الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة، والتقوى: أن يخاف الإساءة والتقصير فيه، حسبنا الله، أي الله كافينا، والوكيل: الكافي الذي توكل إليه الأمور، فانقلبوا، أي فرجعوا، والمراد بالنعمة: السلامة والثبات على الإيمان وطاعة الرسول، والفضل: هو الربح فى التجارة، والشيطان هنا: شيطان الإنس الذي غش المسلمين ليخذلهم، وهو نعيم بن مسعود، يخوّف أولياءه، أي يخوفكم أنصاره من المشركين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تثبيط المشركين للراغبين فى الجهاد بتحذيرهم عواقبه، وأنه مفض إلى القتل كما حدث يوم أحد، والقتل بغيض إلى النفوس مكروه لها، ثم أردفه بيان أن القتل إنما يحدث بقضاء الله وقدره كما يحدث الموت، فمن كتب له أن يقتل لا يمكنه أن يبتعد من القتل، ومن لم يقدّر له لا خوف عليه من الجهاد.
ذكر هنا ما يحبب الجهاد فى سبيل الله، فأبان أن المقتولين شهداء أحياء عند ربهم قد خصهم الله بالقرب منه، والكرامة لديه، وأعطاهم أفضل أنواع الرزق وأوصلهم إلى مراتب الفرح والسرور.
أخرج الإمام أحمد فى جماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: - أنا أبلغهم عنكم- فأنزل الله هؤلاء الآيات» .
الإيضاح
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً) أي ولا تحسبن أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه، فيؤثرون الدنيا على الآخرة- أن من قتلوا فى سبيل الله أمواتا قد فقدوا الحياة وصاروا عدما.
(بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) أي بل هم أحياء فى عالم آخر غير هذا العالم، هو خير للشهداء، لما فيه من الكرامة والشرف عند الله، فليس القتل فى سبيله بضائرهم، إذا ما صاروا إليه خيرا مما كانوا فيه، فلو سلم أن الخروج للقتال سبب للقتل لما كان مثبّطا للمؤمنين عن الجهاد عند وجوبه، كما إذا هاجم المشركون المؤمنين فى مثل وقعة أحد، أو إذا فتن المسلمون عن دينهم ومنعوا من الدعوة إليه وإقامة شعائره، كما فعل مشركو العرب مع المسلمين زمن البعثة.
كيف والخروج إلى القتال كثيرا ما يكون سببا للسلامة، فإن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع فيها غيرها، وإذا هاجمها ظفر بها ونال منها ما يريد.
وهذه الحياة التي أثبتها القرآن الكريم للشهداء حياة غيبية لا ندرك حقيقتها، ولا نزيد على ما جاء به الوحى.
وقوله: يرزقون تأكيد لكونهم أحياء، وتحقيق لهذه الحياة.
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي مسرورين بشرف الشهادة، والتمتع بالنعيم العاجل، والزّلفى عند ربهم، والفوز بالحياة الأبدية.
(وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي ويسرّون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا بعد فى سبيل الله، فيلحقوا بهم من خلفهم، أي أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم.
وقوله: من خلفهم إشارة إلى أنهم وراءهم يقتفون أثرهم ويحذون حذوهم قدما بقدم، وفى ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم حثّ للباقين بعدهم على زيادة الطاعة والجد فى الجهاد والرغبة فى نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، كما فيه إخماد لحال من يرى نفسه فى خير فيتمنى مثله لإخوانه فى الدين، وفيه بشرى للمؤمنين بالفوز بالمئاب.
(أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي هم يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء، وهى أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية
لا يكدرها خوف من وقوع مكروه من أهوالها، ولا حزن من فوات محبوب من نعيمها (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) النعمة هى الثواب الذي يلقاه العامل جزاء عمله، والفضل هو التفضل الذي يمنّ الله به على عباده الطائعين المخبتين إليه، والمراد بالمؤمنين الشهداء الذين وصفوا بالأوصاف الآتية بعد.
وعبر عنهم يوصف الإيمان للاشارة إلى سموّ مكانته، ورفعة منزلته وكونه مناط السعادة.
وفى ذلك تحريض على الجهاد، وترغيب فى الشهادة، وحثّ على ازدياد الطاعة وبشرى للمؤمنين بالفوز العظيم.
وقد جاءت هذه الجملة كالبيان والتفسير لقوله- لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- لأن من كان فى نعمة الله وفضله لا يحزن أبدا، ومن كانت أعماله مشكورة غير مضيعة لا يخاف العاقبة.
ثم وصفهم بحسن أفعالهم الموجب لزيادة أجرهم فقال:
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي هؤلاء المؤمنون هم الذين أجابوا دعوته، ولبّوا نداءه، وأتوا بالعمل على أكمل وجوهه، واتقوا عاقبة تقصيرهم، على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم يوم أحد، لهم أجر عظيم على ما قاموا به من جليل الأعمال.
وفى قوله: منهم إشارة إلى أن من دعوا لبّوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا، ولكن عرض لبعضهم موانع فى أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا، وخرج الباقون.
روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد، فبلغوا الرّوحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا وهمّوا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج فى إثر أبى سفيان وقال: لا يخرجنّ معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء
الأسد (موضع على ثمانية أميال من المدينة) وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب فى قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين فنزلت الآية.
وتسمى هذه الغزوة غزوة حمراء الأسد، وهى متصلة بغزوة أحد.
(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي وهم الذين قال لهم نعيم بن مسعود الأشجعى ومن وافقه وأذاع قوله وهم أربعة: إن أبا سفيان وأعوانه جمعوا الجموع لقتالكم فاخشوهم ولا تخرجوا للقائهم.
روى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة أن الآية نزلت فى غزوة بدر الصغرى.
ذاك أن أبا سفيان قال حين أراد أن ينصرف من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك بيننا وبينك إن شاء الله، فلما كان العام القابل خرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل (مجنّة) من ناحية (مرّ الظهران) فألقى الله الرعب فى قلبه، فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: إنى واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقى بموسم بدر، وإن هذا عام جدب، ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لى أن أرجع، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج فيزيدهم ذلك جرأة، فالحق بالمدينة فثبطهم، ولك عندى عشرة من الإبل أضعها فى يدى سهيل بن عمرو، فأتى نعيم المدينة فوجد المسلمين يتجهزون لميعاد أبى سفيان فقال لهم: ما هذا بالرأى، أتوكم فى دياركم وقراركم ولم يفلت منكم إلا شريد، فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم الجموع عند الموسم، فو الله لا يفلت منكم أحد، فكان لكلامه وقع شديد فى نفوس قوم منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسى بيده لأخرجنّ ولو وحدي»
فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حتى وافى بدرا الصغرى (بدر الموعد) فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان فلم يلق أحدا،
لأن أبا سفيان رجع بجيشه إلى مكة وكان معه ألفا رجل فسماه أهل مكة جيش السّويق، وقالوا لهم إنما خرجتم لتشربوا السويق.
ووافى المسلمون سوق بدر، وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيبا فربحوا وأصابوا بالدرهم در همين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.
(فَزادَهُمْ إِيماناً) أي زادهم هذا القول إيمانا بالله وثقة به، ولم يلتفتوا إلى تخويفهم بل حدث فى قلوبهم عزم وتصميم على محاربة هؤلاء الكافرين، وطاعة للرسول فى كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن أضناهم ذلك وثقل عليهم، لما بهم من جراحات عظيمة وقد كانوا فى حاجة إلى قسط من الراحة، وشىء من التداوى، لكن وثوقهم، بنصر الله وتغلبهم على عدوهم أنساهم كل هذه المصاعب فلبوا الدعوة سراعا.
والخلاصة- إن هذا القول الذي سمعوه زاد شعورهم بعزة الله وعظمته وسلطانه ويقينهم بوعد الله ووعيده، وتبع ذلك زيادة فى العمل، ودأب على إنفاذ ما طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك ما أقدموا على الاستجابة على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان.
ونحو الآية قوله تعالى «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» .
(وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) أي قالوا معبّرين عن صادق إيمانهم بالله: الله يكفينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا الجموع لنا، فهو لا يعجزه أن ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم، أو يلقى فى قلوبهم الرعب، فيكفينا شر بغيهم وكيدهم، وقد كان الأمر كما ظنوا، فألقى الله الرعب فى قلب أبى سفيان وجيشه على كثرة عددهم وتوافر عددهم، فولّوا مدبرين، وكان فى ذلك عزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
أخرج ابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل»
وأخرج ابن أبى الدنيا
عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته، ثم تنفس الصّعداء وقال: حسبى الله ونعم الوكيل» .
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «حسبى الله ونعم الوكيل أمان كل خائف» .
(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) أي فخرجوا للقاء عدوهم ولم يلقوا منهم كيدا ولا همّا، ولم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم، وأطاعوا رسولهم، وربحوا فى تجارتهم، ولم يمسسهم قتل ولا أذى.
روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت فى أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح ما لا فقسمه بين أصحابه، فذلك الفضل.
وأخرج ابن جرير عن السدى قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج فى بدر الصغرى أصحابه دراهم ابتاعوا بها فى الموسم فأصابوا ربحا كثيرا.
(وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ) أي واتبعوا فى كل ما أتوا من قول أو فعل رضا الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة فى الدنيا والآخرة، فأطاعوا رسوله فى كل ما به أمر، وعنه نهى.
(وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) إذ تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والجرأة على العدو، وحفظهم من كل ما يسوءهم.
وفى هذا إلقاء للحسرة فى قلوب المتخلفين منهم، وإظهار لخطل رأيهم، إذ حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء.
(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) أي ليس ذلك الذي قال لكم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلا الشيطان يخوفكم أولياءه وأنصاره المشركين، ويوهمكم أنهم عدد كثير وأولو قوة وبأس شديد، وأن من مصلحتكم أن تقعدوا عن لقائهم، وتحبنوا عن مدافعتهم.
(فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي فلا تخافوا أولئك الأولياء، ولا تحفلوا بقولهم (فَاخْشَوْهُمْ) فتخافوهم، بل خافونى فى مخالفة أمرى، لأنكم أوليائى وأنا وليكم وناصركم إن كنتم راسخى الإيمان قائمين بحقوقه، فإن من حقه إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره، والأمن من شر الشيطان وأوليائه.
وخلاصة ذلك- إنه إذا عرضت لكم أسباب الخوف، فاستحضروا فى نفوسكم قدرة الله الذي بيده كل شىء، وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم، وإظهار دينكم على الدين كله، وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق، واذكروا قوله:«كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ثم خذوا أهبتكم، وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا فى قلوبكم.
وفى هذه الآية من العبرة:
(1)
إن صادق الإيمان لا يكون جبانا، فالشجاعة وصف للمؤمن، لا يبلغ غيره فيها مداه، إذ أن العلة الحقيقية للجبن هى الخوف من الموت والحرص على الحياة، وقلب المؤمن لا يتسع لهما.
ولا يزال العالم اليوم يشهد شجاعة الجيوش الإسلامية مع ما منى به المسلمون من ضعف فى إيمانهم، وجهل بكثير من شئون دينهم.
(2)
إن فى استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف، ويعوّد نفسه الاستهانة بها بالتمرين والتربية وتعوّد الإقدام إذا عرضت له تلك الأسباب.
(3)
إذا عرضت له أسباب الخوف فعليه ألا يسترسل لها حتى لا يتمكن أثرها فى نفسه، وتتجسم صورتها فى خياله، بل يغالبها بصرفها عن ذهنه، وشغله بما يضاده ويذهب بآثارها، أو يتبدلها بآثار مناقضة لها، وهذا يدخل فى اختيار الإنسان، وهو الذي نبط به التكليف.