الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن وعد الله المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا فى الدنيا فى غاية الفقر والشدة، والكفار كانوا فى رخاء ولين عيش ذكر فى هذه الآية ما يسليهم ويصبّرهم على تلك الشدة، فبين لهم حقارة ما أوتى هؤلاء من حظوظ الدنيا وذكر أنها متاع قليل زائل، فلا ينبغى للعاقل أن يوازن بينه وبين النعيم الخالد المقيم.
الإيضاح
(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) أي لا يغرنك يا محمد والمراد أمته، فكثيرا ما يخاطب سيّد القوم بشىء ويراد أتباعه، وهذا معنى ما روى عن قتادة أنه قال: والله ما غرّوا نبىّ الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله.
وخلاصة المعنى- لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم فى البلاد كيف شاءوا، وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محصورون، فإن ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب، فعلى المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعده الله فهو النعيم الحقيقي الباقي.
(مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي ذلك التقلب فى البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل، عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه فى الآخرة فيكونون خالدين فيه أبدا، بما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم.
نزلت الآية فى مشركى مكة إذ كانوا يضربون فى الأرض، يتّجرون ويكتسبون حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد والإيقاع بهم أينما ثقفوهم، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من ديارهم للتجارة أو غيرها.
وقد روى من وجه آخر أن بعض المؤمنين قال: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية.
وبعد أن بين حال الكافرين ومآل أمرهم، ذكر عاقبة المؤمنين ليعلموا أنهم فى القسمة غير مغبونين، فقال:
(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهيات، لهم جنات النعيم خالدين فيها أبدا.
ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» وفى الآية إيماء إلى أن النازلين فيها ضيوف عند ربهم يحفهم بلطفه، ويخصهم بكرمه وجوده، وهذه الجنات نعيم جسمانى لهم، وهناك نعيم روحانى أعطاه الله بمحض الفضل والإحسان وإليه الإشارة بقوله:
(وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي وما عنده من الكرامة فوق ما تقدم خير وأفضل يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل الفاني.
(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) بعد أن بين حال المؤمنين وما أعدّ لهم من الثواب وحال الكافرين وما هيأ لهم من العقاب، ذكر هنا حال فريق من أهل الكتاب يهتدون بهذا القرآن وكانوا من قبله مهتدين بما عندهم من هدى الأنبياء وقد وصفهم الله بصفات كلها تستحق المزية والشرف:
الأولى: الإيمان بالله إيمانا لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل، لا كمن قال الله فيهم «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ» .
الثانية: الإيمان بما أنزل إلى المسلمين، وهو ما أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: الإيمان بما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله إلى أنبيائهم، والمراد به الإيمان إجمالا وما أرشد إليه القرآن تفصيلا فلا يضير فى ذلك ضياع بعضه ونسيان بعضه الآخر.
الرابعة: الخشوع وهو الثمرة للإيمان الصحيح فإن الخشوع أثر خشية الله فى القلب ومنه تفيض على الجوارح والمشاعر، فيخشع البصر بالانكسار، ويخشع الصوت بالخفوت والتهدج.
الخامسة: عدم اشتراء شىء من متاع الدنيا بآيات الله وهذا أثر لما قبله.
روى النسائي من حديث أنس قال: «لما جاء نعى النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلّوا عليه، قالوا: يا رسول الله نصلى على عبد حبشى، فأنزل الله هذه الآية» :
(أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي هؤلاء المتصفون بحميد الصفات، وجليل الأعمال، لهم ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فهو يحاسب الناس جميعهم فى وقت قصير فيتمثل لهم ما كسبته أيديهم، وانطوت عليه جوانحهم، وهو مكتوب فى صحائف أعمالهم، فما أحرانا أن نشبهها بالصور المتحركة (الأفلام) التي تعرض فيها الحوادث والوقائع فى عصرنا الحاضر.
وقد ختم الله هذه السورة بوصية للمؤمنين إذا عملوا بها كانوا أهلا لاستجابة الدعاء وأحق بالنصر فى الدنيا وحسن المثوبة فى الآخرة فقال.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها من مرض وفقر وخوف، وصابروا: أي تحملوا المكاره التي تلحقكم من سواكم، ويدخل فى ذلك احتمال الأذى من الأهل والجيران وترك الانتقام ممن يسىء إليكم كما قال:«وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» وإيثار غيركم على أنفسكم كما قال: «وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» والعفو عمن ظلمكم كما قال «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» ودفع شبه المبطلين وحلّ شكوكهم والإجابة عن شبههم، وقوله ورابطوا: أي اربطوا خيلكم فى الثغور كما يربط العدو خيله استعداد للقتال كما قال تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» ويدخل فى هذا كل ما ولّده العلم فى هذا العصر من وسائل الدفاع من طائرات وقاذفات للقنابل ودبابات ومدافع رشاشة وبنادق وأساطيل بحرية ونحو ذلك مما ضار
ضروريا من آلات الحروب الحديثة، وصار من فقدها يشبه أن يكون أعزل من السلاح وإن كان مدجّجا به، ويلزم هذا أن يكونوا عالمين بفنون الحرب والخطط العسكرية بارعين فى العلوم الطبيعية والرياضية، فكل ذلك واجب على المسلمين فى هذا العصر، لأن الاستعداد لايتم إلا به.
ولقد أكثر الله فى كتابه من ذكر التقوى ويراد بها الوقاية من سخط الله وغضبه، ولا يكون هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله، وعرف سنة نبيه، وسيرة السلف الصالح من الأمة الإسلامية. ومن فعل كل ما تقدم فصبر وصابر ورابط لحماية الحق وأهله ونشر دعوته واتقى ربه فى سائر شئونه فقد أفلح وفاز بالسعادة عند ربه.
وهذا الفوز والفلاح بالبغية قد يكون فى شئون الدنيا كما جاء حكاية عن فرعون «وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» وقد يكون فى شئون الآخرة كقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف «وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» .
وقد يكون فيهما معا، وأكثر ما جاء فى القرآن من هذا كالذى نحن فيه، فإن مصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من وسائل الظفر على الأعداء فى الدنيا كما أنها من أسباب السعادة فى الآخرة بعد توافر حسن النية، وقصد إقامة الحق والعدل.
وفقنا الله للعمل إلى ما يرضيه، حتى نصل إلى سعادة الدارين، بفضله وإحسانه، ومنّه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه