الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
سلف: أي مضى، فاحشة: أي شديد القبح، مقتا: أي ممقوتا مبغوضا عند دوى الطباع السليمة، ومن ثم كانوا يسمونه نكاح المقت، ويسمى الولد منه مقيتا: أي مبغوضا محتقرا، وساء سبيلا: أي بئس طريقا ذلك الطريق الذي اعتادوا سلوكه فى الجاهلية وبئس من يسلكه، لم يزده السير فيه إلا قبحا، والجناح الإثم والتضييق.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن فى أوائل السورة حكم نكاح اليتامى وعدد من يحل من النساء والشرط فى ذلك، وبين حكم استبدال زوج مكان زوج وما يجب من المعروف فى معاشرتهن- وصل هذا ببيان ما يحرم نكاحه منهن.
الإيضاح
(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) ذكر الله هذا النكاح أوّلا ولم يذكره مع سائر المحرمات فى الآية التالية لأنه كان فاشيا فى الجاهلية، وقد ذمه الله أقبح ذمّ فسماه فاحشة وجعله مبغوضا أشد البغض.
أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان الرجل إذا توفّى عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمّه أو ينكحها من شاء، فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورّثها من المال شيئا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت (وَلا تَنْكِحُوا) الآية،
ونزلت أيضا (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) إلخ. والمراد بالنكاح العقد كما قال ابن عباس، فقد روى ابن جرير والبيهقي عنه أنه قال: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهى حرام، والمراد من الآباء ما يشمل الأجداد إجماعا
(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما سلف من ذلك لا مؤاخذة عليه.
والخلاصة- إنكم تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفوّ عنه.
(إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا) أي إن نكاح أزواج الآباء تمجّه الأذواق السليمة، وتؤيد ذلك الشريعة التي هدى الله الناس بها، فهو قبيح محتقر والسالك فى طريقه مزدرى عند ذوى العقول الراجحة.
قال الإمام الرازي- القبح ثلاثة أصناف: عقلىّ وشرعى وعادى، وقد وصف الله النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه (فاحِشَةً) إشارة إلى الأول، وقوله (مَقْتاً) إشارة إلى الثاني، وقوله (وَساءَ سَبِيلًا) إشارة إلى الثالث.
بعد هذا بين الله أنواع المحرمات لأسباب وعلل تنافى ما فى النكاح من الصلة بين بعض البشر وبعض، وهى عدة أقسام:
القسم الأول منها ما يحرم من جهة النسب، وهو أنواع:
1) نكاح الأصول وإليه الإشارة بقوله:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) والمراد بالأم ما يشمل الجدات: أي إن الله قد حرم عليكم أن تتزوجوا أمهاتكم والمراد أنه حكم الآن بهذا التحريم والمنع.
2) نكاح الفروع وذلك قوله:
(وَبَناتُكُمْ) والمراد بهن ما يشمل بنات أصلابنا أو بنات أولادنا ممن كنا سببا فى ولادتهن وأصولا لهن.
3) نكاح الحواشي القريبة، وذلك ما عناه سبحانه بقوله:
(وَأَخَواتُكُمْ) سواء أكن شقيقات لكم، أم كن لأم أو لأب.
(4 و 5) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الأب والأم وإليهما الإشارة بقوله:
(وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ) والمراد بهما الإناث من جهة العمومة ومن جهة الخئولة فيشمل أولاد الأجداد وإن علوا، وأولاد الجدات وإن علون.
6) نكاح الحواشي البعيدة من جهة الإخوة، وذلك قوله:
(وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) من جهة أحد الأبوين أو كليهما.
القسم الثاني ما حرم من جهة الرضاعة، وإليه الإشارة بقوله:
(وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب فسمى المرضعة، أمّا للرضيع، وبنتها أختا له فأعلمنا بذلك أن جهة الرضاع كجهة النسب، وقد وضحت السنة ذلك،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة «إنها لا تحل لى، إنها ابنة أخى من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم النسب» رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما،
وعلى ذلك جرى المسلمون جيلا بعد جيل فجعلوا زوج المرضعة أبا للرضيع تحرم عليه أصوله وفروعه ولو من غير المرضعة لأنه صاحب اللقاح الذي كان سبب اللبن الذي تغذى منه الرضيع، وقد روى البخاري عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما بنتا والأخرى غلاما، أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ (قال لا، اللقاح واحد) .
وقد غلب على الناس التساهل فى أمر الرضاعة فيرضعون الولد من امرأة أو من عدة نسوة ولا يهتمون بمعرفة أولاد المرضعة وإخوتها ولا أولاد زوجها من غيرها وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم فى ذلك من الأحكام كحرمة النكاح وحقوق القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته أو عمته أو خالته من الرضاعة وهو لا يدرى.
وظاهر الآية أن قليل الرضاعة ككثيرها ويروى ذلك عن على وابن عباس والحسن والزهري وقتادة، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر، لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
وقد روى العمل به عن الإمام أحمد، وذهب جماعة آخرون إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات ويروى هذا عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير وهو مذهب الشافعي وأحمد فى ظاهر مذهبه.
ولا يحرم الرضاع إلا فى سنه ومدته المحدودة بقوله تعالى «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» وهو مذهب عمر وابن مسعود وابن عباس، وبه أخذ الشافعي وأحمد وصاحبا أبى حنيفة: أبو يوسف ومحمد،
وقد روى الدار قطنى عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لا رضاع إلا ما كان فى الحولين»
وروى عن ابن عباس فى رواية أخرى والزهري والحسن وقتادة أن الرضاع المحرّم ما كان قبل الفطم، فإن فطم الرضيع ولو قبل السنتين امتنع تأثير رضاعه فى التحريم، وإن استمر رضاعه إلى ما بعد السنتين ولم يفطم كان رضاعه محرما.
القسم الثالث محرمات المصاهرة التي تعرض بسبب الزواج وتحته الأنواع الآتية:
1) (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) ويدخل فى الأمهات الجدات، ولا يشترط فى تحريم أم المرأة دخوله بالبنت بل يكفى مجرد العقد، وبهذا قال جمهور الصحابة ومن بعدهم وعليه الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة.
2) (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) الربائب جمع ربيبة، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره، سمى ربيبا لأن الرجل يربّه ويسوسه ويؤدبه كما يؤدب ولده، وقوله: اللاتي فى حجوركم وصف لبيان الحال الغالب فى الربيبة وهى أن تكون فى حجر زوج أمها، وللاشعار بالمعنى الذي يوضح علة التحريم ويحرك عاطفة الأبوة فى الرجل وهى كونها فى حجره يحنو عليها حنوّه على بنته، ويدخل فى التحريم كل بنات امرأة الرجل إذا كان قد دخل بها وبنات بناتها وبنات أبنائها، لأنهن من بناتها فى عرف اللغة.
(فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي إن الرجل إذا عقد نكاحه على امرأة ولم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها، وقال الحنفية: إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها، وكذلك إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى ما هنالك منها بشهوة،
وكذلك أيضا إذا لمس يد أمّ امرأته بشهوة فإن امرأته تحرم عليه تحريما مؤبدا، ولم يوافقهم على ذلك كثير من الأئمة، لأنه لم يؤثر فيه خبر ولا أثر عن الصحابة فيه شىء وقد كانوا قريبى العهد بالجاهلية التي كان الزنا فاشيا فيها بينهم، فلو كانوا فهموا لذلك مدركا من الشرع وعلله لسألوا عنه وتوافرت الدواعي على نقل ما أفتوا به.
3) (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) الحلائل واحدها حليلة وهى الزوجة ويقال أيضا للرجل حليل إذ أن الزوجين يحلّان معا فى مكان واحد وفراش واحد.
ويدخل فى الأبناء أبناء الصلب مباشرة أو بواسطة كابن الابن وابن البنت، فحلائلهما تحرم على الجد، كما يدخل الابن من الرضاعة فتحرم حليلته لما تقدم من
قوله «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
القسم الرابع ما حرم بسبب عارض إذا زال يزول التحريم وهو ما ذكر، سبحانه بقوله:
(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي وحرّم عليكم الجمع بين الأختين فى الاستمتاع الذي يراد به الولد، والمذاهب الأربعة متفقة على تحريم الاستمتاع بالأختين بملك اليمين أو بالنكاح، أو بالنكاح والملك كأن يكون مالكا لإحداهما ومتزوجا للأخرى، فيحرم عليه أن يستمتع بهما ويجب عليه أن يحرم إحداهما على نفسه كأن يعتق المملوكة أو يهبها ويسلمها للموهوبة له.
ومثل هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، لأن العلة موجودة فيه أيضا وهى إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله، كما يدل عليه
قوله صلى الله عليه وسلم «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» .
والضابط لذلك أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه بها نكاح الأخرى.
(إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) أي لكن ما قد سلف قبل التحريم لا تؤاخذون عليه،
وقد كانوا يجمعون بين الأختين،
أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم طلّق أيتهما شئت
وعن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) فلا يؤاخذكم بما سلف منكم فى زمن الجاهلية إذا أنتم عملتم بشريعة الإسلام، ومن مغفرته أن يمحو من نفوسكم آثار الأعمال السيئة ويغفر لكم ذنوبكم إذا أنبتم إليه، ومن رحمته أن شرع لكم من أحكام النكاح ما فيه المصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم، لتتراحموا وتتعاونوا على البر والتقوى، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة فى شهر رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وله الحمد أولا وآخرا.
تم بحمد الله الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس، أوله:(والمحصنات)