المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي - تفسير المراغي - جـ ٤

[المراغي، أحمد بن مصطفى]

فهرس الكتاب

- ‌[تتمة سورة آل عمران]

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 97]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 103]

- ‌شرح المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 109]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]

- ‌تفسير المفردات

- ‌استطراد دعت إليه الحاجة

- ‌وقعة بدر

- ‌وقعة أحد أحد جبل على نحو ميل من المدينة إلى الشمال

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 141]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 148]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 160]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 164]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 179]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 184]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 186]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌سورة النساء

- ‌ما حوته السورة من الموضوعات

- ‌[سورة النساء (4) : آية 1]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌بحث فى حقيقة النفس أو الروح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 2 الى 4]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌مزايا تعدد الزوجات عند الحاجة إليه

- ‌حكمة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 12]

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14]

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16]

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18]

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌[سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23]

- ‌تفسير المفردات

- ‌المعنى الجملي

- ‌الإيضاح

- ‌فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء

الفصل: ‌ ‌الإيضاح (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي

‌الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) أي لا تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة بتأخير أجل الدّين الذي هو رأس المال، وزيادة المال إلى ضعف ما كان كما كنتم تفعلون فى الجاهلية، فإن الإسلام لا يبيح لكم ذلك، لما فيه من القسوة واستغلال ضرورة المعوز وحاجته.

قال ابن جرير: لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة فى إسلامكم بعد إذ هداكم الله، كما كنتم تأكلونه فى جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك فى جاهليتهم أن الرجل منهم يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حلّ الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال: أخّر دينك عنى وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة، فنهاهم الله عز وجل فى إسلامهم عنه اه.

وقال الرازي: كان الرجل فى الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال الدائن زد فى المال حتى أزيد فى الأجل، فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني فعل مثل ذلك ثم إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد من قوله تعالى:

«أَضْعافاً مُضاعَفَةً» اه.

وربا الجاهلية هو ما يسمى فى عصرنا بالربا الفاحش وهو ربح مركب، وهذه الزيادة الفاحشة كانت بعد حلول الأجل، ولا شىء منها فى العقد الأول، كان يعطيه المائة بمائة وعشرة أو أكثر أو أقل، وكأنهم كانوا يكتفون فى العقد الأول بالقليل من الربح، فإذا حل الأجل ولم يقض الدين وهو فى قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف فى مقابلة الإنساء، وهذا هو الربا النسيئة، قال ابن عباس: إن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم اه.

وعلى الجملة فالربا نوعان:

(1)

ربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه فى الجاهلية، وهو أن يؤخر دينه

ص: 65

ويزيده فى المال، وكلما أخره زاد فى المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة، وفى الغالب لا يفعل مثل ذلك إلا معدم محتاج، فهو يبذل الزيادة ليفتدى من أسر المطالبة، ولا يزال كذلك يعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابى من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويوقعه فى المشقة والضرر، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرّم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجىء مثل هذا الوعيد فى كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر.

(2)

ربا الفضل كأن يبيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير، أو يبيع كيلة من التمر الجيد بكيلة وحفنة من التمر الرديء مع تراضى المتبايعين، وحاجة كل منهما إلى ما أخذه.

ومثل هذا لا يدخل فى نهى القرآن ولا فى وعيده، ولكنه ثبت بالسنة فقد

روى ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء، ولا تشفوا بعضه على بعض إنى أخشى عليكم الرّماء- الربا-» .

وهذه الآية هى أولى الآيات نزولا فى تحريم الربا، وآيات البقرة نزلت بعد هذه، بل هى آخر آيات الأحكام نزولا، وقد يقول بعض المسلمين الآن: إنا نعيش فى عصر ليس فيه دول إسلامية قوية تقيم الإسلام وتستغنى عمن يخالفها فى أحكامها بل زمام العالم فى أيدى أمم مادية تقبض على الثروة، وبقية الشعوب عيال عليها، فمن جاراها فى طرق الكسب- والربا من أهم أركانه- أمكنه أن يعيش معها، وإلا كان مستعبدا لها.

أفلا تقضى ضرورة كهذه على الشعوب الإسلامية التي تتعامل مع الأوربيين

ص: 66

كالشعب المصري مثلا أن تتعامل بالربا كي تحفظ ثروتها وتنميها، وحتى لا يستنزف الأجنبى ثروتها وهى مادة حياتها؟

وجوابا عن هذا نقول:

إن المحرمات فى الإسلام ضربان:

(1)

ضرب محرم لذاته لما فيه من الضرر، ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة وشرب الخمر. والربا المستعمل الآن هو ربا النسيئة وهو متفق على تحريمه، فإذا احتاج المسلم إلى الاستقراض ولم يجد من يقرضه إلا بالربا فالإثم على آخذ الربا دون معطيه، لأن له فيه ضرورة.

(2)

ضرب محرم لغيره وهو ربا الفضل لأنه ربما كان سببا فى ربا النسيئة، وهو يباح للضرورة والحاجة أيضا.

والمسلم يعرف إن كان محتاجا إلى الربا ومضطرا إليه أم لا، فإن كان محتاجا حل له تناوله ويكون مثله أكل الميتة وشرب الخمر ونحوهما، وإلا لم يحل ذلك، إذ الربا يضر بإيمان المؤمنين، وإن كان زيادة فى مال الرابى فهو فى الحقيقة نقصان، لأن الفقراء الذين يشاهدونه يأخذ أموالهم بهذا التعامل يلعنونه ويدعون عليه، وبذلك يسلب الله الخير من يديه، إن عاجلا أو آجلا فى نفسه وماله، وتتوجه إليه المذمة من الناس لقساوة قلبه، وغلظ كبده، وقد ورد فى الأثر: إن آخذ الربا لا يقبل منه صدقة ولا جهاد ولا حج ولا صلاة.

ثم أكد النهى فقال:

(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي واتقوا الله فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا، ولا تكن قلوبكم قاسية على عباده من ذوى الحاجة والبؤس، فتحملوهم من الدين مالا تحتمله طاقتهم، وتستغلّوا عوزهم وحاجتهم، فتشتطوا فى الربا حتى تخربوا بيوتهم وتجعلوهم من ذوى الفاقة والمتربة- لعل ذلك يكون سبب فلا حكم فى دنياكم، فإن الرحمة وحسن المعونة يوجدان المحبة فى القلوب، والمحبة أساس السعادة فى الدنيا والآخرة.

ص: 67

ثم زاد النهى تأكيدا فقال:

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) أي وابتعدوا عن متابعة المرابين، وتعاطى ما يتعاطون من أكل الربا الذي يفضى بكم إلى دخول النار التي أعدها الله للكافرين.

وفى هذا من شديد الزجر ما لا يخفى فان المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا أنهم متى فارقوا التقوى أدخلوا هذه النار كان انزعاجهم عن المعاصي أتم، ومن ثم روى عن أبى حنيفة رحمة الله أنه كان يقول: إن هذه أخوف آية فى القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه فى اجتناب محارمه.

ثم بالغ فى النهى وشدّد فيه أيما تشديد فقال:

(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وأطيعوا الله ورسوله فيما نهيا عنه من أكل الربا، وما أمرا به من الصدقة، كى ترحموا فى الدنيا بصلاح حال المجتمع وفى الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم،

وقد ورد فى الأثر «الراحمون يرحمهم الرحمن» رواه أبو داود والترمذي.

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي وبادروا إلى العمل لما يوصلكم إلى مغفرة ذنوبكم ويدخلكم جنة واسعة المدى أعدّها الله لمن اتقاه وامتثل أوامره، وترك نواهيه، فاعملوا الخيرات، وتوبوا عن الآثام كالربا ونحوه، وتصدقوا على ذوى البؤس والفاقة.

روى أن رسول هرقل ملك الروم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل وفيه: إنك كتبت تدعونى إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار

[يريد أنه إذا دار الفلك حصل النهار فى جانب من العالم، والليل فى ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة فى جهة العلو والنار فى جهة السفل] .

وقال أبو مسلم: إن العرض هنا ما يعرض من الثمن فى مقابلة المبيع أي ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة خطرها، وأنه لا يساويها شىء وإن عظم.

(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي هيئت لهم وفى الآية دليل على أن الجنة مخلوقة الآن،

ص: 68

وأنها خارجة عن هذا العالم، إذ أنها تدل على أن الجنة أعظم منه، فلا يمكن أن يكون محيطا بها.

ثم وصف الله المتقين بجملة أوصاف كلها مناقب ومفاخر فقال:

(1)

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ) أي الذين ينفقون فى السعة والضيق، فينفقون فى كل حال بحسبها، ولا يتركون الإنفاق بوجه.

وأثر عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب، وأثر عن بعض السلف أنه تصدق ببصلة،

وفى الحديث «اتقوا النار ولو بشقّ تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق» .

وقد بدأ الله وصف المتقين بالإنفاق لأمرين:

(ا) أنه جاء فى مقابلة الربا الذي نهى عنه فى الآية السابقة، إذ أن الصدقة إعانة للمعوز المحتاج، وإطعام له ما لا يستحقه، والربا استغلال الغنى حاجة ذلك المعوز لأكل أمواله بلا مقابل فهى ضده.

ومن ثم لم يرد فى القرآن ذكر الربا إلا ذم وقبّح، ومدحت معه الزكاة والصدقة، اقرأ قوله:«وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ، وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» وقوله «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» .

(ب) أن الانفاق فى حالى اليسر والعسر أدل على التقوى، لأن المال عزيز على النفس، فبذله فى طرق الخير والمنافع العامة التي ترضى الله يشق عليها، أما فى السراء فلما يحدثه السرور والغنى من البطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل، وأما فى الضراء فلأن الإنسان يرى أنه أجدر أن يأخذ لا أن يعطى، ولكنه مع هذه الحال لا يعدم وقتا يجد فيه ما ينفقه فى سبيل الله ولو قليلا.

وحب الخير هو الذي يحرك فى الإنسان داعية البذل لإنفاق هذا العفو القليل، فإن لم توجد تلك الداعية بحسب الفطرة فالدين ينميها ويقويها، إذ هو قد جاء لتعديل الأمزجة المعتلة، وإصلاح الفطر المعوجة.

ص: 69

وقد أرشدنا هدى الدين إلى أن النفوس يجب أن تكون كريمة فى ذاتها مهما ألحّ عليها الفقر وأن تتعود الإحسان بقدر الطاقة لتسمو عن الرذائل التي قد تجرها إليها الحاجة، فتبعد بقدر الإمكان عن ذل السؤال، ومدّ الأيدى إلى الناس، لطلب الإحسان، وإراقة ماء الوجه أمام بيوت الأغنياء، لما فى ذلك من الذلة والصغار وهى ما لا يرضاها مؤمن لنفسه يعتقد أن الأرزاق فى قبضة الله وهو الذي يعطى ويمنع، وقد جعل لكسب المال أوجها كثيرة يستطيع المرء أن يسعى إليها ليحصل عليه، وقد وردت أحاديث كثيرة فى الحض على اكتساب المال من كل طريق حلال، والبعد عن ذل السؤال.

إلا أن بذل القليل من الأفراد والجماعات إذا اجتمع صار كثيرا، ومن ثم كانت الأمم الراقية تقيم مشروعاتها النافعة للأمة فى الزراعة أو الصناعة أو فى بناء الملاجئ والمستشفيات بالتبرعات القليلة التي تؤخذ من أفرادها، وبذا تقدمت فى سائر فنون المدنية والحضارة.

ولذا حث الله على بذل الخير ولو قليلا بقوله: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» .

ومن هذا ترى أن الله جعل من أهم علامات التقوى بذل المال، كما أن الشح به علامة عدم التقوى، والتقوى هى السبيل الموصل إلى الجنة.

فانظر إلى أهل الثراء الذين يقبضون أيديهم عن بذل المعونة للأفراد والجماعات ويكنزون فى صناديقهم القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، هل تغنيهم صلاتهم وصومهم شيئا مع هذا الشح البادي على وجوههم؟ فما هى إلا حركات وأعمال، مرنوا عليها دون أن يكون لها الأثر الناجع فى نفوسهم، إذ الصلاة التي يقبلها الله، والصوم الذي يرضاه الله، هو ما ينهى عن الفحشاء والمنكر، وأىّ منكر أشد من الضنّ بالمال حين الحاجة إليه لنفع أمة أو فرد.

ص: 70

ولو جاد المسلمون بأموالهم عند الحاجة إلى البذل لكان لنا شأن آخر بين أرباب الديانات الأخرى، ولكنا من ذوى العزة والمكانة بينها.

ولكنا صرنا إلى ما ترى، عسى الله أن يغير من نفوس المسلمين، ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم باتباع أوامر كتابهم، واجتناب نواهيه، ففى ذلك السعادة لهم فى الدنيا والأخرى.

(2)

(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) أي والممسكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القدرة عليه، ومن أجاب داعى الغيظ وتوجه بعزيمة إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال، ولا يكتفى بالحق، بل يتجاوزه إلى البغي، ومن ثم كان من التقوى كظمه، وقد أثر عن عائشة رضى الله عنها أن خادما لها غاظها فقالت: لله درّ التقوى، ما تركت لذى غيظ شفاء.

وقال عليه الصلاة والسلام «ما من جرعتين أحبّ إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء، ومن جرعة غيظ كظمها»

وقال «ليس الشديد بالصّرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب» .

وخلاصة ذلك- هم الذين يكظمون غيظهم عن الإمضاء والنفاذ، ويردونه فى أجوافهم، وهذا كقوله فى الآية الأخرى «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» .

(3)

(وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) أي والذين يتجاوزون عن ذنوب الناس ويتركون مؤاخذتهم مع القدرة على ذلك، وتلك منزلة من ضبط النفس وملك زمامها قلّ من يصل إليها، وهى أرقى من كظم الغيظ، إذ ربما كظم المرء غيظه على الحقد والضغينة.

أخرج الطبراني عن أبىّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يشرف له البنيان، وترفع له الدرجات، فليعف عمن ظلمه، ويعط من حرمه، ويصل من قطعه» .

وفى الآية إيماء إلى حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة، وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره، وإرشاد له إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين

ص: 71

بما فعلوه بحمزة رضي الله عنه حتى قال حين رآه قد مثّل به: لأمثلنّ بسبعين منهم.

(4)

(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) أي والله يحب الذين يتفضلون على عباده البائسين ويواسونهم ببعض ما أنعم الله به عليهم شكرا له على جزيل نعمائه.

أخرج البيهقي أن جارية لعلى بن الحسين رضي الله عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) فقال لها قد كظمت غيظى، قالت (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال قد عفا الله عنك، قالت (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) قال اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى.

والإحسان إلى غيرك إما بإيصال النفع إليه، وهو الذي عناه الله بقوله (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) ويدخل فيه إنفاق العلم بتعليم الجاهلين وهداية الضالين، وإنفاق المال فى وجوه الخير والعبادات،

قال صلى الله عليه وسلم «السخىّ قريب من الله قريب من الجنة، قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار» .

وإما بدفع الضر عنه إما فى الدنيا بألا يقابل الإساءة بإساءة أخرى وهو ما عناه الله بقوله (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ)

قال صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا»

وإما فى الآخرة بأن يعفو عماله عند الناس من التبعات والحقوق، وهذا هو المراد بقوله (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) ومن ثم كانت هذه الآية جامعة لوجوه الإحسان إلى غيرك.

وقد ذكر الله الجزاء على الإحسان بقوله (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إذ محبة الله للعبد عظم درجات الثواب.

(5)

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) أي والذين إذا فعلوا من القبيح ما يتعدى أثره إلى غيره كالغيبة ونحوها، أو فعلوا ذنبا يكون مقصورا عليهم كشرب الخمر ونحوه- ذكروا عند ذلك وعد الله ووعيده،

ص: 72

وعظمته وجلاله، فرجعوا إليه تعالى طالبين مغفرته، راجين رحمته، علما منهم أنه لا يغفر الذنوب سواه، فهو الفعال لما يشاء بمقتضى حكمته وعلمه الواسع.

(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) جملة جاءت معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تصويبا لفعل التائبين، وتطييبا لقلوبهم، وبشارة لهم بسعة الرحمة وقرب المغفرة، وإعلاء لقدرهم بأنهم علموا أن لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه. وأن من كرمه أن التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له، وأن العبد إذا التجأ إليه، وتنصل عن الذنب بأقصى ما يقدر عليه عفا عنه وتجاوز عن ذنوبه وإن جلّت، فإن عفوه أجلّ وكرمه أعظم، كما أن فيها تحريضا للعباد على التوبة وحثا لهم عليها، وتحذيرا من اليأس والقنوط.

(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولم يقيموا على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة،

وقد قال عليه الصلاة والسلام «لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار»

يريد صلى الله عليه وسلم أن الصغيرة مع الإصرار كبيرة، وقوله: وهم يعلمون أي بقبحه والنهى عنه والوعيد عليه، والفائدة من ذكر هذا بيان أنه إذا لم يعلم بقبحه يعذر فى فعله.

والمؤمن المتقى لا يصر على الذنب وهو يعلم نهى الله عنه ووعيده عليه، إذ يعلم أن الذنب فسوق وخروج عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على حقوق الشريعة.

فالآية تومىء إلى أن المتقين الذين أعد الله لهم الجنة لا يصرون على ذنب يرتكبونه صغيرا كان أو كبيرا، لأن ذكرهم لله يمنعهم أن يقيموا على الذنوب. إذ الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر، ورب كبيرة أصابها المؤمن بجهالة، وبادر إلى التوبة منها فكانت مذكّرة له بضعفه البشرى، ودليلا على أن للغضب سلطانا عليه- تكون دون صغيرة يقترفها مستهينا بها مصرّا عليها مستأنسا بها، فتزول من نفسه هيبة الشريعة، ويتجرأ بعد ذلك على ارتكاب الكبائر فيكون من الهالكين،

وقد رووا حديث «ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة»

وقد ضعفه المحدثون،

ص: 73