الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخضوع والاستسلام للخصم ليفعل ما يريد، والصبر: احتمال الشدائد ومعاناة المكاره، والإسراف فى كل شىء: مجاوزة الحد فيه كما قال: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا» وثبت أقدامنا أي حين جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإزالة الخواطر الفاسدة من صدورنا.
المعنى الجملي
لا يزال الحديث مع من شهد أحدا من المؤمنين، فقد أرشدهم الله فى الآيات السالفة إلى أنه لا ينبغى لهم أن يحزنوا أو يضعفوا، وأن ما أصابهم من المحنة والبلاء جار على سنن الله فى خليقته من مداولة الأيام بين الناس، وفيه تمحيص لأهل الحق فإن الشدائد محكّ الأخلاق، وفيه هدى وإرشاد وتسلية للمؤمنين حتى يتربوا على الصفات التي ينالون بها الفوز والظفر فى جميع أعمالهم.
وهنا أبان لهم أن سبيل السعادة فى الآخرة منوط بالصبر والجهاد فى سبيل الله، كما أن طريق السعادة فى الدنيا يكون بإقامة الحق وسلوك طريق الإنصاف والعدل بين الناس، فسنة الله هنا كسنته هناك.
الإيضاح
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) أي هل جريتم على تلك السنن؟ هل تدبرتم تلك الحكم؟ أم ظننتم أنكم تدخلون الجنة وأنتم لم تقوموا بالجهاد فى سبيله حق القيام، ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن، ولا سبيل إلى دخولها إلا بعد التحلي بهما.
وإنكم لو قمتم بذلك لعلمه الله تعالى منكم وجازاكم عليه بالنصر والفوز فى هذه الغزوة كما يجازيكم فى الآخرة بدخول الجنة.
وقال أبو مسلم الأصفهانى فى (أَمْ حَسِبْتُمْ) إنه نهى وقع بحرف الاستفهام الذي يأتى للتبكيت.
وتلخيصه- لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله:
«الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» .
وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا، فلما قال ولا تهنوا ولا تحزنوا، كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك واقع كما تؤمرون، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة ولا صبر.
وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى لما أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبه، وبين وجوه المصالح فيه فى الدين والدنيا كان من البعيد أن يظن الإنسان أنه يصل إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة اه بتصرف.
وجهاد النفس على أداء حقوق الله وحقوق العباد مما يشقّ عليها احتماله، ويحتاج إلى مجاهدتها وترويضها حتى تذلل ويسهل عليها أداء تلك الحقوق، وربما فضل هذا الجهاد جهاد الأعداء فى ميدان القتال وخوض غمار الوغى وأصعب من هذا وأشق دعوة الأمة إلى خير لها فى دينها ودنياها، أو بث فكرة صالحة تغير بعض أخلاقها وعاداتها، أو مقاومة بدعة فاشية بين أفرادها، فإنها تجد مقاومة من الخاصة، بله العامة، فتراهم يرفعون راية العصيان فى وجه الداعي، ويشاكسونه بكل الوسائل، ولا سيما إذا تعلق بتغيير بعض عادات مرنوا عليها جيلا بعد جيل، ووجدوا من أشباه العلماء من يؤازرهم ويناصرهم فى باطلهم.
وكثيرا ما يحدث للداعى التلف والهلاك، أو ثلم العرض، أو الإخراج من حظيرة الدين.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) هذا خطاب لمن شهد من المسلمين وقعة أحد.
ذاك أن كثيرا من الصحابة وبعضهم لم يشهد بدرا- كانوا يلحّون فى الخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ليكون لهم يوم كيوم بدر، ويتمنون أن يلقوا الأعداء ويصيبوا من الخير مثل ما أصاب أهل بدر.
فلما كان يوم أحد ولّى منهم من ولّى فعاتبهم الله على ذلك.
روى عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: لئن لقينا مع النبي صلى الله عليه وسلم لنفعلنّ ولنفعلنّ فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلّهم صدق فأنزل الله عز وجل (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية.
ومعنى قوله فقد رأيتموه- أنكم شاهدتم أسبابه من ملاقاة الشجعان بعدّتهم وأسلحتهم وكرّهم وفرهم، مشاهدة لا خفاء فيها ولا شبهة، وكان لها الأثر العميق فى نفوسكم.
ومعنى تمنى الموت تمنى الشهادة فى سبيل الله والقتال لنصرة الحق ولو ذهبت نفوسكم دونه.
وصفوة القول- لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم فى الميدان، فهأنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه، وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه، فما بالكم دهشتم عند ما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون، ومن تمنى الشيء وسعى إليه لا ينبغى أن يحزنه لقاؤه ويسوءه.
وفى الآية الكريمة تنبيه لكل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي، وهديه إلى اختبار نفسه بالعمل الشق وعدم الثقة منها بما دون الجهاد والصبر على المكاره فى سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة التي يتوهم فيها أنه صادق فيما يدّعى مع الغفلة أو الجهل بعجزه عنه.
وكثيرا ما يتصور بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ويفكر فى خدمتهما ويتمنى لو يتاح له أن يساهم فى تلك الخدمة بنفسه أو بماله، حتى إذا احتيج إليه وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع، أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته.
ولكن المؤمن حقا من وصل الأمر به إلى حد اليقين فيما يعتقد أنه حق، وذلك يستدعى العمل مهما كان شاقا، والجهاد مهما كان عسيرا، والصبر على المكاره، وإيثار الحق على الباطل.
وقد كان فيمن خوطبوا بهذه الآية جماعة ممن كانوا فى المرتبة العليا من صدق الجهاد والصبر على المكاره، وأولئك هم المجاهدون الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال الراسيات، وهم نحو ثلاثين رجلا، لكنه جعل الخطاب عاما ليكون الإرشاد والنصح عاما للجميع، فيتهم ذو المراتب العالية أنفسهم بالتقصير، فيزدادوا كمالا على كمالهم، ويرعوى المقصرون وينزعوا عن خداع أنفسهم لهم، وهذا من التمحيص العظيم الذي له أجمل العواقب فى تهذيب الأنفس، وقد ظهر أثر ذلك فى نفوس أولئك القوم فيما بعد، وربّاهم تربية كانت بها عزائمهم ماضية، وهممهم صادقة، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا فيما حاولوه من جسيم الأمور.
(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ؟) أي إن محمدا ليس إلا بشرا قد مضت الرسل قبله فماتوا وقتل بعضهم كزكريا ويحيي ولم يكتب لأحد منهم الخلد.
أفإن مات كما مات موسى وعيسى وغيرهما من النبيين، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تقلبوا على أعقابكم راجعين عما كنتم عليه؟ والرسول ليس مقصودا لذاته، بل المقصود ما أرسل به من الهداية التي يجب على الناس أن يتبعوها.
قال أنس بن النضر فى الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، وبلغت القلوب فيها الحناجر، وحين فشا فى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، وقال بعض ضعفاء المؤمنين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبىّ فيأخذ لنا أمانا من أبى سفيان، وقال ناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول (إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه) ثم قال [اللهم إنى أعتذر إليك مما قال هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله عنه]
وأما المؤمنون الصادقون الموقنون، فمنهم من ثبت معه، ومنهم من كان بعيدا
عنه فرجع إليه كأبى بكر وعلى وطلحة وأبى دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه، فكان يقع عليه النّبل وهو لا يتحرك.
والخلاصة- إنّ قتل محمد صلى الله عليه وسلم لا يوجب ضعفا فى دينه لأمرين:
(ا) إن محمدا بشر كسائر الأنبياء، وهؤلاء قد ماتوا أو قتلوا.
(ب) إن الحاجة إلى الرسول هى تبليغ الدين فإذا تم له ذلك فقد حصل الغرض ولا يلزم من قتله فساد دينه.
وفى الآية هداية وإرشاد إلى أنه لا ينبغى أن يكون استمرار الحرب أو عدم استمرارها ذا صلة بوجود القائد بحيث إذا قتل انهزم الجيش، أو استسلم للأعداء، بل يجب أن تكون المصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء وعلى هذا تجرى الحكومات والحروب فى عصرنا الحاضر.
ومن توابع هذا النظام أن تعدّ الأمة لكل أمر عدّته، فتوجد لكل عمل رجالا كثيرين، حتى إذا فقدت معلما أو مرشدا أو قائدا أو حكيما أو رئيسا أو زعيما وجدت الكثير ممن يقوم مقامه، ويؤدى لها من الخدمة ما كان يؤديه وحينئذ يتنافس أفرادها، ويحفزون عزائمهم للوصول إلى ما يمكن أن يصل إليه كسب البشر، وينال كلّ منه بقدر استعداده وسعيه وتوفيق الله له.
(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً) أي ومن يرجع عن جهاده ومكافحته الأعداء فلن يضر الله شيئا بما فعل، بل يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب، وحرمانها من الثواب، فالله قد وعد بنصر من ينصره ويعزّ دينه، ويجعل كلمته هى العليا، وهو لا محالة منجز وعده.
ولا يحول دون ذلك ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم، فهو سيثبّت المؤمنين ويمحّصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص، فيقيموا دينه، وينشروا دعوته، ويرفعوا شأنه، وتنشر على الخافقين رايته، وهو الذي بيده الخلق والأمر وهو القادر على كل شىء.
(وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) له نعمه عليهم بالإيمان والهداية إلى أقوم السبل.
وفى الآية إرشاد إلى أن المصايب التي تحل بالإنسان لا مدخل لها فى كونه على حق أو باطل، فكثيرا ما يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا، وصاحب الباطل بالنعم والعطايا.
وفيها إيماء إلى أنا لا نعتمد فى معرفة الحق والخير على وجود المعلّم بحيث نتركهما عند موته، بل نسير على منهاجهما حين وجوده وبعد موته.
والخلاصة- إن الله أوجب علينا أن نستضىء بالنور الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت، فلا مدخل له فى صحة دعوته، ولا فى إضعاف النور الذي جاء به، فإنما هو بشر مثلكم خاضع لسنن الله كخضوعكم.
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا) أي ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه تعالى ومشيئته التي بها يجرى نظام الحياة وترتبط فيها الأسباب بالمسببات.
وقوله كتابا مؤجلا: أي أثبته الله مقرونا بأجل معين لا يتغير، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فكثير من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب، أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى فالشجاع المقدام قد يسلم فى الحرب، ويقتل الجبان المتخلف ويفتك المرض بالشاب القوى، ويترك الضعيف الهزيل، وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف، فللأعمار آجال، وللآجال أقدار لا تخطوها، والأقدار هى السنن التي عليها تقوم نظم العالم وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر فى الوهن والضعف، ومما ينسب إلى علىّ قوله:
أىّ يومىّ من الموت أفرّ
…
يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه
…
ومن المقدور لا ينجو الحذر
وفى الآية تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتوما ومؤقتا بميقات، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المعارك واقتحم المهالك فلا محل إذا للخوف والحذر- إلى ما فيها من الإشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله مع غلبة العدوّ له والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس، فلم يبق سبب من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظا وناصرا له لم يضرّه شىء، وفيها إشارة إلى أن قومه قد قصّروا فى الذبّ عنه.
(وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي ومن قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها، ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها.
وفى معنى الآية
الحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى»
…
وفيها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه، وكأنه يقول لهم إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك، وما عليكم إلا أن تسلكوا سبيله، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، بل يدعوكم إلى خير ترون حظا منه فى الدنيا، والمعوّل عليه ما فى الآخرة.
فأنتم بين أمرين: إما إرادة الدنيا، وإما إرادة الآخرة، ولكل منهما سنن تتبع، وطرق تسلك، وفى معنى الآية قوله تعالى:«مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» .
ومن هدى الإسلام أن يطلب المرء بعمله خيرى الدنيا والآخرة معا، ويقول:
(رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) والله يعطيه كل ما يطلب أو بعضه يحسب سنن الله وتدبيره لنظم الحياة.
وعلى الإنسان أن يعلم أن له طورين:
(1)
طور عاجل قصير، وهو طور الحياء الدنيا.
(2)
طور آجل أبدىّ، وهو طور الحياة الآخرة.
وسعادته فى كل من الطورين مرتبطة بإرادته وما توجهه إليه من العمل، فالناس إنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد: فقوم يحاربون حبا فى الربح والكسب، أو ضراوة بالفتك والقتل، فإذا غلبوا أفسدوا فى الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، وقوم يحاربون دفاعا عن الحق وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فهل يستوى الفريقان، وهما فى المقصد مفترقان؟
كذلك يطلب الرجل الربح والكسب أحيانا بكل وسيلة مستطاعة طلبا للذاته، والحصول على شهواته، فيغلو فى الطمع، ويمعن فى الحيل، ولا يبالى أمن الحرام أكل أم من الحلال؟ يأكل الربا أضعافا مضاعفة، فيجمع القناطير المقنطرة، وهو مع ذلك يمنع الماعون، ولا يحضّ على طعام المسكين، ولو سئل البذل فى المصالح العامة كان أشد الناس بخلا وأقبضهم كفا، بينا يطلب آخر الكسب طلبا للتجمل وحبا للكرامة فى قومه وعشيرته، فيقتصد فى الطلب، ويتحرى الربح الحلال، ويلتزم الصدق والأمانة، ويبتعد عن الفسوق والخيانة، وهو مع هذا ينفق مما أفاء الله به عليه، فيواسى البائسين، ويساعد المعوزين، وتكون له اليد الطّولى فى الأعمال النافعة لأمته، فيشيد لها المدارس والمعابد، والملاجئ والمستشفيات، فهل ينظر الناس إلى هذين نظرة متساوية، وهل هما فى القرب عند الله بمنزلة واحدة، أو يفضل أحدهما الآخر بحسن القصد والإرادة والميل إلى الخير وحب المصلحة العامة.
وقصارى القول- إن أقدار الرجال تتفاوت وتختلف باختلاف إرادتهم، فبينما تتسع دائرة وجود الشخص بحسب كبر إرادته وسعة مقصده، فتحيط بالكرة الأرضية، بل فوق ذلك بما يكون له من الكرامة فى العالم العلوي- إذا
بآخر تضيق دائرة وجوده إذا هو أخلد إلى الشهوات، وركن إلى اللذات، فيكون حظه من عمله كحظ الحشرات، يأكل ويشرب ويبغى على الضعيف ويخاف من القوى.
والله قد جعل عطاءه للناس معلقا على إرادتهم، ولا يقدر مثل هذا إلا القليل منهم.
(وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين يعرفون أنعم الله عليهم ويستعملونها فيما يرقى بهم إلى مراقى الكمال، فيعملون صالح الأعمال التي ترفع نفوسهم، وتنفع أمتهم كأنس ابن النضر وأمثاله الذين جاهدوا وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بما كان لهم من الإرادة القوية التي كانت السبب فى انجلاء المشركين عن المسلمين.
وبعد أن ضرب الله تعالى لهم المثل فى أنفسهم بأنهم كانوا قبل الموقعة يتحرقون شوقا إلى لقاء العدو، ثم أصابهم ما أصابهم عند لقائه- ضرب لهم المثل بغيرهم من أتباع الأنبياء السالفين وربييهم الذين لم يلحقهم وهن ولا ضعف بعد قتل أنبيائهم، بل صبروا واحتملوا الإيذاء حتى تغلب الحق على الباطل.
وفى هذا من شديد التوبيخ لأولئك المنهزمين الذين لم يستنوا بسنة الربانيين المجاهدين مع الرسل صلوات الله عليهم، مع أنهم أحدر بذلك منهم إذ كانوا خير أمة أخرجت للناس فقال:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) أي إن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير ممن آمن بهم، واعتقد أنهم هداة ومعلّمون، لا أرباب معبودون، فما وهنوا لما أصاب بعضهم من جرح أو قتل حتى ولو كان المقتول هو نبيهم نفسه، لأنهم يقاتلون فى سبيل الله لا فى سبيل نبيهم، علما منهم بأن النبي ما هو إلا مبلّغ عن ربه وهاد لأمته «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» وما ضعفوا عن جهاد عدوهم، ولا استكانوا ولا خضعوا له، ولا ولّوا الأدبار، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه فى حال الحياة، إذ هم على يقين من ربهم فى أن الجهاد
فى السبيل التي يرضاها من تقرير العدل فى الأرض وحماية الحق وما يتبع ذلك ويلزمه.
والخلاصة- عليكم أن تعتبروا بحال أولئك الربيين وتصبروا كما صبروا، فإن دين الله واحد، وسنته فى خلقه واحدة، ومن ثم طلب إليكم أن تعرفوا عاقبة من سبقكم من الأمم، وتقتدوا بعمل الصادقين الصابرين منهم، وتقولوا مثل قول أولئك الربّيين.
وبعد أن بين سبحانه مفاخر أفعالهم أردفها بمحاسن أقوالهم فقال:
(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي إن هؤلاء الربيين لم يكن لهم من قول عند اشتداد الخطوب ونزول الكوارث إلا الدعاء لربهم بأن يغفر لهم بجهادهم ما كانوا ألمّوا به من الذنوب، وتجاوزوا فيه حدود الشرائع، وأن يثبّت أقدامهم على الصراط القويم الذي هداهم إليه، حتى لا تزحزحهم الفتن ولا يعروهم الفشل والوهن حين مقابلة الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين الذين يجحدون الآيات، ويعتدون على أهل الحق، فلا يمكنونهم من إقامة ميزان القسط، فما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء بمقتضى السنن التي هدى إليها خلقه، وألهمها عباده.
وفى هذا إيماء إلى أن الذنوب والإسراف فى الأمور من عوامل الخذلان، والطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح، ومن ثم سألوا ربهم أن يمحو من نفوسهم أثر الذنوب وأن يوفقهم إلى دوام الثبات حين تزلّ الأقدام. وقد قدموا طلب المغفرة من الذنوب على طلب النصر ليكون الدعاء فى حيز القبول، فإن الدعاء المقرون بالخضوع والطاعة الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة.
وفى طلبهم النصر من الله مع كثرة عددهم التي دل عليها قوله: (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) إعلام بأنهم لا يعوّلون على كثرة العدد بل يطلبون العون والمدد الروحاني من الله بثبات الأقدام والتمسك بأهداب الحق.
كما أن فى ذكر قولهم هذا دون ذكر ما فيه جزع وخور- تعريضا بأولئك المنهزمين من المسلمين يوم أحد.
(فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا) بالنصر على الأعداء، والظفر بالغنيمة، والسيادة فى الأرض، والكرامة والعزة وحسن الأحدوثة والذكر الحسن، وقد سمى ذلك ثوابا لأنه جزاء على الطاعة، وامتثال أوامر الله.
(وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) بنيل رضوان الله ورحمته، والقرب منه فى دار الكرامة، وقد فسّر بقوله تعالى:«فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» وقوله فى الخبر «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وما حصلوا على ذلك إلا بما قدموا من صالح العمل الذي كان له أحسن الأثر فى نفوسهم فارتقت به إلى حظيرة القدس، وتخصيص الحسن بهذا الثواب إيذان بفضله، وأنه المعتدّ به عند الله، وأنه ثواب لا يشوبه أذى، فهو ليس كثواب الدنيا عرضة للأذى والمنغّصات.
وإنما جمع لهم بين الثوابين، لأنهم أرادوا بعملهم هاتين السعادتين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، كما هو شأن المؤمن «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً» .
وهذه الآية وأشباهها حجة على الغالين فى الزهد الذين يتحرجون عن الاستمتاع بشىء من لذات الدنيا، ويعدون ذلك منافيا للتقوى، ومبعدا عن رضوان الله.
(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) لأنهم هم الذين يقيمون سننه فى أرضه، ويظهرون بأنفسهم وأعمالهم أنهم جديرون بخلافة الله فيها، ولا تكون أعمالهم إلا بما يرضى الله، فهى من الله ولله.
وقد جاء فى الآية الترتيب هكذا- التوفيق على الطاعة، ثم الثواب عليها، ثم المدح على ذلك، إذ سماهم محسنين، ليكون فى ذلك توجيه للعبد ليعلم أن كل ذلك بعنايته تعالى وفضله.