الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف لعباده المؤمنين أن الهزيمة التي حلت بهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا- حذرهم هنا من مثل هذه الوسوسة التي أفسد بها الشيطان قلوب الكافرين.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) أي لا تكونوا أيها المؤمنون كأولئك المنافقين الذين قالوا فى شأن إخوانهم حين سافروا فى الأرض للتجارة والكسب فماتوا، أو كانوا غزاة فى وطنهم أو فى بلاد أخرى فقتلوا: لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا.
وعبر عن هؤلاء المنافقين بالكافرين، لبيان أن مثل هذا لا ينبغى أن يصدر من المؤمنين، بل إنما يصدر من الكافرين، إذ أن من مات أو قتل فقد انتهى أمره، فقولهم (لو كان كذا) عبث لأن ما وقع لا يرتفع، والحسرة عليه لا تفيد، ومن شأن المؤمنين أن يكونوا صحيحى العقل والإدراك.
إلى أن فى هذا القول جهلا بالدين وجحدا له فإن الله يقول: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» .
وعقيدة القضاء والقدر لا تجعل المسلم مجبورا على أفعاله التي تصدر منه، فإن القضاء تعلق العلم الإلهى بالشيء، والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام، والقدر وقوع الشيء بحسب العلم، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا.
والله تعالى قد جعل للإنسان اختيارا فى أعماله، لكنه خلقه مع ذلك ناقص القدرة والإرادة والعلم، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة
أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه، مع اعتقاده بأنه هو الموافق للمصلحة لمرض يلمّ به، أو مانع يحول بينه وبين تنفيذ ما عزم عليه.
وإنا لنرى هذا يحدث كل يوم، فليس الإنسان بقادر على أن يفعل كل ما يشاء كما يخيل إلى الناس اغترارا بما ينفذونه من عزائمهم، فاختياره فى أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب، كل ذلك له حدود لا يتعداها، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت، ولا يقدر على اجتناب كل ما يعلم من أسبابه، وما كل ما يتعرض له يقع، فالذين يعرّضون أنفسهم لنار الحرب قد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم.
ومن هذا تعلم أن الشيء متى وقع علم أن وقوعه لم يكن منه بد، وأن الإنسان إذا كان يؤمن بمعونة الله وتأييده، وأنه يوفقه إلى علم ما يجهل من أسباب سعادته، يكون مع أخذه بالأسباب أنشط فى العمل، وأبعد عن اليأس والكسل.
(لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون عاقبة ذلك القول مع الاعتقاد حسرة فى قلوبهم على من فقد من إخوانهم تزيدهم ضعفا وتورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم فى ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم ميزة عنهم بالعقل الراجح الذي يهدى صاحبه إلى أن الذي وقع كان لا بد أن يقع، فلا يتحسر عليه، ولا بالإيمان الصادق الذي يزيد صاحبه إيقانا وتسليما بكل ما يجرى به القضاء (وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي والله هو المؤثر وحده فى الحياة والموت بمقتضى سننه فى أسبابهما، وليس للإقامة والسفر مدخل فيهما، فإن الله قد يحيى المسافر والغازي مع تعرضهما لأسباب الهلاك، ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم.
وقد أثر عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته: ما فىّ موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وهأنذا أموت كما يموت العير (الحمار) فلا نامت أعين الجبناء.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يخفى عليه شىء مما تكنّون فى أنفسكم من المعتقدات
التي لها أثر فى أقوالكم وأفعالكم، فاجعلوا نفوسكم طاهرة من وساوس الشيطان حتى لا يصدر منها ما يصدر من الكفار.
وفى هذا تهديد للمؤمنين حتى لا يماثلوا الكفار فى أقوالهم وأفعالهم.
ثم بشر من قتل أو مات فى سبيل الله بحسن المآل فقال:
(وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) الموت فى سبيل الله هو الموت فى عمل من الأعمال التي يعملها الإنسان فى سبيل البر والخير التي هدى الله الإنسان إليها ويرضاها منه، فالمحارب قد يموت فى أثناء الحرب من التعب والإعياء، أو الإتيان بعمل من الأعمال التي تستدعيها الحروب فيكون هذا موتا فى سبيل الله.
أي إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يقتل فى سبيل الله، خير لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال والمتاع فى هذه الدار الفانية، فإن هذا ظل زائل، وذاك نعيم خالد.
والخلاصة- إن ما ينتظره المؤمن المقاتل فى سبيل الله من المغفرة التي تمحو ما كان من ذنوبه، والرحمة التي ترفع درجاته- خير له مما يجمع أولئك الحريصون على الحياة الذين يتمتعون باللذات والشهوات.
فما أجدر المؤمنين أن يؤثروا مغفرة الله ورحمته على الحظوظ الفانية، وألا يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت فى سبيل الله فإن ما يلقونه بعدهما خير لهم مما كانوا فيه قبلهما.
ثم حثهم على العمل فى سبيل الله، لأن المآل إليه فقال:
(وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) أي إنكم بأى سبب كان هلاككم فإنكم إلى الله تحشرون لا إلى غيره، فيجزى كلا منكم بما يستحق من الجزاء، فيجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، ولا يرجى من غيره ثواب، ولا يتوقع منه دفع عقاب، فآثروا ما يقربكم إليه، ويجلب لكم رضاه من العمل بطاعته، وعليكم بالجهاد فى سبيله، ولا تركنوا إلى الدنيا ولذاتها، فإنها فانية، وتلك الحياة الأخرى باقية خالدة.