الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤمنين ويؤيسونهم من النصر والظفر بعدوهم، ويقولون لهم: إن محمدا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، إلى نحو هذه المقالة مما ينفر المسلمين من الإسلام، فكان الرسول يحزن لذلك، ويسرف فى الحزن، فنزلت هذه الآيات تسلية له، كما سلاه عما يحزن من إعراض الكافرين عن الإيمان، أو طعنهم فى القرآن، أو فى شخصه عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى:
«وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» وقوله: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .
الإيضاح
(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي ولا يحزنك أيها الرسول مسارعة المنافقين وطائفة من اليهود إلى نصرة الكافرين واهتمامهم بشأنهم، والإيجاف فى مقاومة الكافرين بكل ما أوتوا من الوسائل، ومن التثبيط للعزائم، والنيل من نبيهم ودعوته، وتأليب المشركين عليهم، إلى نحو ذلك مما يدور فى خلد العدو لإيذاء عدوه.
ونحو الآية قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» .
وتوجيه الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم تسلية له وإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشئونه.
ثم علل هذا النهى وأكمل التسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا بقوله:
(إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) أي إنهم لن يضروا أولياء الله وهم النبي وصحبه، شيئا من الضر، فعاقبة هذه المسارعة فى الكفر وبال عليهم لا عليك ولا على المؤمنين، فإنهم لا يحاربونك فيضروك، وإنما هم يحاربون الله تعالى، ولا شك أنهم أعجز من
أن يفعلوا ذلك، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم، وفى جعل مضرتهم مضرة لله تعالى تشريف لهم، ومزيد مبالغة فى تسليته صلى الله عليه وسلم.
ثم بين أنهم لا يضرون إلا أنفسهم فقال:
(يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) أي إن سر ابتلائهم ما هم فيه من الانهماك فى الكفر وقد قضى ذلك بحرمانهم من نعيم الآخرة وفق ما تقتضيه سنة الله وإرادته.
(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي إنهم على حرمانهم من الثواب لهم عذاب عظيم لا يقدر قدره.
وبعد أن بين حكم أولئك الذين يسارعون إلى نصرة الكفر والدفاع دونه ومقاومة المؤمنين لأجله، وأرشد إلى أنه لا يؤبه بهم، ولا يهتم بشأنهم، فهم إنما يحاربون الله والله غالب على أمره- أشار هنا إلى أن هذا حكم عام يشمل كل من آثر الكفر على الإيمان واستبدله به فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إن الذين أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا، فلن يضروا الله شيئا، وإنما يضرون أنفسهم بما لهم من العذاب الأليم الذي لا يقدر قدره.
وفى هذا إيماء إلى شيئين:
(1)
تأكيد عدم إضرارهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
بيان سخف عقولهم وخطل آرائهم، إذ هم كفروا أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك، وهذا دليل على شدة اضطرابهم، وعدم ثباتهم، ومثل هؤلاء لا يخشى منهم شىء مما يحتاج إلى أصالة الرأى وقوة التدبير.
ثم بين أن رغبة الكافرين عن الجهاد حبّا فى الحياة ليس من الخير لهم فقال:
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي ولا يحسبن هؤلاء الكافرون أن إمهالنا لهم وإطالة أعمارهم خير لأنفسهم، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا ازدادوا فيه عملا صالحا ينتفعون به
فى أنفسهم بتزكيتها وتطهيرها من شوائب الأدران وسيىء الأخلاق، وينتفع به الناس فى تهذيبهم وتحسين معايشهم، ولكن هؤلاء لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم فى أنفسهم، بالتمادى فى مكابرة الحق، وتأييد سلطان الشر فى الخلق.
فحياة هؤلاء المتخلفين عن الجهاد ليست خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد إذ بقاؤهم صار وسيلة للخزى فى الدنيا والعقاب الدائم فى الآخرة، وقتل هؤلاء صار سبيلا للثناء الجميل فى الدنيا، والثواب الجزيل فى الآخرة.
فترغيب أولئك المثبّطين عن الجهاد فى مثل هذه الحياة، وتزيينها لهم مما لا ينبغى أن يروج إلا عند الجهال الذين لا يفهمون قيمة الحياة الحقة التي يجب أن تكون نصب عين العاقل.
والخلاصة- إن هذا الامهال والتأخير ليس عناية من الله بهم، وإنما هو قد جرى على سننه فى الخلق، بأن ما يصيب الإنسان من خير أو شر فإنما هو ثمرة عمله، ومن مقتضى هذه السنة أن يكون الإملاء للكافر علة لغروره، وسببا لا سترساله فى فجوره، ونتيجة ذلك الإثم الذي يكسبه العذاب المهين.
وفى الآية من العبرة:
(1)
إن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول عمره، ويتمكن من العمل بحسب استعداده.
(2)
إن من شأن المؤمن إذا أنسأ الله أجله أن تكثر حسناته، وتزداد خيراته، فليجعل المؤمن هذا دستورا فيما بينه وبين ربه، ويحاسب نفسه على مقتضاه، فإذا فقهه وعمل به خرج من الظلمات إلى النور، وكان من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين.
ثم بين أن الشدائد هى محكّ صدق الإيمان فقال:
(ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي ما كان من سنن الله فى عباده أن يذر المؤمنين على مثل الحال التي كانوا عليها
حين غزوة أحد، حتى يميز المؤمن من المنافق، ويظهر حال كل منهما، لأن الشدائد هى التي تميز قوىّ الإيمان من ضعيفه، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين.
أما تكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة وغيرهما فيقبلها المنافق، كما يقبلها صادق الإيمان، لما فيها من حسن الأحدوثة، والتمتع بمزايا الإسلام.
وفى الشدائد من الفوائد الشيء الكثير منها:
(1)
اتقاء المنافق إذا علم نفاقه، فقد يفضى صادق الإيمان ببعض أسرار الملة إلى المنافق، لما يغلب عليه من حسن الظن به، حين يراه يؤدى الواجبات الظاهرة، ويشارك الصادقين فى سائر الأعمال، فإذا هو أفشاها عرف حاله وحذره المسلمون الصادقون.
(2)
أن تروز الجماعة حالها، إذ بتكشف أمر المنافقين تعرف أنهم عليها لا لها، وكذلك تعرف حال ضعاف الإيمان الذين لم تربّهم الشدائد.
(3)
إنها تدفع الغرور عن النفس، إذ يغتر المؤمن الصادق فلا يدرك ما فى نفسه من ضعف فى الاعتقاد والأخلاق حتى تمحّصه الشدائد وتبيّن له حقيقة أمره.
وقد يدور بخلد بعض الناس أن أقرب وسيلة لتمييز المؤمن الصادق من المنافق، أن يطلع الله المؤمنين على الغيب حتى يعرفوا حقائق أنفسهم وحقائق الناس الذين يعيشون بين ظهرانيهم، فيعرفوا أن فلانا من أهل الجنة، وفلانا من أهل النار، فأجاب الله عن هذا فقال:
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي لم يكن من شأنه تعالى أن يطلع عامة الناس على الغيب، إذ لو فعل ذلك لأخرج الإنسان من طبيعته، فإنه تعالى خلقه يحصّل رغائبه، ويدفع المكاره عنه بالعمل الكسبي الذي تهدى إليه الفطرة وترشد إليه النبوة.
ومن ثم جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس، ويميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، والتضحية بالنفس وبذل المال فى سبيل الحق والخير، كما ابتلى المؤمنون
فى وقعة أحد بخروج العدو بجيش عظيم لمقاتلتهم، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة، وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، وابتلوا بظهور العدو عليهم، جزاء ما فعلوا من المخالفة، فظهر نفاق المنافقين، وزلزل ضعفاء المؤمنين زلزالا شديدا، وثبت كملة المؤمنين، وصاروا كالجبال الرواسي التي لا تزعزعها الرياح والأعاصير (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ولكن الله يختار من رسله من يشاء، فيطلعه على ما فى قلوب المنافقين من كفر ونفاق، وعلى ما ظهر منهم من أقوال وأفعال، كما حكى عنهم بعضه فيما سلف، ويفضحهم به على رءوس الأشهاد، ويخلصكم من كيدهم وخداعهم.
ونحو الآية قوله: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» .
وفى التعبير بالاجتباء إشارة إلى أن الوقوف على أسرار الغيب منصب جليل تتقاصر عنه الهمم، ولا يؤتيه الله إلا لمن اصطفاه لهداية الأمم.
وبعد أن ردّ على ما طعن به المنافقون فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من وقوع الكوارث التي حصلت فى أحد، وبين أن فيه كثيرا من الفوائد كتمييز الخبيث من الطيب، أمرهم بالإيمان به فقال:
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي فآمنوا بالله ورسله الذين ذكرهم الله فى كتابه وقص علينا قصصهم.
وعمم الأمر بالإيمان بالرسل جميعا مع أن سوق الكلام فى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، للايماء إلى أن الإيمان به يقتضى الإيمان بهم، لأنه صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل، وهم شهداء على صحة نبوته.
(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي وإن تؤمنوا بما جاءوا به من أخبار الغيب، مع تقوى الله بترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به، فلكم أجر عظيم لا يستطاع الوصول إلى معرفة كنهه.