الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يعزب عنه ما تحت الثرى، منّ: أي أنعم وتفضل، من أنفسهم أي من جنسهم من العرب ليفقهوا كلامه، ويزكيهم أي يطهرهم من أدران الوثنية والعقائد الفاسدة، من قبل: أي من قبل بعثة الرسول، ضلال مبين: أي ضلال بيّن لا ريب فيه.
المعنى الجملي
بعد أن حث عز اسمه فيما سلف على الجهاد، وبين مصير المجاهد فى سبيله- أتبعه هنا بذكر أحكام الجهاد، ومن جملتها الكف عن الغلول.
روى الكلبي ومقاتل: أن هذه الآية نزلت حين ترك الرماة المركز الذي وضعهم فيه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا من مغنم فهو له، وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى؟ فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم.
الإيضاح
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي ما كان من شأن أىّ نبى ولا من سيرته أن يغل، لأن الله عصم أنبياءه منه، فهو لا يليق بمقامهم ولا يقع منهم، لأن النبوة أعلى المناصب الإنسانية، فصاحبها لا يرغب فيما فيه دناءة وخسة.
(وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي وكل من يقع منه غلول يأتى بما غل به يوم القيامة حاملا له، ليفتضح أمره ويزيد به فى عذابه.
أخرج البخاري ومسلم عن أبى هريرة قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا، فذكر الغلول وعظمه، وعظم أمره ثم قال:
ألا لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول له لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء
يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك، لا ألفينّ أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثنى، فأقول لا أملك لك من الله شيئا، قد أبلغتك» .
وجعل بعض العلماء هذا الحديث من قبيل التمثيل، فشبهت حال الغالّ بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع من فقد الناصر والمغيث- بحال من يحمل ذلك على عاتقه، ويقصد أرجى من يمكنه أن يغيثه فيخذله ويتنصل من إغاثته، وما زال الناس يشبهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية، ويعبرون عن ذلك بالحمل كما قال تعالى «اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ، وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» .
وقال أبو مسلم الأصفهانى: إن الإتيان فى الآية معناه: أن الله يعلمه أتم العلم وينكشف له أوضح انكشاف، فالمراد أن كل غلول وخيانة خفية يعلمه الله مهما خفى، ويظهره يوم القيامة للغالّ حتى يعرفه كمعرفة من أتى بشىء يوصله إلى غيره، كما جاء فى قوله تعالى حكاية عن لقمان:«يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» فليس معنى الإتيان هنا أنه يحملها، بل يعلم بها مهما كانت مستترة، لأن من يأتى بالشيء لا بد أن يكون عالما به.
(ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ثم بعد أن يأتى الغالّ بما غل فيتمثل له كأنه حاضر بين يديه، ينال جزاء ما كسب مستوفى تاما لا ينقص منه شىء كما قال تعالى:«وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .
وجاء حكم التوفية فى الجزاء عاما لكل كاسب، وإن كان الكلام فى جزاء الغالّ فحسب- ليكون كالدليل على المقصود من استيفائه الجزاء، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيّا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه حقيرا، فالغالّ مع عظم جرمه أولى بذلك.
وقد أردف الله توفية ما كسبته كل نفس بالتفصيل الآتي ليبين أن جزاء المطيعين ليس كجزاء المسيئين، فقال:
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ؟) أي أفمن اتقى وسعى فى تحصيل رضا الله بفعل الطاعات، وترك الغلول وغيره من الفواحش والمنكرات حتى زكت نفسه وصفا روحه- يكون جزاؤه كجزاء من انتهى أمره إلى سخط الله، وعظيم غضبه، بفعل ما يدسّى نفسه من الخطايا من سرقة وغلول وسلب وقتل، وترك ما يطهرها من فعل الخيرات وعمل الصالحات؟.
ثم صرح بالفارق بينهما فقال:
(وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومأواه الذي يأوى إليه، ولا مرجع له غيره، هى جهنم وساءت منقلبا ومرجعا ومآبا.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» وقوله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» .
(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) أي إن كلا ممن اتبع رضوان الله ومن باء بغضب من الله طبقات مختلفة، ومنازل عند الله متفاوتة فى حكمه، وبحسب علمه بشئونهم وبما يستحقون من الجزاء «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» .
والخلاصة- إن الناس يتفاوتون فى الجزاء عند الله كما يتفاوتون فى الفضائل والمعرفة فى الدنيا، وما يترتب على ذلك من الأعمال الحسنة أو السيئة.
وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا ابتداء من الرفيق الأعلى الذي طلبه النبي صلى الله عليه وسلم فى مرض موته إلى الدرك الأسفل.
وهذه الدرجات أثر طبيعى لارتقاء الأرواح أو تدليها بالأعمال الصالحة أو السيئة.
(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فلا يخفى عليه شىء من أعمالهم التي لها التأثير العظيم فى تزكية نفوسهم وفوزها وفلاحها وارتقائها إلى أرفع الدرجات- أو فى تدسيتها التي يترتب عليها الخيبة والخسران والهبوط إلى أسفل الدركات كما قال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) .
ولا يعلم هذه الدرجات إلا من أحاط بكل شىء علما، لأنه هو الذي لا يخفى عليه أثر من آثار الأعمال فى الأنفس، ولا ما يختلج القلوب من الخواطر والهواجس.
وبعد أن نفى الغلول والخيانة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أبلغ وجه أكد ذلك بهذه الآية.
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي إن هذا الرسول ولد فى بلدهم، ونشأ بين ظهرانيهم، ولم يروا منه طوال حياته إلا الصدق والأمانة والدعوة إلى الله والإعراض عن الدنيا، فكيف يظن بمن هذه حاله خيانة وغلول؟.
وقد وصفه الله بأوصاف كل منها يقتضى عظيم المنة:
(1)
إنه من أنفسهم أي إنه عربى من جنسهم، وبذا يكونون أسرع الناس إلى فهم دعوته والاهتداء بهديه، وأقرب إلى الثقة به من غيرهم، إلى أنهم إذا كانوا على كثب منه وقفوا على أحواله من الصدق والأمانة، إلى مالهم بذلك من شرف وجليل خطر كما قال تعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) وقال:
وكم أب علا بابن ذا شرف
…
كما علت برسول الله عدنان
وقد خطب أبو طالب فى تزويج خديجة رضي الله عنها للنبى صلى الله عليه وسلم بمحضر من بنى هاشم ورؤساء مضر، فقال:
الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل وضئضىء (أصل) معدّ، وجعلنا حضنة بيته، وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على الناس.
ثم إن هذا ابن أخى محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
وتخصيص هذه المنة بالعرب مع أنه بعث للناس كافة لمزيد انتفاعهم به، على أن هذه النعمة الكبرى ذكرت فى آيات أخرى كقوله:(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) .
(2)
إنه يتلو عليهم آياته الدالة على قدرة الله ووحدانيته وعلمه، ويوجه النفوس إلى الاستفادة منها، والاعتبار بها كما جاء فى قوله:«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» وقوله «وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها» وقوله «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» .
(3)
إنه يزكيهم ويطهرهم من العقائد الزائفة، ووساوس الوثنية وأدرانها إذ أن العرب وغيرهم قبل الإسلام كانوا فوضى فى أخلاقهم وعقائدهم وآدابهم، فكان محمد صلى الله عليه وسلم يقتلع منهم جذور الوثنية، ويدفع عنهم العقائد الباطلة كاعتقادهم أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى، ومضارّ تخشى من بعض المخلوقات، فيجب تعظيمها والالتجاء إليها، دفعا لشرها، وجلبا لخيرها، وتقربا إلى خالقها.
ولا شك أن من يعتقد مثل هذا يكون أسير الأوهام، وعبد الخرافات، يخاف فى موضع الأمن، ويرجو حيث يجب الحذر والخوف.
(4)
إنه يعلمهم الكتاب والحكمة، فتعليم الكتاب اضطرهم إلى تعلم الكتابة،