الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤلم، وعذاب الحريق أي عذاب هو الحريق أي سننتقم منهم، عهد إلينا أي أمرنا فى التوراة وأوصانا، القربان: ما يتقرب به إلى الله من حيوان ونقد وغيرهما، والمراد من النار: النار التي تنزل من السماء، والبينات: هى المعجزات الواضحة، والزبر، واحدها زبور: وهو الكتاب، والمنير: الواضح.
المعنى الجملي
كان الكلام فيما مضى فى التحريض على بذل النفس فى الجهاد فى سبيل الله بذكر ما يلاقيه المجاهدون من الكرامة عند ربهم فى جنات النعيم.
وهنا شرع يحت على بذل المال فى الجهاد- والمال شقيق الروح- فذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله فى هذه السبيل، وأرشد إلى أن المال ظل زائل، وأن مدى الحياة قصير، وأن الوارثين والموروثين سيموتون ويبقى الملك لله وحده.
ثم ذكر مقالة لليهود قد قالوها ثم كذبهم فيها ثم سلى رسوله وأبان له أن تكذيبهم لك ليس ببدع منهم بل سبقوا من قبل بمثله من الأنبياء السابقين.
الإيضاح
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولا يظننّ أحد أن بخل الباخلين بما أعطاهم الله من فضله ونعمه هو خيرا لهم، لأنهم مطالبون بشكران النعم، والبخل بها كفران لا ينبغى أن يصدر من عاقل.
والمراد من البخل بالفضل البخل به فى أداء الزكاة المفروضة، وفى الأحوال التي يتعين فيها بذل المال كالإنفاق لصد عدو يجتاح البلاد ويهدد استقلالها، ويصبح أهلها أذلة بعد أن كانوا أعزة، أو إنقاذ شخص من مخالب الموت جوعا.
ففى كل هذه الأحوال يجب بذل المال، لأنه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس.
وليس الذم والوعيد على البخل بما يملك الإنسان من فضل ربه، إذ أن الله أباح لنا الطيبات لنستمتع بها، ولأن العقل قاض بأن الله لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون ويبقون عراة جائعين، ومن ثم قال فى حق المؤمنين المهتدين «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ»
وجاءت الآية بطريق التعميم ترغيبا فى بذل المال بدون تحديد ولا تعيين، ووكل أمر ذلك إلى اجتهاد المؤمن الذي يتبع عاطفة الإيمان التي فى قلبه، وما تحدثه فى النفس من أريحية بذل الواجب والزيادة عليه، إذا هو تذكر أن فى ماله حقا للسائل والمحروم.
(بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) أي هو شر عظيم لهم، وقد نفى أولا أن يكون خيرا ثم أثبت كونه شرا، لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن فى منعه خيرا له، لما فى بقاء المال فى يده من الانتفاع به فى التمتع باللذات، وقضاء الحاجات، ودفع الغوائل والآفات.
(سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي سيجعل ما بخلوا به من المال طوقا فى أعناقهم، ويلزمهم ذنبه وعقابه، ولا يجدون إلى دفعه سبيلا، كما يقال: طوقنى الأمر أي ألزمنى إياه.
وخلاصة هذا- إن العقاب على البخل لازم لا بدّ منه.
وقال مجاهد: إن المعنى سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يستطيعون ذلك، ويكون ذلك توبيخا لهم على معنى: هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا ميسورا، ونظير هذا قوله تعالى:«وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» .
ويرى بعضهم أن التطويق حقيقى، وأنهم يطوّقون بطوق يكون سببا لعذابهم فتصير تلك الأموال حيات تلتوى فى أعناقهم، فقد روى البخاري والنسائي عن أبى هريرة قال:«من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته مثّل له شجاع (ثعبان) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه (شدقيه) يقول أنا مالك، أنا كنزك ثم تلا الآية» .
(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ولله وحده لا لأحد سواه، ما فى السموات والأرض ما يتوارث من مال وغيره، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر فى يد،
ولا يسلم التصرف فيه لأحد، إلى أن يفنى الوارثون والموروثون، ويبقى مالك الملك، وهو الله رب العالمين.
فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه، ولا ينفقونه فى سبيله، وابتغاء مرضاته.
وفى الآية إيماء إلى أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة وعلم فإنه عرض زائل، وصاحبه فإن غير باق، فلا ينبغى أن يستبقى الفاني ما هو مثله فى الفناء، بل عليه أن يضع الأشياء فى مواضعها التي تصلح لها، وبذا يكون خليفة لله فى أرضه محسنا للتصرف فيما استخلف.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي والله لا تخفى عليه خافية من أعمالكم، ولا ما تنطوى عليه جوانحكم، فيجازى كل عامل بما عمل بحسب تأثير عمله فى تزكية نفسه أو تدسيتها، ونيته فى فعله كما
جاء فى الحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي قد سمع الله قول هؤلاء الكافرين الذين قالوا هذه المقالة، ولم يخف عليه، وسيجزيهم عليه أشد الجزاء.
وهذا أسلوب يتضمن التهديد والوعيد، كما يتضمن البشارة والوعد بحسن الجزاء فى نحو- سمع الله لمن حمده- ويتضمن مزيد العناية وإرادة الإغاثة وإزالة الشكوى فى نحو «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» إذ سمع الله لعباده يراد به مراقبته لهم فى أقوالهم، ويلزم من ذلك المعاني التي ذكرناها آنفا.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» فقالوا يا محمد: أفقير ربك يسأل عباده القرض ونحن أغنياء؟ فأنزل الله (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) الآية.
(سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنعاقبهم على ذلك عقابا لا شك فيه، إذ يلزم من كتابة الذنب وحفظه العقوبة عليه، وهذا استعمال شائع فى اللغة.
(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي قتل سلفهم لهم، وإنما نسبه إليهم للاشارة إلى أنهم راضون بما فعلوه.
وهذا يدل على أن الأمم متكافلة فى الأمور العامة، ويجب على أفرادها الإنكار على من يفعل المنكر وتغييره أو النهى عنه، لئلا يفشو فيها، فيصير خلقا من أخلاقها وعادة مستحكمة فيها، فتستحق العقوبة فى الدنيا بالضيق والفقر، والعقوبة فى الآخرة بتدنيس نفوسها، وأن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم ويطبقه على أحكام الشريعة فيستحسن منها ما تستحسنه، ويستهجن ما تستهجنه- عدّ شريكا له فى إثمه، ومستحقا لمثل عقوبته.
(وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي سننتقم منهم ونقول لهم هذه المقالة.
ذاك أنهم لما قالوا ما قالوا وقتلوا من الأنبياء من قتلوا، فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء ألوانا من العذاب، وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب، فجوزوا بهذا العذاب الشديد وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق، كما أذقتم أولياء الله فى الدنيا ما يكرهون.
والخلاصة- ذوقوا ما أنتم فيه، فلستم بمتخلصين منه، وهذا قول يلقى للتشفى الدالّ على كمال الغيظ والغضب (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي إن هذا العذاب المحرق الذي تذوقون حرارته، بسبب أعمالكم فى الدنيا كقتل الأنبياء، ووصف الله بالفقر، وجميع ما كان منكم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان.
وأضاف العمل إلى الأيدى، من قبل أن أكثر أعمال الإنسان تزاول باليد وليفيد أن ما عذّبوا عليه هو من عملهم على الحقيقة، لا أنهم أمروا به ولم يباشروه.
(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي إن ذلك العذاب أصابكم بعملكم، وبكونه تعالى عادلا فى حكمه وفعله، لا يجور ولا يظلم، فلا يعاقب غير المستحق للعقاب، ولا يجعل المجرمين كالمتقين، والكافرين كالمؤمنين كما قال: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
وقال: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» وقال: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟» .
والخلاصة- إن ترك عقاب أمثالكم مساواة بين المحسن والمسيء ووضع للشىء فى غير موضعه، وهو ظلم كبير لا يصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه.
(الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية فى كعب بن الأشرف ومالك بن الصّيف وفنحاص ابن عازوراء فى جماعة آخرين، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول الله، وأنه تعالى أوحى إليك كتابا، وقد عهد إلينا فى التوراة ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون للنار دوىّ خفيف حين تنزل من السماء فإن جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت الآية.
وروى ابن جرير أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة، فإذا تقبّل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلت ما نصدق به.
لكن دعواهم هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم، وأكل النار للقربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة، فهو وسائر المعجزات سواء، وما مقصدهم من تلك المفتريات إلا عدم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يأت بما قالوه، ولو أتى به لآمنوا فرد الله عليهم بقوله:
(قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) أي قل موبخالهم ومكذبا: قد جاءكم رسل كثيرون من قبلى كزكريا ويحيى وغيرهما بالمعجزات الدالة على صدق نبوتهم، وبما كنتم تقترحون وتطلبون، وأتوا بالقربان الذي تأكله النار، فما بالكم لم تؤمنوا بهم، بل اجترأتم على قتلهم؟
وهذا دليل على أنكم قوم غلاظ الأكباد، (وبذلك وصفوا فى التوراة) قساة القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له، وأنكم لم تطلبوا هذه المعجزة استرشادا، بل تعنتا وعنادا.
وقد نسب هذا الفعل إلى من كان فى عصر التنزيل وقد وقع من أسلافهم، لأنهم راضون عما فعلوه، معتقدون أنهم على حق فى ذلك، والأمة فى أخلاقها العامة وعاداتها كالشخص الواحد، وقد كان هذا معروفا عند العرب وغيرهم، فتراهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته، ويؤاخذونها بها.
والخلاصة- إن أسلافكم كانوا متعنتين، وما أنتم إلا كأسلافكم، فلم يكن من سنة الله إجابتكم إلى ملتمسكم بالإتيان بالقربان، إذ لا فائدة منه.
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي فإن كذبوك بعد أن جئتهم بالبينات الساطعة، والمعجزات الواضحة، والكتاب الهادي إلى سواء السبيل، مع استنارة الحجة والدليل- فلا تأس عليهم، ولا تحزن لعنادهم وكفرهم، ولا تعجب من فساد طويّتهم، وعظيم تعنتهم، فتلك سنة الله فى خليقته، فقد كذّب رسل من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به من باهر المعجزات وهزّوا القلوب بالزواجر والعظات، وأناروا بالكتاب سبيل النجاة، فلم يغن ذلك عنهم شيئا، فصبروا على ما نالهم من أذى، وما نالهم من سخرية واستهزاء.
وفى هذا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وبيان لأن طباع البشر فى كل الأزمنة سواء فمنهم من يتقبل الحق ويقبل عليه بصدر رحب ونفس مطمئنة، ومنهم من يقاوم الحق والداعي إليه، ويسفّه أحلام معتنقيه.
فليس بالعجيب منهم أن يقاوموا دعوتك، ولا أن يفنّدوا حجتك، فإن نفوسهم منصرفة عن طلب الحق، وتحرّى سبل الخير.