذته الحمى. وقال القرطبي: الطاعون: هو الموت العام الفاشي. ونعني بذلك

ص: 254

أنه لا يكون في المدينة من الطاعون مثل الذي يكون في غيرها من البلاد كالذي وقع في طاعون عَمَواس والجارف وغيرهما. وقد أَظهر الله صدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يسمع من النقلة ولا من غيرهم من يقول: إنه وقع بالمدينة طاعون عام، وذلك ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم حيث قال: اللهم صححها لنا.

الثالث عشر:

أَنها تاكل القرى، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أَن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال: أمِرت بقرية تأكل القرى. يقولون: يثرب. وهي المدينة، وفي معنى تأكل القرى ثلاثة أقوال:

أحدها (أنها) مركز الجيوش الإسلامية في أَول الأَمر فمنها فتحت القرى، وغنمت أموالها وسباياها. وذكر ابن الجوزي في مشكل الصحيحين عن عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: سمعت أَبي يقول في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أُمرت بقرية تأكل القرى. قال تفسيره والله أعلم: تفتح القرى، فتحت مكة بالمدينة وما حول المدينة بها.

والثاني: معناه أَن أَكلها وميرتها من القرى المفتتحة، وإليها تساق غنائمها.

الثالث: أَنها تفرغ القرى بوجوب الهجرة إِليها فكأَنها أَكلتها ذكره ابن الجوزي.

ص: 255

الرابع عشر:

أَنها كالكير في إزالة الخبث عنها ففي الصحيحين من حديث جابر: أَن أَعرابيا بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام فأَصابه وعك بالمدينة فقال: يا محمد. أَقلني بيعتي فأَبى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج الأَعرابي. فقال رسول الله صلى الله عيه وسلم: إنما المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها. قال القرطبي: هذا تشبيه واقع. لأَن الكير لشدة نفخه ينفي عن النار السخام والدخان والرماد حتى لا يبقى إلا خالص الجمر والنار. هذا إن أَراد بالكير المنفَخ الذي ينفخ به النار، وإن أراد به الموضع المشتمل على النار وهو المعروف عند اللغويين، فمعناه أَن ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والذهب والفضة. ويخرج خلاصته، والمدينة كذلك لما فيها من شدة العيش وضيق الحال تخلص النفوس من شهواتها وشرهها، وميلها إلى اللذات والمستحسنات وتبقى خلاصتها. وقال ابن عبد البر في التمهيد: والظاهر أَن هذا مخصوص بزمن حياته صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد خرج منها بعده الأَخيار والأَبرار، لأَنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه إلا من ثبت إيمانه. وقال أبو زكريا النووي: الظاهر العموم. وفي صحيح مسلم: لا تقوم الساعة حتى تنفى المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد، هذا والله أعلم زمن الدجال. قلت: وقد جاءَ كذلك في مسند أَحمد من حديث جابر وقد سبق.

ص: 256

الخامس عشر:

أنه لا يَدَعُها أَحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه كما ثبت في الصحيح، وفي معناه قولان: أحدهما أنه مخصوص بمدة حياته صلى الله عليه وسلم. والثاني: أَنه دائم أبدا بدليل قوله في حديث آخر: ياتي على الناس زمان يدعوا الرجل ابن عمه وقريبه: هلمَّ إلى الرخاء. والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون. قال القرطبي: ومعناه أن الذي يخرج عن المدينة راغبا عنها أَي زاهدا فيها إنما هو جاهل بفضلها، وفضل القيام بها، أَو كافر بذلك. وكل واحد من هذين إذا خرج منها فمن بقي من المسلمين خير منه. وأفضل على كل حال. قال: وقد قضى الله تعالى بأن مكة والمدينة لا تخلوان من أهل العلم والفضل والدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

السادس عشر:

أنه لا يريد أَحد أهلها بسوءٍ إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص وذوب الملح في الماء كما ثبت في الصحيح قال القرطبي: ظاهره أن الله يعاقبه بذلك في النار. ويحتمل أَن يكون ذلك كناية عن إهلاكه في الدنيا، أو عن توهين أمره وطمس كلمته كما قد فعل الله ذلك بمن غزاها، وقاتل أهلها كمسلم بن عقبة إذ أهلكه الله منصرفه عنها، وكإهلاك يزيد بن معاوية أثر إغزائه أهل المدينة إلى غير ذلك.

ص: 257

السابع عشر:

يستحب الصيام بالمدينة والصدقة على سكانها وبرهم، فهم جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أَهل المدينة. وقد روى الطبراني بإِسناد ضعيف أَنه صلى الله عليه وسلم قال: رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواه من البلدان.

الثامن عشر:

روى عن مالك رضي الله عنه أَنه كان لا يركب بالمدينة بغلة. فقيل له في ذلك: فقال: لا أَطأُ راكبا مكانا وطئه رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا وكان لا يرفع صوته في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم حيا وميتا سواء وقد قال تعالى: ((يا أَيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض)).

التاسع عشر:

لا يجتهد في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَنه، صواب قطعا. إذ لا يقر على خطأ فلا مجال للاجتهاد فيه حتى لا يجتهد فيه باليمنة واليَسرة بخلاف محاريب المسلمين، والمراد بمحرابه صلى الله عليه وسلم مكان مصلاه فإنه لم يكن في زمنه عليه السلام محراب. قال الرافعي: وفي معنى

ص: 258

المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب انتهى. وفي ضبطه عسر أو تعذر، وألحق الدارمي في الاستذكار بمسجد المدينة مسجد الكوفة، والبصرة وقُباء والشام وبيت المقدس. قال: لصلاته عليه السلام في بعضها والصحابة في البعض. ونقلت من خط الشيخ أبي عمرو بن الصلاح ما نقله من كتاب التلخيص لأَبي القاسم بن عبد السلام بن عبد العزيز المعروف بابن الجبان النصيبي من فقهاءِ أصحابنا من نسخه بخط ابنه قال: القبلة النصُّ الكعبة، ومسجد رسول الله صلى الله عيه وسلم، ومسجد إيلياء، ومسجد الكوفة، أربعة وفي قبل الأَنصار سوى هذه الأربعة قولان، أحدهما نص والآخر اجتهاد انتهى. وقال الروياني في الكافي عاطفا على قبلة النبي صلى الله عليه وسلم قال أَصحابنا: وكذلك قبلة قباء والكوفه لأنه صلى الله عليه وسلم صلى فيها والصحابة. وقال الشيخ محب الدين الطبري في شرحه للتنبيه فإن قيل: محرابه صلى الله عليه وسلم على عين الكعبة إذ لا يجوز فيه الخطأ فيلزم مما قلتم أنه لا تصح صلاة من بينه وبين أحد جانبيه أكثر من سمت الكعبة إلا مع الانحراف. قلنا من أين لكم أنه على عين الكعبة فيجوز ألا يكون كذلك، ولا خطأ بناء على أَن الغرض الجهة. نعم إن ورد في الصحيح أَنه نصب على العين، فنقول مقتضى الدليل ما ذكرتموه على القولين، أما على العين فظاهر، وأما على الجهة فهذا المحراب كالكعبة فمشاهده كمشاهدها إلا أَن إجماع الصحابة على بناء مسجد النبي صلى الله عليه وسلم واسعا وصلاتهم في أقطاره من غير أن ينقل الانحراف فيهم دليل على طرد

ص: 259

حكم البعيد في كل مكان سواءٌ تحقق صوب عين الكعبة أم لا تحقيقا للقول بأَن فرض البعيد هو الجهة مطلقا، ولا أَعلم أَحدا تكلم في هذه المسألة. والظاهر فيها ما ذكرته. انتهى ملخصا، وللبحث فيه مجال.

تمام العشرين:

المشهور أن التراويح عشرون ركعة. وقال مالك: هي ست وثلاثون ركعة غير الوتر لأنه فعل أهل المدينة فعلى المشهور قال المارودي: قال الشافعي: أختار عشرين ركعة ورأَيتهم بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة. ست ترويحات، ويوترون بثلاث. قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة أن يجاروا أَهل مكة، ولا ينافسوهم انتهى. ورأَيت في تعليقة أبي على البندنيجي عن الشافعي أَنه قال: وأَستحب لهم ألا يزيدوا على عشرين، وأنه قال في القديم: إنه ليس لهذا حَدٌّ مضيق. قال المارودي والروياني واختلفوا في السبب في ذلك على ثلاثة أقوال. أحدها: أن أهل مكة كانوا إذا صلوا ترويحة طافوا أسبوعا إلا الترويحة الخامسة فإنهم يوترون بعدها، ولا يطوفون فتحصل لهم خمس ترويحات وأَربع طوافات فلما لم يمكن أَهل المدينة مساواتهم في أمر الطواف الأربع، وقد ساووهم في الترويحات الخمس جعلوا مكان كل أربع طوافات أربع ترويحات زوائد، فصارت تسع ترويحات، فتكون ستا وثلاثين ركعة لتكون صلاتهم مساوية لصلاة أهل مكة وطوافهم. والثاني: السبب فيه

ص: 260

أن عبد الملك بن مروان كان له تسعة أولاد فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة فقدم كل واحد منهم فصلى ترويحة فصارت ستا وثلاثين. والثالث أن تسع قبائل من العرب حول المدينة تنازعوا في الصلاة واقتتلوا فقدم كل قبيلة منهم رجلا فصلى بهم ترويحة، ثم صارت سنة، والأول أصح انتهى. وكان بعض أشياخنا يستشكل المنع ويقول: غير أهل المدينة أحوج إلى زيادة الفضل من أهل المدينة، ثم رأيت الإمام الحليمي قد قال: يجوز الأمران فإن في ذلك استكثارا من الفضل، لا المنافسة كظن بعض الناس ولو اقتصر على العشرين وقرأَ فيها ما يقرؤه غيره في ست وثلاثين كان أفضل انتهى.

الحادي والعشرون:

يستحب الغسل لدخول المدينة، قاله أبو بكر الخفاف من قدماءِ أَصحابنا في كتاب الخصال. وصرح به النووي في مناسكه أيضا.

الثاني والعشرون:

روى أبو عوانه في صحيحه من حديث نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة إلى مكة فإذا رجع، رجع من طريق المعرَّس.

ص: 261

الثالث والعشرون:

روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني حرَّمت المدينة حراما ما بين مازميها، ألا يُهراق فيها دم. ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا تخبط فيها شجرة لعلف.

الرابع والعشرون:

روى البخاري: من تصبّح كل يوم بسبع تمرات عجوةً لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر. قال أبو بكر اليرقاني في مستخرجه على الصحيحين في رواية مكي بن إبراهيم قال هاشم: لا أعلم إلا أَن عامرا ذكر من عجوة العالية. قال الحميدي: وهو من أَفراد مسلم عن أبي طوالة عن عامر بن سعد عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي. وفي لفظ للحاكم من التمر البَرْنِيّ على الريق. وفي لفظ من عجوة العالية وفي كتاب الأطعمة لعثمان بن سعيد الدارمي من حديث شريك بن عبد الله ابن أبي عتيق عن عائشة مرفوعا: في عجوة العالية شفاء أو ترياق أوّل

ص: 262

البكر على الريق، ومن حديث شهر بن حوشب عن أبي سعيد وأبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العجوة من الجنة وفيها شفاءٌ من السم. قال الخطابي: كونها عوذةً من السحر والسم إنما هو من طريق التبرك لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقت فيها، لا لأن طبع التمر أن يفعل شيئا من ذلك، والعجوة من أجود تمر المدينة يسمونه لينة. وفي الكامل لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني الحافظ من حديث محمد بن عبد الرحمن الطُّفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينفع من الجذام أن تأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة كل يوم تفعل ذلك سبعة أيام. وقال: لا أعلم. رواه بهذا الإسناد غير الطُّفاوي وله غرائب وإفرادات كلها يحتمل. ولم أرَ للمتقدمين فيه كلاما انتهى.

وقال فيه ابن معين: صالح. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق يَهم أحيانا. وفي مستدرك الحاكم من حديث حميد عن أنس أَن وفد عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهم: وذكر التمر البَرْني وقال: إنه من خير تمركم، وإنه دواءٌ وليس بداءٍ. وقال:

ص: 263

صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال: خير تمركم البَرْني يخرج الداءَ ولا داءَ فيه انتهى. وفي الإسناد الأول عبيد بن واقد بن القاسم القيسي قال فيه أَبو حاتم الرازي: ضعيف. ومع ضعفه مجهول، وذكر حديث وفد عبد القيس فيما أنكر عليه وذكره العقيلي في الضعفاءِ، وأورد له الحديث. وقال: غير محفوظ ولا يُعرف إلا به. وروى أبو داود عن إسحق بن إسماعيل ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده فوضع يده بين ثدييه وقال: إنك رجل مفؤود فأت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه يتطبب فلياخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن (بنواهن) ثم ليلدك بهن. قال الخطابي قوله: فليجأهن من الوجيئة (وهي) التمر يُبل بلبن أو سمن حتى يلزم بعضه بعضا ويؤكل. وفي غريب الحديث للخطابي عن ابن نُمير عن

ص: 264

هشام عن أبيه عن عائشة: أنها كانت تامر للدوام والدوار بسبع تمرات عجوة في سبع غدوات على الريق. الدُّوام: كالدُّوار. وهو ما ياخذ الإنسان في رأسه فيدار به. ومنه تدويم الطائر وهو أن يستدير في طيرانه.

الخامس والعشرون:

روى ابن أبي خيثمة عن يعقوب بن حميد. ثنا كثير بن جعفر بن أبي كثير عن زياد بن زيد عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كان له بالمدينة أصل فليُمسك به ومن لم يكن فليجعل له بها أَصلا ولو قصرة. وقال الخطابي: القصرةُ النخلة، وقرأ الحسن ((إنها ترمي بشرر كالقصر)) وفسروه بأعناق النخل.

السادس والعشرون:

ظاهر كلام الأصحاب استحباب صلاة العيد في مسجد المدينة كغيرها من البلاد لكن روى أبو داود وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال أَصابنا مطرٌ في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ".

وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد. وظاهره أنه كان يفعلها في المصلى وكأنه لضيق المكان عليهم.

ص: 265

السابع والعشرون:

روى ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير عن مالك: أن المدائن كلها افتتحت بالسيف، والمدينة افتتحت بالإيمان، ثم ساق بسنده إلى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف والرمح، وافتتحت المدينة بالقرآن. وقال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد. سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن الحسن بن زَبالة المدائني ليس بشيء، روى عن مالك بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحت المدينة بالقرآن، وفتحت المدائن بالسيف. قال يحيى: هذا كذب ليس بشيءٍ. أَصحاب مالك يروونه من كلام مالك انتهى. وأَخرجه البزار في مسنده مرفوعا كذلك. وقال: لا نعلم رواه عن مالك إلا محمد بن الحسن بن زَبالة. وكان يلين بسبب هذا الحديث وغيره.

الثامن والعشرون:

نقل عن مالك: إن خبر الواحد إذا عارضه إجماع أَهل المدينة قدم إِجماعهم، ولهذا روى حديث ابن عمر في إثبات خيار المجلس ثم

ص: 266

قال: وليس لهذا عندنا حد معلوم، ولا أمر معمول به لما اختص به أَهل المدينة من سكناهم مهبط الوحي. ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ. فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم، بما أوجب ترك العمل به من ناسخ، أو دليل راجح، والمحققون على أَن البقاع لا تؤثر في الأَحكام. وقد بلغ ابن أبي ذئب وهو من أقران مالك مخالفته للحديث فأغلظ عليه، لأن العصمة إنما ثبتت في إجماع جميع الأمة، وأما عند مخالفة البعض فلا إجماع، فلا عصمة.

التاسع والعشرون:

قد مر أنه لو نذر تطييب الكعبة لزمه، ولو نذر تطييب مسجد المدينة أَو الأَقصى ففيه تردد لإمام الحرمين لأَنا إِن نظرنا إلى التعظيم أَلحقناهما بالكعبة أَو إلى امتياو الكعبة بالفضل فلا. وكلام الغزالي في آخر باب النذر يقتضي اختصاصه بالمسجدين لا في غيرهما من المساجد، والإمام طرده في الكل دون المسجد الحرام والكعبة.

الثلاثون:

لو نذر إتيان مسجد المدينة أو بيت المقدس فقولان: أَصحهما ونص عليه في الأُم والمختصر عند اللزوم. قال الروياني في البحر: وبه أجاب عامة.

ص: 267

الأَصحاب وهو قول أبي حنيفة لما روى جابر: أن رجلا قال يوم الفتح يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أُصلي في بيت المقدس ركعتين فقال له صل ههنا " ولأنه مسجد لا يعم قصده فأشبه سائر المساجد. والثاني ونص عليه البويطي. ونسبه القاضي أبو الطيب للقديم اللزوم؛ لحديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد. ولأنهما مخصوصان من بين سائر المساجد بمزية؛ لأَن المسجد الأَقصى كان في صدر الإسلام هو القبلة. ومسجد المدينة كان مقصودا بوجوب الهجرة إليه ففارقا ما عداهما من سائر المساجد. ونسب هذا لمالك وأَحمد قال ابن الصباغ: وحديث جابر لا حجة فيه، فإن الصلاة في المسجد الحرام أفضل، وعنى بذلك أن مقصود السائل بنذره الصلاة فيه، والإتيان جاءَ ضمنا على سبيل الوسيلة والنبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك بمكة، والصلاة بها أَفضل من المسجد الأقصى وأَمره بالأفضل لا يدل على عدم انعقاد نذره بل يدل على أن الفاضل يجزئ عن المفضول. وقال الروياني في البحر: هذا التأويل خطأٌ لأنه روى أن رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: صل في بيتك فأعاد السؤال، فقال: أنت أعلم. قال ابن الرفعة في المطلب: وفي هذا نظر فإن هذه واقعة حال، وذلك الرجل يحتمل أن يكون بيته بمكة فيتم ما قاله ابن الصباغ. فإن قلنا يلزمه الإتيان فهل يلزمه مع ذلك شيءٌ آخر؟ فيه وجهان.

أحدهما: لا، لأنه لم يلتزم سوى الإتيان وأصحهما أنه لابد من ضم

ص: 268

قربة إلى الإتيان، وعلى هذا، فقيل يصلى في المسجد ركعتين. واكتفى الإمام بركعة. وقيل: يعتكف فيه ولو ساعة وقيل يتخير بينهما، قال الرافعي: وهو الأشبه، وقال الشيخ أبو علي: إن كان في مسجد المدينة كفاه زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، لأنه من أعظم القربات كزيارته حيًا، وتوقف الإمام في ذلك من جهة أنها لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه. قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد أو صام يومًا كفاه، واعلم أن ما صححه الرافعي هنا من القول بلزوم النذر ووجوب ضم شيء إليه، مشكل. فالصحيح فيما إذا نذر صوم نصف يوم أو سجدة، فإنه لا يلزمه صوم يوم كامل، وصلاة كاملة طلبًا لتصحيح النذر. وقد يفرق بينهما بأن نفس المرور لما لم يكن في نفسه قربة انصرف النذر إلى ما يقصد فيه من القرب بخلاف نذر نصف يوم وسجدة، فإن ذلك مقصود في نفسه فلم ينصرف نذره إلى غيره ولا لزيادة عليه.

الحادي والثلاثون:

لو نذر الصلاة في مسجد المدينة أو الأقصى لزمته. وهل يتعين لفعلها المسجد الذي عينه أو ما يقوم مقامه أولًا؟ فيه طريقان، إحداهما (وهي) التي أوردها الأكثرون، تخريج ذلك على القولين في الإتيان المجرد. وقضيته أن يكون الراجح هنا عدم التعيين لكن قد ذكر الأصحاب فيما لو عين لاعتكافه أحد المسجدين أنه يتعين على الأظهر. قال الرافعي: ولا يبعد أن يلحق ما نحن فيه به في الترجيح لأجل مزيد الثواب، وهذا ما رجحه

ص: 269

النووي في المنهاج وغيره، وعلى هذا فهل تقوم الصلاة في أحد المسجدين مقام آخر؟ فيه وجهان: وحكى ابن الصباغ عن نص البويطي: أنه إذا صلى في مسجد المدينة ما نذر صلاته في الأقصى أجزأه، ولو انعكس لم يجزه وهذا ما صححه النووي في الروضة وغيرها.

الثاني والثلاثون:

لو نذر المشي إلى المسجدين هل يلزمه على قولنا: إنه أفضل من الركوب، أم لا؟ فيه وجهان، بناهما الشيخ أبو علي على التزام المشي في الحج قبل الإحرام، لأن كلًا من المشيين وإن لم يقع في عبادة لكنه واقع في القصد إلى بقعة معظمة. هكذا قاله الإمام وقضيته لزومه، وقضية كلام البغوي أن الصحيح عدم اللزوم، وقال ابن المنذر في الإشراف: كان الشافعي يحب إذا نذر أن يمشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أن يمشي قال: ولا يتبين لي أن يجب ذلك، لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نافلة. قال ابن المنذر: ومن نذر أن يمشي إلى مسجد الرسول ومسجد الحرام لزمه الوفاء به، لأنه طاعة، ومن نذر أن يمشي إلى بيت المقدس كان بالخيار إن شاء مشى إليه وإن شاء مشى إلى المسجد الحرام لحديث جابر: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في مسجد بيت المقدس قال: صل هنا ثلاثًا.

ص: 270

الثالث والثلاثون:

قال ابن كج: لو نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. لزمه الوفاء بها وجهًا واحدًا وحكى فيما إذا نذر زيارة قبر غيره وجهان في لزوم الوفاء. وأقره الرافعي وغيره.

الرابع والثلاثون:

ينبغي للزائر الغريب أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم كلما دخل المسجد أو خرج، وأما أهل المدينة فقد كره لهم ذلك مالك وغيره إلا إذا سافر أحدهم أو قدم من سفر قال: وإنما ذلك للغرباء -يعني السلام عند كل دخول وخروج. قال الباجي، لأن الغرباء قصدوا لذلك وأهل المدينة مقيمون [فيها والصواب استحباب دخول القريب والغريب فإنه صلى الله عليه وسلم استحب السلام لكل وارد] عليه قريبًا وغريبً. ومن الأدب معاملته بذلك بغد وفاته.

الخامس والثلاون:

قد مر في خصائص مكة أن من مات من أهل الذمة في حرمها، أُخرج منه ونبش. قال الرافعي: واستحسن الروياني في البحر أن حرم المدينة كذلك فيخرج منه إذا لم يتعذر الإخراج ويدفن خارجه.

ص: 271

السادس والثلاثون:

يكره الخروج من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بعد الاذان، وهذا وإن كان عامًا في كل مسجد، إلا أنه يتأكد ههنا. ففي معجم الطبراني الأوسط من حديث عبد العزيز بن أبي حازم، حدثني أبي وصفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجعُ إليه إلا منافق. ثم قال: لم يروه موصولًا عن أبي هريرة إلا ابن أبي حازم. تفرد به أبو مصعب.

السابع والثلاثون:

ليعلم المقيم بها عظم محلها، ويعتقد فيها غاية الإجلال والتعظيم، ويحذر من إحداث حادث بها ولو يسيرًا كما روى أن عبد الرحمن بن مهدي لما قدم المدينة، ودخل المسجد وضع شيئًا كان عليه بين الصفوف فأمر به مالك فأُخذ، فقيل له: إنه فلان. فعاتبه وقال: أتفعل مثل هذا؟ أو ما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحدث فيها حدثًا وآوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فانظر كيف جعل مالك رحمه الله هذا الفعل اليسير داخلًا في عموم الحديث. وجاء أنه استُفتي مالك رحمه الله في رجل قال: تربة المدينة غير طيبة، أنه أفتى بضربه.

ص: 272

الثامن والثلاثون:

ينبغي قصد المدينة للتعلم أو التعليم. ففي سنن ابن ماجه عن أبي

بكر بن أبي شيبة، ثنا حاتم بن اسماعيل، عن حميد بن صخر عن المقبري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه، أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره.

التاسع والثلاثون:

روى ابن مسعود: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر في الصيف لثلاثة أقدام إلى خمسة، وفي الشتاء لخمسة أقدام إلى سبعة. قال ابن سراقة في كتاب الأعداد: وهذا إنما يكون بالمدينة وما كان من البلاد على سمتها هكذا. فأما غيرها من البلاد فيختلف الفيء فيها على قربها من الشمس وبعدها.

الأربعون:

ذكر صاحب المباهج: أن العطر والبخور يوجد لهما من التضوع والرائحة الطيبة بطيْبة أضعاف ما يوجد في سائر البلاد وهي في نفسها طيبة وإن لم يكن فيها شيء من الطيب ولله در القائل:

ماذا على من شم تربة أحمد

ألا يشم مدى الزمان غواليا

ص: 273