الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإرشاد إلى طريق الدين القويم، والموعظة: ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة، الوهن: الضعف فى العمل وفى الرأى وفى الأمر، والحزن: ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب، والقرح (بالضم والفتح) : عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسم، وقيل هو بالفتح الأثر وبالضم الألم، والأيام واحدها يوم: وهو الزمن المعروف والمراد بالأيام هنا أزمنة الفوز والظفر، نداولها: نصرّفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء كما وقع ذلك فى يومى بدر وأحد وأصل المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدى إذا انتقل من واحد إلى آخر. والشهداء واحدهم شهيد: وهو قتيل المعركة، وقيل واحدهم شاهد، والتمحيص التخليص من كل عيب، ومحّص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه، ومحص الله التائبين من الذنوب طهرهم منها، والمحق: النقصان، ومنه المحاق لآخر الشهر، وفى الأساس: محق الشيء محاه وذهب به.
المعنى الجملي
كان الكلام فى سابق الآيات فى قصة أحد وأهم أحداثها، ثم ذكرهم بوقعة بدر وما كتب لهم فيها من النصر على قلة عددهم وعددهم.
وفى هذه الآيات وما بعدها يذكرهم بسنن الله فى خليقته، وأن من سار على نهجها أدى به ذلك إلى السعادة، ومن حاد عنها ضل وكانت عاقبته الشقاء والبوار، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل مهما كانت له أول الأمر من صولة، كما وعد الله بذلك على ألسنة رسله. «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» وقال:«وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ»
الإيضاح
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) أي إن أمر البشر فى اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل، وما يلابس ذلك من الحرب والطعان والنزال والملك
والسيادة يجرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة العامة.
وقد جاء ذكر السنن الإلهية فى مواضع من الكتاب الكريم كقوله: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» وقوله: فى سياق دعوة الإسلام «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» .
والمراد بذلك أن مشيئة الله فى خلقه تسير على سنن حكيمة من سار عليها ظفر وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا فلا عجب أن ينهزم المسلمون فى وقعة أحد، وأن يصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشجوا رأسه، ويكسروا سنه، ويردوه فى حفرة.
والمسلمون الصادقون أولى الناس بمعرفة تلك السنن فى الأمم وأجدر الناس بأن يسيروا على هديها، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ثابوا إلى رشدهم يومئذ ورجعوا إلى الدفاع عن نبيهم وثبتوا حتى انجلى المشركون عنهم ولم ينالوا ما كانوا يقصدون.
والخلاصة- إن النظر فى أحوال من تقدمكم من الصالحين والمكذبين يهديكم إلى الطريق المستقيم، فإن أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبيل المكذبين فحالكم كحالهم.
وفى الآية تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وإرشاد لهم إلى أنهم بين عاملى خوف ورجاء، فهى على أنها بشارة لهم بالنصر على عدوهم إنذار بسوء العاقبة إذا هم حادوا عن سننه، وساروا فى طريق الضالين ممن قبلهم، وعلى الجملة فالآية خبر وتشريع وتتضمن وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا.
وقد جرت سنة الله بأن للمشاهدة فى تثبيت الحقائق ما ليس للقول وحده،
إذ القول قد ينسى ويقل الاعتبار به. من قبل هذا أرشدهم إلى الاعتبار وقياس ما فى أنفسهم على ما كان لدى غيرهم من قبلهم ومن ثم قال:
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فسيروا فى الأرض وتأملوا فيما حل بالأمم قبلكم ليحصل لكم العلم الصحيح المبنى على المشاهدة والاختبار، وتسترشدوا بذلك إلى أن المصارعة قد وقعت بين الحق والباطل فى الأمم السالفة، وانتهى أمرها إلى غلبة أهل الحق لأهل الباطل، وانتصارهم عليهم ما تمسكوا بالصبر والتقوى، ويدخل فى ذلك اتباع ما أمر الله به من الاستعداد للحرب وإعداد العدة لقتال العدو كما أمر الله به فى قوله:«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» .
وجرى ذلك على سنن مستقيمة وأسباب مطردة لا تغيير فيها ولا تبديل.
والسير فى الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم- نعم العون على معرفة تلك السنن والاعتبار بها، وقد نستفيد هذه الفائدة بالنظر فى كتب التاريخ التي دونها من ساروا فى الأرض، ورأوا آثار الذين خلوا، فتحصل لنا العظة والعبرة، ولكنها تكون دون اعتبار الذين يسيرون فى الأرض بأنفسهم، ويرون الآثار بأعينهم
تلك آثارنا تدل علينا
…
فانظروا بعدنا إلى الآثار
(هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي هذا الذي تقدم بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة، فالإرشاد عام للناس وحجة على المؤمن والكافر، التقى منهم والفاجر.
وذلك يدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة بنحو قولهم لو كان محمد رسولا حقا لما غلب فى وقعة أحد، فهذا الهدى والبيان يرشد إلى أن سنن الله حاكمة على الأنبياء والرسل كما هى حاكمة على سائر خلقه، فما من قائد يخالفه جنده، ويتركون حماية الثّغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم،
والعدو مشرف عليهم، إلا كان جيشه عرضة للانكسار إذا كر العدو عليه- قطع خط الرجعة- ولا سيما إذا كان بعد فشل وتنازع، ومن ثم كان هذا البيان لجميع الناس، كلّ على قدر استعداده للفهم وقبول الحجة.
وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة، فلأنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقائق، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع، فيستقيمون ويسيرون على النهج السوىّ، ويتجنبون نتائج الإهمال التي تظهر لهم مضرة عاقبتها، فالمؤمن حقا هو الذي يهتدى بهدى الكتاب ويسترشد بمواعظه كما قال:«ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» فالقرآن يهدينا فى مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نروز أنفسنا ونعرف كنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا فنسير على سنن الله فى طلبه وفى حفظه.
وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه. وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي ولا تضعفوا عن القتال وما يتبعه من التدبير بسبب ما أصابكم من الجروح والفشل فى يوم أحد. ولا تحزنوا على من فقد منكم فى هذا اليوم. وكيف يلحقكم الوهن والحزن وأنتم الأعلون. فقد مضت سنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين الذين لا يحيدون عن سنته. بل ينصرون من ينصره ويقيمون العدل. فهم أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو للطمع فيما فى أيدى الناس.
فهمة الكافر على قدر ما يرمى إليه من غرض خسيس، ولا كذلك همة المؤمن الذي يرمى إلى إقامة صرح العدل فى الدنيا والسعادة الباقية فى الآخرة- إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره. وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسنته فى نظم الاجتماع، حتى صار ذلك الايمان وصفا ثابتا لكم حاكما نفوسكم وأعمالكم.
وإنما نهى عن الحزن على ما فات، لأن ذلك مما يفقد الإنسان شيئا من
عزيمته، وبالعكس صلته بما يحب من مال أو متاع أو صديق تكسبه قوة وتوجد فى نفسه سرورا، والمراد من النهى عن مثل ذلك معالجة النفس بالعمل ولو تكلفا وخلاصة ذلك- الأمر بأخذ الأهبة وإعداد العدّة مع العزيمة الصادقة والحزم والتوكل على الله حتى يظفروا بما طلبوا ويستعيضوا مما خسروا.
وقوله وأنتم الأعلون تبشير بما يكون لهم فى المستقبل من النصر، فإن من احترق الإيمان الصحيح فؤاده، وتمكن من سويداء قلبه يكون على يقين من العاقبة، بعد مراعاة السنن والأسباب المطردة للظفر والفلاح.
(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) أي إن كان السلاح قد عضكم وعمل فيكم يوم أحد فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم فى ذلك اليوم، فقد قتل منهم مثل من قتل منكم فلم يكونوا غالبين.
والخلاصة- إنه لا يسوغ لكم التقاعد عن الجهاد، وليس لكم العذر فيه لأجل أن مسكم قرح، فان أعداءكم قد مسهم مثله قبلكم وهم على باطلهم لم يفتروا فى الحرب ولم يهنوا، فأنتم أجدر بصدق العزيمة لمعرفتكم بحسن العاقبة، وتمسككم بالحق.
(وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) أي إن مداولة الأيام سنة من سنن الله فى المجتمع البشرى، فمرة تكون الدولة للمبطل، وأخرى للمحق، ولكن العاقبة دائما لمن اتبع الحق.
وإنما تكون الدولة لمن عرف أسباب النجاح ورعاها حق رعايتها كالاتفاق وعدم التنازع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة، وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة.
فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام حتى تظفروا وتفوزوا، ولا يكن ما أصابكم من الفشل مضعفا لعزائمكم، فإن الدنيا دول.
فيوما لنا ويوما علينا
…
ويوما نساء ويوما نسر
ومن أمثال العرب: الحرب سجال، روى أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة، ثم قال أين ابن أبى كبشة؟ - يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وأبو كبشة زوج حليمة السعدية وهو أبوه من الرضاع- أين ابن أبى قحافة؟ - أبو بكر- أين ابن الخطاب؟ فقال؟ عمر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهأنذا عمر، فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال، فقال عمر رضي الله عنه:
لا سواء، قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار، فقال إنكم تزعمون ذلك، فقد خبنا إذن وخسرنا.
(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليقوم بذلك العدل، ويستقر النظام، ويعلم الناظر فى السنن العامة، والباحث فى الحكم الإلهية أنه لا محاباة فى هذه المداولة، وليعلم الله الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعى الذي يدال به قوم على قوم مما يطهر النفوس ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.
والمراد من قوله (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) أي وليظهر علمه بذلك للناس بظهور ما يعلم لهم، إذ علم الله بالأشياء ثابت فى الأزل، فإذا وقعت حصل تغير فى ذلك المعلوم، فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهو كقوله:«لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» أي ليعلم الناس ذلك ويميزوه.
الخلاصة- إن المراد من مثل هذه العبارة (لِيَعْلَمَ) - ليثبت ويتحقق صدق إيمان الذين آمنوا، لأنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة، إذ علم الله لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه الله تعالى لا يكون له حقيقة ثابتة.
(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة والقتل فى سبيل الله.
ذاك أن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر، وكانوا يتمنّون لقاء العدو، وأن يكون لهم يوم كذلك اليوم يقاتلون فيه ويلتمسون الشهادة.
والقرآن ملىء بتعظيم حال الشهداء، قال تعالى:«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» وقال تعالى: «فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» .
ومن ثم كان من جملة فوائد هذه المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها لبيان أن الشهداء يكونون ممن أخلصوا فى إيمانهم وأعمالهم، ولم يظلموا أنفسهم بمخالفة أوامر الله ونواهيه، والخروج عن سننه فى خلقه فقال:
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إن الله لا يصطفى للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم، وفى ذلك بشارة للمتقين بمحبة الله لهم، وإنذار للمقصرين بأنه لا يحبهم الله، وتعريض لأعدائهم المشركين بأن الله لا يحبهم، لأنهم ظلموا أنفسهم وسفهوها بعبادة المخلوقات، وظلموا سواهم بالفساد فى الأرض، والبغي على الناس وهضم حقوقهم، ومن المعلوم أن الظلم لا تدوم له سلطة، ولا تثبت له دولة، بل تكون دولته سريعة الزوال، قريبة الانحلال.
(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ونداول الأيام ليتميز المؤمنون الصادقون من المنافقين، وتطهر نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فتصير تبرا خالصا لا كدورة فيه، فإن الإنسان كثيرا ما يشتبه عليه أمر نفسه، ولا تتجلى له حقيقتها إلا بالتجارب الكثيرة، والامتحان بالشدائد العظيمة، فهى التي تمحصها وتنفى خبثها وزغلها، كما أن تمحيص الذهب يميز بهرجه من خالصه.
فالمعتقد فى دين أنه الحق قد يخيل إليه وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه فى سبيل الله ليرفع راية ذلك الدين ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه غير ما كان يتصور، انظر إلى الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وطمعوا فى الغنيمة، وإلى الذين انهزموا وولوا الأدبار، كيف محصهم الله