الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذ أذاعوا عن المؤمنين من قالة السوء ما أذاعوا، ثم خرجوا معهم، وانشقوا عنهم فى الطريق، ورجعوا بثلث الجيش، ليوقعوا الفشل بين صفوفهم ويخذلوهم أمام عدوهم وما كان من كيد المشركين وتألبهم عليهم، ولم يكن لذلك من واق إلا الصبر حتى عن الغنيمة التي طمع فيها الرماة فتركوا مواقعهم، وإلا تقوى الله، ومن أهم دعائمها طاعة الرسول فيما به أمر وعنه نهى، وذكّرهم أيضا بما كان يوم بدر من نصرهم على عدوهم على قلتهم، إذ جعلوا الصبر جنتهم، وتقوى الله عدّتهم، فأصابوا من عدوهم ما أصابوا، وكان لهم الفلج عليهم مما لا يزال مكتوبا فى صحيفة الدهر مثلا خالدا لصدق العزيمة، والبعد عن مطامع هذه الحياة.
الإيضاح
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي واذكر لهم أيها الرسول وقت خروجك من بيتك غدوة وهى غدوة سحر يوم السبت سابع يوم من شوال من سنة ثلاث للهجرة تهيىء أمكنة للقتال، منها مواضع للرماة، ومواضع للفرسان، ومواضع لسائر المؤمنين.
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي والله سميع لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه من موضع لقائك عدوك وعدوهم، كقول من قال: اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم فى خارج المدينة، وقول من قال: لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا، ولما تشير به أنت عليهم، عليم بأصلح تلك الآراء لك ولهم وبنيّة كل قائل من أخلص منهم فى قوله وإن أخطأ فى رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومن لم يخلص فى قوله وإن كان صوابا كعبد الله بن أبىّ ومن معه من المنافقين.
قال ابن جرير: ضرب الله مثلا أو مثلين على صدق وعده فى الآية السابقة «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» بتذكيرهم بما كان يوم أحد من
وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر (وذنب الجماعة أو لأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما) وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم.
(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) أي والله سميع عليم حين همت بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضعفا وتجبنا عن القتال حين رأوا انخزال عبد الله بن أبىّ ومن معه عن رسول الله.
وهذا الهمّ لم يكن عزيمة ممضاة، ولكنها كانت حديث نفس وقلما تخلوا النفس عند الشدة من بعض الهلع فإن ساعدها صاحبها ذمّ وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يصل إلى حد العصيان قوله تعالى:
(وَاللَّهُ وَلِيُّهُما) أي متولى أمورهما لصدق إيمانهما لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعى الضعف الذي ألمّ بهما عند رجوع المنافقين وكانوا نحو ثلث العسكر بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به وتوكلا عليه.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن المؤمنين ينبغى أن يدفعوا ما يعرض لهم من جزع أو مكروه بالتوكل على الله لا بحولهم وقوتهم ولا بأنصارهم وأعوانهم، بعد أخذ الأهبة والعدّة تحقيقا لسنن الله فى خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الخالق للسبب والمسبب والموجد للصلة بينها.
فبقدرته تعالى ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة كما نصر المؤمنين يوم بدر على قلة منهم فى العدد والعدد والسلاح وفى سائر عتاد الجيش ولذا قال.
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي إنكم إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا وينصركم ربكم كما نصركم على أعدائكم وأنتم يومئذ فى قلة من العدد وفى غير منعة من الناس حتى أظهركم على عدوكم مع كثرة عددهم وعظيم منعتهم فأنتم اليوم أكثر عددا منكم حينئذ فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم فى ذلك اليوم.
ولا ضير فى الذل إذا لم يكن عن قهر من البغاة والظالمين، ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا بمستذلّين من الكفار، وإنما كانت قوتهم أول تكوّنها.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فاتقوا الله ربكم بطاعته واجتناب محارمه، لتعدّوا أنفسكم لشكره، على ما منّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم، إذ من لم يروّض نفسه بالتقوى يغلب عليه الهوى واتباع الشهوات، فلا يرجى منه الشكر لأنعم الله بصرفها فيما خلقت لأجله من الحكم والمنافع.
(إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد نصركم الله ببدر فى ذلك الحين الذي كنت تقول فيه لهم: ألن يكفيكم إلخ.
أخرج ابن أبى شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشّعبى أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله- ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم- إلى قوله: من الملائكة مسوّمين، فبلغته هزيمة المشركين فلم يمدّ أصحابه، ولم يمدّوا بالخمسة الآلاف.
(أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) قال الفخر الرازي فى التفسير الكبير: أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفار.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون.
(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) أي بلى يكفيكم ذلك، ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم.
أي إن تصبروا على لقاء العدو ومناهضتهم، وتتقوا معصية الله، ومخالفة نبيه
صلى الله عليه وسلم، ويجئكم المشركون من ساعتهم هذه- يمدكم بخمسة آلاف من الملائكة، ليعجل نصركم، ويسهل فتحكم.
قال ابن جرير: وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة، ثم وعدهم بعد الثلاثة. الآلاف بخمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، ولا على أنهم لم يمدوا بهم، وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف، ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر فنسلم لأحد الفريقين قوله:
غير أن فى القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة، وذلك قوله:«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» .
أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها فى أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدوا لم يهزموا وينل منهم ما نيل اه.
والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد فى قوة القوم، وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا، وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحات التي تثبّتها وتقوى عزيمتها.
(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) قال الزجاج: وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى اه.
يعنى وما جعل الله ذلك القول الذي قاله الرسول لكم (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) الآية
إلا بشرى يفرخ بها روعكم، وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدد عدوكم وعظيم استعداده.
وفى هذا إيماء إلى أن فى ذكر الإمداد غايتين:
(1)
إدخال السرور فى القلوب.
(2)
حصول الطمأنينة ببيان أن معونة الله ونصرته معهم، فلا يجبنوا عن المحاربة.
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) العزيز هو القوى الذي لا يمتنع عليه شىء، والحكيم هو الذي يدبّر الأمور على خير السنن وأقوم الوسائل، فيهدى لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء، ويصرفهما عمن يشاء.
والمراد- أنه يجب توكلكم على الله لا على الملائكة، فيجب على العبد ألا يتكل على الأسباب فقط، بل يقبل على مسبب الأسباب، إذ هو الذي لا يعجز عن إجابة الدعوات، فعليكم ألا تتوقعوا النصر إلا من رحمته، ولا المعونة إلا من فضله وكرمه.
فإن حصل الإمداد بالملائكة فليس ذلك إلا جزءا من أسباب النصر، وهناك أسباب أخرى كإلقاء الرعب فى قلوب الأعداء، ومعرفة المواقع، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها على العدو، وعسكر فى أحسن موضع وهو الشّعب (الوادي) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل، وجعل الرماة من ورائهم، إلى نحو ذلك من الأسباب التي تمكنه من الظهور على عدوه، والغلبة عليه.
فلما اختل بعض هذه التدبيرات، وفات الرماة مواضعهم لم ينتصروا.
والذي عليه أهل العلم أنه لم يحصل يوم أحد إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك، وإنما أخبر عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على شروط ثلاثة:
(1)
الصبر. (2) التقوى. (3) إتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الشروط، فلم يحصل الإمداد، ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة.
وحصل الإمداد بالفعل فى وقعة بدر كما تقدم ذكره، وسيأتى مزيد تفصيل له فى سورة الأنفال.
وربما سأل سائل عن الفارق بين اليومين فقال: لم أمدّ الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم، وحرمهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب! وجوابنا عن هذا أن المؤمنين كانوا يوم بدر فى قلة وذلة من الضعف والحاجة، فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله، وما وهبهم من قوة فى أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال:«إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .
ولم يكن فى نفوسهم تطلع إلى شىء سوى النصر، وإقامة الدين والدفاع عن حوزته. فكانت أرواحهم بهذا الإيمان مستعدة لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوّى بالاتصال بها.
أما فى يوم أحد فقد كان بعضهم فى أول القتال قريبا من الافتتان بما كان من المنافقين، ومن ثم همت طائفتان منهم أن تفشلا، ولكن الله ثبتهما وباشرا القتال مع بقية المؤمنين حتى انتصروا وهزموا المشركين، ثم خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا فى الغنيمة وتنازعوا فى الأمر ففشلوا وضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى الاستمداد من أرواح الملائكة، فلم يكن لهم منهم مدد.
وحكمة ما حصل تمحيص المؤمنين كما سيأتى فى قوله (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ) الآية، وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى فى ارتباط الأسباب بالمسببات، ومعرفة أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغى أن يثبط الهمم، ولا يدعو إلى الانقلاب على الأعقاب، وأن كل ما يصيب العباد من مصايب فهو نتيجة عملهم، وعقوبة طبيعية على أفعالهم، إلى نحو ذلك من الأسرار التي ستعلمها بعد.
ر
وى أحمد ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو يوم بدر: اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا- وما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه فرداه به ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبى الله كفاك مناشدتك لربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله يومئذ «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ» الآية.
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) أي إن المقصود من نصركم بامداد الملائكة أن يهلك طائفة منهم، ويخزى طائفة أخرى ويغيظهم بالهزيمة، فيرجعوا خائبين لا أمل لهم فى نصر.
وعبر بالطرف لأنه أقرب إلى المؤمنين من الوسط، فهو أول ما يوصل إليه من الجيش، وقد أهلك الله من المشركين طائفة أول الحرب يوم أحد، قدر عددهم بنحو ثمانية عشر رجلا.
وعبر بالخيبة دون اليأس، لأن الأولى لا تكون إلا بعد توقع النصر وانتظاره، والثانية بعده وبدونه، وضد الخيبة الظفر، وضد اليأس الرجاء.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الأمر كله بيد الله فقال:
(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقى إلا أن تنفذ فيهم أمرى، وتنتهى فيهم إلى طاعتى، ثم أمرهم بعد ذلك، والقضاء فيهم بيدي دون غيرى، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة، أو عاجل العذاب بالقتل والنقم، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب فى الآخرة.
(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) أي ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم، ليس لك من الأمر شىء.
روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام،
اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية فتاب الله عليهم كلهم» .
وروى أحمد ومسلم عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشجّ فى وجهه حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) الآية.
وإن لما حدث فى وقعة أحد لحكما دينية واجتماعية وحربية يمكن أن نحملها لك فيما يلى:
كان المؤمنون فى وقعة بدر واثقين بنصر الله لنبيه وإظهار دينه، لم يضعف إيمانهم بذلك قلتهم وضعفهم، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم، ولما رأوا تباشير النصر ازدادوا إيمانا بأنهم المنصورون، وأن جندهم هم الغالبون ولكن خيّل إلى الكثير منهم أن النصر سيكون بالآيات، وخوارق العادات، من غير التزام السنن الإلهية التي جعلها الله فى هذا الكون، وبنى عليها نظم الحياة، وأن وجود الرسول بين ظهرانيهم، ودعاءه ربه واستغاثته إياه أشد نكالا بالعدو من اتباع السنن الظاهرة التي من أهمها التزام النظام العسكري وإطاعة القائد، وجودة التعبئة، وحسن الحيلة، والتدبير فى وضع الخطط الحربية، إلى نحو أولئك.
وفاتهم أن الدين الإسلامى دين الفطرة، لا دين خوارق العادات، وسلوك طريق المعجزات.
فلما قصّروا فى الأخذ بالأسباب يوم أحد ظهر عليهم عدوهم، وجرح الرسول، وإن كان هو لم يقصر ولم ينهزم، ولكن البلاء إذا نزل لا يخص من كان السبب فى وجوده كما قال تعالى:«وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» وكان من هذا درس عظيم للمؤمنين لمسوه بأيديهم وعلموا أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد شىء، وإنما هو معلّم وأسوة حسنة فيما يعلم، والأمر كله لله يدبره بمقتضى سننه فى الخلق.
هذا البيان الإلهى فى تلك الموقعة التي رأوا نتائجها بأعينهم- برهان ساطع أمام الملأ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لو كان زعيما سياسيا، ومؤسسا لبناء مملكة يريد توطيد دعائمها بفتوحه لأطراف البلاد، لما قال مثل هذا القول فى مواطن الدفاع، وحب النصر على الأعداء. ولا سبيل للنصر على العدو إلا بالاستعداد والحيطة، وحسن التدبير والكياسة الحربية، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» ولا قوة إلا بالعلم والمال، ولا مال إلا إذا انتشر العدل فى الأمة وبث بين أفرادها روح التعاون والشورى فى مهامّ الأمور كما قال:«وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» .
(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال ابن جرير: أي لله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما شاء، ويقضى فيهم بما أحب، فيتوب على من شاء من خلقه العاصين أمره ونهيه، ثم يغفر له، ويعاقب من شاء منهم على جرمه، فينتقم منه، فهو الغفور يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه، بفضله عليهم بالعفو والصفح، وهو الرحيم بهم فى تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم اه.
وفى هذا تأديب من الله لرسوله، وإعلام له بأن الدعاء على المشركين ولعنهم مما لم يكن ينبغى منك، إذ الأمر كله لله، وليس لأحد من أهل السموات والأرض شركة معه ولا رأى ولا تدبير فيهما، وإن كان ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا، إلا من سخره الله للقيام بشىء من ذلك، فيكون خاضعا لذلك التسخير، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع.