الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم- خاطب المؤمنين محذّرا لهم من إغوائهم وإضلالهم:
مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغى أن يطاعوا، ولا أن يسمع لهم قول، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين، ثم بتذكر نعمته عليهم وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة، وقد أشار إلى الأولى بقوله:(اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ)، وإلى الثانية بقوله:(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) أي إنكم أيها المؤمنون إذا أصغيتم إلى ما يلقيه إليكم هؤلاء اليهود مما يثير الفتنة، ولنتم لهم فى القول، واستجبتم لما يدعونكم إليه- ردوكم إلى الكفر بعد الإيمان كما قال تعالى:«وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» والكفر يوجب الهلاك فى الدنيا والدين أما فى الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء، وهيجان الفتنة المؤدى إلى سفك الدماء، وأما فى الدين فلا حاجة إلى بيانه.
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟) أي ومن أين يتطرق إليكم الكفر، والحال أن القرآن يتلى عليكم على لسان رسوله غضا طريّا، وبين أظهركم، رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم، ويبين لكم ما أنزل إليكم، ولكم فى سنته خير أسوة تغذّى إيمانكم، وتنير قلوبكم، فلا ينبغى لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من
هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكشف عنها، ويزيل ما علق بقلوبكم منها.
(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يستمسك بدين الله وكتابه ورسوله، فقد حصل له الهدى إلى الصراط المستقيم لا محالة، كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت، إذ هو حينئذ لا تخفى عليه المهالك، ولا تروج لديه الشبهات.
قال قتادة: ذكر فى الآية أمرين يمنعان من الوقوع فى الكفر: أحدهما تلاوة كتاب الله، وثانيهما كون الرسول فيهم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ورضوانه، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي يجب عليكم تقواه حقا، بأن تقوموا بالواجبات، وتجتنبوا المنهيات.
ونحو الآية قوله: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أي بالغوا فى تقواه جهد المستطاع.
وعن ابن مسعود أنه قال: تقوى الله أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
وعن ابن عباس أنه قال: هى أن يجاهدوا فى الله حق جهاده، ولا تأخذهم فى الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.
(وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، لا تجعلون شركة لسواه أي لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.
والخلاصة- استمروا على الإسلام، وحافظوا على أداء الواجبات، وترك المنهيات حتى الموت.
وقد جاء هذا فى مقابلة قوله: (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) .
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) أي تمسكوا بكتاب الله وعهده الذي عهد به إليكم، وفيه أمركم بالألفة والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله، والانتهاء إلى أمره.
وقد جعل الدين فى سلطانه على النفوس، وتصرفه فيها بحسب نواميسه وأصوله، وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال بحسب هديه- كأنه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط فى الهاوية، كأنّ الآخذين به قوم على نشز أي مرتفع من الأرض يخشى عليهم السقوط منه، فيأخذون بحبل موثّق يجمعون به قوتهم، فينجون من السقوط.
وجاء فى معنى الآية قوله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» فحبل الله فى هذه الآية هو صراطه المستقيم، كما أن أنواع التفرق هى السبل التي نهى عنها فيها.
ومن السبل المفرقة فى الدين إحداث الشيع والمذاهب كما قال: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» ومنها العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج كما تقدم ذلك، وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير (ليس منّا من دعا إلى عصبية) .
وقد سار على هذا النهج أهل أوربا فى العصر الحديث فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك فى الجاهلية وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإسلامية، فحاول أهلها أن يجعلوا فى المسلمين جنسيات وطنية. فدعا الترك إلى العصبية التركية، والمصريون إلى الجنسية المصرية، والعراقيون إلى الجنسية العراقية، ظنا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن، وليس الأمر كما يظنون، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه، لا فى تفرقهم ووقوع الشحناء والبغضاء بينهم، فالدين يأمر باتحاد كل قوم تضمهم أرض واحدة، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْواناً)
أي واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا، ويأكل قويكم ضعيفكم، فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم، وجعلكم إخوانا، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو فى خصاصة وحاجة إليه، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة، وأنقذهم مما هو أدهى وأمر وهو عذاب الآخرة.
(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله، كأنكم على طرف حفرة يوشك أن ينهار بكم فى النار، فليس بين الشرك والهلاك فى النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر، فأنقذكم الإسلام منها.
وفى هذه الآيات جماع المنن التي أنعم بها عليهم، فقد أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر، حين كانوا يعملون بكتابه وأنقذهم بذلك من النار، فسعدوا بالحسنيين.
فانظر إلى آيات الله، ودلائل قدرته، كيف حوّل قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون- إلى جماعات متصافية القلوب، مليئة بالحب والإخلاص، وجهتهم جميعا واحدة، هى حكم الله ورفعة دينه، ونشره بين البشر.
(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي كما بين لكم ربكم فى هذه الآيات ما يضمره لكم اليهود من غشكم، وبين لكم ما أمركم به، وما نهاكم عنه، وبين لكم الحال التي كنتم عليها فى الجاهلية، وما صرتم إليه فى الإسلام، ليعرفكم فى كل ذلك مواقع نعمه- كذلك يبين سائر حججه فى تنزيله على لسان رسوله، ليعدّكم للاهتداء الدائم، حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.
والاختلاف الذي يقع بين البشر ضربان:
(1)
ضرب لا يسلم منه الناس، ولا يمكن الاحتراس منه، وهو الخلاف
فى الرأى والفهم، وهو مما فطر عليه البشر، وإلى ذلك الإشارة بقوله:«وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها فى الشيء الواحد، كما يختلف حبهم له، وميلهم إليه.
وهذا ضرب لا ضرر فيه.
(2)
ضرب جدّت الشرائع فى هدمه ومحوه، وهو تحكيم الرأى والهوى فى أمور الدين وشئون الحياة.
وهاك مثلا يتضح لك به ما تقدم- قد اختلف الأئمة المجتهدون فى فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة، وما كان فى ذلك من حرج، فما لك نشأ فى المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب، فقال: إن عمل أهلها أصل من أصول الدين، لأنهم لقرب عهدهم من النبي صلى الله عليه وسلم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة فى العمل، وأبو حنيفة نشأ فى العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق، فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة، ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى، لأنه بذل جهده فى بيان وجه الحق مع الإخلاص لله، وإرادة الخير والطاعة لأمره، ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم، ولم تقلدهم فى سيرتهم، وحكموا الرأى والهوى فى الدين، وتفرقوا شيعا، كل فريق يتعصب لرأى فيما وقع من أوجه الخلاف، ويعادى المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب فى كل ما خالف فيه غيره من الأئمة، وأن الشافعي ومالكا أخطئا فى جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة.
وإذا فكيف يمضى نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب فى بعض المسائل الخلافية، فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه فى تلك المسائل، ويرجعون إلى الصواب فيها.